مؤتمرات التخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل بين الواقع والمأمول
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
قَدْ أكُونُ من المتحيزين نوعًا ما لِمَا يطلق عَلَيْه بالتفكير والتخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل وذلك بحُكم سنوات ليست بقصيرة من الاهتمام البحثي والدراسة في هذا المجال والَّتي بدأت في العام 2008 تقريبًا، ولله الحمد خرجت بمئات المقالات المنشورة وعددٍ لا بأس به من الدِّراسات والبحوث المحكمة والكتب التخصصيَّة وتلك التطبيقيَّة في هذا السِّياق، مِنْها كتاب «مستقبل في قبضة اليد» والمنشور في العام 2014 والَّذي قدَّم له حينها الأستاذ الدكتور محمد النابلسي ـ رحمه الله ـ رئيس المركز العربي للدِّراسات المستقبليَّة؛ وكتاب آخر بعنوان «التحليل السِّياسي الاستراتيجي باستخدام تقنيَّة التحليل المورفولوجي» الصَّادر في العام 2020م، بالإضافة إلى كتُب تطبيقيَّة على الدِّراسات الاستشرافيَّة والتخطيط الاستراتيجي مِثل كتاب: «المؤشِّر صفر» والَّذي ركَّز على استشراف مستقبل الإرهاب والتنظيمات الإرهابيَّة في سلطنة عُمان، وكتاب «مكافحة الإرهاب الدفاعيَّة» والَّذي ركَّز على قضيَّة الإدارة الاستباقيَّة للتهديدات والمخاطر الإرهابيَّة الموجَّهة لتدمير البنية الحسَّاسة للدوَل.
ما أودُّ أن أصلَ إليه في هذا السِّياق هو أهمِّية هذا النَّوع من المؤتمرات الَّتي تركِّز على جانب التفكير والتخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل، وإن كان من دعوة هي نتاج ما خلص لي من معرفة تراكميَّة، فهي ضرورة الاهتمام والتركيز الجادِّ والعلمي الصَّارم على هذا النَّوع من الدِّراسات والبحوث وفي مختلف المجالات المعرفيَّة، خصوصًا تلك الَّتي يُمكِن أن تقومَ على الاستفادة من العصر الرَّقمي والذَّكاء الاصطناعي.
أسهَم في تعزيز هذا الاتِّجاه إيماني التَّام بأنَّ التخطيط المسبق للأهداف والطموحات يرفع من فرص تحقيقها أوَّلًا، ثمَّ تحقُّقها بشكلٍ سليم وبالكيفيَّة الَّتي يأملها صاحبها ـ بعد توفيق الله عزَّ وجلَّ ـ بكُلِّ تأكيد، وثانيًا يُمكِن من خلالها تجاوز وتجنُّب أكبر قدر ممكِن من التهديدات والمخاطر، بالإضافة إلى ما تأكَّد لي يقينًا كنتاج للاطِّلاع والمعرفة من أسباب ودوافع تحتِّم ذلك الاهتمام، مِنْها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تلك الظواهر والأحداث المتسارعة، واتِّساع الفوارق المعرفيَّة بَيْنَ الدوَل في القرن الـ21، والتأثير التبادلي للأحداث العابرة للحدود الوطنيَّة ومدى تأثيرها على الداخل الوطني، خصوصًا تلك الَّتي ترتكز على الجوانب الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
قَدْ يدَّعي البعض ـ ولا نلومُه أبدًا ـ أنَّ هذا النَّوع من المؤتمرات والبرامج هي مجرَّد ترفٍ فكريٍّ واستنزاف للموارد الماليَّة؛ وهي كذلك بالفعل إذا توقفت عِند عقْدِ المؤتمر أو البرنامج ولَمْ تتجاوزه إلى استكشاف النتائج والأخذ بالتوصيات. نعم هي كذلك إذا كانت الأهداف من وراء هذه المؤتمرات مجرَّد الدعاية والتسويق أو الاستفادة من الموارد المرصودة لها؛ لأنَّها في ذلك الوقت تتحوَّل ـ كحال غيرها من الخطط ـ إلى فساد إداري وسياسي صريح.
ولكن الواقع يؤكِّد وبما لا يدع مجالًا للشَّك أبدًا، والدليل على ما سأقول، هو واقع حال العديد من الدوَل المتقدِّمة علميًّا وتقنيًّا وتكنولوجيًّا، واقع حال العديد من الأُمم الَّتي استفادت من نتاج هذه المؤتمرات والنَّدوات والبرامج الَّتي تركِّز على التفكير والتخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل، بل وقامت بتوسيع رقعة اهتمامها لِتمتدَّ إلى بناء الأكاديميَّات ومراكز الدِّراسات الاستراتيجيَّة والمستقبليَّة، وأدخلت هذه البرامج من ضِمن برامجها الأكاديميَّة للطلاب في مختلف المستويات التعليميَّة، وأخذت توسِّع من دائرة اهتمامها بشكلٍ أكبر بهذا النَّوع من الموارد المعرفيَّة لِتستفيدَ مِنْها في مرئيَّاتها واتِّجاهاتها المختلفة، سواء كان ذلك من خلال ضبط موازناتها الماليَّة أو بناء خططها السنويَّة أو التحوُّط من الأزمات والكوارث، أو تمكين تنميتها المستدامة.
باختصار، أختم هذا المقال الموجز بفقرة من كتاب «مستقبل في قبضة اليد» سالف الذِّكر، ص 12- 13 حَوْلَ التخطيط الاستراتيجي واستشراف المستقبل «فالتخطيط لصناعة المستقبل باتَ مُهمَّة ملحَّة للجميع، بل ضرورة لبناء الدوَل وتطوُّرها وتنميتها المستقبليَّة، لذا فإنَّه من السَّذاجة أن ننتظرَ المستقبل لِيفرضَ عَلَيْنا بحُكم الواقع أو يفرضه الآخرون عَلَيْنا بحُكم القوَّة، كما تعيش ذلك العديد من الدوَل اليوم؛ ما يفرض عَلَيْنا أن نتحرَّكَ بسرعة ودقَّة عالية في قيادة مستقبلنا القائم والقادم، وإلَّا فإنَّ الاصطدام بما لا نتوقَّعه سيكُونُ أمرًا حتميًّا لَمْ نحسب له أيَّ حساب في ذلك الطريق السريع والمليء بالمخاطر والمفاجآت».
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
MSHD999 @
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: والتخطیط الاستراتیجی هذا الن الدو ل من الد
إقرأ أيضاً:
كذبة الحقيقة في الإعلام
من حينٍ لآخر، تتسابق القنوات الإخبارية في الترويج لنفسها على أنها "ناقلة للحقيقة"، رافعة شعارات براقة مثل "الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة".
فعلى سبيل المثال، ترفع قناة سي إن إن شعارها الشهير "Truth First" أو "الحقيقة أولا". لكن هذا الشعار لا يتجاوز كونه لافتة دعائية، إذ لا يجد له صدى حقيقيا على أرض الواقع، خاصة إذا تذكرنا تغطية القناة لبدايات الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عبر مراسلتها كلاريسا وورد (Clarissa Ward)، التي ظهرت في مشهدٍ تمثيلي وكأنها منبطحة على الأرض هربا من صواريخ مزعومة تستهدف إسرائيل، وفقا لما ورد في موقع "Reddit" تحت عنوان "The same Clarissa Ward that was caught faking stories in Israel" ، بينما أكدت وكالة رويترز لاحقا في تقرير نشر بتاريخ 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بعنوان "Fact Check: Fake audio added to CNN video of Israel-Hamas war coverage " أن الصوت المرافق للفيديو كان مفبركا.
مثال آخر لسي إن إن: بتاريخ 23 تموز/ يونيو 2025. نشرت المحطة تقريرا يفيد بأن بعض قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي لم يُبلغوا مسبقا بضربة على مواقع نووية في إيران، ثم اعتُرِفَ في التعديل بأن أحد القادة (Chuck Schumer) تمّ الاتصال به قبل الضربة، وليس بعد كما ورد في النسخة الأصلية.
وتعد المعلومات المضللة خطأ ارتكبته القناة لأنه يتعلق بتوقيت الإبلاغ وبشكل رسمي/سياسي حساس، ويُظهر كيف يمكن أن تغيّر تفاصيل "مَن أُعلم ومتى" منطق التغطية وتفسيرها.
لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة
وفي 17 كانون الثاني/ يناير 2025، حكمت هيئة محلفين في فلوريدا بأن سي إن إن قد قامت بتشويه سمعة المحارب الأمريكي السابق في البحرية زاكاري يونغ (Zachary Young) عبر تقرير نشرته الشبكة عام 2021 بشأن خدماته في إجلاء أشخاص من أفغانستان. بعدها وصلت سي إن إن إلى تسوية قانونية معه لتجنّب مرحلة المناقشة في العقوبات التأديبية في المحكمة.
من الناحية الأكاديمية، لا يرتبط مفهوم الصحافة بمصطلح "الحقيقة"، فالمهنة في جوهرها تقوم على نقل الواقع من خلال معلومات دقيقة تشمل البيانات والأرقام والتصريحات والوثائق والصور والشهادات، وهي كلها أدوات قد لا تعكس الحقيقة الكاملة.
فـ"الحقيقة" هي المعنى الكامن وراء هذه المعلومات، وغالبا ما تبقى بعيدة المنال؛ الوصول إليها مهمة تخص جهات أخرى -مثل القضاء- أكثر مما تخص الصحافة، رغم سعيها الدائم للاقتراب منها.
قمة الاحتراف في العمل الصحفي تكمن في نقل الحدث كما هو، بدقةٍ وتجرد، دون زيادة أو نقصان، ودون مشاعر أو آراء شخصية، مع عزو الخبر إلى مصدره الأصلي. غير أن هذا المبدأ الصارم يصعب تحقيقه، وتتعثر في تطبيقه معظم القنوات الإخبارية، التي تخضع أجنداتها التحريرية لميول سياسية أو تمويلية تنعكس على مضمونها فتشوه الصورة أمام المشاهد.
ويبقى السؤال: ما الحقيقة؟
مصطلح فضفاض يختلط فيه الرأي بالمعلومة، والصحيح بالمغلوط. يقول الصحفي الأمريكي الشهير آندي روني: "الناس بشكل عام يقبلون الحقائق على أنها حقيقة فقط إذا كانت الحقائق تتفق مع ما يؤمنون به بالفعل".
ختاما، جوهر الصحافة لا يقوم على "البحث عن الحقيقة"، بل على نقل ما يحدث كما هو، بموضوعية ومهنية. أما ما عدا ذلك، فليس من الصحافة في شيء، وإنْ تجمّل بشعارٍ رنانٍ اسمه "الحقيقة".