مكملات الكركمين.. هل هي معجزة طبية حقا؟
تاريخ النشر: 8th, December 2023 GMT
أصبح الكركمين مؤخرا أحد المكملات الصحية الأكثر شهرة في الأسواق، وستجد الحديث عن فوائده الصحية حولك في كل مكان من مواقع التواصل إلى شاشات التلفاز. إذا كنت تصدق كل ما تسمعه، فسوف تعتقد أن مكملات الكركمين "معجزة" طبية وصحية، لكن هل هذا الادعاء صحيح حقا؟
استخدام واسع النطاق
اكتسب الكركم، وهو نبات طويل القامة من عائلة الزنجبيل موطنه الأصلي آسيا ويُصنع منه التوابل الصفراء الزاهية المستخدمة غالبا في الكاري والخردل والحليب الذهبي، شهرة واسعة باعتباره طعاما فائق الجودة، وإلى جانب ذلك رُوِّج لخصائصه المضادة للالتهابات وأنه من المضادات الفعالة للأكسدة، وأن بإمكانه تقديم دفاع طبيعي ضد السرطان ومرض ألزهايمر (1).
الكركمين هو مادة كيميائية مميزة ذات لون أصفر مائل للبرتقالي تُستخلَص من جذور الكركم، وهي سبب لونه الأصفر. وعادة ما تعزى أنشطة الكركم وما يستطيع تحقيقه من فوائد صحية إلى الكركمينويدات (الكركمين والمواد ذات الصلة الوثيقة)، إلى درجة أن هناك الآلاف من المنشورات والمئات من براءات الاختراع القائمة على بيان دور الكركمين في الوقاية ومعالجة الكثير من الأمراض.
أضف إلى ذلك أن الكركمين يُدمج في منتجات التجميل التي تدّعي أنها تساعد في علاج حب الشباب والإكزيما، وتساعد على الوقاية من حدوث جفاف الجلد. تتوقع بعض التقارير أن يصل حجم سوق الكركمين العالمي إلى 191 مليون دولار بحلول عام 2028 (2) (3).
حسنا، دعنا نخبرك أن الحديث عن فوائد الكركمين ليس أمرا عبثيا تماما. تُظهر التجارب السريرية أن الكركمين قد يساعد في مكافحة التهاب المفاصل وبعض الأمراض الأخرى، ولكن هناك مشكلة أساسية يتسم بها الكركمين، هذه المشكلة هي التوافر البيولوجي، أو كيفية وصوله إلى الدم. في منتصف التسعينيات، كان جاك أربيزر ونانسي ديمور، وهما باحثان شابان في كلية الطب بجامعة هارفارد، يستكشفان خيارات علاجية جديدة للسرطان، حينها صادفا بعض الأبحاث التي تُشير إلى أن الكركمين يمكن أن يمنع نمو أنواع مختلفة من الخلايا السرطانية في أنبوب الاختبار. أثار هذا الأمر اهتمامهما بدرجة كبيرة، وبعد إجراء عدّة بحوث اكتشفا أن الكركمين يمكن أن يمنع تكوين أوعية دموية جديدة، في عملية تحتاج إليها جميع الأورام للحفاظ على نفسها (4).
منذ ذلك الحين، أصبح هناك العديد من الدراسات التي تستخدم الكركمين في التجارب السريرية على المرضى الذين يعانون من سرطان البنكرياس، وسرطان الثدي، وغيرها. لكن حماس الباحثين لهذه المادة تراجع عندما بدأ اختبار الكركمين على البشر، حيث اتضح أن هذه المادة تتمتع بتوافر حيوي سيئ للغاية، يُقصد بالتوافر الحيوي المعدل الذي يمتص به الجسم مادة ما، ما يجعل من المستحيل تقريبا الحصول على تركيزات عالية كافية من الكركمين في الدم من خلال تناول المكملات الغذائية عن طريق الفم وحده.
جعل هذا الأمر الاهتمام العلمي بالكركمين يتضاءل بدرجة كبيرة. لكن في السنوات الأخيرة، أدى التقدم في تقنيات توصيل الأدوية إلى تجديد الاهتمام به، حيث تُستَكشف أنظمة الجسيمات النانوية بوصفها وسيلة لإيصال جرعات عالية من الكركمين إلى الأورام. أيضا أظهرت بعض الأبحاث أن الجمع بين الكركمين والبيبيرين، وهو العنصر النشط الرئيسي في الفلفل الأسود، في مركب واحد، يمكن أن يزيد من التوافر البيولوجي للكركمين بأضعاف، رغم أنه لا يزال يتعين إثبات ما إذا كان هذا يمكن أن يساعد في تحقيق فائدة لدى البشر (5).
في حين أن هناك الآن مجموعة كاملة من المكملات الغذائية الجاهزة للاستخدام التي تجمع بين الكركمين والبيبيرين، لكن لا تزال هناك تحديات أمام العلماء الذين يتطلعون إلى استخدام هذا المركب طبيا. أحد هذه التحديات هو أن البيبيرين يثبط مجموعة متنوعة من الإنزيمات التي تساعد في استقلاب الأدوية، وهو ما يجعل استخدام هذه المكملات بحاجة إلى المزيد من الأبحاث لاستكشاف مدى زيادة خطر الآثار الجانبية لدى المرضى الذين يتناولون أدوية طبية أخرى.
تظهر مشكلة مشابهة عند استخدام الكركمين مضادا للالتهابات. أثبتت التجارب أن الكركمين يعمل على تقليل آلام المفاصل وتحسين الالتهابات عند جرعة تتراوح بين 500-1000 ملغم يوميا، وهو ما يعادل نحو 10 غرامات من الكركم. يعني ذلك أن الغالبية العظمى من مكملات الكركم لا تحتوي على ما يكفي من العنصر النشط لتكون فعالة (6)، لأن الجرعة المطلوبة لإحداث تأثير علاجي تتخطى الحاجز المسموح به من المادة.
كذلك في حين أن من الصحيح أن الكركم والكركمين يمتلكان مجموعة متنوعة من الأنشطة البيولوجية المثيرة للاهتمام، فإن من الصعب دراستها لأن الكركمين غير مستقر، فهو يتحول بسهولة إلى مواد أخرى، وهو ما يجعل من الصعب على الدراسات أن تصل إلى نتائج مؤكدة. بالإضافة إلى ذلك، قد تختلف منتجات الكركمين في التركيب وتحتوي على مواد مختلفة عن بعضها بعضا، مما يجعل نتائج الأبحاث المتعلقة بهذه المنتجات صعبة الفهم والمقارنة، ونتيجة ذلك كله لم تظهر بعد أي استنتاجات حاسمة حول الفوائد العلاجية لهذه المادة.
لا تقف المشكلات في التعامل مع الكركمين عند هذا الحد. فعندما نظر المراجعون في التجارب السريرية والدراسات الوبائية الحديثة حوله، لاحظوا أن نتائج الأبحاث في كثير من الأحيان لم تُترجم بشكل صحيح في وسائل الإعلام، أو تعرضت لمبالغات كبيرة. تشير مراجعة نُشرت عام 2017 للأدبيات العلمية حول الكركمين إلى أن هذا المركب له فوائد صحية فعلية محدودة، و"لا يرقى إلى مستوى هذا الضجيج الذي صُنع حوله". في المقابل، أكد المؤلف المشارك في المراجعة مايكل والترز أن العديد من الدراسات التي تروج لفوائد الكركمين المتعددة كانت تهدف بشكل كبير إلى تحقيق بعض "المصالح" التجارية والمادية، وقام عليها باحثون لديهم علاقات مع شركات المكملات الغذائية التي ستحقق استفادة مادية مباشرة من زيادة مبيعات مستخلص الكركمين.
في الوقت نفسه، غالبا ما تتجاهل التغطيات الإعلامية الحديث عن الدراسات التي تتناول أضرار الكركمين (7). تشير نتائج بحثية إلى أن تناول مكملات الكركم بكميات كبيرة يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض غير المرغوبة. مثلا، يحتوي الكركم على نسبة من مادة الأوكسالات المسؤولة عن تكوين حصوات الكلى. بالإضافة إلى ذلك، ليست كل مساحيق الكركم التجارية نقية، بعضها قد يكون مغشوشا، وهذا يعني أنه تُضاف مكونات أرخص، وربما تكون سامة، ولم تُدرج على الملصق.
كشفت بعض الدراسات عن أن مساحيق الكركم التجارية قد تحتوي على مواد حشو مثل نشا الكسافا أو الشعير والقمح أو دقيق الجاودار، هنا يمكن أن يسبب تناول الكركم الذي يحتوي على دقيق القمح أو الشعير أو الجاودار أعراضا ضارة لدى الأشخاص الذين يعانون من عدم تحمل الغلوتين أو مرض الاضطرابات الهضمية. أيضا وجدت البحوث أن بعض منتجات الكركم ملوثة بالمعادن الثقيلة مثل الرصاص، التي يمكن أن يكون لها آثار ضارة على الصحة (8).
قد تحتوي بعض مساحيق الكركم أيضا على ملونات غذائية مشكوك في مدى صحتها، التي تُضاف لتحسين اللون، أحد ملونات الطعام المستخدمة بشكل متكرر في الهند هو أصفر الميتانيل. تُظهر الدراسات التي أُجريت على الحيوانات أن أصفر الميتانيل قد يسبب السرطان وتلفا عصبيا عند تناوله بكميات كبيرة.
أيضا قد يتداخل الكركم مع عمل بعض الأدوية التي يتناولها الشخص. على سبيل المثال، يمكن أن يتداخل تناول الكركمين مع الأدوية المضادة للتخثر أو مخففات الدم مثل الأسبرين ويؤدي إلى زيادة آثارها ومن ثم حدوث نزيف مفرط. وأخيرا، ثبت أن الجرعات العالية للغاية من مكملات الكركمين التي تبلغ 2600 مغم/كغم من وزن الجسم يوميا لمدة طويلة قد تسبب بعض الآثار الجانبية الخطيرة في الجرذان. وتشمل هذه الآثار زيادة في حجم الكبد، وتصبغ الفراء، وقرحة المعدة، والالتهابات، وزيادة خطر الإصابة بسرطان الأمعاء أو الكبد (9).
——————————————————————————-
المصادر:1- Turmeric May Not Be a Miracle Spice After All
2- Does turmeric’s reputation translate into real health benefits?
3- Turmeric
4- Curcumin Is an In Vivo Inhibitor of Angiogenesis
5- Curcumin: A Review of Its’ Effects on Human Health
6- The Actual Health Benefits Of Turmeric: Facts Vs Myths
7- The Essential Medicinal Chemistry of Curcumin
8- Curcumin Will Waste Your Time
9- Does Too Much Turmeric Have Side Effects?
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التجارب السریریة الدراسات التی مکملات الکرکم یمکن أن ما یجعل التی ت
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.
كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟
لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.
كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.
ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.
المنافع المتوقعة
إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،
ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.
الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية
عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.
عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.
نظرة مستقبلية مشرقة
تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.
كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني