لجريدة عمان:
2024-07-03@05:33:19 GMT

تحقيق.. انتفاضة الأدب الفلسطيني

تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT

تحقيق.. انتفاضة الأدب الفلسطيني

يشاركُ الأدباء الفلسطينيون بدور لا يقل أهمية عن دور المقاومين على الأرض، إذ أخذوا على عاتقهم نشر القضية وإيصال صوتها إلى العالم عبر عقود ممتدة منذ نكبة 1948. وقد حاز بعضهم على نجومية كبيرة وتُرجمت أعمالهم إلى لغات متعددة فوصلت قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم إلى الغرب، وبالتالي صارت القضية عالمية بفضلهم، حتى قبل ذلك الانتشار الهائل لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

لكن أدب المقاومة متَّهمٌ دائمًا بأنه أقل شأنًا، بسبب اهتمامه بالسياسة أكثر من اهتمامه بالفن، فمَن كسر تلك القاعدة من الشعراء والأدباء الفلسطينيين وحاز الحسنييْن، المقاومة والجمال؟ وهل يجدد أدب المقاومة نفسه مع تجدد الصراع ووحشية الكيان الصهيوني في غزة؟

يبدأ الروائي الفلسطيني حسن حميد حديثه بالتأكيد على أنه منذ مائة سنة والأدب الفلسطيني يتبنَّى فعل المقاومة؛ لأن الأرض الفلسطينية محتلة مغتصبة، ولأن الظلم الإسرائيلي ما زال جاثمًا على صدور الفلسطينيين.

ويلفت إلى أن نوح إبراهيم كتب قصائد مقاومة منذ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقصيدته «الثلاثاء الحمراء» التي كتبها وقت إعدام ثلاثة من المقاومين الفلسطينيين (عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي) أكبر مثال على مسايرة الأدب للمقاومة، وكذلك ما كتبه خليل بيدس، وخليل السكاكيني..

ويقول: «في عصرنا الحالي استمر الأدب الفلسطيني في لعب أدواره المهمَّة، حتى بات الأدب المقاوم سمةً تخصُّ الكتَّاب الفلسطينيين داخل مدونة الأدب العربي، وهو جزء منها.. وللتمثيل أشيرُ إلى أدب: غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، ومحمد علي طه، وعلي الخليلي، وتوفيق فياض، ورشاد أبو شاور، وإبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، ومحمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم.. إلخ. هؤلاء الذين تُرجمت أعمالهم للغات العالمية، فانتشر صوت القضية الفلسطينية وذاع، حتى أن بعض الجامعات الغربية تبنَّت تدريس هذا الأدب، وبعض معارض الكتب استضافت أدباء فلسطينيين للحديث عن إبداعهم وارتباطه بالقضية الفلسطينية، وبعض الأدباء الفلسطينيين استحوذوا على جوائز غربية لها أهميتها مثل: معين بسيسو، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد».

وما أبرز الصعوبات التي واجهت أدب القضية الفلسطينية؟ أسأل فيجيب: «تتمثل في جغرافيات ثلاث، أولاها: الجغرافية المشطورة بين الوطن الفلسطيني المحتل والمنافي، وقد عانت هذه الجغرافية من شرذمة أصابت الموقف الواحد بالتشقق. وجغرافية إقليمية تفاوتت فيها نبرة التأييد وعدم التأييد والوقوف على الحياد (وهذه تشمل بعض البلاد العربية)، وجغرافية عالمية متفاوتة النبرات والحماسة أيضًا بسبب الحضور القوي للسردية الإسرائيلية»..

يستدرك: «لكن أهم صعوبة عندي هي عدم ترجمة الأدب الفلسطيني الترجمة الجادة، أي البعيدة عن المجاملة والمحسوبية والارتجال.. وهذا وقف سدَّا أمام وصول السردية الفلسطينية للآخرين؛ لتلعب دورًا في مواجهة السردية الصهيونية. هذه الصعوبات عمرها من عمر القضية الفلسطينية.. وهي تتراوح ما بين الضعف والأكثر ضعفًا».

ويرى أن الأدب الفلسطيني رُجم بمقولات ظالمة كادت، لولا الحياء المعرفي، أن تطاله كله، ومنها: اتهامه بالأيدلوجيا وتمظهرها الفاقع بين تضاعيف الشعر والسرد، والخطابية، والتقريرية، والانحياز إلى القول والفعل الفلسطينيين وشيطنة الإسرائيلي في القول والفعل أيضا. والحق، بحسب حسن حميد، أنه كان لا بد من كل هذا التوصيف؛ لأن مهمة الأدب الفلسطيني، في مرحلة الفاجعة 1948 كانت مشدودة للحزن والتفجع والتعريف بما حدث من جرح تاريخي، لكن هذا الأدب تطوَّر كثيرًا حتى جمع ما بين صوت المقاومة ومعايير الفن، والأمثلة والتجارب الأدبية الفلسطينية اليوم حاضرة في جغرافيات عدة: داخل الوطن الفلسطيني المحتل، وفي المنافي العربية، وفي المنافي الأخرى.

السياسة منحت النجومية وحجبتها

الكاتب الفلسطيني الدكتور أحمد رفيق عوض قال: إن الأدب الفلسطيني المقاوِم استطاع أن يوصل صوت القضية ويحفظها، لافتا إلى ظهور أسماء كبيرة جدا استطاعت أن تفرض حضورها محليا وعالميا، وبالتالي أوصلت الشهرة أعمالهم إلى العرب ثم إلى العالم من خلال الترجمة والأفلام والصحافة، وأضاف: «تضافرت المواهب الكبيرة مع شهرة بعض الكتَّاب وتحولهم إلى نجوم وأيضا حضور الثورة الفلسطينية واشتباكها مع المحتل في إيصال النص الفلسطيني إلى كل مكان، وبالتالي لم تكن هناك ثورة بمفردها وإنما نص فاعل أيضا يزاحمها. استطاع الإبداع أن يوصل للعالم معاناة الفلسطينيين بطريقة وجدانية وجمالية، وأن يؤرِّخ ويوثق لمآسيهم الكبرى».

الصعوبات التي واجهت الأدب، على مدى عقود طويلة، متعددة، بحسب أحمد رفيق عوض، لها علاقة بتشتت الفلسطينيين، فهناك من يعيش في الضفة الغربية، وفي غزة، وفي مناطق 48 وفي الشتات. والشتات نفسه متعدد، الفلسطيني في الأردن غير الفلسطيني في سوريا غير الفلسطيني في أوروبا. هذا التشتت أوجد نصًا متعدد المرجعيات، والمعايير، والأطر، والجودة الفنية، واللغة. الأدب الفلسطيني لم يكن في أرض واحدة وبالتالي لم يواجه نفس التحديات، ولم يكن على نفس المستوى أو الجودة. يضيف: «هناك نقطة تتعلق بما يواجهه الأدب الفلسطيني من مشاكل، وعلى رأسها اختلاف النظرة إلى الأدباء أنفسهم، ومثلًا هناك سؤال: هل الكاتب المقيم في الأردن طوال حياته فلسطيني أم أردني؟ التصنيف قد يكون زائدًا عن الحاجة ولكني أضرب المثال للتأكيد على أن الشتات تسبَّب في نصوص فلسطينية متعددة».

ويواصل: «لم يتم الاعتراف بنا كثورة عالمية مثل الثورات الأخرى؛ لأن اللوبي الصهيوني حاربنا في كل مكان، وحاصر نصَّنا، وحاول بكل الطرق ألا يصبح عالميًا، ومع هذا استطعنا أن نصل إلى حدود السماء، من خلال أسماء مهمة جدا. خذ عندك في الشعر مثلا محمود درويش ومعين بسيسو وعبد اللطيف عقل والمتوكل طه، لقد جمعوا بين قوة النص وأيضا مفردات المقاومة بمعناها الإنساني الكبير، أما في الرواية فهناك أسماء كبيرة جدا ولا يمكن حصرها»، ويستدرك: «بالمناسبة شهرة بعض الأدباء غطَّت على آخرين لم يحظوا بنفس الفرصة مع أن مواهبهم عظيمة، ففي الوقت الذي نجَّمتهم فيه المنصة السياسية انصرفت عن البعض الآخر»، وختم كلامه قائلا: «لدينا كتَّاب من مختلف الأجيال يكتبون أعمالا تجمع بين خصائص النص المقاوِم وجمالياته، لكن هذا النص للأسف الشديد تراجع كثيرًا في السنوات الأخيرة».

روح عدمية

أما الناقد الجزائري الدكتور لونيس بن علي فيشدد على أنه من الخطأ حصر الرواية الفلسطينية في دائرة الكتابة الملتزمة بالقضية الفلسطينية فحسب، ولو أنَّها اكتسبت هذه الهوية بقوة التاريخ. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى أصوات روائية تمرَّدت على هذه القاعدة، وكتبت رواية مُختلفة. ويمكن الاستدلال بتجربة الروائي زكريا محمد الذي فقدته الساحة الأدبية العربية منذ أشهر قليلة فحسب، وروايته «عصا الراعي» إذ تكشف عن سردية مُغايرة، هي أقرب إلى سردية القلق الوجودي من العدمية التاريخية.

في هذه الرواية، بحسب لونيس، ينسحب الوضع الفلسطيني إلى الخلف، ولا يظهر إلا في شكل مشهد روتيني عن الخوف من سرقة الأراضي وتحويلها إلى مستوطنات إسرائيلية، أما ما يشكل حدثًا مركزيًا فيها، فهو بحث بطل الرواية عن حقيقة أخيه الذي اختفى منذ سنوات، لتصله الأخبار بأنه ما يزال على قيد الحياة. إذن سيعيش بطل الرواية، وهو كاتب وصحفي، وقع تحت أسئلة وجودية كبيرة ومعقدة.

ويسرد لونيس بن علي هذا المقطع من الرواية ليدلل على كلامه: «أقول في نفسي: ما هو الإنسان في الحقيقة؟ وأجيب: الإنسان تعريف

دائم لذاته، تعريف لا يهدأ. الإنسان ملزم بأن يعرِّف ذاته وأن يعيد تعريفها، مرة بعد أخرى. وكنت أتزلزل فأعيد تعريف ذاتي، لأتوازن وأستقر». ويعلق: «إنه ذات معذَّبة من الداخل، قلقة وفاقدة للاستقرار النفسي، هذا ما إذا ربطنا القلق الفلسفي بالبُعد النفسي لهذه الذات المتوترة. سيلتقط ذات يوم، جملة لاذعة، مرّت عليه وهو في زاوية من مقهى شعبي، وفحوى هذه الجملة هو: «الخلاص فردي». سنلاحظ أنَّ فكرة الخلاص أصبحت فردية، والفرد هو ذات مأزومة، لن تعثر إلا عن خلاصها الذاتي بنفسها».

ويضيف: «عبَّرت رواية المرحوم زكريا محمد عن الرحلة المضنية للفرد الفلسيطني عن الذات، فشيوع خبر أن الأخ المفقود قد عاد، هو تعبير عن الأمل المزيف في عالم بدا أنه مفرغ من الجدوى ومن المعنى. ستنتهي الرواية دون أن يعثر البطل على إجابات لأسئلته، وسينتهي إلى سلسلة أخرى من الأسئلة، كما لو أنّ الإجابات غير ممكنة». يكتب زكريا في روايته على لسان ذلك البطل: «فكرت في ما جرى معي: إلى أين سأمضي؟ عن ماذا سأبحث بعد الآن؟ هل أبحث عن الذهب؟ عن أخي؟ عن نفسي؟ عن وهم آخر؟». ويعلق لونيس: «نحن أمام سردية مفخخة بالأسئلة الوجودية، وأحيانا تخفي وراءها روحًا عدمية. ومن وجهة نظري، فإن تجربة زكريا محمد، وفي هذه الرواية بالذات، هي حالة مختلفة في السرد الفلسطيني المعاصر، ونفسر هذا التحول في الرؤية السردية بأنه ناجم عن أزمة الفرد الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن مناخ الاحتلال يفرز هذه الروح العدمية والقلقة التي تعيد طرح الأسئلة الجوهرية من جديد».

ليس مجرد شعارات

من جهته، أحالنا الناقد السعودي عبد الله العقيبي إلى مقالة قرأها قبل فترةٍ، عن التمجيد العربي لأدب الالتزام في مواجهة أدب المقاومة، على أساس أن الأول «أدب حقيقي»، بينما الثاني «مجرد شعارات»، إذ امتدح صاحب المقال مجموعة قصصية لغسان كنفاني، هي «موت سرير رقم 12» التي لا يعرفها إلا قليل من المهتمين بأدب كنفاني، باعتبارها أهم ما كتب المناضل والمثقف والسياسي، وجاء امتداحها في معرض امتداح الالتزام ونبذ أدب المقاومة الشعاراتي، يعلّق العقيبي: «هذا من أغرب ما مر عليَّ، فأي قارئ للأدب العربي سيحدثك عن «رجال في الشمس» أو «عائد إلى حيفا» أو «أرض البرتقال»، والسؤال الجوهري الذي تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة: كيف يمكن أن نتعامل مع عقليات من هذا النوع؟».

وأضاف: «المحزن هو أن معظم المشتغلين في الأدب العربي، كتابةً ونقدًا يتبنون -مع الأسف- مثل هذه الأطروحات الفكرية والفلسفية، بعد أن رسختها الفلسفة الكولونيالية، بل إن شاعرًا كبيرًا ومؤثرًا مثل محمود درويش وقع في نفس هذا المأزق، ما جعل أعماله الشعرية مقسومة إلى مرحلتين، مرحلة شعر المقاومة، ومرحلة شعر الالتزام، ولأنه شاعر كبير نجح في تقديم المرحلتين بشكل ممتاز ومقنع، لكن ماذا عن بقية الأدباء؟.. هل كان التزامهم بنفس المستوى؟ وهل قابل تضحيتهم بأدب المقاومة، تقديم أدب جيد يليق بقضاياهم الإنسانية الكبرى المزعومة؟». وتابع: «أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال يحتاج إلى عناية وتريث؛ لأن رقعة المدونة الأدبية العربية ومنها المدونة الفلسطينية -طبعًا- رقعة واسعة، لا يمكن نسف أدبها المقاوم بسهولة، فله حتى اليوم حضور ووجود قوي وفاعل، صحيح أن الحديث عن أدب المقاومة ينشط في مراحل معينة، مثل المرحلة الآنية، التي بدأ يتوسع فيها مفهوم المقاومة، من مقاومة الكيان الصهيوني وحده إلى مقاومة خطاب القوى الغربية برمتها، رغم ذلك لا يمكن تجاهل فكرة انحياز السواد الأعظم إلى أدب الالتزام على حساب أدب المقاومة، مع التأكيد على أن هناك طبقة أخرى من أدب المقاومة، هي مقاومة القوى المحلية، المتراخية أو المتصهينة التي شكل صوتها استفزازًا، تسبب في ظهور خطاب مقاومة تجاه الذات المنسحبة أو المتراخية تجاه القضية الأم، وهذا الشكل وإن كان حاضرًا بشكل مبكر في بعض التجارب الأدبية العربية شعرًا ونثرًا، فقد تأخر الانتباه إليه بحكم ضعف الوعي به، حتى أصبح ظاهرة وعلامة بارزة».

بعد طرحه لأبعاد القضية يتساءل العقيبي: «عن أي أدب مقاومة نتحدث؟ وهل الأدب الملتزم يشكل اليوم تأثيرًا ملحوظًا؟»، مؤكدًا أن فلسفة الأدب العربي الملتزم بالقضايا الإنسانية الكبرى أثَّرت في نوعية الأدب نفسه، وفي جدواه، وفي سؤال تغيير أو زيادة الوعي بالقضايا المحورية، فأصبح الأدب برمته في ذيل قائمة أفعال التأثير، وتحول في شكل انقلابي إلى أدب صالونات، لا يهتم إلا بالشكل الفني، موضحًا ما يعتبره «مسألة في غاية الأهمية»، هي أهمية عدم التخلي عن الأدب الجيد فنيًا، فالشكل الفني هو الذي يجعل تأثير الأدب في قلب العاصفة، كما يجب الموازنة بين الفني والموضوعي، حتى لا يتحول الأدب إلى مجرد حلية أو ديكور أو نوع من أنواع الوجاهة الاجتماعية، خاصة في مثل هذه اللحظة التي نستدعي فيها التفكير في أدب المقاومة، ما يجعل مسؤوليتنا مسؤولية معقدة ومضاعفة.

وفي نقطة جديدة يلفت العقيبي إلى أن هناك محاولة لاجترار أدب المقاومة، وكأنه بندقية صدئة أو سيف معلق على الجدار، نكتفي بالنظر إليه في اللحظة التي يسيل فيها الدم في شوارع غزة ومستشفياتها، ويدلل على كلامه بكمية الاستعادة لمقاطع من قصائد محمود درويش الأولى على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تكرار صيحة أمل دنقل الأبدية «لا تصالح»، وغيرها من أدب المقاومة، فما تزال حرارته تلهب الأعداء بجميع أشكالهم، دون أن يتخلى عن فكرته الكونية الوجيهة، التي تصلح أن يستخدمها المقاوم في أي أرض ومن أي عرق. ثم يقول: «السؤال الآن أين هذا الشكل من الانفعال الذي ينتج أدب مقاومة؟ أم أن لكل كاتب قضية شخصية هو موظف لديها، وتتعارض بالضرورة مع أفكار المقاومة؟! بحيث يكون حل التعبير والانفعال الفني بالقضايا الإنسانية الكبرى أسهل وأنفع له من التعبير عن القضية الأساسية؟! في هذه الحالة ستبرز فكرة أدب الالتزام بشكل باهت، لا طعم له أو رائحة، ويستحيل النص الأدبي إلى مجرد رياضة لغوية هدفها المشاركة لا التعبير».

الفارق الشاسع

الكاتب المصري محمد أبو زيد يرى أننا حين نتأمل المنتج الفني الذي قدمه العرب مجتمعين عن القضية الفلسطينية طوال 75 عاماً، أي منذ نكبة 1948 وحتى الآن، ثم نقارنه بما قدمه اليهود عما تعرضوا له في سنوات قلائل إبان حكم هتلر، سنجد الفارق شاسعاً، وربما لا يصلح للمقارنة، فقد استطاع اليهود عبر مئات الأفلام الشهيرة والروايات والأغاني والقصائد أن يخلقوا لأنفسهم مظلومية لا تنتهي، واستطاعوا أن يغيِّروا صورتهم الاعتيادية حيث عرفهم العالم عبر قرون بالجشع والخبث، وضرب مثالاً بشخصية اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» لويليام شكسبير، وهي شخصية متكررة في كثير من روايات ومسرحيات تشارلز ديكنز وهنري جيمس وبرنارد شو وغيرهم.

لكن حين تنظر الآن، بحسب أبوزيد، إلى ما خلَّفته الدعاية الفنية والإعلامية لليهود عبر أفلام هوليودية شهيرة بعضها فاز بجوائز الأوسكار مثل «قائمة شندلر» وغيره، فإنك ستجد بين العرب ـ ولا سيما الأجيال الجديدة ـ الكثير من المتعاطفين مع هذه الصورة، بل ويرددون سرديات اليهود ـ الذين يسيطرون على جزء كبير من صناعة الأدب والفن والنشر في العالم ـ فيما يخص الهولوكست وغيره، فهؤلاء الشباب لا يجدون لتلك السرديات بديلاً عربياً.

ويتساءل: «في المقابل، ماذا قدم العرب للقضية الفلسطينية طوال 75 عاماً؟»، ويجيب: «من المؤسف أن ما قدمه العرب محدود ويمكن إحصاؤه ببساطة، وهو مُوجَّه للداخل العربي وليس للخارج، وقد بدأ في التناقص بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة».

يعتقد أبو زيد أن مشكلتنا كعرب هي أننا نتحمس قليلاً ثم تفتر همتنا، فعندما يتم قصف غزة يسارع الشعراء لكتابة قصائد، والمطربون إلى تدشين أغان وأوبريتات، والروائيون إلى التفكير في روايات عن فلسطين وينسونها بمجرد أن تنتهي الحرب. رد فعلنا الفني انفعالي وليس مبنياً على مخطط طويل الأمد لحفظ الهوية. يعلق: «يذكرني هذا بسلسلة كتب كانت تصدر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب عقب حرب أكتوبر اسمها «أدب الحرب»، ثم توقفت بعد فترة، ونسيها الناس، لأن الناس توقفت عن الكتابة ولأن الأمر صار بالنسبة لمسؤولي النشر مجرد ماض، وليس جزءاً من ذاكرة الوطن يجب حفظه والتذكير به. ورغم أن القضية الفلسطينية ما زالت مشتعلة، إلا أن الأدب الناتج عنها يتضاءل، ويقل مع الوقت، مع فتور اهتمام الكثيرين بها وانكفاء الكثيرين على ذواتهم».

ويلفت إلى أنه لم ينجح في تقديم القضية الفلسطينية للعالم إلا أشخاص محدودون، مثل إدوارد سعيد كمفكر ومحمود درويش كشاعر وغسان كنفاني كروائي وهاني أبو أسعد كمخرج وناجي العلي كرسام كاريكاتير، وهذا يكشف عن مأزق آخر. يقول: «معظم هذه الأسماء من جيل عاصر النكسة وربما النكبة، لكن ماذا عن الأجيال الجديدة؟ ما الذي استطاعوا تقديمه؟ المؤسف أننا لن نجد أسماء لامعة في هذا المجال، وحتى لو وجدنا فهي موجودة للاستهلاك المحلي، وهذا هو أخطر ما في الأمر. أنك تصرخ في حجرة مغلقة، وبالتالي لن يسمعك أحد».

وينهي حديثه قائلاً: «في اعتقادي أن الأحداث التي تشهدها غزة الآن، ستنتج أعمالاً، بعضها انفعالي، وبعضها سيبقى، وسيخرج من تحت رمادها كتَّاب جدد يؤمنون بالقضية الفلسطينية ويدافعون عنها بطريقتهم، لكن ما آمله، ألا يكون ذلك لفترة محدودة، وألا يكون موجهاً للداخل فقط».

تجربة عمانية

الكاتب العماني محمود الرحبي يبدأ بكلمات من مقدمة الشاعر عبد اللطيف اللعبي لكتابه المشترك مع ياسين عدنان «أن تكون فلسطينياً»: «يكفي أن يُنطق اسم فلسطين: التاريخ، الأرض، البلد، الشعب، عدالة القضية، الكفاح من أجل الحياة، والآن الكفاح من أجل البقاء، ليحضر الشعر كضيف من تلقاء نفسه».

وينتقل من هذه الكلمات إلى الحديث عن كتابه «خديجة لا تغلقي الباب»، الذي يحوي نصوصاً عمانية تأثرت بالقضية الفلسطينية، مؤكداً أن فكرته قديمة، طرقت رأسه منذ أيام الدراسة في الرباط، يعلق: «حين قرأت الأعمال الكاملة للراحل عبدالله الطائي، رأيت صفحات من قصائده عن فلسطين، فخرجت حينها الفكرة التي كانت مجرد رغبة أو حلم إلى حيز الواقع، وكان الجانب التجميعي في الموضوع هو الأصعب، إذ كان عليَّ الاتصال بعدد هائل من الكتَّاب، فالجميع لا يملك نصوصاً عن فلسطين، ولكن كيف لي أن أعرف إذا لم أسألهم؟ أو أسأل أبناءهم أو أحفادهم إن كانوا رحلوا عن دنيانا؟»، مستدركاً: «هذا لا يعني أن من لم يكتب عن فلسطين غير معني بها، أو أن الكتابة في هذا الشأن مطلب، وذلك لأن الكتابة في مستواها النصي عصية وإن حصلت فهي ليست إلا واحدة من أساليب التعبير، فهناك من يُعبِّر بالقلب ومن يُعبِّر ببذل اليد، ومن يُعبِّر بالقول شعراً ومقالاً ونصاً أدبياً، وبطبيعة الحال كان التعبير الأخير هو ما يشغل كتابي».

يواصل سرد رحلته في جمع النصوص: «انتظرت طويلاً حتى جاد لي الصديق صالح العامري بقصيدة عمودية (كيف لك أن تتصور أنه لديه قصيدة بهذا الشكل الكلاسيكي وبتلك النبرة الحماسية؟) وقد قرأها في الإسكندرية حين كان طالباً في نهاية الثمانينيات. كان العثور عليها صعباً، ولكني ألححت عليه كي يبحث عنها بين الرفوف القديمة في قريته شناص البعيدة. الجميل أن صالح كان متجاوباً لكنه عجز عن إيجاد القصيدة وهو في كل سفرة إلى قريته يباشر البحث عنها من جديد، إلى فاجأني ذات مساء بإرساله صورة القصيدة المنشورة في جريدة عمان، هذه الخطوة شجَّعتني على المُضي أكثر في المشروع. وقد تجاوب بعض الكتَّاب بإرسال أعمال بسرعة بينما نصحني بعضهم الآخر بالعودة إلى كتبهم، حيث اضطررت إلى رقن بعضها من جديد.. والعنوان «خديجة لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب» مقطع من قصيدة الأرض لمحمود درويش»، ويقول: «صدَّرت الكتاب كذلك بمقطع للرحَّالة ابن بطوطة يصف فيه قبة الصخرة، وأيضاً وضعت نصاً معبِّراً للناقد المغربي نجيب العوفي وجدته في أحد كتبه، في سياق تناوله لنص حول فلسطين»، لافتاً إلى صدور جزء ثان من الكتاب بمشاركة محمد الراشدي.

وفي نقطة جديدة يقول: «أدب المقاومة الفلسطيني حفظ القضية توثيقياً وقدَّمها جمالياً، تكفي مثلاً روايات غسان كنفاني وقصائد محمود درويش، وتلك الجمل التي تُستعاد كل مرة في أعتى اللحظات وكأنها طوق نجاة، من قبيل «سقط القناع» لدرويش، و«ألا يحدث كل هذا يا صفية» لكنفاني. ويضيف: «أعدت قراءة رواية «أم سعد» لكنفاني، وهي من ستة وخمسين صفحة تقريباً، ولكنها مكثفة ومعبأة بالحمولات الرمزية، وتتحدث عن جانب من حياة امرأة كادحة هي «أم سعد» التي «تلد وفلسطين تأخذ» كما جاء في الرواية. لقد وثقت هذه الرواية، وغيرها طبعاً من روايات فلسطينية كثيرة، وعبر مراحل وحقب القضية، المسار الفدائي إلى جانب التحولات الجغرافية والديموغرافية، وتغريبة المنافي التي عاناها شعبنا العربي في فلسطين».

حياة إنسانية مائلة

الناقد المصري الدكتور عادل ضرغام يرى أدب المقاومة الفلسطيني بشكل عام أدب يرتبط بمقاومة حياة إنسانية مائلة منزاحة عن الطبيعي، وهذا الميل أو الانزياح يُفقِد الإنسان فضلاً عن الشاعر أو الأديب انسجامه، ويفقده التواصل الطبيعي مع تاريخه الممتد عبر قرون، والأدب بكل أشكاله يعمل على إبقاء الذاكرة حية موصولة بتاريخها، خاصة في ظل الاحتلال الذي يمثل خرقاً للذاكرة وتفتيتاً للتواصل الممتد للارتباط بالتاريخ، وبذلك فإن الأدب الفلسطيني المقاوم هو أدب تثبيت طبقة الوجود ضد المحو والإزاحة والتشريد.

وبحسب ضرغام فإننا نجد تركيزاً في أدب الفلسطينيين على الإمساك بملامح الهوية إذ حاول المحتل بما يفرضه على الأرض من انقطاع وتهشيم لها أن يشكل وجوداً جديداً، وبوسع المراقب أن يعاين حالات أو أشكالاً لهذه الأدب وفقاً للتوجه السياسي في تعامله مع الاحتلال، ووفقاً لنظرة الدول العربية ومواقفها، وقيمة تأثيرها في السياقين الإقليمي والعالمي. ويعلق: «أعتقد أن أي مقارب لهذه الحالة

الفلسطينية الغريبة في التاريخ المعاصر، سيدرك أن الأدب يتأثر بالموقف السياسي بشكل أو بآخر، ففي هذه المدة الطويلة ستجد أشكالاً للأدب تتماس مع الشكل السياسي وطبيعة السلطة، ففي البدايات الأولى حيث لم يكن هناك فرق بين المقاومة والسلطة سنجد أصواتاً شعرية ونثرية ممتدة دون تدجين أو ترقب الأفق المسموح أو خوف، وفي إبداعهم يغيب الفني، ويحلُّ الصوت الأيديولوجي الزاعق. وهؤلاء هم من أوصلوا صوت القضية للعالم، حتى لو كان الفني خافتاً، ومع ذلك تظل هذه المرحلة ضرورية. بعدها يمكن معاينة مساحة إبداعية في الأدب المقاوم مشدودة وممسوسة بوجود الاتفاقيات التنظيمية على الصعيدين الفلسطيني والعربي، وممسوسة بالاندحارات المستمرة لفكرة المقاومة ذاتها نتيجة للتفاوض والمعايشة، فكل ذلك خلق قاموساً لغوياً به الكثير من التدجين».

وأضاف: «الأدب المقاوم نفسه يتأثر، لأنه تحت تأثير هذا القاموس الجديد للاتفاقيات بدلاً من أن يظل صوتاً حراً، نراه يتخندق ويتوارى، فيصبح غير مباشر، وفي ظل ذلك لا بد من حركة مزلزلة يستعيد الأديب فيها صوته اللامع الحر بعيداً عن فكرة التسليم. ويعد محمود درويش -ومعه أبناء جيله- نموذجاً كاشفاً عن مساحة هذه التحولات، فمحمود درويش له صور عديدة أو مرايا، ولكن هذه الصور والمرايا تظل مشدودة لفكرة المقاومة وتحولات أشكالها، فهي تتقاطع وتتداخل لتشكل سيرة كاشفة لأدب المقاومة الفلسطيني، بداية من الصراخ الجارح إلى الصراخ الخافت المنفتح على أسئلة الوجود، وتأمل الحالة الوجودية من منزع إنساني عام».

ويخلص إلى أن منجز محمود درويش يمكن أن يعد صوة لهذا الأدب في تحولاته، ويشكل الوجود المركزي لفكرة المقاومة، وإن كان بجواره كثيرون، يقفون على بساط واحد فنياً، فمنجزه وطريقة تلقي هذا المنجز يمثل صورة لإيماننا بالقضية، حتى لو ظلَّ إيماناً عاطفياً، وعنايتنا بمنجزه يمثل التفافاً حول مشروعية القضية، حتى لو كان التفافاً واقفا عند حدود معينة، في ظل وضعية تحتفي بالموقف الفردي في ظل الخلخلة السياسية الممتدة وتبدُّل المواقف والتوجهات، فكأنه بمنجزه وشعره يمثل حالة مثالية نحنُّ إليها، نحنُّ إلى هذا التلاحم الذي لم يعد موجودا الآن. فأدب المقاومة بعد محمود درويش يمثل صورة لوجودنا المنقسم على أنفسنا وفق تعددية لافتة في المواقف، يجاوبه تعدد في الأصوات الأدبية التي لم تنتخب بعد صوتها الكاشف عن طبيعة المرحلة، وتؤسسه نجماً لها.

صوت الحماسة والفن

الشاعر الفلسطيني الأردني معتز قطينة يتساءل: «كيف يمكن للأدب أن يكون مقاوماً دون أن يخذل الفن؟»، وبحسب ما يذهب إليه لا يمكن أن يرتفع صوت الحماسة وهذا الكم العاطفي المشحون في أدب المقاومة دون أن تتأثر جودة النص وتحمل في ثناياه نفساً تعبوياً. ويقول: «لعلنا نستحضر هنا الأشعار الأولى لمحمود درويش (رغم تجاوزها نوعاً ما)، وسميح القاسم في نصوصه الاندفاعية، وتوفيق زيِّاد ومعين بسيسو، هذا فيما يخص الأصوات الشعرية الأولى التي حملت صوت القضية بينما كانت في مرحلة الصدمة ومعايشة الواقع الجديد ما بعد الاحتلال وضياع البلاد».

إذن هل نجح أحد في تقديم قضية فلسطين دون أن يخلَّ بمعيار الفن؟ يجيب: «بلى، محمود درويش فعل ذلك كثيراً في أغلب أعماله ما بعد اتفاقية أوسلو، ثمة تحولات بدأت مبكراً، وكان أقدر على تجاوز أدباء القضية -إن صح هذا التوصيف- ربما بعد صدمة حصار بيروت وخروج منظمة التحرير منها، واستمر كذلك حتى أعماله الأخيرة؛ نلحظ هذا جلياً في «حالة حصار» وقدرته على تدوين اليوميِّ شعراً دون أن يرفع عقيرته بما كان يكتبه في بداياته، نضج التجربة وأسباب أخرى ليس هذا موضعها تسببت في ذلك. الكتَّاب المعاصرون والشباب أيضاً في فلسطين يعملون بشكل جدِّي على التحدُّث عن حياتهم، لعلي أستشهد بأعمال عزالدين المناصرة، وليد سيف، زياد خدَّاش، هاشم الغريب، غيَّاث المدهون، ومازن معروف».

ويضيف: «كما أعرِّج على تجربة الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله، نظراً لاتساعها وتنوُّع مشاربها ومنتجها النهائي، أعني هنا الملهاة الفلسطينية وهي أكبر مشاريعه التي يوثق فيها التاريخ الفلسطيني الحديث، راصداً التحولات المجتمعية على مدار 250 عاماً، إضافة إلى عمله المرجعي «موسوعة الأدب الفلسطيني»، وبالمجمل، فإن منجز نصرالله يبدو أكثر المشاريع المعاصرة جدِّية في توثيق القضية الفلسطينية؛ وإيصالها للأجيال الجديدة والمقبلة عبر الأدب».

ثمة ملاحظة جديرة أيضاً، بحسب قطينة، وهي أن السرد والنثر -رواية ومقالة- أقل انفعالاً، وأكثر قدرة على استيعاب التبدلات الاجتماعية، ويستشهد بإنتاج غسان كنفاني، ومراسلات درويش والقاسم ومقالاتهما، كذلك أيضاً الأعمال المهمَّة لحسين البرغوثي.

يعلق أخيراً: «لا يمكن لمن لم يعايش تلك النكبات أن يحكم في 2023 على جودة النص بمعايير حاضره قبل 7 أكتوبر، وهذا أمر مثير للتساؤل، أن بعض من انتقد تلك التجارب -وربما قلَّل من مفهوم أدب المقاومة- يصمت شعره أمام هذا الواقع الذي تعيشه فلسطين حالياَ، الحقيقة أن الأدب - في خضم الحدث- غير قادر على الاستيعاب والتعبير، لا أحد يعرف البوصلة الصحيحة للتفاعل مع هذه الإبادة والجرائم الوحشية وحملات التطهير العرقي التي يتعرض لها أبناء غزة، بعض الكلام يبدو ضعيفاَ ورديئاً ويطاول قامة الدم، وربما يحتاج الأدباء سنوات قبل استيعاب ما يحدث وإعادة كتابته، سواء كان استرجاعاً وإعادة إنتاج إبداعي، أو توثيقاً».

شعر مناسبات

الناقد المصري الدكتور محمد سليم شوشة يرى أن «شعر المقاومة لم يكن مزدهراً في أي عصر من عصور الثقافة العربية لأنه في الأصل شعر مناسبات أي يرتبط بحالة المقاومة، وهي حالة طارئة»، وقال: «كان في فلسطين إبراهيم طوقان وفدوى طوقان وسميح القاسم ومحمود درويش وهم من أبرز شعرائها. كتبوا عن مأساتها وجرائم الاحتلال والقتل والعنف. كما كتب عنها شعراء عرب آخرون من غير الفلسطينيين، فالقضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل العرب جميعاً، وكان الشعر العربي عن فلسطين في بداية القضية متدفقاً، خاصة بعد نكبة 1948، واستمر الشعر في التدفق، لأن القضية نفسها مستمرة بكل إشكالاتها من العنف والقتل والتدمير وكل أشكال الخراب الذي تمارسه إسرائيل».

وتابع: «كثير من شعراء فلسطين مجيدون وعندهم مقدرة شعرية كبيرة على تصوير المعاناة وتجسيدها وإيصال صوت المظلوم ونقله لبقية العرب والعالم، وفي هذه الحالة يكون الشعر أقرب لوسيلة إعلانية ولكنه ينطوي على بعض الجماليات، وبالتأكيد من يستطيع أن يجمع في شعره بين الإعلان والجمال يصبح الأفضل إذ يوصل القضية بشكل متميز».

طرائق المقاومة المعاصرة

من جهته يقول الكاتب العماني مازن حبيب: «إن سمحتَ لي، وأظنُّك تفعل، فإنه من البذخ بمكان، في هذه اللحظة الدَّامية، محاولة الحديث عن الكيفية التي أوصلت المقاومة صوتها وقضيَّتها العادلة إلى العالم في العقود السبعة الماضية أو يزيد، أو حتى استعادة رموزها المعروفة على المستويات الأدبية والفنية حينما كانت المقاومة تعني الاتساق والانخراط الميداني والفكري التَّام بما لا يخلُّ بالجمالي والإبداعي».

وأضاف: «ليس الحديث، كما يبدو لي، أيًّا كانت الصيغة التي يُفترض أننا نتقنَّع خلفها، عن البديهيات الآن إلا مُحفِّزاً لتلقي سياط مُوجَّهة (وأظنها مُستحقّة) إلى الذات إزاء العجز والخذلان اللذين نشعر بهما، ولا أظن أن أحدنا يودُّ أن يكشف جِلده أكثر لهذه السياط، إلا أنني سأحاول الحديث عن الأمر هنا».

يرى باختصار أننا ليس فينا ولا لدينا قلم غسان كنفاني، ولا ريشة ناجي العلي. ويتساءل: «ماذا عن شعر محمود درويش، وقصائد سميح القاسم؟»، ويقول إن «الإجابة هي نفسها على هؤلاء وعلى غيرهم، وعلينا، إن تحليَّنا بالحياء، وبالصمت وبألا نردد الحديث عن بُطولات كلامية وأسطوانات مشروخة، وندَّعي الشَّجاعة بطريقة ما توحي بأن موقفنا ككتَّاب اليوم -أو بشر ربما، علينا التحقُّق من ذلك أولاً- مُشرِّف إزاء ما يحدث، حينما كان الحديث والانخراط في هذه النوائب قبل عقود يعني مسألة حياة أو موت، ونحن أمام حواسيبنا، أو هواتفنا، أو تلفزيوناتنا في أمان تفرجُّنا». ويقول: «نحن لا نملك هذا البذخ، إلا أننا قد نملك شيئاً آخر، أو ترياقاً لهذا السم الذي نتجرَّعه على مهل، كما ظهر في الأيام الماضية، ويبدو أنه يستحق الحديث عنه في هذا السياق. إن قلت لك: الأمل، فلعلك تظنني أبالغ، بعد هذا التقديم المتشائم، وتحسبني أغيِّر دفَّة الحديث إلى كليشيه دفاعي مفاجئ لاستعادة التوازن. سأفسر: ألاحظ أن الأدب والفن يمثّلان- في وعينا التَّراكمي- في أشكالهما الأساسية التقليدية الهامة في التغيير، وفي التعبير عن المقاومة، بل وإيصال صوتها إلى أكبر حد ممكن، إلا أن المجازر على فظاعتها تتجاوز كل المخيلات التي يمكن لأي شاعر وروائي وقاص وكاتب مقالات وفنان كاريكاتوري وتشكيلي إعادة التعبير عنها، فالواقع أفظع من الخيال، بل سأتجاوز ذلك بقولي إنه أشنع مما يمكن أن يصل إليه الخيال، ولا أفضلية للخيال على ما نراه اليوم بداهة».

ويضيف: «يأتي من بين هذا الركام، على سبيل المثال، وضمن سياق الأمل الذي تحدَّثت عنه توَّاً، فنّان كوميدي ساخر، يعبِّر، خلال نصف ساعة تقريباً بطريقة كوميدية دامية وسوداوية، أعني باسم يوسف، ويعرِّف العالم عن القضيَّة عبر أكثر من عشرين مليون مشاهدة، إلى وقت كتابة هذه الكلمات، في برنامج بيرس مورغان (بلا رقيب)، والذي أمسى أكثر شهرة ومشاهدة بفضل مُداخلة باسم الفريدة، الأمر الذي أدى إلى ترتيب وبث حلقة مطوَّلة ثانية امتدَّت ساعتين وكانت أكثر هدوءاً وأقل صخباً، وما زالت تحصد ملايين المتابعات، وقد صرح بيرس في الحلقة الثانية، وهو الصحفي المخضرم على مدى ثلاثة عقود، بأن أسلوب باسم أربكه، ولم يعلم كيف يتعامل بفاعلية مع السخرية الصارخة ولكن المؤثِّرة، رغم إلمامه العام بعناصر القضية».

ويرى مازن حبيب أن الأمر لا يتعلق بإرباك وإفحام المُحاوِر، أو بزيادة عدد المشاهدات فحسب، فحتى التفاهات تحصدها، بل بفاعلية وسيلة المقاومة وذكائها، وأنت لا تملك سوى السلمية منها ضمن متناقضات عالم معكوس يقبُل العنف من طرف على الآخر، ويستهجن العكس. ويعلق: «إذن يمكننا بوعينا بالقضيَّة وتاريخها، وعدالتها وفهمنا لوسائل الوصول إلى الآخر التأثير البالغ وانتهاج مقاربات عملية مغايرة ومقنعة، دون الاعتماد تماماً على الطرق التي كانت ربما محصورة في وعينا في الأدب والفن بالشكل التقليديين، وإن لم تخرج بعيداً هنا في هذا السياق، إلا أن الأسلوب اختلف، واللغة تباينت، وحين تختلف اللغة، فإن حدة النبرة أيضاً تشكِّل فارقاً هاماً. ومن له قضية، لابد أن يتحدَّث (ويُمسرِح حجَّته) وهو على وعي عالٍ بحساسية أذن المتلقي، وليس بخطابية لسانه، وهذا ما فشلنا فيه لعقود، فشلنا في عدم الإصغاء إلى وقع كلماتنا وتعبيراتنا. وتماماً كما يحدث حينما يقوم طفل عربي ناشئ يتعرَّف على خيوط القضية أول مرة، لأنه أصبح كبيراً بما فيه الكفاية الآن ليستوعب جزءاً يسيراً منها، بتوليف مقطع فيديو من دقيقة أو اثنتين، وينشره عبر وسائل التواصل، على نحو أكثر وصولاً من أي عمل أدبي تقليدي في هذا اليوم. تماماً كما يكون واعياً -ما استطاع- ليرفض بأنه لن يكون جزءاً من دعم غاشم، ولو من بعيد، حتى إن تمثَّل في الامتناع عن وجبة «سعيدة»، أو حلوى لذيذة كانت ضمن روتين حياته اليومية، يفعل كل هذا، وهو يشكل عناصر من المقاومة السلمية الجديدة: فنحن لا نملك -لا سمح الله- ألا نكون سِلميين في مقاومتنا، إن كان هذا يرقى إلى أقل مستوياتها».

السخرية الفلسطينية المُرَّة

الناقد المصري الدكتور محمد عفيفي قال إن عنوان رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» استرعى انتباهه وهو لا يزال شاباً، وكانت الرواية قد صدرت في طبعة حكومية مصرية وقتها، استرعى انتباهه أيضاً لغتها، وقدرة صاحبها على السخرية الشديدة المُرَّة، التي تشعرك بعمق الأزمة الخاصة بجيل 48 لدرجة لا تصدق. يعلق: «اشتريت الرواية وقرأتها في إجازة صيف، واستولت عليَّ، وفهمت منها فكرة النكبة، وخيبة الإنسان العربي. إنها رواية عبقرية غيَّرت من تفكيري وجعلتني أحلم بمقابلة صاحبها شخصياً، ولم أجد طوال عمري كاتباً آخر قادراً على امتلاك هذه البراعة في التعبير الساخر سوى الأديب التركي عزيز نيسين. يظل إميل حبيبي مثالي المفضل حينما أتحدث عن أدب المقاومة الفلسطيني العظيم».

انتهت آراء المثقفين العرب، وبعضهم فلسطينيون، لكن القضية لم ولن تنتهي، وسيظل الشعراء والروائيون يوصلون صوتها بالقصيدة والقصة والرواية، إلى كل العالم، لعله يستيقظ يوماً ما.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بالقضیة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة الأدب الفلسطینی الفلسطینی فی غسان کنفانی محمود درویش صوت القضیة عن فلسطین الحدیث عن أن الأدب کثیر من لا یمکن یمکن أن ة التی التی ت حتى لو دون أن إلا أن على أن فی هذه إن کان لم یکن فی هذا إلى أن التی ی

إقرأ أيضاً:

القوات المسلحة تُنفذ عملية مشتركة مع المقاومة العراقية على هدف حيوي في حيفا

الثورة نت../

أعلنت القوات المسلحة اليمنية عن تنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع المقاومة الإسلامية العراقية استهدفت هدفاً حيوياً في حيفا بالأراضي الفلسطينية المحتلة.

وأوضحت القوات المسلحة في بيان تلقت وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) نسخة منه أن العملية العسكرية تأتي انتصاراً لمظلوميةِ الشعبِ الفلسطينيِّ ومجاهديهِ ورداً على مجازرِ العدوِّ الصهيونيِّ بحقِّ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيِّ في قطاعِ غزة.

وأكدت القواتِ المسلحةَ اليمنيةَ أنها ستواصلُ تنفيذَ عملياتِها العسكريةِ المشتركةِ مع المقاومةِ الإسلاميةِ العراقيةِ إسنادًا وانتصاراً للشعبِ الفلسطينيِّ حتى وقفِ العُدوانِ ورفعِ الحصارِ عنِ الشعبِ الفلسطينيِّ في قطاعِ غزة.

فيما يلي نص البيان:

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم

قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ } صدقَ اللهُ العظيم

انتصاراً لمظلوميةِ الشعبِ الفلسطينيِّ ومجاهديهِ ورداً على مجازرِ العدوِّ الصهيونيِّ بحقِّ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيِّ في قطاعِ غزة.

نفذتِ القواتُ المسلحةُ اليمنيةُ بالاشتراكِ مع المقاومةِ الإسلاميةِ العراقيةِ بعونِ اللهِ تعالى عمليةً عسكريةً مشتركةً استهدفتْ هدفاً حيوياً في حيفا بعددٍ من الصواريخِ المجنحةِ وقد حققتِ العمليةُ أهدافَها بنجاحٍ بفضل الله.

إنَّ القواتِ المسلحةَ اليمنيةَ -بعونِ اللهِ تعالى- ستواصلُ تنفيذَ عملياتِها العسكريةِ المشتركةِ مع المقاومةِ الإسلاميةِ العراقيةِ إسنادًا وانتصاراً للشعبِ الفلسطينيِّ حتى وقفِ العُدوانِ ورفعِ الحصارِ عنِ الشعبِ الفلسطينيِّ في قطاعِ غزة.

واللهُ حسبُنا ونعمَ الوكيل، نعمَ المولى ونعمَ النصير

عاشَ اليمنُ حراً عزيزاً مستقلاً

والنصرُ لليمنِ ولكلِّ أحرارِ الأمة

صنعاء 26 ذي الحجة 1445للهجرة

الموافق للـ 2 يوليو 2024م

صادرٌ عنِ القواتِ المسلحةِ اليمنية.

مقالات مشابهة

  • القوات المسلحة تُنفذ عملية مشتركة مع المقاومة العراقية على هدف حيوي في حيفا
  • تنفيذ عملية مشتركة مع المقاومة العراقية على هدف حيوي في حيفا
  • المملكة تجدّد موقفها الراسخ في دعم القضية الفلسطينية ووقف العدوان الإسرائيلي
  • حزب المصريين: تبرع «المتحدة» بـ60% من أرباح مهرجان العلمين يعكس دورها الوطني
  • السحيباني: المملكة تجدّد موقفها الثابت والراسخ في دعم القضية الفلسطينية ووقف العدوان الإسرائيلي
  • رئيس الجمهورية يتسلّم رسالة من الرئيس الفلسطيني.. هذا فحواها
  • مندوب المملكة في «التعاون الإسلامي»: نحمل على عاتقنا القضية الفلسطينية بالمحافل الدولية لتحقيق حياة آمنة بغزة
  • محلل سياسي فلسطيني: موقف مصر تجاه القضية قوي ومشرف منذ بداية الحرب على غزة
  • حسن عز الدين: الشعب الفلسطيني وحده من يرسم اليوم التالي في غزة
  • المنسق الأممي للسلام : إجراءات إسرائيل بالضفة تزيد التوتر وتضعف من فرص السلام على أساس حل الدولتين