ماذا بين الرئيس التونسي قيس سعيّد والقضية الفلسطينية؟
تاريخ النشر: 16th, November 2023 GMT
الورقة الحاسمة:
يدين الرئيس التونسي قيس سعيد للقضية الفلسطينية بواحد من العوامل الحاسمة التي أوصلته إلى سدة الحكم في انتخابات ألفين وتسعة عشر. إضافة إلى الصورة التي رسمت له في الحملة الانتخابية- بوصفه خارج التصنيفات الحزبية وخاليًا من أي مظاهر للفساد، وغير مدين لأي جهة داخلية أو خارجية، سياسية أو مالية أو دبلوماسية- ظهرت فلسطين في منعطف حاسم توسط الجولتين: الأولى والثانية التي وضعت سعيد وجهًا لوجه مع المرشح نبيل القروي.
بينما كان التونسيون يتطلعون إلى ما سيصبح عليه المشهد السياسي بعد تلك الانتخابات، بثت إحدى القنوات- التي ستتحول لاحقًا إلى أكثر داعمي الرئيس قيس سعيد فيما أقدم عليه من خطوات، عدت من قبل رافضيها انقلابًا على المسار الديمقراطي- تسجيلًا بالصوت والصورة أنجزه في كندا صحفي مغمور، سرعان ما توارى لاحقًا عن الأنظار، مع من وصف بكونه ضابطًا سابقًا في الجيش الإسرائيلي، اسمه آري بن مناشي، قيل إنه يمتلك شركة للعلاقات العامة، أفاد في الحوار بأن المرشح المنافس لسعيد- أي نبيل القروي- دفع له أموالًا ضمن حملته الانتخابية الرئاسية كي يدير لصالحه حملة علاقات عامة تعزز من حظوظه في الفوز برئاسة تونس، ومن مقبوليته لدى الدوائر الغربية كرجل دولة يمكن التعامل معه.
كان ذلك الحوار كفيلًا بأن يحرق آخر أوراق القروي، وأن يقوي حظوظ سعيد الذي سئل في المناظرة التلفازية الانتخابية الرئاسية عن عدة أمور؛ بينها قضية التطبيع مع إسرائيل، فرفع الرجل شعاره- الذي عاد ليردده بعد أن أصبح رئيسًا- ألا وهو "التطبيع خيانة".
شعار له إخوة:لم تكن هذه الجملة يتيمة في بابها، فلقد اندرجت في خطاب الرئيس قيس سعيد مع أخوات لها ظهرت تباعًا في مناسبات عدة، من قبيل أن القضية الفلسطينية لا تسقط بالتقادم، وأن الشعب الفلسطيني من حقه استرداد أرضه من النهر إلى البحر، وأن الدولة التونسية ستفعل كل ما بوسعها لدعمه، بل إن نبرة الخطاب كانت ترتفع أحيانًا حتى تصل حد القول: إن "فلسطين ليست مزرعة حتى تكون موضوعًا لصفقة"، في إشارة واضحة إلى المشروع الذي طرحه الرئيس السابق دونالد ترامب لتسوية القضية الفلسطينية، ولا تزال إدارة بايدن الحالية تتحرك ضمن محدداته العامة.
ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة- تلك التي تلت هجمات حماس على فرقة غلاف غزة في الجيش الإسرائيلي، وما يرتبط بها من مستوطنات- عادت الأضواء لينال منها الرئيس التونسي قيس سعيد نصيبًا بموقفين لافتين، هما: الامتناع عن التصويت لصالح قرار عربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، دعا لوقف إطلاق النار بغزة، وكسر الحصار المضروب على القطاع، ومن قبله تحفظ على قرار للجامعة العربية تناول التطورات نفسها، وفي كلتا الحالتين اعتبرت الدبلوماسية التونسية أن المقاربات المطروحة تساوي- بشكل ظاهر أو خفي- بين الجلاد والضحية، ولا ترقى إلى ضمان الحقوق الفلسطينية، بما ينبغي من موقف صارم وإجراءات فاعلة.
ذكّر الموقف التونسي كثيرين بمواقف ليبيا القذافي، عندما كان العقيد الراحل يرفع من سقف الجدالات العربية- العربية، ملقيًا باللائمة على الرسميات العربية التي تعقد قممًا لرفع العتب والاكتفاء بعبارات الإدانة والشجب.
على أن المقارنة تقوم على جوانب متشابهة، وتغفل في المقابل عن فوارق جوهرية، بالنظر إلى أن الزمن والجغرافيا قد اختلفا، ذلك أن الرئيس سعيد ليس القذافي، حتى لو صدقنا من يهمس بأنه كان من معجبيه، ويرى فيه زعامة وتجربة ملهمتين، كما أن ليبيا- التي كانت ولا تزال تسبح على ثروات نفطية وغازية وفيرة- ليست هي تونس التي تغرق في أزمة اقتصادية خانقة أثرت على قدرات الدولة، ومعيشة المواطنين فيها، باعتراف الجميع حتى الرئيس سعيد نفسه.
على أية حال، فقد انقسم التونسيون- كما هي عادتهم- حول الموقف من سياسة الرئيس سعيد؛ بين من يراها مظهرًا لما يصفونه بالخط الوطني السيادي، ذلك الذي يترجم، بطريقة أوضح وأقوى، التزام تونس التاريخي بالقضية الفلسطينية.
وفريق آخر يجد في هذا الخطاب ونبرته، عدولًا عن تقاليد الدبلوماسية التونسية التي كانت توازن دائمًا بين مناصرة الحق الفلسطيني، ولزوم وحدة الصف العربي، إضافة إلى علاقات دولية تشمل الولايات المتحدة، والدول الغربية ذات العلاقات السياسية والاقتصادية الواسعة والمؤثرة مع تونس.
كما وجد هؤلاء الرافضون مواقفَ الرئيس سعيد- ذات العلاقة مع الملف الفلسطيني- "قفزًا شعبويًا" فوق الواقع الذي يذكر كل من ينسى أن تونس لا تملك في الواقع- عدا الكلمات القوية والعبارات الرنانة – أوراقًا اقتصادية أو عسكرية تجعل لما يصدر عن قيادتها قيمة حقيقية وازنة.
المتشددون ضمن هذا الموقف يتوسعون في نقدهم للرئيس سعيد ومواقفه، إلى حد الإشارة إلى أن تلك المواقف لم توقف حج إسرائيليين إلى معبد الغريبة اليهودي التاريخي في جزيرة "جربة" التونسية، ولم توقف في شيء ما تنشره جهات اقتصادية دولية مختصة عن استمرار علاقات تجارية بين تونس وإسرائيل، كما أنها لم تبدد بالشكل الكافي ما قيل عن غضب الجارة الشقيقة الحليفة الجزائر، عندما راجت أخبار غير مؤكدة عن نية تونسية خجولة في التطبيع مع إسرائيل، بتشجيع من بلدان ساندت بقوة إنهاء الرئيس سعيد ما كان يعرف في تونس بعشرية الانتقال الديمقراطي، وافتتاح مسار الخامس والعشرين من يوليو الذي كرس حكمًا رئاسيًا مطلق الصلاحيات، وأحل محله نظامًا برلمانيًا هشًا ومتعثرًا.
سارعت تونس- وفق ما نشرته منابر إعلام جزائرية- إلى التحرك عبر دبلوماسيتها صوب الجزائر لرفع الالتباس، وتأكيد أن الرئيس سعيد لم يغير بوصلته، وأنه رغم علاقات بلاده الوثيقة مع نظم عربية رائدة في التطبيع- تتقدمها الإمارات ومصر- فإن ذلك لا يعني، ولن يعني بحال، التطبيع مع إسرائيل.
وفيما يتمسك المعسكر المناصر لمسار الرئيس سعيد بصدق الرجل وثباته على المبدأ فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية- مشددين على القيمة الرمزية العالية لذلك الموقف في زمن خذلان وتداعي النظام الرسمي العربي إلى التطبيع- يتريث غيرهم قبل التعويل على ناتج فعلي للوفرة الخطابية التي يتعامل بها الرئيس سعيد مع كثير من القضايا وبينها القضية الفلسطينية. وفرة جعلته في نظرهم يربط إعصار دانيال- الذي ضرب ليبيا مخلفًا عددًا كبيرًا من الضحايا ودمارًا هائلًا- بالحركة الصهيونية، في استدعاء لقاموس غاب طويلًا عن الرسميات العربية التي كفت منذ سنوات عن الحديث عن "المشروع الصهيوني"، و"الحركة الصهيونية".
يفعلون ذلك وهم يرون الرئيس سعيد يبادر دون تردد إلى إعلان الدعم الكامل لغزة في "طوفان الأقصى"، مقتربًا دون أن يعلن ذلك من منطق ألا صوت يعلو فوق صوت البندقية، وما البندقية في "الطوفان" سوى بندقية حمساوية إخوانية كانت قد بعثت ببرقية تهنئة حارة له حينما فاز في انتخابات ألفين وتسعة عشر، غير أنه- لاعتبارات غير واضحة- تحاشى، بحسب تلميحات سامي أبو زهري الناطق باسم حماس، ملاقاة وفد للحركة زار تونس في وقت لاحق.
رصيد المواقف:هل هي فعلًا شعارات وكلمات دون رصيد؟
من السابق لأوانه المسارعة إلى حكم باتّ كهذا، ذلك أن الرصيد المعني في هذه الحالة لا يعني فقط مدى قدرة الرئيس سعيد نفسه على تحويل شعاراته إلى واقع فعلي يجسده دعم دبلوماسي ومالي، وربما عسكري بنحو ما للسلطة والمقاومة الفلسطينية، وإنما يمكن أن يعني الرصيد مفاعيل مضادة من قبيل ثمن تدفعه تونس لقاء مواقفها المعلنة على يد إدارة أميركية ودول غربية أعلنت انحيازها المطلق لإسرائيل، ولم تتعود التسامح مع من يتجاوز عبارات الدعم للفلسطينيين إلى أفعال ما تكون وازنة ومزعجة لأمن إسرائيل وبقائها.
عند هذه النقطة تصبح المواقف التونسية من القضية الفلسطينية ورقة تطرح على مائدة العلاقات التونسية والغربية- الأميركية في الجهة المقابلة. على تلك المائدة توجد حسابات واعتبارات أخرى، ذلك أن سعيد المتحمس للحق الفلسطيني، هو الذي يوشك على إراحة الغرب عامة وفرنسا خاصة من كابوس الإسلام السياسي الساعي لإنشاء تجربة تركية تمقتها باريس في الضفة الجنوبية من المتوسط، وهو كذلك؛ أي الرئيس التونسي، من أبرم مع الاتحاد الأوروبي اتفاقية غير مسبوقة في مجال الهجرة غير النظامية، طارت بها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فاندر لاين، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني فرحًا.
إذًا هو قيس سعيد صاحب السياسة ذات الأوجه والأبعاد المتعددة، وهو مع ذلك رئيس تقف وراءه "دولة عميقة" بما لها من عقل سياسي وأمني عريق، يستوعب المتغيرات، لكنه يعرف على الأرجح حدوده جيدًا، خاصة عندما يصل الأمر حد الهجوم الذي قام به عنصر أمني في شهر يونيو من السنة الجارية مستهدفًا "حارة اليهود" في "جربة"، مخلفًا وراءه عددًا من الضحايا، في تذكير بهجمات سابقة ذكّرت بعلاقة تونسية- إسرائيلية مرت في جوانب منها بمراحل دامية؛ بدءًا من غارات إسرائيلية على مقرات منظمة التحرير في منطقة "حمام الشط"، مرورًا بعملية اغتيال "أبو جهاد" في ضاحية "سيدي بوسعيد"، ومنهما إلى اغتيال المهندس محمد الزواري، الذي صارت المسيرات التي صنعها واحدة من مكونات أسطول مسيرات حركة حماس، التي حرصت على إظهارها ضمن ترسانتها التي أعدتها لمعركة "طوفان الأقصى".
الطلقة القاتلة:لم يتفاعل المستوى السياسي في إسرائيل مع مواقف الرئيس التونسي قيس سعيد سوى من خلال تغريدات وتصريحات لإيدي كوهين- لا تعبر عن الموقف الرسمي، وإن صدرت عمن يصفه البعض بأحد مستشاري رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو- هزأ في جزء منها من شعار "التطبيع خيانة"، ومن تفسير الرئيس سعيد لخلفيات تسمية إعصار ليبيا بدانيال.
مع ذلك ترى قراءات في سحب رئيس البرلمان التونسي إبراهيم بودربالة، مستندًا إلى رأي الرئيس سعيد، مشروعَ قانون لتجريم التطبيع مع إسرائيل- بذريعة أن اعتماده سيضر بالأمن القومي التونسي ومصالح البلاد العليا- معيارًا فعليًا يمكن به أن تقاس المسافة بين القول والفعل، لا لجهة صدق الرئيس سعيد بعيدًا عن محاكمة النوايا، وإنما للمفاعيل التي قد تقود إليها خطوة كتلك.
وإذ لم يذكر بودربالة- حتى من باب الدفاع عن نفسه إزاء من اتهمه بإسقاط المشروع- تفاصيل تلك المخاطر، أو ما يمكن أن يكون قد وصل الرئاسة التونسية من رسائل دفعتها للإيعاز بسحب المشروع، يبقى الأكيد هو أن إسرائيل وحلفاءها لا يمكنهم الاكتفاء بتجاهل أو تهوين خطوة من ذلك القبيل، حتى وإن بقيت رمزية في بابها، خشية أن تفتح الباب لخطوات أخرى مماثلة، أو على الأقل خيفة أن ترفع سقف غضب شارع عربي لا يرى من عذر لتقصير حكوماته بشأن القضية الفلسطينية.
بسقفه الخطابي العالي، من المرجح أن يستمر الرئيس التونسي قيس سعيد في إطلاق صواريخه الخطابية، حيث قال مرارًا: "إنها على منصاتها تطلق بين حين وآخر كلما دعت الحاجة لذلك"، ولعل أقرب الحاجات مناسبة مواعيد انتخابية قادمة لا محالة، من المستبعد أن يستغني فيها الرئيس سعيد عن "طلقته القاتلة" ألا وهي القضية الفلسطينية، غير أن المشهد تغير هذه المرة، إذ لا يوجد نبيل القروي، ولا وجود لحوار مصور مع ضابط إسرائيلي اسمه آري بن مناشي يلقَى به فجأة في حملته الانتخابية. هذه المرة هناك الرئيس قيس سعيد منفردًا بصلاحيات واسعة، في مجابهة أزمة اقتصادية قاسية، ودعوات داخلية وخارجية للحوار من أجل تجاوزها.. قبل وبعد أي موقف ناري من القضية الفلسطينية.. مهما كانت النوايا التي تقف وراءه صادقة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الرئیس التونسی قیس سعید التطبیع مع إسرائیل القضیة الفلسطینیة الرئیس سعید رئیس ا ما کان ا یمکن
إقرأ أيضاً:
المصارف الإسلامية التي أعادت الاعتبار للمال.. ماذا حدث لها؟
في قرية وادعة من قرى دلتا النيل، وُلدت عام 1963 شرارة تجربة مغايرة على يد الدكتور أحمد عبدالعزيز النجار، العائد من ألمانيا وقتها ليس باحثًا عن بديل شرعي للتمويل الغربي؛ بل عن معنى جديد للمال.
لم يكن المال عنده سلعة للبيع؛ بل أمانة لإعمار الأرض، وأداة لاستعادة التوازن بين الإنسان والحاجة. ومن خلال "بنوك الادخار المحلية" في مدينة "ميت غمر"، دشّن النجار نموذجًا مبكرًا لما يمكن تسميته اليوم بـ "اقتصاد المعنى"؛ حيث لم يكن المال يُباع؛ بل يُستثمر بالشراكة، ويتقاسم الناس عوائده وخسائره بوعي ومسؤولية.
ومع خروج التجربة من طورها المحلي إلى فضاء المؤسسات، بدأت تتشكل الملامح الأولى لمنظومة مصرفية إسلامية متكاملة، فتأسس أول مصرف إسلامي مستقل عام 1975 في دبي، تلاه في العام نفسه إنشاء البنك الإسلامي للتنمية في جدة كذراع تنموية تعاونية، ثم جاءت تجربة السودان الرائدة في أوائل الثمانينيات حين أسلمت نظامها المصرفي بالكامل.
وعلى مدى العقود التالية، اتسع حضور المصرفية الإسلامية، وتحوّلت من مبادرة طموحة إلى صناعة مالية في عقدها الخامس؛ لتتجاوز أصولها 4.5 تريليونات دولار، وتشكل المصارف الإسلامية منها أكثر من 70%، وتُصدر سنويًا صكوكًا بأكثر من 200 مليار دولار؛ لتمويل مشاريع في الطاقة والتعليم والتنمية. ومع ذلك، ما زال السؤال الجوهري مطروحًا: هل ما زالت المصرفية الإسلامية وفيّة لرسالتها القيمية، أم تحوّلت إلى نسخة مألوفة بلغة شرعية؟
إعلانفي هذا السياق، يُطرح مفهوم "اقتصاد المعنى" بوصفه إطارًا تحليليًا لفهم المصرفية الإسلامية من الداخل؛ لا باعتبارها منظومة تخلو من الربا فحسب، بل كمحاولة لإنتاج نماذج مالية تتجاوز منطق الربحية إلى غايات تعيد الاعتبار للمال كوسيلة للكرامة والعمران.
وبهذا يختلف عن مفاهيم قريبة كاقتصاد السعادة، الذي يربط المال بالرضا النفسي، والاقتصاد السلوكي الذي يفسّر السلوك المالي وفق الانحيازات الإدراكية، إذ إن "اقتصاد المعنى" يُعيد تموضع المال في مركز القيمة؛ حيث لا يُقاس النجاح بالربح فقط، بل بما أحدثه المال من نفع، وعدل، وعمارة. فبينما تسأل بعض النماذج: كم ربحت؟، يسأل اقتصاد المعنى: لمن ربحت؟ وبأي أثر؟
كما يتقاطع منهجيًا مع "نظرية المآلات" في الفقه الإسلامي، دون أن يتطابق معها مفهوميًّا؛ حيث يهتم هو بالسياق المؤسسي والرسالة، وليس بعواقب الأفعال فقط.
وبهذا، لا يناقض "اقتصاد المعنى" تلك النظريات؛ بل ينبني عليها ويعمّقها، ويعيد الاعتبار لفلسفة التزكية، والعدل، والاستعمار الأخلاقي للأرض، بوصفها مرجعيات معيارية لأيّ نشاط مالي. وبهذا المعنى، لا ندعو إلى العزلة عن السوق؛ بل إلى الحضور فيها بشروط تُعلي من المقصد، وتُبقي على الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامش العائد.
وبناءً على هذا التأصيل، ينطلق المقال عبر ثلاثة محاور مترابطة. فيتأمل، أولًا، في التصوّر الإسلامي لوظيفة المال مقارنةً بالنماذج الاقتصادية الوضعية، ثم يتتبع كيف حاولت المصرفية الإسلامية تجسيد هذا التصوّر عبر هياكلها التمويلية ومؤسساتها التشغيلية، وأخيرًا، يتوقف عند سؤال التحدي والبقاء: هل ما زالت هذه المنظومة تحتفظ بجوهرها الأخلاقي، أم أنها انزلقت إلى تَشييء المال (reification of money) تحت ضغط الامتثال والمنافسة؟
المال في التصور الإسلامي.. أداة لا غايةمن بين المفاهيم التي تتداولها الألسن يوميًّا دون كثير تأمّل، يبرز مفهوم المال، لا كمجرد وسيلة تبادل؛ بل كأحد أكثر المفاهيم التصاقًا بالمصير الإنساني. غير أنّ التباس المصطلح قد يُضيّع دلالته. فـ "المال" ليس هو "النقد" المتداول فقط، ولا هو "الثروة" المدَّخَرة فحسب؛ ولا يقتصر على الممتلكات أو الدخول والهبات.
إعلانإنه مفهوم أوسع من ذلك؛ إذ يشمل كل ما له قيمة قابلة للتملك والانتفاع، سواء أكان عينًا أم منفعة، أو مادة ملموسة أو حقًا متجردًا. فالنقد فرع من المال، والثروة مظهر من مظاهره، والاقتصاد لا يدور إلا في فلكه.
هذه الحقيقة تبدو بسيطة؛ لكنها تحوّلت عبر التاريخ إلى معركة فلسفية واقتصادية عميقة بين رؤيتين متباينتين: رؤية تُقدّس المال، وأخرى تُقيّده بوظيفة أخلاقية، وتنظر إلى آثاره.
ففي النظام الرأسمالي المعاصر، وامتداده الليبرالي، عُرّف المال في جوهره بأنه «وسيلةٌ للتبادل، ومخزن للقيمة، وأداة لتحديد الأسعار. غير أنّ هذا التعريف المحايد، سرعان ما تلوّن حين تَحوّل المال إلى غاية بذاته.
فمع تصاعد الفردانية، وتراجع المرجعيات الأخلاقية، أصبح المال في الفكر الغربي لا يُعرّف فقط بوظائفه الاقتصادية؛ بل بدلالاته الاجتماعية، مثل: النجاح، والمكانة، والهيمنة.
وربما كان عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" أبرز مَن أظهر هذا التحوّل، حين ربط بين الأخلاق البروتستانتية وصعود الرأسمالية، موضحًا كيف أصبح السعي لجمع المال نوعًا من التديّن الجديد؛ "علامة على رضا الرب"، ولكن بلغة الأسواق. فالمال لم يُعَدّ وسيلة؛ بل أصبح دينًا بلا معابد.
وفي المقابل، يتعامل التصور الإسلامي مع المال بوصفه أداة محايدة، لا تكتسب قيمتها من ذاتها؛ بل من طريقة اكتسابها وإنفاقها. فالمال مخلوق، لا خالق، ومنحة لا هوية. قال تعالى: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مُستَخلَفين فيه… الآية﴾ [الحديد: 7]، ليؤكد أنّ المُلك الحقيقي لله، وأنّ الإنسان مجرّد وكيل يُحاسَب لا على الكم فقط؛ بل على الكيف.
وتأطيرًا لهذا المعنى الأخلاقي العميق، عبّر عنه النبي ﷺ بقوله: "لا تزولُ قدَما عبد يومَ القيامة حتَّى يسألَ عن عمره فيما أفناهُ، وعن علمه فيمَ فعلَ، وعن ماله من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاهُ." [أخرجه الترمذي]، ليُحيل العلاقة بالمال من مجرّد نشاط اقتصادي، إلى سؤال وجودي، ومسؤولية أخروية. فالمال في هذا التصور ليس رصيدًا بنكيًّا؛ بل هو أثرٌ في النفس، وأمانة في اليد، ومآل في الحساب.
إعلانوقد نَظَر العلامة الطاهر بن عاشور إلى المال من زاويتين تكشفان عمق التصور المقاصدي له في الإسلام؛ فهو من جهة "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس، في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلًا بكدح"، ومن جهة أخرى يرى أن المال "حقٌ للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير".
فليست الغاية من المال محض التملك أو التراكم؛ بل تحقيق الكفاية والتوازن الاجتماعي، في إطار يجعل منه وسيلةً للكرامة لا أداةً للهيمنة، وشراكةً في الإعمار لا استئثارًا بالمنفعة.
وهنا يُعاد ترتيب الوظائف الأساسية للمال: لا قيمة للمال إلا بقدر ما يحقق من كرامة للإنسان، وعدالة للمجتمع، وتعمير للأرض. فالمال ليس سلعةٌ تُباع مستقلة؛ بل قيمة أخلاقية تؤسس لعلاقة متوازنة بين الفرد والآخر، بين الغاية والوسيلة، وبين السلطة والمسؤولية.
ذلك التباين العميق بين "المال كوسيلة" و"المال كغاية"، هو ما يفتح الباب لفكرة "اقتصاد المعنى"؛ حيث لا تُقاس الثروة بالعائد وحده؛ ولكن بوظيفتها الأخلاقية ومآلاتها المجتمعية.
ومن هنا، جاءت المصرفية الإسلامية كتجربة مؤسسية تسعى لتجسيد هذا التصور، عبر نماذج تمويلية تقوم على المشاركة والإنتاج لا الربا، وعلى تقاسم المخاطرة لا ضمان العائد.
ومع التوسع في أكثر من 80 دولة، وبلوغها نطاق المؤسسات السيادية، باتت هذه المصرفية جزءًا من السوق العالمية؛ لكنها في ذلك تواجه سؤالًا وجوديًا متجددًا، ألا وهو: هل لا تزال تُعَبّر عن جوهرها الأخلاقي، أم أنها تحوّلت إلى نسخة مألوفة.. بلغة مأذونة؟
فبين صكوك تُسَوَّق باسم الاستدامة، ومؤسسات رقمية تتزيّن بلغة الشريعة، يتأرجح المشروع بين الوعد والمراوحة، وبين المعنى الذي أطلقه الرواد، والواقع الذي تفرضه قواعد البورصة.
المصرفية الإسلامية: محاولة لبناء مؤسسات ذات معنىحين نخرج من الحبر إلى الحجر، ومن التنظير إلى البناء، تتجلّى المصرفية الإسلامية كمحاولة لاختبار فكرة "اقتصاد المعنى" في الواقع المؤسسي. فلم تأتِ هذه المصارف لتبدّل الأسماء، ولا لتلوّن المعاملات بلغة دينية؛ بل جاءت لتمنح المال وظيفة أخلاقية، وتجعل من كل عقد مرآةً لقيمة، ومن كل صيغة بابًا لكرامة. ففي هذا المشروع، لم يكن المال هدفًا؛ بل جسرًا، ولم يكن المصرف مؤسسة لتكديس الأرقام؛ بل لبناء حياة تستحق أن تُعاش.
إعلانوقد بدأت هذه الفكرة من تلك الشرارة الأولى في مدينة "ميت غمر"، حين أراد النجار أن يُحرّر المال من منطق الجشع إلى أفق المشاركة، ومن لغة الربح فقط إلى منطق التنمية بالمعنى.
لقد غُرست البذرة هناك، في مشروع بدا متواضعًا في حجمه، لكنه كان جسورًا في روحه. وما أن خرجت الفكرة من الضيق إلى السعة، حتى بدأت تنمو بهدوء، من السودان إلى الخليج، ومن إسطنبول إلى جاكرتا، ومن كوالالمبور إلى نواكشوط، ومن لاهور إلى لاغوس. في كل محطة، كانت التجربة تحمل ملامح السياق؛ لكنها تعود لتتغذى على الجذر ذاته: المال ليس سلعة، بل أمانة.
ولأن الرؤية مهما علت لا تثمر إلا حين تُترجم، حاولت هذه المصارف أن تخلق من داخلها نموذجًا يعكس فلسفتها. فكان التمويل التشاركي قلبًا نابضًا لهذا الجسد المؤسسي.
ففي عقد المشاركة، يُعيد الطرفان تعريف العلاقة من "دائن ومدين" إلى "شريكين في البناء والمصير". وكل طرف يضع من ماله قدرًا، ويتقاسمان الربح وفق اتفاق مسبق، ويتحملان الخسارة بقدر المساهمة من رأس المال.
أمّا المشاركة المتناقصة، فهي صيغةٌ تحمل في طيّاتها فكرة التمكين التدريجي؛ حيث يبدأ العميل شريكًا، ثم يشتري حصص المصرف حتى ينفرد بالملكية، ما يجعل العقد أشبه بسُلّم تصاعدي نحو الاستقلال.
وفي المضاربة، يستثمر المصرف المال، ويستثمر العميل الجهد، في علاقة تُبنى على الأمانة لا الضمان، وعلى الثقة لا الفائدة. أمّا الإجارة المنتهية بالتمليك، فقد كانت جسرًا ثالثًا يتيح للعميل استخدام الأصل والانتفاع به، ثم امتلاكه بعد سداد الأقساط، مع وضوح الشروط، وضبط الالتزامات، دون أن يُفضي إلى تداخل يُربك المقاصد، أو يختلّ به حدّ الفصل بين العقود.
ليست هذه الصيغ مجرد أدوات تمويلية؛ بل هي تجسيد عملي لمفهوم "اقتصاد المعنى" الذي يربط العقود بالثقة، والمسؤولية، والإنتاج الحقيقي.
إعلانفقد سعت المصرفية الإسلامية في بداياتها لإحياء الغايات لا مجرد أسلمة العمليات. لكن مع الوقت، تقلصت بعض الصيغ إلى إجراءات شكلية، وظهرت أدوات تحاكي الربا شكلًا دون تسميته، فيما غلب في بعض المؤسسات الصوت الكَمي على الرؤية المقاصدية، فصار التقييم ينشغل بالتوافق مع المعايير لا بتحقيق العدالة والمعنى.
وهكذا، اتّسعت الفجوة بين اقتصاد الامتثال واقتصاد المعنى، وباتت بعض المؤسسات تتحدث لغة الأرقام بدقة؛ لكنها تهمس بلغة القيم بخجل. لا لخلل جوهريّ؛ بل لأنّ السوق يُكافئ النمو السريع أكثر مما يُكافئ الانسجام الأخلاقي.
وعلى الرغم مما شهدته التجربة من تحولات، لا تزال جذوة المعنى مشتعلة في مؤسسات صامتة لكنها صادقة، تُعيد الروح للمصرفية الإسلامية من خلال التمويل الأصغر، والمبادرات الوقفية، والشراكات المجتمعية. فالمعنى لا يُكتب في اللوائح؛ بل يُترجم في الضمير، ويتجلى في النية، وليس فقط في تجنّب الفائدة. فالتساؤل الأهم هو ليس عن حجم الأصول؛ بل عن جوهر الرسالة.
فهل تجرؤ هذه المؤسسات، وقد بلغت من النضج ما بلغت، أن تعود لتسأل نفسها: لماذا وُجدنا؟ وهل ما زلنا نحمل هذا المعنى الذي لأجله وُلدنا؟ ذلك هو السؤال الحقيقي.. وكل الباقي تفاصيل.
التحدي البنيوي.. ضغوط السوق وسؤال البقاءبكل هدوء واتزان، تأتي تلك اللحظة الفاصلة بين الفكرة وتجربتها، بين الرؤية وواقعها؛ لتطرح السؤال الأصعب: هل ما زالت المصرفية الإسلامية تحفظ "المعنى" الذي وُلدت من أجله، في عالم تملي فيه السوق شروطها، وتُحاصر لوائح الامتثال هامش الاختيار؟
فبعد أن انطلقت من تصور يرى المال أمانة لا غاية، ووسيلةً للإعمار لا للاحتكار، تجد اليوم نفسها أمام اختبار وجوديّ عسير، لا يقف عند حدود التنظير؛ بل يتطلب إعادة مساءلة الأساس الذي عليه بُنيت؛ ليستقيم التصوير.
ففي بيئة مصرفية عالمية تحكمها الربحية والكفاءة، تواجه المصرفية الإسلامية ضغوطًا من ثلاث جبهات: الامتثال التنظيمي، والمنافسة السوقية، ومتطلبات العائد.
إعلانلم يعد يُنظر إليها من زاوية قيمتها الأخلاقية، بل بقدرتها على التكيّف مع مؤشرات الأداء والرقابة. وبدل ابتكار أدوات تعبّر عن رؤيتها، انزلقت بعض المؤسسات إلى "أسلمة الأدوات التقليدية"، فغدت المرابحة تُشابه الفائدة، والإجارة تضمن الأرباح دون تقاسم للمخاطر، والمشاركة تُفرغ من معناها التمكيني.
وامتد التحدي من الأدوات إلى العقل المؤسسي؛ حيث تغلب الحسابات الكمية على الاجتهاد المقاصدي، وتُدار الصيغ بلغة الجداول لا بروح الغايات، فتُختزل فكرة التمويل القيمي إلى توافق شكلي.
فالمطلوب إذن، ليس رفض السوق؛ بل استعادة التوازن بين الامتثال والمقصد، وبين المنافسة والرسالة. فالمصرفية الإسلامية وُجدت لا لتُقلد؛ بل لتُعبّر عن رؤية تُعيد للمال قيمته، وللمؤسسة معناها. والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم، هو: هل نملك الشجاعة لبناء أدوات تعبّر عن رؤيتنا.. لا تُشابه غيرنا؟
ما بعد القول.. وما قبل الإجابةفي المصرفية الإسلامية، لم يكن الغرض يتمثل في إنتاج أدوات مالية فحسب؛ بل إعادة صياغة العلاقة بين المال والإنسان. فقد وُلدت هذه التجربة قبل خمسة قرون في لحظة حضارية حرجة، لتقدّم بديلًا أخلاقيًّا في عالم يُعامل المال كأداة سيطرة لا وسيلة إعمار. لم تكن مجرد تعديل تقني على نموذج رأسمالي؛ بل دعوة لإعادة الاعتبار للإنسان والعَقد والقيمة، ضمن ما يمكن تسميته باقتصاد المعنى.
لكن مع مرور الزمن، تآكلت بعض هذه الرؤية تحت ضغط الامتثال ولوائح السوق، فانزلقت مؤسسات إلى تكرار أدوات تقليدية بأسماء شرعية، وابتعدت عن المقاصد إلى حسابات الربحية وحدها.
فقوة المصرفية الإسلامية لا تُقاس بعدد الصكوك ولا بحجم الميزانيات؛ بل بقدرتها على الوفاء برسالتها بأن تكون أداة تحرير لا تدوير، ومؤسسة تعيد للمال معناه، لا تسلبه روحه. ففي زمن تجتاحه الأشكال، تبقى المعاني وحدها قادرة على البقاء.
إعلانوالسؤال الجوهري الذي يظل يُلحّ على الضمير المهني والأخلاقي معًا،هو: هل يكفي ألا تكون المصرفية الإسلامية ربويّة أم يجب أن تكون رحيمة وعادلة أيضًا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline