في العمق: قراءة فـي مدلولات خطاب جلالة السلطان فـي عيد النهضة الثالث والخمسين المجيد
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
تفضَّل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ فألقى خِطابه السَّامي في افتتاح دَوْر الانعقاد السَّنوي للدَّوْرة الثامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر لعام 2023 تزامنًا مع احتفالات سلطنة عُمان بيومها الوطني الثامن عشر من نوفمبر، وعيدها الثالث والخمسين المَجيد، حيث جاء خِطاب جلالته ـ أعزَّه الله ـ شاملًا جامعًا إجرائيًّا راصدًا للكثير من القضايا والمرتكزات الأساسيَّة الَّتي سَعَتْ نهضة عُمان المُتجدِّدة إلى تحقيقها في ظلِّ المعطيات العالَميَّة والإقليمية والوطنيَّة، حيث شكَّل الخِطاب مرحلة مُتجدِّدة في مَسيرة العمل الوطني تستلهم من منجزات عُمان العظيمة وإرثها الخالد ورؤيتها التطويريَّة وفِكْر جلالته السَّامي ـ أبقاه الله ـ وتلاحم العُمانيِّين وتكاتفهم نَحْوَ مَسيرة للبناء واستشراف المستقبل، استشعارًا لِمَا تحمله هذه المرحلة من متغيِّرات، والمراحل القادمة من متغيِّرات، متجاوبًا مع رؤية التجديد والتطوير والبناء الَّتي عملت رؤية «عُمان 2040» على تحقيقها في مختلف المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
لقَدْ تَحقَّق في السَّنوات الأربع منذ تولِّي جلالة السُّلطان المُعظَّم مقاليد الحُكم في البلاد تحوُّلات نوعيَّة كان لها أثَرها الإيجابي في قدرة سلطنة عُمان على التكيُّف معها وإدارة المخاطر والأزمات النَّاتجة عَنْها، وما كان لذلك أن يتحقَّقَ لولا تلك الروح الوطنيَّة العالية الَّتي عملت مع القيادة الحكيمة لجلالته ـ أبقاه الله ـ على تقديم نموذج وطني ريادي في بناء المرحلة، وتعظيم شأن الرأسمال البَشَري العُماني في صناعة التغيير، ومع تعدُّد القضايا الَّتي طرحها الخِطاب السَّامي وتنوُّع المسارات الَّتي وجَّه بالعمل عَلَيْها في إطار رؤية عُمان، فإنَّه يُمكِن الإشارة إلى بعض هذه القضايا، في الآتي:
تعاظم أدوار ومسؤوليَّة مجلس عُمان: مثمِّنًا حجم الجهود المبذولة والمبادرات النَّوعيَّة الفاعلة الَّتي طرحها مجلس عُمان في الفترات المنصرمة، وإشادة بتكامل جهود المجلس مع مؤسَّسات الدَّولة، جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم مؤكِّدًا على دَوْر مجلس عُمان بغرفتَيْه الدَّولة والشورى في تحقيق أولويَّات رؤية «عُمان 2040»؛ لِمَا يُمثِّله مجلس عُمان من شريك أساسي في منظومة البناء الوطني، وبالتَّالي تعاظم الطموحات الوطنيَّة في دَوْر أكبر لمجلس عُمان في المرحلة الحاليَّة والمقبلة، بما تطرحه الحكومة من مشروعات وبرامج وأجندة تطويريَّة، والتعاطي النَّوعي عَبْرَ التشريعات والقوانين والدراسات مع السِّياسات والإجراءات الاقتصاديَّة الَّتي اتَّخذتها الحكومة، وما يُمكِن أن يقدِّمَه مجلس عُمان في إنتاج سياسات تنمويَّة أكثر نضجًا وارتباطًا بالواقع ومتناغمة مع أولويَّات المواطن واهتماماته في سَعْيِها نَحْوَ تلمُّس أفضل الممارسات وأنضج الأساليب الَّتي يُمكِن أن يُسهمَ بها في تشخيص معالم التطوُّر وأنجع المعالجات والبدائل في التعامل مع متطلبات خطَّة التوازن المالي وانعكاساتها على حياة المواطن وضمان استدامة توفير سُبل العيش الكريم له، في ظلِّ تحدِّيات مُجتمعيَّة باتَتْ تفرض نَفْسَها على الواقع الاجتماعي وتستدعي مشاركة مُجتمعيَّة فاعلة وتحرُّكًا نَوْعيًّا يُقدِّمه مجلس عُمان عَبْرَ منصَّتَيْه في التعاطي الواعي معها، وسَبر أعماقها وفَهْم تطلُّعات المواطن حَوْلَها، تأكيدًا لِدَوْر منظومة القوانين والتشريعات في مَسيرة التنمية الوطنيَّة، وسَعيًا نَحْوَ مواصلة الجهد الوطني لصياغة مستقبل أفضل لعُمان وشَعبها في إطار تكامل جهود المجلس مع مؤسَّسات الدَّولة، بما يُعزِّز من بلوغ الأهداف والغايات الوطنيَّة، لذلك وجَّه جلالته ـ أعزَّه الله ـ أعضاء المجلسَيْنِ إلى أن يكُونُوا على قدر المسؤوليَّة، واضعين مصلحة عُمان نصبَ أعيُنِهم، موظِّفين اختصاصاتهم في تقديم المبتكر والأقرب إلى جهود التنمية ومشاريع المؤسَّسات، مسترشِدين بالنِّظام الأساسي للدَّولة وبالأحكام الواردة في قانون مجلس عُمان.
الظواهر المُجتمعيَّة غير المقبولة وأهمِّية دراستها ومعالجتها: وفي ظلِّ التحدِّيات الفكريَّة والثقافيَّة الَّتي يتعرَّض لها المُجتمع وتأثيراتها غير المقبولة، فقَدْ جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم مُوجِّهًا إلى دراسة الظواهر السلبيَّة، ووضع الحلول المناسبة لها، خطوط عريضة لبناء مسار وطني واضح في إدارة هذه الظواهر وتتبُّعها والكشف عَنْها ودراستها وتحليلها، وفَهْم الدوافع والأسباب الَّتي أسهمت فيها، وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناغم مع هُوِيَّة المُجتمع العُماني ويجسِّد جهود الحكومة في تحقيق رؤية «عُمان 2040» في محور الإنسان والمُجتمع، كإطار وطني فاعل لتحقيق التحوُّلات الإيجابيَّة والاستثمار في الفرص لبناء عُمان المستقبل، وبالتَّالي قراءة الأبعاد النَّاتجة عن هذه الظواهر والاستمرار في وضعها موضع الاهتمام والمتابعة والتشخيص من قِبل مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة والقِطاعات المعنيَّة والمنظومات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة والتشريعيَّة والقانونيَّة والترويحيَّة والدينيَّة والقِيَميَّة والأخلاقيَّة في رصدِ هذه الظواهر، وتبنِّي المبادرات الجادَّة والحلول المقنَّنة لمعالجتها، واتِّخاذ الإجراءات المناسبة الَّتي تضْمَن سرعة احتوائها، بل تتَّجه لمرحلة متقدِّمة من العمل المؤسَّسي المُخطَّط والأداء المُنظَّم في تأكيد مبدأ الوقاية والاستباقيَّة في الكشف عَنْها بالشكل الَّذي يضْمَن سدَّ كُلِّ منابع ظهورها.
القِيَم والهُوِيَّة العُمانيَّة والمحافظة على كيان الأُسرة: وفي ظلِّ عالَم يموج بالتحدِّيات الفكريَّة والتشوُّهات المعرفيَّة، ويتَّسع للمنعطفات الخطيرة والمسارات المستجدَّة، والأفكار العشوائيَّة المرتجلة الَّتي بدَتْ تحمل لمستقبل الأجيال صورة مخيفة، وتعيش فيه الأخلاق حالة من التشويه والمزاجيَّة والازدواجيَّة، وتقرأ فيه المفردات والمفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان كمدخل لاختزال القِيَم وتنميط صورة السلوك الإنساني المتَّزن، لِيتَّجهَ إلى الشكليَّات والظواهر الصوتيَّة، لذلك الخِطاب السَّامي مساحة لالتقاط الأنفاس وموجِّهات تستشرف مستقبل القِيَم في ظلِّ هذه المعطيات، ومرتكزات عمليَّة للجهاز الإداري للدَّولة في تجسيد القِيَم في قواعد العمل الوطني وبناء منظومات الدَّولة العُمانيَّة وتشريعاتها، ومحطَّة تقف على المنجز القِيَمي العُماني والإرث الحضاري للانطلاقة من خلاله إلى المستقبل الواعد وتحقيق الأولويَّات الوطنيَّة؛ وبالتَّالي تبنِّي سياسات وطنيَّة مستدامة، تؤصِّل الصورة الحضاريَّة للقِيَم العُمانيَّة وتعظيم دَوْرها الريادي في بناء الأُسرة والمحافظة على الكيان الأُسري والشخصيَّة العُمانيَّة، بالإضافة إلى دَوْرها في صناعة مُجتمع المعرفة والاقتصاد والتقنيَّة والتنمية، وتعظيم حضورها في تفاصيل البناء الفكري للإنسان العُماني ومبادئ الدَّولة العُمانيَّة؛ كون القِيَم أوَّل أعمدة الإصلاح الَّتي يجِبُ على المنظومات الوطنيَّة التشريعيَّة والإداريَّة والرقابيَّة والتعليميَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة أن تستحضرَها في أجندة تنفيذ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» ذات الصِّلة.
المؤسَّسات التعليميَّة والبحثيَّة والفكريَّة صناعة الوعي والإنتاجيَّة: لقَدْ جاء الخِطاب السَّامي لجلالة السُّلطان مستشرِفًا دَوْر التعليم ومؤسَّساته والبحث العلمي في صناعة خيوط التوازنات المستقبليَّة، تأكيدًا أنَّ الاهتمام بقِطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمُحفِّزة للبحث العلمي والابتكار الطريق لصناعة الوعي وتعزيز إنتاجيَّة الموارد البَشَريَّة المُسلَّحة بالمعرفة الحقَّة والمهارة العمليَّة والقِيَم الأصيلة، لِيُشكِّلَ التعليم وإنتاجيَّته في خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم، نقطة تحوُّل تضع التعليم أمام مرحلة جديدة من العمل النَّوْعي والأداء المُتفرِّد، وأن يكُونَ أكثر وضوحًا في سياساته وخططه وبرامجه؛ الأمْرُ الَّذي يؤكِّد على أهمِّية ربط التعليم بمتطلبات النُّمو الاقتصادي، وما تتطلبه من تنويع مسارات التعليم والتوسيع في خياراته المهنيَّة والتقنيَّة؛ لضمان امتلاك مخرجاته للمهارات النَّاعمة الَّتي يتطلبها سُوق العمل، ودراسة وتحليل نَوْعيَّة التخصُّصات الَّتي تحتاجها المرحلة الحاليَّة والقادمة وتوجيهها لصالح ربط التعليم بمتطلبات النُّمو الاقتصادي، بما يستدعيه ذلك من تمكينه من رصد مراحل تطوُّر سُوق العمل والاحتياجات الوطنيَّة المستقبليَّة من التخصُّصات أخذًا في الاعتبار التخصُّصات ذات القِيمة المضافة في مجالات الابتكار والبحث العلمي وريادة الأعمال، وحضوره في إدارة وإنتاج وهيكلة المشاريع الَّتي تقوم على الابتكار والذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات المتقدِّمة والابتكار الصناعي، وإنتاج تخصُّصات أكثر مواءمة لتحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040». تقييم اللامركزيَّة وصناعة المنافسة المنتِجة في عمل المحافظات: شكَّل الاهتمام السَّامي بالمحافظات وعَبْرَ تعزيز الإدارة المحليَّة وتطبيق اللامركزيَّة، والَّذي تُوِّج بإصدار نظام المحافظات تجسيدًا عمليًّا للرؤية السَّامية لجلالته في الانتقال بالمحافظات إلى الاعتماد على النَّفْس، في سبيل ترسيخ إدارة كفؤة تقوم على تعظيم اللامركزيَّة، والمشاركة الفاعلة وإشراك المواطن في مختلف برامج التنمية الوطنيَّة، بما من شأنه تمكينها من تطوير مواردها والاستثمار في الفرص التنمويَّة الاقتصاديَّة والسِّياحيَّة والتراثيَّة والخدميَّة والرأسمال الاجتماعي البَشَري؛ الأمْرُ الَّذي يضع المحافظات أمام مرحلة مُتجدِّدة من العمل الوطني المسؤول، والمشاركة التنمويَّة الفاعلة، القائمة على توسيع قاعدة الشراكة، وترسيخ معايير الأداء الفعَّال، والعمل الجادِّ واستشعار المسؤوليَّة، ووضوح الأُطر والاستراتيجيَّات المُحقِّقة للتحوُّل الشامل، فإنَّ تأكيد جلالة السُّلطان في خِطابه السَّامي على تقييم هذه التجربة باستمرار وتوسيع نطاقها ترسيخًا لدَوْر المُجتمع في التنمية والتطوير مرحلة مُهمَّة تضع المحافظات أمام اختبار حقيقي في كيفيَّة إدارة معطيات هذا التحوُّل وإثبات جدارتها فيه، ومسؤوليَّاتها في استنهاض حسِّ التغيير المُجتمعي، ومزيد من القوَّة في التنفيذ، والأمانة في التخطيط، والإدارة الكفؤة والفاعلة للموارد في ظلِّ توظيف الميزة النسبيَّة للحافظات، ضمانات لتحقّق الرقابة والمحاسبيَّة والمساءلة، والنَّزاهة الَّتي يجِبُ أن تسريَ في كُلِّ خطوات العمل، لذلك جاء تأكيد جلالة السُّلطان في خِطابه السَّامي على ضرورة أن تقومَ المجالس البلديَّة بِدَوْرها في استغلال ما أُتيح لَهُمْ من اختصاصات وممكنات للعمل بطُرق مبتكرة وفِكر متقدِّم ينعكس على سعادة المواطن.
أخيـــرًا، يبقى ما أشرنا إليه غيضًا من فيض مزون الحكمة السَّامية ـ فلقَدْ جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم شاملًا جامعًا مؤصِّلًا لفِقْهِ المرحلة وأولويَّات العمل الوطني، حاملًا معه روح الأصالة العُمانيَّة وجوهر المبادئ والأخلاق الَّتي ستظلُّ حاضرةً في كُلِّ تفاصيل العمل الوطني وبرامجه ومشروعاته وخططه، وفي سياسات الدَّولة في الداخل والخارج، وأنَّ حجم الإنجازات الَّتي تحقَّقت في السنوات الأربع الماضية والَّتي يستشعرها المواطن العُماني على هذه الأرض المباركة؛ إنَّما هي صناعة الإنسان العُماني نَفْسِه، وإيمانه بوطنه عقيدةً وفكرًا وسلوكًا وممارسةً، ونتاج يضاف لرصيد المواطن وشراكته الفاعلة ووعيه الأصيل، وتعاونه مع قيادته الحكيمة وإخلاصه وحرصه المستمر على أداء مسؤوليَّاته بكُلِّ مصداقيَّة وأمانة ونزاهة، وتبقى مسؤوليَّة الجهاز الإداري للدَّولة في تعظيم الثِّقة في قدراته وفتح آفاق أرْحَبَ له عَبْرَ التسهيلات وتبسيط الإجراءات للمزيد من العمل والإنجاز لتقدُّم عُمان وازدهارها..
حفظكم الله مولاي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق، ووفَّقكم لخير عُمان وأبنائها الأوفياء وللإنسانيَّة جمعاء.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العمل الوطنی ة الع مانی ات الوطنی من العمل الم جتمع ه الله ـ م جتمعی مرحلة م الق ی م م جتمع ات الم
إقرأ أيضاً:
وصية المخدوم الأعظم سلطان بن مسعود بن سلطان
تُعَدُّ الوصايا من بين أكثر أصناف الوثائق انتشارًا في التراث الوثائقي العماني، ولعل ما رأيناه من أمثلة سابقة في هذه السلسلة إنما هو من المنقول منها في كتب الفقه في سياق استفتاء الفقهاء عمّا ورد فيها وما يثبت منها وما لا يثبت. أما السواد الأعظم من الوصايا الباقية فهي محفوظة ضمن المجموعات الوثائقية الخاصة، لكنها لا تتعدى في الغالب من حيث تأريخها القرون الثلاثة الأخيرة. ومن بين الأمثلة على المنقول من الوصايا القديمة وصية مشحونة بالعجيب من الموصى به، مثيرة للاهتمام، محفِّزة للبحث والسؤال، وهي وصية نُقِلت في بعض مخطوطات كتاب (بيان الشرع)، مما زِيدَ على الكتاب. وهي وصية سلطان بن مسعود بن عدي بن شاذان، وهو فيما يظهر من أمراء بني صلت الذين كانت لهم زعامة خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وآثار معقلهم ومقبرتهم باقية في ناحية من وادي بني خروص.
وقد جاء في النص المنقول أن الوصية عُرِضت على الفقيه أحمد بن مدّاد (ق10هـ) وهي بخط الفقيه محمد بن عبدالسلام، من فقهاء النصف الثاني من القرن التاسع وأول القرن العاشر الهجري، ومن تلامذة الفقيه صالح بن وضّاح المنحي (ت:875هـ)، وعلى هذا كان عرض الوصية على ابن مدّاد بعد زمان صاحبها، ومن قرائن ذلك أن الذي عرضها عليه فيما يظهر تلميذه محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، ويُفهم ذلك من قوله في جوابه على كتابه: «وفهم المُحب ما شرحتَه في كِتابك الشريف، في حال وصية السُّلطان الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، التي هي بخط جدك الفقيه محمد بن عبد السلام».
وقد وُصِف الموصي في النص وملاحقه بـ«المخدوم» و«السلطان» وفيهما إشارة إلى السلطة والنفوذ، كما يُفهَم من النص أيضًا أن مقرّه كان بمدينة نخل، في عبارة: «وأوصى بخمسمائة ألف دينار هرموزي يفرق على كل من يُؤدي القلم من أهل داره نخل، الغني والفقير». ولعل أكثر ما يلفت النظر في الوصية كثرة ما أوصى به وتنوّعه وتفرّعه، وما يترتب عليه من أموال مُعيَّنة بـ«الدينار الهرموزي» نسبة إلى مملكة هرمز، وهو نقد كان -فيما يظهر- متداولًا في عُمان.
ولسنا بصدد نقل نص الوصية هنا فهو طويل وتتخلله عبارات الفقيه أحمد بن مدّاد معلقًا بـ«يثبت» أو «لا يثبت» مع بيان العلّة في بعض المواضع، ثم علّق ابن مدّاد بعد نص الوصية مبيّنًا منهجه وطريقته، وعلى عدم ثبوت بعض ما في الوصية، ثم تلت ذلك زيادة بخط عبّاد بن محمد بن عبدالسلام وهو ولد كاتب الوصية، وقد جاء في أول الزيادة: «لقد حضرنا عند المخدُوم الأكرم سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، وقد أثبت وصيته التي أوصى بها، بخط والدي محمد بن عبد السلام، فهي ثابتة في السقم والحضر والسفر، والمحيا والممات، وقد جدد التوبة بمحضرنا...الخ»، ثم ذكر ما زاده الموصي في وصيته، ونقرأ في تلك الزيادة تعليقات أحمد بن مدّاد أيضًا على ما يثبت منها وما لا يثبت وفق رأيه، ثم جاء بعد ذلك ردّ أحمد بن مدّاد على محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، حفيد كاتب الوصية الأصل، وهو الذي عَرَض عليه الوصية فيما يظهر.
ومما يُدهِش في هذه الوصية أنها استغرقت كثيرًا من الضمانات فيما يبدو، وهي منتشرة في نواحي وبلدان عمان، ولعل ذلك يوحي بأن نفوذ صاحبها قد بلغ أماكن بعيدة عن داره ومقرّه، كما أن الأموال الموصى بها بالدينار الهرموزي تصل إلى ملايين، ناهيك عن حقوق كثير من الناس ممن ذكرهم بأسمائهم أو ببلدانهم.
وإذا ضربنا صفحًا عن الشِّق الفقهي المتمثل في تعليقات أحمد بن مدّاد، فإن مجموع ما أوصى به مثير للدهشة بحق، والعجب أن كل تلك الضمانات من «ثلث ماله» فحسب، وقد جاء في أول الوصية: «هذا كِتاب ما أقر به وأوصى، المخدوم الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان بن عدي بن شاذان، وهو صحيح العقل والبدن، ومُقر بجُملة الإسلام. أوصى المُقدم ذِكره ابتداءً بعطره وكفنه، وما يحتاج إليه الميت من رأسماله وجميع الضمانات التي عليه من رأسماله ووصيته من ثلث ماله». ومما أوصى به ثلاث حجات، وأجرة كل حجة سبعون ألف دينار هرموزي. وممن أوصى لهم من أصحاب الحقوق وذُكِروا بأسمائهم: خلف بن راشد، وعبيد بن شمخيل، وعمر بن أحمد السيباني، وسلطان بن عدي بن دهمان، وبَهم بن سرحان بن نمر، وورثة راشد بن عاصم الباطني، وراشد بن فضيل بن فضل الباطني، وابن هدّاب صاحب فنجا، وسالم بن سبت، وغسان بن محمد بن سعيد، وراشد بن مجنب، وغسان بن عبدالله، وابنة مسعود بن مالك، وراشد بن محمد البحري.
ومن الضمانات التي أوصى بأدائها للناس بالجملة: أوصى لأهل داره نخل، وأهل المسلمات (مسلمات) وأفي وحبراء وهي من بلدان وادي المعاول، للغني والفقير منها، وفيها إشارة إلى أنهم كانوا يؤدون الخراج له. ولبعض البلدان التي خُشِي منها مال أي أُتلِف شيء من نخلها أوصى كذلك، ومن تلك البلدان سمائل ومنح، كما أوصى للفقراء في العديد من البلدان منها: إزكي، وسيفم (غربي بهلا) وسُونِي وعِيني، والمربا، ومناقي، والقلعة، ووبل، وباطنة السويق «كذا»، وأوصى لبعض الجماعات من الناس ومنهم: بنو صبح، والنعب، والسريريون، والبدو. وأوصى لمسجد جامع نخل، وبأن تفرَّق غلة مال من أمواله يوم الحج سنة في مسجد الجامع من الغريض، وسنة في جامع مسجد المُسلمات، وسنة في جامع أفي، وسنة في جامع الطو. والحق أن في هذه الوصية مادة تاريخية جديرة بالدراسة والتأمل.