لعلكم لم تلاحظوا وقد قلتم كل شيء عن كمال الجزولي
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
ghamedalneil@gmail.com
لعلكم لم تلاحظوا وقد قلتم كل شيء عن كمال الجزولي أنه كان يضحك في صفاء للطرفة الذكية مثل أي طفل اهدوه لعبة فقلبه كان شاباً دائما كامل الاخضرار !!..
من عبقريات الراحل كمال الجزولي الأدبية خلاف غرضه للشعر عالي الكثافة الفلسفية واللغة العربية الموظفة المعبرة وكل حرف فيها كأنه هندسة مرسوم بمنقلة وبرجل ومسطرة وهذه الموسوعية الثقافية الناتجة عن عشقه المجنون للكتاب والكتابة وميله من غير اسفاف ولا تطرف لروح الدعابة بها يستجم من صرامة القانون الذي لايعرف الصداقة والمهادنة وأنصاف الحلول والمجاملة والمجادلة !!.
من عبقرياته وسهله الممتنع وسبكه المحكم نسيج وحده ممثلا في لوحة زاهية الألوان بريشة ترعاها اصابع موسيقية أنها ( الروزنامة ) هذه الفكرة عالية الأهمية التي تطل علي قرائها كل اسبوع إطلالة تفرح وتحتفل بها النفوس المتعطشة للجديد في عالم السردية التي بها من البلاغة أجنحة تحلق بالكلمات الواردة في الزمان والمكان المحدد لأندي هدية أسبوعية !!..
كانت الروزنامة مقسمة مثل السلالم الموسيقية وكل يوم فيها له خصوصية ونكهة مميزة يشكل مع بقية الاسبوع تكاملية لاتخل بالمعنى ولا الروح الذكية ...
أدخلني الراحل المقيم كمال التاريخ من أبوابه الفسيحة ولم يحدث أن قابلته وجها لوجه في حياتي رغم أني أرتاد الكثير من المحافل العلمية والأدبية كمستمع شغوف للعلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين ومنهم كمال الجزولي الذي سارت بشهرته الركبان ... ويوم ورد في يومية بالرزنامة حديثا عنوانه ( حنينة ام عجل ) ... ارسلت له في عجل تصحيحا للاسم قلت فيه إنها ( حنينة ام عجلة وليست حنينة ام عجل ) ... وانتهزت الفرصة وافضت في التعريف بهذه السيدة الفاضلة التي كان مسماها الوظيفي مفتش صحة وجاءها لقب ام عجلة لأنها كانت تمتطي الدراجة في تطوافها علي المنازل مرشدة السكان بالقواعد السليمة للحفاظ علي البيئة تجنباً للأمراض والافات وحفاظاً علي الجوهر وحسن المنظر ... وحصل أن قابلها العلامة الطيب السراج وهو علي صهوة جواده الشهير وكانت علي دراجتها تسير فاستنكر منها ركوب العجلة مثل الرجال وعلاها بالدرة ( السوط ) ولكنها لم تزعل أو تحتج فالرجل كان في مقام الوالد وكانت كلمته مسموعة وكان فارسا حقيقياً وفارسا في اللغة العربية وحتي برامبل مفتش امدرمان كان يخافه ويعمل له ألف حساب ... كانت لي بمثابة الجدة لأنها خالة لأمي وعرفت انها من أصول نمساوية من ناحية امها وظهر هذا الانتساب الأوروبي في ركوبها العجلة وفي عيونها الخضر وهي عمرابية لها كثير من العلم والثقافة في الانساب مثل الراحل الهادي نصر الدين وكثيرا مااستضافها التلفزيون للتحدث عن مدينة ام درمان من الناحية الاجتماعية وعن الوجهاء فيها والمشاهير والكثير والمثير عن هذه البقعة المباركة .
وضع الراحل كمال ردي كاملا في مساحة كاملة من يوميات الروزنامة وعقب علي كل كلمة أوردتها بما يدل علي أنه شخص دقيق ومهني يحترم اراء الكافة سواء كان يعرفهم أو لا يعرفهم وأنه يتقبل التعقيب والنقد بصدر رحب وروزنامته بابها مفتوح للجميع في أريحية وكرم ...
وختم الراحل كمال الجزولي حديثه لشخصي الضعيف قائلا ( ياحمدالنيل انك تملك قلما جيدا ) وكانت شهادة من هذا الكاتب الموسوعي القامة عرضتها علي كافة معارفي وانا بها جد فخور وأكاد اطير من الفرح كلما أعدت الاطلاع عليها ...
اللهم أغفر له و ارحمه برحمتك التي وسعت كل شيء لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
والبركة في كل أهل السودان وأهل ام در علي وجه الخصوص ...
حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم بمصر .
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کمال الجزولی
إقرأ أيضاً:
رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك