سودانايل:
2024-09-30@19:09:24 GMT

وداعا استاذنا كمال الجزولي (فارس الكلمة الرصينة)

تاريخ النشر: 8th, November 2023 GMT

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا العام يؤرخ عام الكوارث والنكبات والاحزان بامتياز في السودان. وهي مصائب ومحن واهوال تشبه انحطاط وتفاهة وسطوة من يتصدرون المشهد بقبضتهم العسكرية، سواء من جهة قيادة الجيش الجبانة المتخبطة او آل دقلو العملاء المرتزقة، او من جهة انكسارات وتراجعات المؤسسة العسكرية، وسيطرة وهمجية مليشيات الدعم السريع علي جبهات القتال، او من جهة تردي الفلول واصرارهم علي البقاء في المشهد ولو علي اشلاء الوطن، وتبعثر القوي السياسية واعتصامها بمواقفها السابقة، التي لم تورثنا غير الفشل والبوار.


وسط كل هذا الاحباط والنظرة التشاؤمية لمستقبل البلاد، نعي الناعي درة تاج الصحافة السودانية استاذنا الجليل كمال الجزولي، وكأن في الجسد المسخن بالجراح وخيبة الامل وخيانة الامانة، محل لضربات القدر، الذي يبدو انه يتخذ مسار انتقامي من الامة السودانية البائسة.
وبما اننا درجنا في كتابات التأبين والرثاء ذكر محاسن الموتي والصلة الرابطة، بما يضفي قيمة نوعية ومرجعية تاكيدية، غالبا ما يبرع فيها الاصدقاء وتكتسب صدقيتها من المقربين للمؤبن. وهو ما لا اجد لمبتغاه نصيب، لذا اكتفي بسرد انطباعات يجمع بينها الانشغال بالهموم العامة، كتاسيس دولة حديثة ومنظومة حكم ديمقراطية وإعلاء لمكانة حقوق المواطنة وانتهاج طريقة عمل مؤسسية، وباختصار التخلص من حكم وثقافة العسكر لصالح الحكم المدني والثقافة المدنية، كفضاء يمنح الحياة معني ان تكون حياة متحضرة. وهي هموم لطالما كان للجليل كمال الجزولي نصيب الاسد في ترسيخها في ابناء جيلنا واجيال غيرنا.
تعرفت علي كتابات استاذنا كمال اوآخر التسعينات تقريبا، ومن وقتها انعقدت اواصر العلاقة المتينة عبر وسيط الكتابة، وكل ما يتعلق بنشاط عام لكمال يتسني لي الوصول اليه او العلم به. وكتابات وانشطة كمال للذين يهتمون بها ويعرفون قيمتها، تتوزع بين نشر الوعي والاستنارة، والتعريف بالحقوق والدفاع عن النشطاء السياسيين ومن يتعرضون لعسف السلطة، وما يستتبع ذلك من مضايقات (نضال حقوقي يهدف لترسيخ ثقافة الحقوق واحترام دولة القانون، ضد ثقافة الاستقواء بنفوذ الدولة وقوة السلاح). وهذا غير اجتهاداته المضنية لتنزيل مفاهيم العدالة الانتقالية، كقنطرة عبور آمنة للوصول لبر الحكم المدني كهدف استراتيجي.
وإن انسي ما انسي مقالات عتود الدولة التي تحولت لكتاب، وهو يجمع بين الفكاهة والالمحية والتنوير ومقارعة دعاوي واساطين الاسلام السياسي الذين يستثمرون في استثارة العواطف ونشر الاباطيل والضلال، واستغلال الدين لتبرير واستباحة كل شئ باقذر الوسائل!
واهم ما يلفت النظر في كتابات استاذنا كمال، الجدية في التعامل مع الكتابة ومنح الكلمة حقها ومستحقها، لتخرج من بين انامله كالذهب المجمر من جهة المضمون، والخمر المعتق والازاهر الفواحة من جهة الاسلوب. والحال كذلك، وهذا ما يعلمه كل من يتعامل مع كتابات كمال، انها تحتاج لترتيبات مسبقة واستعداد خاص من جانب المتلقي، اي ما يشبه عملية استنفار للحواس وانتباه للتركيز. اي مبادلة الجدية بجدية مقابلة، والاهم ان القارئ معصوم من خيبة الامل، حتي ولو لم يتفق مع المكتوب، وهو ما يندر حدوثه علي كل حال.
وايضا ما ما يميز استاذ كمال باريحيته وتفتق ذهنه، القدرة علي صناعة علاقات نوعية مع المميزين ومد جسور التواصل مع المختلفين سياسيا، ومن دلائل ذلك علاقته الممتازة بالامام الصادق المهدي، ودفاعه عن الترابي بعد ان تعرض للتنكيل من انصاره، بعد صراعهم الداخلي علي السلطة وتكالبهم علي ملذات الحياة. اي دفاع يندرج في السياق الحقوقي المكفول للجميع دون فرز (وهو ما اختلفت معه فيه، لان الترابي شخصية استثنائية ترقي للمسخ الشيطاني، وتاليا يسئ الدفاع عنه لمفهوم الحقوق وقيمتها المجتمعية). والحالة هذه، قلب كمال كعبة عامرة، كسنار عبدالحي، تتلاقي فيها كل التيارات السياسية والثقافات السودانية.
المهم، ظللت دائم الانشداد لافكار وكتابات وعطاءات استاذنا كمال، حتي عندما بدأت استشعر بوادر الاختلاف مع بعض مواقف وكتابات كمال، لم ينتقص ذلك من مكانته شرو نقير، وهي عموما اختلافات قد تكون من طبيعة الاشياء، كاختلاف الخلفيات والامزجة والتجارب. ومن تلك الاختلافات انبهاره بالثورة المهدية، التي اعتبرها ثورة رجعية، رغم جانبها الايجابي المتمثل في التصدي للظلم والانتصار علي البغاة المحتلين، ومرد ذلك بالطبع قوة العزيمة ومورد الطاقة الروحية للدين الذي لا ينضب معينه. وكذلك تعاطفه مع الموقف الجذري، الذي قد يرضي الرغبات ولكن لا تسنده مقومات النجاح، في دولة ظلت مختطفة بقوة السلاح. لتزيد الانقاذ طينتها بلة، بعد ان قضت علي بنية الدولة وحاصرت المجتمع بالارهب والفساد. اي الانقاذ التي اسست للفوضي، افسحت المجال لاكثر الكيانات فوضوية (مليشيا الدعم السريع)، لتصبح له اليد الطولي في تحديد مصير الدولة. وعليه، مجرد استرداد الدولة بحالتها السابقة، يصبح معجزة، ناهيك من تحديد مخططات تلك الدولة كما نشتهي.
وما يؤسف له، ان ما ظل استاذنا كمال يبشر به ويكافح من اجله، كشخصية متمدنة (ابن مدينة كوزمبولوتية كما تسمي نستلوجيا امدرمان)، وقبل ذلك ينتمي لاسرة ارتبط اسمها بالنضال والوعي والانحياز للبسطاء، من موقع التضلع في الثقافة والانخراط في السياسة من الباب العريض. اي ما يطالب به ويدعو له، من مدنية الدولة وحق الشعب في اختيار حكامه والتمتع بثرواته، وعدم استخدام الدين لنيل مآرب سياسية وامتيازات سلطوية ..الخ، مستخدما في ذلك القلم ومستهديا بقيم التنوير، لم يجنِ منه إلا (عنف البادية) علي عهد المقبور نميري، وإرهاب الدواعش الاسلامويين الذين استبدلوا قيم التحضر، بشهوة التسلط ورغبة الاستحواز باحط الوسائل (توطين الاستبداد والفساد)، لينتهي بنا المطاف الي حالة الحرب الوجودية الوحشية الراهنة، التي تستهدف بقاء الدولة وسلامة المجتمع.
وعموما، كتابات استاذ كمال المميزة، واسلوبه الرصين، ومفرداته التي يختارها بحسه الادبي وثقافته الموسوعية، وسط اجواء الكبت واستشراء ثقافة الاستسهال والاستهلاك والاستهبال، كانت اقرب للمصدات والسباحة عكس التيار ورد الاعتبار للرموز الابداعية. وصحيح ان التجريف الثقافي والابداعي، بمخطط اجرامي من دولة التصحر الاسلاموية، اصبح تيار جارف، الشئ الذي افسح المجال لطغيان الاسفاف والابتذال كسمة لكتابات الاسلامويين وانصارهم وصحفهم، لتصعد الي السطح صحف الاثارة والجريمة والفنون السطحية والتسلية لصاحب امتيازها احمد البلال الطيب، وكتابات العنصرية والهوس الديني للطيب مصطفي والخزعبلات والطلاسم لاسحاق فضل الله، وتظهر كتيبة من الصحفيين المتخصصين في لعق حذاء العسكر وتمسيد دقون اساطين الاسلام السياسي، نظير منافع مادية وصحفية واعلامية، من امثال ضياء بلال والطاهر حسن التوم والهندي عزالدين. إلا ان كل ذلك لم يمنع استاذ كمال وصحبه الميامين، من مسك جمر القضايا الوطنية بقوة الكلمة وجزالة العبارة. الامر الذي يذكر بشخصيات حميد كالسرة وامونة والزين ود حامد والضو، كرموز لقيم الاصالة في وجه اعاصير الزيف والظلم والاستبداد. وهو ما يبيح القول علي لسان حميد ان كمال عاش حياته (ماسك الشباطين في الصراع لا بودة لا سوس لا وهن).
لكل ذلك موت استاذنا كمال الجزولي، قد يكون محزن للقلب وصعب الاحتمال، ولكنه من ناحية مقابلة يمنح احساس بكثافة الوعي والتعريف بالحقوق والنضال من اجل القيم الخيرة، باستخدام ارقي اسلوب وانضر عبارة، وهو ما جسدته تجربته في الحياة. وهو ما يعني في الحساب الاخير، ان قيمة ان يكون الشخص رسالة او صاحب رسالة، تتجاوز شخصه كفرد الي ايقونة اشعاع معرفي وانساني وحقوقي ذات تاثير عظيم في الآخرين، هي حياة عصية علي الموت وان فارقت الروح الجسد.
واخيرا
شكرا استاذنا الجليل كما الجزولي، الذي منحنا بحياته جرعة وعي وروح اصرار علي الكدح والكفاح لانجاز الاهداف السامية، ستظل تحتل في عقولنا وقلوبنا، اجمل ذكري واقوي تاثير. والعزاء موصول لافراد اسرته واصدقائه ومعارفه ومعجبيه في كافة ارجاء المعمورة. ويتواصل العزاء لاسر زملاء دراسة ومراتع صبا خطفت ارواحهم هذه الحرب اللعينة. وكامل المسؤولية يتحملها هذا (الهبنقة) المسمي البرهان. ونسال الله ان يعجل عليه غضبه وعذابه، ويجعله عبرة للاولين والآخرين. وانا لله وانا اليه راجعون. ودمتم في رعاية الله.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کمال الجزولی من جهة وهو ما

إقرأ أيضاً:

عبدالله آل حامد: اليوم الإماراتي للتعليم يجسد المكانة التي يحظى بها العلم في فكر محمد بن زايد

أكد عبد الله بن محمد بن بطي آل حامد، رئيس المكتب الوطني للإعلام، رئيس مجلس إدارة مجلس الإمارات للإعلام، أن تخصيص الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، يوم 28 فبراير (شباط) يوماً للتعليم في الإمارات، يجسد المكانة المتميزة التي يحظى بها العلم والمعرفة في فكره باعتباره الركيزة الأساسية في بناء وتطور المجتمعات وأداة مهمة لتمكين مسيرة التنمية المستدامة التي تشهدها دولة الإمارات.

وقال عبد الله بن محمد بن بطي آل حامد بهذه المناسبة: "يُترجم اليوم الإماراتي للتعليم رؤى رئيس الدولة للاستثمار في رأس المال البشري القادر على مواصلة مسيرة الدولة نحو تحقيق مراكز متقدمة على مختلف مؤشرات التنافسية العالمية حيث وضع سموه التعليم على رأس الأولويات الوطنية لدوره المحوري في تأهيل أجيال شابة تمتلك القدرة على القيادة ومواجهة مختلف تحديات المستقبل.
وأضاف رئيس المكتب الوطني للإعلام أن هذه اللفتة الكريمة من رئيس الدولة تؤكد تقديره الكبير لأعضاء المنظومة التعليمية كافة وعلى رأسها المعلم .

محمد بن زايد يعتمد 28 فبراير "اليوم الإماراتي للتعليم" - موقع 24وجه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، باعتماد الثامن والعشرين من شهر فبراير (شباط) من كل عام "اليوم الإماراتي للتعليم"، وذلك احتفاءً بأهمية التعليم في دولة الإمارات ودوره المحوري في تنميتها وتقدمها وبناء أجيالها ومجتمعها والإسهام في نهضتها الحضارية.

وأكد أن اختيار الـ28 من فبراير يوماً للاحتفاء بالتعليم في الإمارات، وهو اليوم الذي شهد فيه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه حكام الإمارات تخريج أول دفعة من المعلمين من جامعة الإمارات عام 1982، يجسد تقديره الكبير للرسالة الحضارية للمعلمين باعتبارهم المسؤولين عن بناء أجيال المستقبل التي ستتولى قيادة مسيرة التنمية الشاملة وتترجم طموحات القيادة الرشيدة الساعية إلى تحقيق الريادة في مختلف القطاعات.

ونوه في ختام كلمته إلى أن دولة الإمارات تعمل على تمكين تعليم عصري متطور باعتباره القاطرة التي تقودنا بأمان إلى المستقبل وتحقيق رؤية الإمارات 2071، مؤكداً أن التعليم في الإمارات رهان صائب على المستقبل واستثمار مستدام العائد ساحته العقول وهو الثروة الحقيقية المكتسبة التي تضمن لنا الرخاء والسعادة والمكانة العظمى بين الأمم فالتعليم غدٌ نغرسه الآن".

مقالات مشابهة

  • عبدالله آل حامد: اليوم الإماراتي للتعليم يجسد المكانة التي يحظى بها العلم في فكر محمد بن زايد
  • طلاب الدفعة (26 طب) مارسوا نفس الفوضي التي كانت تحدث في الخرطوم فتم طردهم الى السودان
  • الكلمة الطيبة وفن التحدث
  • الدغاري: نتطلع إلى تمرير كل الاتفاقات المبرمة مع مجلس الدولة بعد التوافق المهم الذي شهدته البلاد
  • أستاذ علاقات دولية: مصر تبحث عن منفذ حقيقي للسلام واستقرار الأوضاع بالمنطقة
  • الحوار الوطني يستعرض أوجه الدعم المباشر التي تقدمها الدولة لمواطنيها
  • ما القصة وراء منشور “وداعا للذكاء الاصطناعي” الذي تداوله الآلاف عبر “إنستغرام”؟
  • قزيط: هناك قبول من أعضاء مجلس الدولة لتمرير الاتفاق الذي تم التوصل له حول المصرف المركزي
  • هيئة المتاحف تطلق معرض “كتابات اليوم للغد”
  • الصدر ينعى حسن نصرالله: وداعا يا رفيق درب المقاومة والممانعة