نعى الناعي مساء الأحد 5 نوفمبر 2023م الشاعر والقانوني والوطني الشجاع الأستاذ كمال عوض الجزولي - واسم الشهرة كمال الجزولي. يقولون عن نفاذ بصيرتك لمعرفة جودة الشخص من عدمه قبل أن تعرفه عن كثب: الكتاب يكفيك عنوانه ! وفي حالة تعارفي بكمال - التعارف الذي أثمر صداقة أنا فخور بها ما حييت - تبين لي فيما بعد أنّ عنوان الكتاب عندي كان مغايراً تماماً لمحتواه ! إذْ لم يكن إنطباعي مريحاً في البداية عن فتي ام درمان الأنيق ، والذي بدا لي متعجرفاً وصارماً في بعض الندوات التي جمعتنا.

ولعل طبع البدوي عندي آنذاك هو الذي حال بيني وبين الإقتراب منه، بينما قويت الصلة بيني وبين صديقه وزوج أخته شاعر الشعب محجوب شريف. هل السبب هو أنني ومحجوب جئنا لأضواء النيون وغابة الأسفلت (العاصمة) من قرى ظاهر الحياة وباطنها فيها البساطة والإلفة؟ لا أدري!
ظللت أطالع المعنى السالب لعنوان الكتاب عن كمال الجزولي لفترة غير قصيرة من الزمن. ولا أذكر متى وكيف التقينا. لكني أعرف أنّ أمرين قربا المسافة بيننا : معارضة نظام جعفر النميري التي أودت بكلينا لزنازين كوبر وشالا، ثم سحر القصيدة الذي يدخل أعماقك دون استئذان. فبقدرما أطربني شعره وخاصة قصيدته الباكرة والساحرة (أم درمان تأتي في قطار الثامنة)، فقد بلغني من صديقنا المشترك الشاعر والأديب عالم عباس أن الرّجل ودود وطيب القلب. ثم التقينا في أكثر من مناسبة عرفت فيها أنّ عنوان الكتاب تلك المرة كان خادعا بل كان مغايراً لمحتواه. رأيت في فترة قصيرة جوهر الإنسان في كمال الجزولي. عرفت فيه الأديب والقارئ والناقد المقتدر الذي لا يجامل. وجمعنا بصورة أقوى حبنا للأدب الروسي. كان معجباً بشاعر الثورة البولشفية فلاديمير مايا كوفسكي الذي يعتبر أحد رواد المستقبلية ((Futurism في الشعر الروسي الحديث. بينما كنت ولم أزل ميالاً لشاعر الرومانسية والطبيعة الروسية الساحرة سيرغي ياسنين.
أشهد أني تعلمت من كمال الجزولي الكثير: أنّ الكاتب والفنان الحق هو من وقف نصيراً للبسطاء والمعدمين وجعل من حياتهم حبراً لكتابته. وفي كثير من مجالسنا كان كمال الجزولي يحكي لي عن أشياء تطلع من قلبه كشاعر وفنان رقيق بعيد كل البعد عن براكين السياسة وصعودها وهبوطها. زرته ذات مرة على عجل في مكتبه (مكتب المحاماة) بشارع الجمهورية آنذاك. قال لي: إنت حتمشي معاي البيت! لكني حاولت التملص منه بأكثر من حجة. أمسك بيدي وأجلسني على الكرسي قائلاً: صاحب العزومة مش أنا والدكتورة فايزة! قلت له باستغراب: طيب يكون مين؟ قال لي بهدوء: دي حاجّة النعمة (والدته). ثم أضاف: ياخ دي كلما أمشي البيت في ام درمان تسأل منك ومن أولادك! وأذكر ونحن نعبر كوبري النيل الأبيض في طريقنا لام درمان يومذاك أن قال لي مبتسماً: أنا متهم أن معظم أصحابي غرابة! محمد المكي ابراهيم وعالم عباس .. وإنت الراكب جنبي دا !
كان للشاعر والأديب كمال الجزولي حاسة نقدية متقدمة. يقرأ مسودة الكتاب فيختار له عنواناً أفضل بكثير مما خطر ببالك أنت صاحب الكتاب. حدث ذلك مع الروائي المبدع عبد العزيز بركة ساكن الذي دفع إليه بروايته ذائعة الصيت (الجنقو) قبل أن يدفع بها كاتبها للناشر.لم تكن الرواية بهذا العنوان . وبعد أن قرأ كمال المسودة قال لبركة ساكن : عنوان هذه الرواية البديعة (الجنقو مسامير الأرض)! وقد كان! وحدث أن قرأ مسودة لمجموعة شعرية كنت أعدها للنشر - كنت قد أعطيتها عنواناً، فإذا بكمال يقترح عنواناً للمجموعة لم أجد أفضل منه..أسماها (شارع في حي القبة)..والعنوان يحمل إسم القصيدة الأم في المجموعة والتي أحبها دون كل ما كتبت. بل كثيراً ما كان يصف تلك القصيدة بما يرفع معنوياتي ويفرح دواخلي.
كنت الأسبوع الماضي في مهمة ثقافية بسويسرا، حين وصلتني رسالة قصيرة من الخبير الإقتصادي والأديب الدكتور صديق أمبدة يقول لي فيها بأنّ كمال الجزولي يسأل عنِّي. طلبت من د. صديق أن يمدني برقم هاتفه في مصر. وافاني في الرد برقم إبنه الدكتور (أبي)، وقال لي بأن إبنه سيحولك إليه. غشيني لحظتها إحساس بعدم الراحة. لكني أجّلت الحديث إليه بعد أن أعود من مهمتي التي سرقت كل ساعات الأيام الست التي قضيتها وسط جاليتنا المضياف بين جنيف ولوزان. عدت منهكاً من كثرة المشاوير والدعوات الطيبة من الأصدقاء. واليوم - قبل أن أتصل عليه كان الموت أسرع. غادرنا الرجل حلو السجايا .. فتي ام درمان الشجاع .. نزيل السجون الذي أحب الوطن وإنسان الوطن وكتب فيه وفي إنسانه الشعر كأروع ما يكون الشعر.
لقد استرد الله وديعته، ولا نقول إلا ما يرضي الله. والعزاء لرفيقة دربه المناضلة الدكتورة فايزة ولإبنه الدكتور أبي ولبنته المهندسة أروة ولشقيقته الأستاذة أميرة الجزولي وشقيقته منى ولشقيقه القاص والشاعر عبد المنعم الجزولي ولشقيقه الكاتب والصحفي الدكتور حسن الجزولي وكل آل المرحوم عوض الجزولي وأصهارهم وأقاربهم، والعزاء لرفاقه وأصدقائه الكثر.
ويا صديق الكلمة الموقف .. سامح حبيبتك ام درمان، فهي ثكلي .. وقد أخلفت موعدها هذه المرة غصباً عنها وعنا جميعاً.. وقف هواة الموت والدمار دونك ودونها ، فلم تأت في قطار الثامنة!

فضيلي جمّاع
لندن
صبيحة 06 نوفمبر 2023

fjamma16@yahoo.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: کمال الجزولی ام درمان قال لی

إقرأ أيضاً:

أشرف غريب يكتب: عبدالرحيم كمال رقيبا

ليس مجرد خبر أن يعلن دكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، انتداب الكاتب عبدالرحيم كمال مساعدا للوزير لشؤون الرقابة على المصنفات الفنية في إطار الرؤية التي تسعى وزارة الثقافة لتحقيقها من أجل تطوير العمل الرقابي، بحسب البيان الصادر عن الوزارة، الذي أعرب فيه الوزير عن تطلعاته بأن يسهم هذا الاختيار بشكل كبير في تعزيز دور الرقابة على المصنفات الفنية بما يضمن الحفاظ على القيم المصرية الثقافية والاجتماعية وتوفير المناخ الداعم لمجالات الإبداع والابتكار الفني، فقرار الوزير ليس مجرد تسكين لشخص في منصب ظل شاغرا لمدة ثلاثة أشهر منذ انتهاء مدة الرئيس السابق خالد عبدالجليل، ولا هو مجرد إجراء إداري تأخر لبعض الوقت، إنه تكليف واضح من فنان مبدع إلى فنان آخر بأن يكون رقيبا على الإبداع بما يضمن حماية مجتمعية لمنظومة القيم المتأصلة في الوجدان الجمعي المصري.

ومن هنا وبقدر سعادتي بهذا الاختيار فإننى أشفق كثيرا على عبدالرحيم كمال فى مهمته الجديدة، سعيد لأنه مبدع حقيقى يمتلك وجهة نظر ويملك فى الوقت ذاته القدرة على التعبير عنها فنا وأدبا، وهذا ما بدا من خلال قائمة طويلة من الأعمال الفنية من أول «الرحاية حجر القلوب» و«على جنب يا أسطى» وحتى «الحشاشين» مرورا بـ«شيخ العرب همام، وونوس، والخواجة عبدالقادر، والقاهرة كابول» وغيرها، فضلا عن رصيده الأدبى المكتوب الذي لا يقل سحرا عن أعماله الدرامية المعروفة، وسعيد أيضا لأن المنصب الرفيع الذي تولاه سابقا كاتب بحجم نجيب محفوظ ظل لسنوات في أيدي مجموعة من الإداريين والقانونيين اجتهد كل منهم قدر استطاعته في تنفيذ مواد قوانين الرقابة المتعاقبة منذ صدور تعليمات عام 1947 ثم القرار 430 لسنة 1955 وما أتى بعدهما من تعديلات، لكنهم ظلوا في النهاية ومع احترامي لأشخاصهم مجرد موظفي دولة يؤدون مهام منصبهم دون أن يضعوا أنفسهم في خانة المبدع الذي اعتصر عقله وروحه كي يخرج لنا بمصنفه الإبداعي.

لكنني في الوقت ذاته أشفق كثيرا على عبدالرحيم كمال في هذه المهمة الجديدة، أولا لأنه أتى بعد فراغ إداري لمدة ثلاثة أشهر تراكمت خلالها الملفات التي كانت بحاجة إلى البت والحسم، فضلا عن أنه أتى أيضا بعد سنوات من التخبط الإداري داخل الجهاز الرقابي، وكثير من الممارسات السلبية يعرفها جيدا كل من يتابع الحياة الفنية حتى قبل أولئك الذين يعملون بالجهاز نفسه، ومن ثم بات على عبدالرحيم كمال أولا أن يطهّر البيت من الداخل وأن يعيد ترتيبه إداريا، وأن يستعيد للجهاز الحساس تلك المهابة التى أصابتها بعض الممارسات الخاطئة في الفترة الأخيرة ما يعني أنه سيجد يده في عش لدبابير أصحاب المصالح داخل الجهاز وخارجه على السواء، أشفق عليه لأنه مع أول جلوس له على كرسي منصبه الجديد سيجد أمامه ملفات مفتوحة وعالقة أشبه بالفخاخ ربما كان أبرزها ملف فيلم «الملحد» الذي لا يعرف أحد مصيره حتى اليوم، أشفق عليه من مجموعة الأوصياء من أرباب مهنة الإبداع الذين يتصورون أن صداقتهم له تسمح لهم بفرض وجهة نظرهم على قراراته من منطلق حماية حرية الرأي والخوف عليه، أو حتى من منطلق القناعات الشخصية وصولا إلى منطقة العشم إذا جاز التعبير.

أشفق عليه أيضا في عصر السماوات المفتوحة والبراح الإلكتروني اللانهائي الذي جعل كل شيء متاحا ومباحا بلا حدود أو رقيب، فماذا سيراقب العزيز عبدالرحيم كمال؟ ووفق أي قيم؟ هل هي تلك التي تربَّى عليها وأبدع في ظلها، أم تلك التي باتت سائدة وتغيرت معها كثير من القناعات أو طرأت عليها بعض الأفكار التي لا يمكن تجاهلها؟ أشفق عليه لأن ملف حماية الملكية الفكرية يحتاج إلى كثير من الجهد كي يكون مظلة حقيقية لكل مبدع يجد مصنفه الفني مستباحا بسبب ثغرات لم يلتفت إليها القانون، أو ندبات أفرزتها التجربة العملية على أرض الواقع خاصة في زمن الإنترنت والسرقات المتبجحة، إذا جاز التعبير.

أشفق عليه -وهو الأهم- من تجربة سيجد نفسه فيها -وهو المبدع في المقام الأول- رقيبا على غيره من المبدعين، وحسبه في ذلك أديبنا الكبير نجيب محفوظ، وأظنه سوف يدرك في لحظة ما أنه هو نفسه قد بات رقيبا على قراراته تتنازعه فيها مهام منصبه مع طبيعته المبدعة، ثم إنني أشفق على إبداع عبدالرحيم كمال نفسه الذي سيتأثر حتما بمشاغل المنصب، والخوف كل الخوف أننا ونحن نكسب رقيبا مستنيرا نخسر معه مبدعا أصيلا طالما أمتعنا بأدبه وفنه، ولذلك فإنني أهمس بكل المحبة والإخلاص في أذن الرقيب الجديد وأقول له إن المنصب مهما طالت مدته زائل، وربما لن يلتفت له أحد بعد مرور السنين، ولن يبقى له وللناس في تاريخه إلا ما تركه من إبداع.

مقالات مشابهة

  • عبد الرحيم كمال يستعرض رؤيته في إدارة كافة شؤون الرقابة على المصنفات الفنية
  • الجيش السوداني يقصف مواقع الدعم السريع في أم درمان
  • أشرف غريب يكتب: عبدالرحيم كمال رقيبا
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • البرهان يحمل بندقيته داخل معسكر القوات الخاصة للجيش السوداني “صور”
  • قرعة دوري أبطال أفريقيا تذكر الأهلي بعقدة “أم درمان”
  • «الخارجية» ناعية الدكتور خالد السعيد: كان مثالا للتفاني والإخلاص
  • الكتاب والأدباء تقيم ندوة للقصة القصيرة جدا في عُمان: المفهوم وجمالية التشكيل
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. إلهي، سيدي ومولاي
  • كمال بوشامة سفيرا جديدا لدى لبنان