منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل حيز التنفيذ، برز ملف إعادة الإعمار إلى الواجهة، الذي يرتبط بشرط أساسي، إذ لن تُقدَّم أي مساعدات دولية دون تنفيذ القرارات التي تنص على نزع سلاح حزب الله، فرسالة الدول الغربية والعربية واضحة: أي دعم مالي للبنان سيكون مشروطاً بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.
في المقابل، يرفض حزب الله هذا الطرح، رغم وعوده السابقة لبيئته الحاضنة بإعادة الإعمار. لا بل يحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية تأمين التمويل، معتبراً أن ربط الإعمار بنزع سلاحه ليس سوى محاولة لفرض واقع عسكري وسياسي جديد لا يخدم مصالحه. ورغم الخسائر الفادحة التي تكبدها لبنان بشرياً واقتصادياً، يؤكد الحزب أن المواجهة مع إسرائيل لم تنتهِ بعد.
وفي هذا السياق، شدد الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، في خطاب أمس الأربعاء، على أن "المقاومة مستمرة، وهي خيار ثابت تتحرك بحكمة وفق متطلبات المواجهة"، داعياً الدولة اللبنانية إلى "تحمل مسؤولياتها والضغط على الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار لتنفيذ التزاماتها".
ومع تصاعد الضغوط الدولية، يبرز السؤال: هل ينجح المجتمع الدولي في فرض نزع سلاح حزب الله كشرط لإعادة الإعمار، أم أن لبنان سيظل أسير السلاح غير الشرعي، ما لا يعرقل فقط جهود إعادة البناء، بل يبقي البلاد على فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة؟
أولوية السيادة
للمرة الأولى في الأزمات والحروب التي تناوبت على لبنان منذ خمسين سنة تفرض "استعادة السيادة أولويتها الفعلية على المعالجة قبل الملفات الأخرى"، وفق ما يؤكد المحلل السياسي إلياس الزغبي، ويشرح "سابقاً كانت المعالجات جزئية لذيول الحروب، أمّا اليوم فالمعالجة تبدأ من أساس الأزمة أي خسارة الدولة حقها الشرعي والحصري في استخدام السلاح وامتلاك السيادة الكاملة على قرار الحرب والسلم".
قانون الانتخاب وسلاح حزب الله.. جدل لبناني في توقيت حساس
في ظل تصاعد المطالبات الداخلية والدولية بنزع سلاح حزب الله وحصر القرار الأمني بيد الدولة، عاد ملف تعديل قانون الانتخاب إلى الواجهة، حيث أعادت كتلة "التنمية والتحرير" التابعة لحركة "أمل"، طرح مشروعي قانون أمام اللجان النيابية المشتركة، الاثنين، عبر النائب علي حسن خليل: الأول يقترح انتخاب أعضاء المجلس النيابي وفق قاعدة النسبية، والثاني يتعلق بانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ.
ويرى الزغبي في حديث لموقع "الحرة" أن الحكم والحكومة يواجهان اليوم "أولوية حل سلاح حزب الله وسائر الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، خصوصاً أن إعادة الإعمار باتت مربوطة بشكل محكم بنزع سلاحه".
ويشدد على أن "الإعمار والسلاح غير الشرعي لا يلتقيان لأن استمرار فلتان سلاح الحزب يهدد ما يتم إعماره بتهديم جديد في حرب جديدة، ولا بد من إنهاء السلاح كشرط مسبق للإعمار، ولا يمكن انتظار الأموال من الدول الراعية طالما بقي سلاح ينذر بتطييرها مرة أخرى كما جرى في السابق".
في هذا السياق، يواجه لبنان ضغوطاً متزايدة على الصعيدين السياسي والأمني، وفق ما يؤكد الصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي، خالد أبو شقرا.
ويشير أبو شقرا في حديث لموقع "الحرة" إلى أن "المسألة لم تعد تقتصر على المطالبة بنزع سلاح حزب الله، بل برز ملف ترسيم الحدود البرية مع سوريا وإسرائيل كقضية أساسية، حيث بات تقديم المساعدات الدولية مشروطاً بمدى استعداد لبنان للانخراط في حل هذه الملفات بشكل سريع".
أعمق من إعادة الإعمار
بعدما وعد حزب الله بيئته الحاضنة بإعادة إعمار ما دمرته الحرب التي جلبها إلى لبنان بعد فتحه "جبهة إسناد" لغزة، تراجع عن التزاماته، محمّلاً الدولة اللبنانية مسؤولية ذلك، وفي هذا السياق، يعلق أبو شقرا قائلاً "إن قدرة حزب الله على تأمين تمويل لإعادة الإعمار من إيران تبدو مستبعدة لعدة أسباب، أبرزها الأزمات الحادة التي يواجهها الاقتصاد الإيراني، ما يحدّ من قدرة طهران على تقديم الدعم المالي للحزب. بالإضافة إلى ذلك، فإن تقلص دور حزب الله المستقبلي كذراع إيرانية قد يؤثر على مستوى تمويله".
ويضيف أبو شقرا " أما السبب الثالث، فهو أن أي مساعدات مالية إيرانية لا يمكن أن تصل إلى لبنان عبر قنوات رسمية، نظرًا لأن إيران مدرجة على اللائحة السوداء لمجموعة العمل المالي وتخضع لعقوبات دولية. وبالتالي، إذا تم تحويل الأموال بطرق رسمية، فلن يكون بالإمكان استخدامها، أما إذا وصلت عبر قنوات غير رسمية، فسيؤدي ذلك إلى تعزيز السوق السوداء وتوسيع عمليات تبييض الأموال، مما قد يعرّض لبنان لمزيد من الإجراءات العقابية الدولية".
لكن الأزمة اللبنانية لا تقتصر على ملف إعادة الإعمار، الذي تُقدّر كلفته بين 8 و10 مليارات دولار وفق البنك الدولي، بل تمتد إلى انهيار اقتصادي شامل يهدد مختلف القطاعات. ويشير أبو شقرا إلى أن الاقتصاد اللبناني يواجه "انكماشاً حاداً، وتبخر ودائع بقيمة 76 مليار دولار، إلى جانب دين خارجي يبلغ 40 مليار دولار على شكل سندات يوروبوند، وعجز متزايد في الميزان التجاري خلال عام 2024".
كما تعاني القطاعات الإنتاجية "من ضعف القدرة على زيادة الإنتاج، وسط أزمة طاقة خانقة، حيث بلغ الدين المتراكم على مؤسسة كهرباء لبنان 40 مليار دولار. في المقابل، يشهد قطاعا الاتصالات والخدمات العامة تدهوراً مستمراً، إضافة إلى أزمات متفاقمة في المرافئ البرية والبحرية والجوية".
مهاجرون وأزمات.. قضية لبنان "الحساسة" إلى الواجهة مجددا
في بلد يعاني تعدّد الأزمات وتداخل الملفّات، يعود إلى واجهة النقاش العام موضوع قديم بلباس جديد وعنوان جديد أيضًا: مسألة المهاجرين غير الشرعيين.
وبالتالي حاجة اللبنانيين إلى مساعدة المجتمع الدولي لا تقتصر على إعادة الإعمار، بل تمتد إلى إنقاذ الاقتصاد المنهار، ما يستدعي، إلى جانب نزع سلاح حزب الله، تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة. ويشير أبو شقرا إلى أن هذه الإصلاحات يجب أن تشمل "إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإصلاح القطاع العام، وتحقيق مستوى مستدام من الدين العام لا يتجاوز 80% من الناتج المحلي".
ويؤكد أن "إعادة جدولة الديون والخروج من قائمة الدول غير القادرة على السداد تُعدّان من الأولويات لضمان استعادة لبنان لشرعيته المالية وإعادة اندماجه في النظام الاقتصادي العالمي، وهو شرط أساسي لجذب الاستثمارات واستعادة الثقة الدولية بالاقتصاد اللبناني".
وتجدر الإشارة إلى أنه بحسب تقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان لعام 2025، الصادر عن البنك الدولي في 7 مارس، تقدّر احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في أعقاب الصراع الذي شهده لبنان بنحو 11 مليار دولار أميركي.
ويعد قطاع الإسكان الأكثر تضرراً، مع أضرار تقدَّر بنحو 4.6 مليار دولار، فيما بلغت الأضرار التي لحقت بالمقومات المادية 6.8 مليار دولار.
أما من الناحية الجغرافية، فيشير التقرير إلى أن أكثر المناطق تضرراً هي محافظتا النبطية والجنوب، تليهما محافظة جبل لبنان التي تضم الضاحية الجنوبية لبيروت.
تكيّف سلبي؟
في ظل تداعيات الحرب الأخيرة بين لبنان وإسرائيل والانهيار الاقتصادي المستمر، بدأ بعض المواطنين المتضررين يعتمدون استراتيجيات فردية للتكيف مع الظروف الصعبة، ويقول أبو شقرا "البعض يبيع أراضيه أو يستخدم مدخراته لإعادة بناء ممتلكاته، على أمل الحصول على تعويضات مستقبلية". لكنه يرى أن هذا النهج يمثل "تكيفاً سلبياً، إذ يدفع المواطنين إلى خيارات اضطرارية مؤذية، بينما يسمح للسلطة بالتهرب من مسؤولياتها بدلاً من اتخاذ قرارات إصلاحية جذرية تعالج الأسباب الحقيقية للأزمة".
يشكل التزام لبنان بالشروط الدولية خطوة أساسية لوضع حد لمأساة اللبنانيين، "ولن يقتصر الأمر على تلقي مساعدات مالية لإعادة الإعمار، بل كذلك على قروض"، وفق ما يوضح أبو شقرا.
ويشير إلى أن "تحسين التصنيف الائتماني للبلاد يعد شرطاً أساسياً للحصول على هذه القروض بشروط مناسبة، فالمساعدات لن تكون بمجملها منحاً مجانية، بل ستشمل بدائل مالية أخرى تستوجب تنفيذ إصلاحات محددة تضمن استدامة الاقتصاد واستعادة ثقة الجهات المانحة والمقرضين الدوليين".
مع تصاعد التوتر.. لبنانيون يعيشون هاجس حرب أخرى
يعيش اللبنانيون حالة من القلق المتزايد مع تصاعد التوترات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، إذ بات شبح الحرب يخيم على حياتهم اليومية، متسللاً إلى تفاصيلها مع كل انفجار أو تحذير من تصعيد جديد.
في هذا السياق، أبلغ رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، خلال لقائهما أمس الأربعاء في قصر بعبدا، بحضور السفير الفرنسي هيرفيه ماغرو، أن الإصلاحات "يأتي في أولوية اهتماماته بالتوازي مع إعادة اعمار البلدات والقرى التي دمرها القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة".
وأكد عون أن "العمل سيتواصل من أجل استعادة الثقة داخلياً وخارجياً، خصوصاً في ظل الفرص المتاحة التي يجب الاستفادة منها"، مشيراً إلى أن الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي قد بدأت لبحث الخطوات المناسبة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، التي ليست فقط مطلباً دولياً، بل حاجة لبنانية.
طوق النجاة الوحيد
رفض حزب الله تسليم سلاحه لا يمنع التمويل عن لبنان فقط، بل يؤسس لحرب جديدة كما يقول الزغبي، ويؤكد أن شروط الدول المانحة سواء من الخليج العربي أو أميركا أو أوروبا "ليست للمساومة مع إيران وذراعها حول لبنان أو للوصول إلى تسوية جزئية، بل تهدف إلى إنهاء المعاناة اللبنانية وإعادة إحياء شرعية الدولة على الحدود وفي الداخل عبر تنفيذ مضامين الوثائق السبع وهي خطاب القسم والبيان الوزاري واتفاق الطائف والقرارات الدولية 1559 و1680 و1701، والتفاهمات الخطية والشفوية لوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل".
وبحسب الزغبي، فإن حزب الله لا يملك خياراً آخر غير تسليم سلاحه، "فلا هو قادر، ووراءه إيران، على خوض حرب متكافئة، ولا يستطيع الإيفاء بوعوده لبيئته بإعادة إعمار ما تهدّم، والسبيل الوحيد المتاح أمامه هو التسليم بقراره وسلاحه للدولة بالفعل وليس بالقول".
ويؤكد الزغبي على أن الدولة اللبنانية والحزب يدركان معاً "أنهما محكومان بالشروط العربية والدولية، ولا مفر من وضع روزنامة أو جدول زمني غير طويل لبت مسألة السلاح غير الشرعي كي تبدأ ورشة الإعمار والإصلاح بشكل فعلي".
وفي السياق ذاته، يخلص أبو شقرا إلى أنه "لا يوجد بديل حقيقي للبنان سوى تنفيذ الإصلاحات الأمنية المطلوبة للعودة إلى الشرعية الدولية، إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية والمالية اللازمة لضمان الحصول على المساعدات الدولية وتحسين الوضع الاقتصادي".
ويحذّر من أن "غياب هذه الإصلاحات سيؤدي إلى استمرار الأزمات والتحديات الكبرى، مما يجعل مستقبل البلاد أكثر ضبابية في ظل التعقيدات الأمنية والسياسية والاقتصادية القائمة".
"لبنان بحاجة إلى الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي للخروج من هذا النفق المظلم، حيث لا تقل الإصلاحات الاقتصادية أهمية عن الإصلاحات الأمنية والسياسية".