الأزمة الاقتصادية في لبنان ضاعفت متاعب اللاجئين
يعيش اللاجئون السوريون في لبنان ظروفا صعبة بالتزامن مع مطالبات بترحليهم

انضم النائب اللبناني، إلياس جرادة، إلى الأصوات المطالبة بترحيل اللاجئين السوريين، حيث قدم مقترح قانون وصفه معارضون بـ "العنصري والتحريضي والمفاجئ"، من نائب تغييري "كان يعوّل عليه بمقاربة الملفات" بطريقة مختلفة عن السلطة السياسية المتجذرة منذ عشرات السنين.

وتخطى جراده كل الذين يرفعون الصوت من خلال الخطابات، محذرين من عدم قدرة لبنان على تحمّل بقاء اللاجئين السوريين في ظل الانهيار الاقتصادي وتحميلهم المسؤولية الكبرى عن ذلك، باقتراحه قانونا ينص على إلزام الحكومة اللبنانية لمفوضية شؤون اللاجئين بتوطين السوريين في بلد ثالث خلال سنة من إقراره، وإلّا ترحيل الوافدين خلسة فورا واعتبار إقامة من لديهم إقامات بموجب شهادة تسجيل صالحة صادرة عن المفوضية منتهية الصلاحية، وإعادتهم قسرا.

وبحسب اقتراح القانون يمنع تسوية أوضاع أي من الرعايا السوريين الوافدين خلسة أو المسجلين لدى المفوّضية بعد مهلة أقصاها سنة من إقرار هذا القانون، ويعتبر مقيماً غير شرعي أي سوري لا يستحصل على الإقامة وفق القوانين المرعية الإجراء، ويتم توقيفه بإشارة من النيابة العامة المختصّة بجرم الإقامة غير المشروعة، على أن يرحّل حكما بعد صدور حكم بحقه يقضى بذلك.

يخشى لاجئون من العودة إلى سوريا بسبب مخاطر الاعتقال أو القتل

واستثنى النائب "التغييري" من اقتراحه البعثات الدبلوماسية السورية والسوريين الذين دخلوا لبنان بقصد السياحة أو التعليم الجامعي أو العمل وفقاً لأحكام قانون العمل وتطبيقاته ومراسيمه التنفيذية، أما السوريون القادمون بهدف العمل، فعليهم الاستحصال على إقامة عمل بمذكرة الخدمة رقم 99/2014 ووفق أحكام البنود المتعلّقة بتعهّد بالمسؤولية عمل شخص أو بموجب سند ملكية أو عقد إيجار، مقابل رسم سنوي يدفع سلفاً بقيمة توازي 200 دولار أميركي.

مبررات.. وعيوب جسيمة

رد جرادة الأسباب الموجبة لاقتراحه إلى أن وجود السوريين أصبح "باب رزق للكثيرين من طالبي اللجوء الذين باتوا يعتمدون على إنجاب الأطفال لرفع قيمة المساعدات التي يقبضونها من المفوضية والدول المانحة وذلك تبعاً لتحديد مبلغ معين عن كل مولود وهو ما يشكّل تغييراً ديمغرافياً على تركيبة المجتمع اللبناني، وهذا الأمر أكد عليه أكثر من محافظ حيث ورد أن هناك ولادتين سوريتين أو أكثر مقابل كل ولادة لبنانية".
 
وبأن هذا الوجود "ساهم في ارتفاع مستوى الجريمة إلى أكثر من ثلاثة أضعافها عما كانت عليه قبل وجود اللاجئين السوريين وفقاً للتقارير الأمنية التي صدرت، في حين تؤكد هذه التقارير امتلاك عدد كبير من اللاجئين لأسلحة حربية تشكل خطراً على السلم الأهلي وتأليف بعضهم لجماعات إرهابية مسلحة تهدد الأمن الوطني". وبأن هذا الوجود "يكلف الخزينة اللبنانية مليارات الدولارات نتيجة استهلاك الطاقة الكهربائية والكثير من الخدمات وأدى إلى المساهمة في زيادة تلويث الأنهر ولا سيما نهر الليطاني بفعل الصرف الصحي للمخيمات الموجودة على ضفافه".

أصوات تعالت مطالبة برحيل السوريين من لبنان فيما وصفها معارضون بمطالب "عنصرية"

ومن مبررات مقترحه كما أورد "انتفاء الخطر الأمني في سوريا وفق ما برز في الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة حيث غادر مئات الآلاف من السوريين إلى سوريا بقصد الاقتراع أو انتخبوا في سفارة بلادهم في لبنان" وبأنه "يمكن ترحيل المعارضين إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا إلى حين ايجاد حل داخلي للحرب في شمال سوريا".

وأشار إلى مذكرة التفاهم التي وقّع عليها لبنان مع مفوضية اللاجئين في العام 2003 حيث اتفق الطرفان كما ذكر "على أنّ لبنان ليس بلد لجوء، وأنّه لا يمكن للمفوضية تسجيل أي نازح أو طالب لجوء إلى بلد ثالث إلا وفقاً لآليّة محدّدة، بحيث يعطى صاحب الطلب إقامة مؤقتة لا تتجاوز السنة، وفي حال تعذّر على المفوضية توطينه في بلد ثالث، يحق حينها للدولة اللبنانية إعادته إلى بلده من دون أي اعتراض من المفوضية".

واعتبر النائب اللبناني أن المفوضية "خالفت بنود الاتفاقيّة منذ بداية النزوح السوري إلى اليوم، بحيث أصبحت تتصرّف كدولة ضمن الدولة" وبأنها "لا تتعاون بشفافية مع السلطات اللبنانية".

 كما صوّب على البرلمان الأوروبي بسبب التوصية التي أصدرها الشهر الماضي والتي دعا خلالها السلطات اللبنانية إلى إبقاء اللاجئين السوريين على أراضي الدولة اللبنانية لأن الحرب السورية مستمرة وهناك خطر على حياتهم في بلدهم، ما اعتبره جراده محاولة لتكريس واقع "يتعارض مع سيادة لبنان ومصالحه الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية والمالية والديموغرافية وغيرها، ما يشكّل تهديداً أمنياً وإستراتيجياً على المدى القريب والمتوسط".

اللاجئون السوريون في لبنان يعانون أوضاعا صعبة

قرار جراده أثار ضجة في لبنان لما تضمنه من نزعة وصفت بالعنصرية والتحريضية، عدا عن أن اقتراحه يتضمن بحسب ما تقوله المحامية والناشطة الحقوقية، ديالا شحادة "عيوباً جسيمة سواء لجهة عدم صحة الزعم بأن الاتفاقية المعقودة بين الحكومة اللبنانية والمفوضية سنة 2003 تسمح للأمن العام بترحيل اللاجئين بعد انتهاء مهلة التصريح المؤقت، وإنما الصحيح هو السماح للأمن العام بـ "اتخاذ الاجراءات المناسبة".

ولا "يناسب" لبنان بحسب مقدمة دستوره الملتزمة بالإعلان العالمي لحقوق الانسان وبالاتفاقيات الأممية المصادق عليها لبنان (ومنها الاتفاقية الخاصة بالتعذيب) ترحيل شخص كما تقول شحادة لموقع "الحرة" "إلى بلد هو معرض لخطر الاضطهاد فيه، على الأقل ليس قبل عرضه على القضاء لإثبات صحة ادعائه بهذا الخطر من عدمه. وفي كل الأحوال التزام لبنان بموجب عدم الترحيل يستند للإعلان العالمي والاتفاقية الخاصة بمكافحة التعذيب، والاتفاقيات الدولية الملتزم بها الدستور تعلو على أي قوانين محلية وطنية".

وتقول: "لقد مللنا وسئمنا في لبنان من معزوفة التضليل حول تداعيات طفرة اللجوء السوري، فارتفاع الجريمة مرتبط بارتفاع عدد السكان وهذا طبيعي، مثلما ارتفعت نسبة الاستهلاك والإنفاق وفرص العمل كذلك، عدا عن أن قوى الأمن الداخلي أعلنت في بداية العام الحالي عن انحسار ملحوظ في نسبة الجريمة"!

تتساءل شحادة "كيف خلص النائب الياس جرادة إلى أن اللاجئين السوريين ينجبون أطفالاً بهدف الحصول على مساعدات؟ ألم يطّلع على تقارير المفوضية التي تشير إلى أن أكثرية هؤلاء هم حالياً دون خط الفقر؟ هل شاهد نمط حياتهم الصعبة داخل المخيمات، والتي لا تكفي المساعدات الدولية الشحيحة لوقاية ساكنيها من المعاناة؟" 

علامات استفهام.. وحسم

ويصف رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان، وديع الأسمر، مقترح القانون بـ "الشعبوي"، قدمه نائب "انتخب على لوائح تدّعي التغيير من بين ذلك تغيير المقاربة السياسية في لبنان، وبدلا من ذلك قام بتجميع الأفكار العنصرية من طرد واحتلال واستيطان، صاغهم في اقتراح لا نعلم الهدف منه".

يخلط اقتراح قانون جراده كما يشرح الأسمر "بين اللاجئ السوري الذي طلب الحماية من الدولة اللبنانية، وبين الطالب والسائح والعامل السوري الذي يدخل حسب القوانين المرعية، وهذا أمر غير مقبول، والخطأ الفظيع في الاقتراح هو الحديث عن إعادة قسرية، ما يعني ارتكاب جريمة دولية، فهل المشرّع جرادة يعلم أن تمكّنه هو من الدخول إلى سوريا متى أراد لا ينفي أن مئات الآلاف من السوريين قد يجدون أنفسهم في معتقلات التعذيب في حال عادوا"!

ويسأل الأسمر "هل يعلم جراده أن لبنان صادق على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة في عام 2000، إلى جانب بروتوكولها الاختياري في عام 2008، وأن المجلس النيابي أصدر في عام 2017 القانون رقم 65/2017 الذي يجرّم التعذيب، بمعنى أن اقتراحه مخالف للقوانين الدولية، ويضع لبنان في مواجهة مع المجتمع الدولي وأي شخص يطبقه سيواجه ملاحقة قضائية دولية من دون تمكّنه من الاختباء وراء تنفيذ القانون".

ويضيف "ما الذي يمنع السلطة اللبنانية من نزع صفة اللجوء عن كل سوري يقصد بلده، ومنعه من دخول لبنان إذا لم يكن في حوزته إقامة سارية المفعول، وهل يريد جراده أن يخالف لبنان قوانينه بمنع دخول السوريين بصورة شرعية"!

عدد اللاجئين الذين صوتوا لبشار الأسد لم يتجاوز بحسب الأسمر التسعين ألفاً، أما الحديث عن "مئات الآلاف فغير صحيح، وقد كان بإمكان الدولة اللبنانية منع التصويت في السفارة السورية في لبنان على غرار بعض الدول، ومنع أي لاجئ صوّت في بلده من معاودة الدخول إلى لبنان كلاجئ، مع العلم أن من صوت في سوريا هم حلفاء جراده الذي قرر التحالف مع النظام للضغط على اللاجئين".

ويشدد "ما يهدف له الحلفاء المستترين أو العلنيين للنظام السوري هو الضغط على المعارضين السوريين كي يعودوا ويلقوا حتفهم في بلدهم أو للتحكّم بهم من قبل النظام، ولو كان ولاء النائب جراده للبنان لكان قدّم اقتراح قانون لتنظيم آليات اللجوء عامة وليس حصره بالسوريين ولكان اقترح قانوناً يفرض على الجهات الأمنية اللبنانية التشدد أكثر على الحدود بين البلدين لمنع تهريب الأشخاص والمواد".

المشكلة في لبنان يختصرها الأسمر بالقول إن "البعض لا يجرؤ على انتقاد النظام السوري والأجهزة الأمنية اللبنانية لعدم حمايتها الحدود ومنع التهريب، ولا يجرؤ على انتقاد حزب الله لتدخله بالحرب في سوريا ولا انتقاد الأحزاب السياسية لمشاركتها في التهريب، فيصب جام غضبه على الضحايا اللاجئين".

كذلك يرى مدير المرصد لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن "السياسيين اللبنانيين والميليشيات يصبّون جام غضبهم من فشلهم الاقتصادي وفشل الحكومات المتعاقبة، على اللاجئين الذين تتحمل الأمم المتحدة عبأهم الأكبر، ويعملون على إعادتهم من لبنان إلى سوريا تحت ذرائع مختلفة وقد اعتقل بعضهم عند الحدود السورية اللبنانية"، ويضيف "وجود بعض السوريين الذين يقومون بأعمال تتعارض مع القوانين اللبنانية لا ينفي أن الأغلبية الساحقة منهم منضبطة". 

ويتساءل عبد الرحمن خلال حديث مع موقع "الحرة" "إلى أين يريدون إبعاد السوريين إذا كان الموجودون في مناطق النظام يفروّن منها باتجاه المجهول أو باتجاه مراكب الموت التي تنطلق من لبنان نحو أوروبا" ويشدد "كل القوانين والاقتراحات اللبنانية لن تفيد شيئاً طالما هناك أمم متحدة واتحاد أوروبي يضغطان على الحكومة اللبنانية التي قد تعيد سراً العشرات من اللاجئين لكنها لا تستطيع إعادة الآلاف ليواجهوا الاعتقال والموت في سجون النظام".

سوريون يعبرون الحدود إلى لبنان

توضيح.. واصرار

اقتراح القانون يعبّر عن قناعات جراده كما يشدد في حديث لموقع "الحرة"، "وليس ردة فعل أو عملا شعبويا، وذلك من أجل حقوق الشعب السوري أولا الذي يعيش ظروفا صعبة نتيجة تخلي المجتمع الدولي والمنظمات الدولية عنه، وثانياً من أجل الشعب اللبناني الذي لم يعد بإمكانه تحمّل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية للنزوح".

يرفض جرادة بحسب قوله "مشهدية تحوير الوقائع والحقائق والتهجم على اقتراح القانون ووصفه بصفات لا تمت إلى الواقع بصلة، من دون قراءته، وكأن المطالبة بكرامة الشعب السوري وحقوق الشعب اللبناني والمحافظة على الإثنين هو عمل فاشي بحسب ما وصفته بعض المواقع الإلكترونية، ما يشير إلى نوايا وخبايا معينة".
ويقول: "عرضت اقتراح القانون على النواب، ورغم أن المجالس بالأمانات إلا أنه تم تسريبه، ومع ذلك لمست تجاوباً كبيراً سواء نيابياً أو شعبياً، وليس كما يروّج في الإعلام، وسأستمر به بعد الأخذ بالملاحظات التي تم طرحها".

ويسأل "ما الذي يريده من ينادون بابقاء السوريين في ظل الأوضاع الصعبة؟ من لديهم آراء في القانون والمقاربة احترمناها وأخذنا بها، أما الذين يعترضون بالمطلق فأين بدائلهم".

وعن اللاجئين الذين يخشون العودة بسبب الخوف من توقيفهم من قبل النظام السوري، يعلّق "اقتراح القانون واضح، وسأنشره على الإعلام عند تقديمه، وهو ينص على أن من تنطبق عليه صفة لاجئ، على الحكومة اللبنانية بالتعاون مع مفوضية شؤون اللاجئين تأمين مكان لائق وكريم وآمن له"، وفيما إن كان ذلك المكان داخل أو خارج لبنان يجيب "بحسب ما تقتضيه الضرورة، إما أن تعمل المفوضية على إيجاد هذا المكان، أو أن يبقى في لبنان إذا كانت تنطبق عليه شروط اللجوء السياسي التي ينص عليها القانون اللبناني بشكل واضح، وهؤلاء قلّة".

وعن حظوظ إقرار القانون أجاب بالقول إنه "قانون عادي وليس مستعجلا، بالتالي علينا انتظار عقد جلسات تشريعية بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وعلى الرغم من أني لم أقدمه كقانون معجّل، لكني أعتبر أن الضرورة الإنسانية تحتم مقاربته على وجه السرعة".

لاجئون سوريون في طرابلس شمال لبنان، أرشيف

يذكر أنه في الثامن من الشهر الجاري أعلن وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال، عبد الله بو حبيب، بعد لقائه وفدا من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عن توصّل الطرفان إلى اتفاق حول "تسليم الداتا" التابعة لجميع اللاجئين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية، وذلك بعد مسار طويل من التفاوض بدأ منذ حوالي السنة.

وشدد بو حبيب على أن لبنان "يعتبر الداتا حقا سياديا، كحق سائر الدول بمعرفة هوية الأشخاص المتواجدين على أراضيها"، مشيراً إلى أن الاتفاق "يخدم مصلحة الطرفين"، اللبناني والأممي، والدول المانحة لجهة عدم استفادة الأشخاص الذين يستغلون هذه التقديمات بصورة غير قانونية، وبالتالي، "يحرمون أشخاصا أحق منهم بهذه التقديمات من الوصول إليها".

أما المستشار العام ورئيس دائرة الشؤون القانونية في المفوضية، لانس بارثولوميوز، فأعلن عن التوصل إلى اتفاقية تتوافق مع المعايير العالمية لحماية البيانات، مشدداً على أن الحكومة اللبنانية "تلتزم بعدم استخدام أي بيانات يتم مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي، وقد أعادت تأكيد التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسرية والتزاماتها بموجب القانون الدولي والمحلي. وفي الوقت الذي ستستكمل فيه المناقشات حول آلية التطبيق وتفاصيلها".

ويسهل على سياسيي لبنان، بحسب شحادة، "الاستقواء على الضعيف المظلوم ويصعب مواجهة القوي الظالم. أزمة اللاجئين سببها وحلها هو عند نظام، بشار الأسد، لا عند اللاجئ الذي يرمي نفسه في البحر كل يوم بحثا عن بلد يصون كرامته".

سلاح حزب الله إلى أين؟ - رويترز
سلاح حزب الله إلى أين؟ - رويترز

بعد أن زج حزب الله بلبنان في حرب مدمرة مع إسرائيل، أوقعت ضحايا وخلّفت خراباً واسعاً وفاقمت الانهيار الاقتصادي، برز ملف الاستراتيجية الدفاعية في صدارة المشهد السياسي اللبناني.

وتزامن ذلك مع تصاعد المطالبات الداخلية والدولية بنزع سلاح الحزب وحصر القرار العسكري بيد الدولة اللبنانية، تنفيذاً للقرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701.

في هذا السياق، أكد الرئيس اللبناني، جوزاف عون، في خطاب القسم، عزمه وضع "استراتيجية دفاعية متكاملة على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية". 

أما البيان الوزاري للحكومة، فشدد على ضرورة "حصر السلاح بيد الدولة"، ما يعني إنهاء مظاهر الازدواجية العسكرية التي تعيق قيام الدولة بمسؤولياتها السيادية.

ورغم أن الدعوة إلى وضع استراتيجية دفاعية تحظى بتأييد واسع، فإن التصورات حول مضمونها تبقى متباعدة إلى حد التناقض. 

فبينما يرى البعض أن إشراك سلاح حزب الله في هذه الاستراتيجية يقوض سيادة الدولة ويكرّس واقعاً ميليشيوياً، يشير آخرون إلى تجارب دولية احتوت جماعات مسلّحة ضمن منظومات دفاعية وطنية، غير أن موقف الحزب نفسه لا يزال ثابتاً في رفضه تسليم سلاحه.

فالحزب الذي وافق، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، على سحب سلاحه من جنوب الليطاني، يرفض تسليم ترسانته شمال النهر، ما يثير تساؤلات حول وجهة هذا السلاح وهدفه، خصوصاً في ظل سجل سابق من استخدامه داخلياً، كما حدث في أحداث 7 مايو 2008.

وأعلن النائب عن الحزب حسن فضل الله استعداد حزب الله للدخول في حوار حول الاستراتيجية الدفاعية، لكن هذا الموقف لم يترافق مع أي إشارات إلى نية التخلي عن السلاح.

وهو ما أكده عضو المجلس السياسي للحزب، غالب أبو زينب، بقوله إن "السلاح ليس مطروحاً للنقاش". 

أما الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، فذهب أبعد من ذلك حين اعتبر أن "أي حديث عن حصر السلاح بيد الجيش اللبناني لا يعني سلاح حزب الله"، وذلك في تحدٍّ مباشر لموقف السلطة اللبنانية.

ويبقى السؤال: هل ستكون الاستراتيجية الدفاعية مدخلاً جدياً لسحب سلاح حزب الله، أم ستستخدم كغطاء جديد لتكريس ازدواجية السلاح وتثبيت هيمنة حزب الله داخل مؤسسات الدولة وتحت غطائها؟

نهاية حقبة

وانتهى الدور الذي لعبه سلاح حزب الله في السابق، كما شدد الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد المتقاعد ناجي ملاعب.

وأكد أن "المرحلة الحالية تتطلب منح الدولة وقتاً كافياً لترسيخ هذه القناعة داخل البيئة الحاضنة للحزب، تمهيداً لترجمتها عملياً على أرض الواقع".

وقال ملاعب، لموقع "الحرة": "أعتقد أننا بدأنا نلمس هذا التحول في المزاج العام لدى بيئة حزب الله، حيث تنمو القناعة تدريجياً بأن هذا السلاح لم يؤد الدور الذي رُوّج له في السابق".

واعتبر أن هذا التحول يشكل فرصة جدية أمام رئيس الجمهورية والسلطات الرسمية للانتقال من مرحلة التفاهمات الضمنية إلى خطوات عملية واضحة، تستند إلى رؤية وطنية جامعة.

وأضاف "نحن اليوم أمام رئيس جمهورية سبق أن تولى قيادة الجيش لمدة خمس سنوات، وهو يمتلك خبرة عسكرية وأمنية واسعة، داخلياً وخارجياً. وقد أبدى في مختلف تصريحاته تمسكه بالسلم الأهلي، وهو معروف بقدرته على إدارة الأزمات بتوازن، دون أن يترك تداعيات سلبية معقدة، وبالتالي هو يتمتع بالحكمة والخبرة الكافيتين لقيادة البلاد في هذه المرحلة الدقيقة، والتعامل مع الملفات الأمنية الحساسة بمسؤولية عالية".

من جهته، أكد رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، العميد الركن المتقاعد الدكتور هشام جابر، أن إعداد استراتيجية دفاعية وطنية شاملة لم يعد ترفاً. 

وقال لموقع "الحرة": "منذ سنوات نطالب بوضع استراتيجية دفاعية، ومن غير المفهوم أن الدولة لم تبادر حتى اليوم إلى تشكيل لجنة متخصصة لهذا الغرض، علماً أن إعداد هذه الاستراتيجية لا يحتاج لأكثر من شهر، قبل عرضها على الحكومة ثم مجلس النواب لإقرارها بقانون".

أما القائد السابق لفوج المجوقل في الجيش اللبناني، العميد المتقاعد جورج نادر، فرأى في حديث لموقع "الحرة" أن تصريحات رئيس الجمهورية عن "استراتيجية الأمن الوطني" تشير إلى مقاربة أشمل من مجرد استراتيجية دفاعية. 

إذ تشمل وفق نادر "الأمن الداخلي والخارجي، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إلى جانب الأمن العسكري. وبالتالي فإن الاستراتيجية الدفاعية ليست سوى جزء من منظومة الأمن الوطني الشاملة".

بدوره، شدد ملاعب على أن "استراتيجية الأمن الوطني لا يمكن اختزالها بالبعد العسكري، بل تشمل مختلف الأبعاد: الاقتصادية، المالية، الجغرافية، التربوية، وكل ما يشكل مكونات القوة الوطنية. ومن هذه الركائز تُبنى الاستراتيجية الدفاعية لتكون إطاراً شاملاً يحفظ أمن الدولة واستقرارها".

الدمج غير وارد؟

"أي استراتيجية دفاعية لا يمكن أن تستوعب سلاحاً خارج إطار الدولة"، كما رأى نادر، مؤكداً أن "القرار الرسمي اللبناني واضح في هذا السياق، ويقضي بحصر السلاح بيد الجيش اللبناني".

لذلك لا يمكن على الإطلاق كما أكد نادر "إدماج الحزب في استراتيجية الدفاع الوطني، لأن السلاح يجب أن يكون فقط بيد الجيش".

وأردف قائلا: "لا يمكن لمجموعة مسلّحة، ولو كانت مؤلفة على سبيل المثال من خمسة آلاف عنصر، أن تشكّل لواءً خاصاً بها داخل المؤسسة العسكرية وتحتفظ بسلاحها".

واستعاد نادر تجربة توحيد المؤسسة العسكرية بعد الحرب الأهلية، مشيراً إلى أن "الجيش خضع عام 1990 لعملية دمج شاملة، أنهت الانقسامات الطائفية والمناطقية، وأرست أسس مؤسسة وطنية موحدة. اليوم، لم يعد هناك مكان لألوية مذهبية أو فئوية، وأي عودة إلى الوراء ستُقوّض ما تحقق".

لذلك "من يرغب من عناصر الحزب في الدفاع عن لبنان فالباب مفتوح أمامه" كما قال نادر "للتطوع في صفوف القوات المسلحة اللبنانية، وفق الشروط المعتمدة، كما هو الحال مع أي مواطن لبناني آخر".

وأكد نادر أن "الاستراتيجية الدفاعية هي مسؤولية وطنية سيادية، تحدّد من هو العدو، وكيف تتم مواجهته، وبأي وسائل، ولماذا"، مشدداً على أنه "لا يمكن أن تترك هذه المهمة لأي فصيل مسلّح خارج سلطة الدولة".

مقاربة مختلفة

على خلاف نادر، رأى جابر أن الاستراتيجية الدفاعية "يجب أن تقوم على مبدأ أن مسؤولية الدفاع عن الوطن تقع أولاً على عاتق القوى النظامية، أي الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، بالإضافة إلى قوات احتياط تنظّم ضمن إطار الدولة" وتشمل ما يعرف بـ"القوى شبه النظامية" أو Para-Military Forces.

وأوضح جابر أن "الأحزاب التي تمتلك سلاحاً، ومنها حزب الله، تخضع أسلحتها الثقيلة لإشراف الجيش اللبناني، بحيث تُخزَّن في مستودعات عسكرية، فيما يعود عناصر هذه القوى إلى حياتهم المدنية في الظروف العادية. ويتم تنظيم هذه العملية بشكل لوجستي دقيق، يسمح باستدعاء العناصر خلال 72 ساعة في حال إعلان الطوارئ أو تعرّض البلاد لخطر داهم".

وأضاف "في حالات الطوارئ، يستدعى هؤلاء إلى مراكز محددة من قبل قيادة الجيش، حيث يعاد توزيع السلاح عليهم وفق خطة مُسبقة، تحدد موقع كل عنصر ودوره ووقت تدخله، على أن تتم العملية تحت إشراف السلطة العسكرية العليا، أي قيادة الجيش والمجلس الأعلى للدفاع".

وعن مدى قدرة هذه المقاربة على إنهاء الازدواجية العسكرية، قال جابر "نعم، بالتأكيد. القيادة والقرار سيكونان بيد مؤسسة واحدة، ما يشكّل حلاً نهائياً وليس تسوية ظرفية أو مؤقتة".

واستشهد جابر بالنموذج السويسري، حيث يمكن للجيش رفع عديده من 50 ألفاً إلى نحو 370 ألفاً خلال 72 ساعة فقط عبر استدعاء الاحتياط، قائلاً "لا نسعى لأن نصبح سويسرا، لكن من خلال العمل الجاد والتنظيم، يمكننا بناء استراتيجية دفاعية تتيح لكل من يريد الدفاع عن الوطن أن يفعل ذلك ضمن كنف الدولة".

وشدد جابر على أن هذه الاستراتيجية لا تستهدف حزب الله وحده، بل تشمل جميع الأحزاب والقوى التي تمتلك سلاحاً.

وأوضح أن "من يرفض الانخراط في هذا الإطار تنزع منه الأسلحة. فهناك أيضاً عشائر وفصائل حزبية تمتلك سلاحاً ثقيلاً، ويجب أن يشملها الحل، سواء عبر الدمج ضمن الاستراتيجية الدفاعية أو من خلال نزع سلاحها".

وأشار إلى ضرورة شمول المخيمات الفلسطينية بهذا الإطار، مؤكداً أنه "لا يمكن المطالبة بنزع سلاح جهات لبنانية، مع الإبقاء على ترسانة قائمة داخل المخيمات".

أما فيما يخص السلاح الفردي، فكشف جابر عن وجود أكثر من ثلاثة ملايين قطعة سلاح خفيف في لبنان، كالمسدسات، مشيراً إلى إمكانية تنظيم هذا النوع من السلاح عبر آليات الترخيص لأغراض الحماية الشخصية.

خطوط حمراء.. ودعم

وتضع الولايات المتحدة الأميركية خطوط حمراء في مقاربتها للملف اللبناني، وفق ما يؤكده ملاعب، "أولهما ضمان أمن إسرائيل، وثانيهما الحفاظ على موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية كمدخل لاستقرار النظام السياسي في لبنان".

وقال ملاعب "من رعا انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وإطلاق مسار إصلاحي هي واشنطن، وبالتالي فإن هذه السلطة باتت بالنسبة لها خطاً أحمر لا يُسمح بإفشاله".

وأضاف أن المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، التي زارت بيروت مؤخراً، "لم تأتِ بسيف التهديد كما حاول البعض الترويج، بل حملت رؤية دعم واضحة، وعقدت لقاءات مع وزراء معنيين بملفات الاقتصاد، الإدارة، المالية والعدل، وناقشت معهم خطوات إصلاحية بدأت تترجم ميدانيًاً."

وأوضح ملاعب أن الموقف الأميركي لا يزال ثابتاً "الولايات المتحدة ستكون شريكاً للبنان فقط إذا مضى في طريق الإصلاح، ونجح في حصر السلاح بيد الدولة".

وأشار إلى أن اللقاءات اللبنانية–الأميركية الأخيرة عكست إجماعاً لبنانياً على ضرورة معالجة جذور الأزمة الأمنية، لا الاكتفاء بنتائجها. 

وقال "هناك موقف واضح من الدولة اللبنانية مفاده: إذا التزمت واشنطن بالضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة وتنفيذ القرار 1701 والاتفاقات الدولية ذات الصلة، فلن يبقى مبرر لأي سلاح خارج إطار الشرعية."

من جهته، شدد نادر على أن الحل الوحيد المقبول لقضية سلاح حزب الله يتمثل في "تسليم الحزب سلاحه للدولة، والانخراط في العمل السياسي كأي حزب لبناني آخر، ضمن القوانين والدستور".