لا يسعني أن أقول، مع هذا الكتاب الثاني الذي قرأته مؤخرا لــ يون فوسه، حائز جائزة نوبل للآداب هذا العام، إلا أنه صاحب تجربة كتابية فعلية تستحق أن نطلع عليها. ثمة كتابة مختلفة، عن العديد من الكتّاب الأوروبيين الذين اكتشفناهم في هذه السنين الأخيرة. سأحيل سبب ذلك ــ ولو جزافا ــ إلى هذه البيئة الشمالية (الإسكندنافية) التي تلعب هذا الدور في رسم هذا الإطار الذي تتواجه فيه «البرودة» و«الحرارة» في الوقت عينه، لتدخلا في صراع ومواجهة عنيفة كي تتقاتلا إلى أجل غير مسمى، لتقدما لنا في النهاية، لوحة جميلة، تستحق أن نقف أمامها ونتأملها.
كغالبية نصوصه، إلا في ما ندر (وفق ما قرأنا عنه)، يأتي نص «أرق» (بترجمة فرنسية عن منشورات «سيرسيه») في صفحات قليلة أيضا (92 صفحة)، ليرسم لنا الكاتب من خلاله عالما من الحبّ النقي والواضح بين شخصين، بين فتاة وشاب، يبحثان ذات يوم عن مكان يبيتان فيه، بعد أن وصلا إلى إحدى القرى، وبخاصة أنها كانت على وشك أن تلد الطفل الذي تحمله في أحشائها. عبر كلمات قليلة جدا، نجدهما يُعبران عن هذا الضيق الشديد الذي يغمرهما، الذي يغمر هذين الكائنين اللذين يواجهان بمفردهما عالما عدائيا، أينما انتقلا. لذا تبدو الحوارات القليلة التي تطل برأسها فوق الصفحات، وهي حوارات ذات جمل تتألف من كلمات قليلة بدورها، ليأتي الرد عليها، في بعض الأحيان بكلمة «نعم»، وفي أغلب الأوقات بالصمت. كأنه لم يعد أمام الكائن البشري أي شيء ليقوله. لكنه الصمت الذي يكمن وراء هذه القوة التي تجعلهما متماسكين، وهي القوة التي تخلق هذا الاندماج بينهما بشكل جسدي وعقلي وروحي.
في برد هذه المناظر الطبيعية الشمالية، وحيث المطر الخريفي يخترق، ويبلّل هاتين الشخصيتين الرئيسيتين كما يُشعر القارئ بالجليد ــ جليد العواطف والأفكار والحياة برمتها ــ يتبختر الناس الذين يغلقون أبوابهم في وجه هذين الشابين الغريبين. شابان طردا من منزليهما بسبب «ازدراء بغيض» من عائلتين لا تفهمهما. لكنهما موجودان من أجل بعضهما البعض، إنهما يشكلان ملجأ لبعضهما البعض، يدفئان بعضهما البعض، كل واحد في انعكاس الآخر، في اقتضاب الآخر، لذا نجد أن كلا منهما يردد صدى الآخر، صدى ثقتهما، صدى أملهما.
وعلى الرغم من كلّ شيء، على الرغم من أننا نعلم منذ بداية الكتاب أننا أمام لصة وقاتل، إلا أننا نشعر بأمل متقد في داخلنا بأنهما سيفلتان من العقاب. لأنهما إن لم يكونا بريئين فإنهما يتصرفان، هو ببراءة الرجل الأول، وهي ببراءة المرأة الأولى. لقد تم طردهما دون تفكير، من جنتهما التافهة، وهما يهيمان على وجهيهما. إن شرودهما ليس عقوبة على أية جريمة، بل على العكس تماما، فهو حكم الهيام الظالم الذي سيقودهما حتما إلى ارتكاب الجرائم دون أي إصرار مسبق. جرائم الأبرياء، الأبرياء ذوي النفوس الطاهرة والأفعال المؤسفة. أولئك الذين لا يستطيعون أن يكونوا أبرياء هم أولئك الذين يطاردونهما، أولئك الذين يصدونهما، أولئك الذين يغلقون الباب في وجهيهما، أتباع ثقافة جامدة حيث المظاهر هي القانون، لمجتمع أناني وبارد، تقشعر له الأبدان مثل شتاء الشمال.
تبدو، نوفيلا «أرق» قصة مثيرة مليئة بأصداء الحكاية التوراتية. قصة حب (ولا غضاضة في أن نصفها بالرائعة) تحمل الكثير من الأصداء الرهيبة؛ زوجان يسيران في الشوارع. غريبان وصلا لتوهما إلى المدينة. كل ما يملكه الواحد منهما يتناسب مع الآخر. كانا صغيرين وهي حامل سوف تلد قريبا. ليس لديهما أي ملجأ للبقاء فيه. لا أحد يريد الترحيب بهما في هذا الجو البارد والماطر.
في هذا الإطار العام الذي يلفه الضباب، ثمة بعض الأحداث التي تجري والتي تعتبر أحداثًا مهمة في حياة الزوجين الشابين. ولكن، يختفي ذلك كله أمام القارئ فجأة. شيء حدث للتو. لا ينتبه القارئ له، لكنه يولد تنافرا نفهمه من خلال الإشارة إلى هذه الاهتزازات في رأس الشاب. وحين نجدها تحدث مرة أخرى نفهم أن شيئا ما قد ينكسر بينهما. لمحة بسيطة (اهتزاز الرأس) تولد تأثيرا مذهلا في قلب هذه الحكاية. إذ إنه يحمل علامة الكاتب الذي يتقن فنه. وما لم يُقل يجعلنا نخمن قصة أخرى: رواية الحب المؤثرة لشابين فاسقين التي أصبحت فجأة مشوبة بظلام لا نلمحه.
هذا الظلام يأتي على شكل نهاية مفتوحة. ربما هنا ما يجعل القارئ يميل على هذا النص. ربما النهاية تكمن في الأكل بولادة الطفل. ومع ذلك هل هي نهاية مفتوحة حقا حين نعرف أن المؤلف، بعد سنوات من نشره هذا النص، كتب تكملة له بعنوان «أحلام أولاف»، ثم تكملة ثانية بعنوان «عند حلول الظلام»، ليصوغ بذلك ثلاثية، لا بدّ أن تجعلني أغوص بها قريبا جدا.
ما يرويه لنا فوسه قصة جميلة ومؤثرة عن الحب: عن حب صبور، بلا كبرياء أو غيرة أو تفاخر. وما لا يُقال لنا، هو شيء أكثر قتامة، وأكثر إزعاجًا بكثير. مثل شيء نعترف به بصعوبة ولكن لا يمكننا قبوله. في ومضتين شريرتين، يتم توجيه القارئ إلى فهم ما لم يتم إظهاره أو شرحه: إن حب أليدا وآسلي، وسعيهما من أجل حياة أفضل، هو أيضًا حامل للموت معه. لا شك أن كتابا كهذا يستحق أن يقرأ لأنه ببساطة جميل للغاية، يائس ومؤلم، يتسم بالتواضع وبلحظات صغيرة من السعادة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أولئک الذین
إقرأ أيضاً:
في «البيت» الذي ينكأ الجراحات القديمة
تحدثتُ فـي مقال سابق عن مطار زنجبار الأنيق والنظيف رغم صغر مساحته. كان وصولنا إليه فـي الساعة الواحدة والربع ظهرًا بتوقيت مسقط. وفـي الشرق الإفريقي يُسمّى هذا الوقت الساعة السابعة والربع ظهرًا، لأنّ اليوم هناك مقسّم إلى اثنتي عشرة ساعة ليلًا ومثلها نهارًا، وغالبًا ما يتساوى الليل والنهار، لوقوع المنطقة قرب خط الاستواء. واليوم الجديد يبدأ فـي زنجبار مع بداية الليل لا فـي منتصفه كما هي طريقة الغرب فـي حساب الأيام التي قلدناهم - نحن العرب - فـيها، وكان العُمانيون الأوائل إذا ذكروا التوقيت يقولون: «الساعة الأولى من النهار»، أو «الساعة الثانية من الليل» وهكذا، ولم يكونوا يستعملون لفظ «الساعة الواحدة» مطلقًا، بل يقولون: «الساعة الأولى».
أخيرًا وطئت قدماي زنجبار بعد حُلم طويل تأجّل كثيرًا. كانت مشاعري حينئذ مختلطة بين الفرح لتحقق الحلم، والترقّب لما ينتظرني من مواقف أو مشاهدات. وقد بُحْتُ فـي مقال سابق بخواطر وتساؤلات راودتني فـي رحلتي الجوية التي استمرت خمس ساعات، والآن وقد هبطتُ من السماء إلى الأرض فإنّ خواطر وتساؤلات أخرى تعنّ فـي البال، وحب استطلاع شديد لكلِّ شيء.
تركتُ رفـيقَيْ سفري سيف وسليمان يتحدثان مع مرافقنا أحمد المزروعي، فـيما كنتُ ألقي نظرة أحاول أن تكون موضوعية على كلِّ شيء وأيِّ شيء، وأسعى من خلالها إلى حشو الذاكرة بأكبر قدر ممكن من المشاهدات لتغدو معينًا لي فـي مقبل الأيام، وفـي إطار السرد الذي ينبغي تقديمه لمن يسألني عن مشاهداتي فـي زنجبار وانطباعاتي عنها. نظراتي احتضنت فـي مودة البيوت والأشجار والشوارع والمطاعم وحركة الناس ولباسهم وطريقة كلامهم، وبنحو خاص - ولحاجة فـي نفس يعقوب - كنتُ أبحث عن العُمانيين فـي الأسواق والشوارع، حتى وصلنا إلى منطقة «فرضاني» وهي فـي الأصل (الفُرضة) حسب التسمية العُمانية للميناء الصغير، وأضيف إليها (ني) التي تعني (فـي)، وهكذا وصلنا إلى فندق (مزينجاني) الذي حجزه سيف قبل سفرنا. وكلمة (مزينجا) تعني باللغة السواحلية «المدفع»، وبالفعل هناك مدفعان صغيران على مدخل الفندق، كتأكيد على تطابق الاسم مع الواقع المُشاهَد، وبما أنه أضيفت كلمة (فـي) على (مزينجا) فالمعنى صار (فـي المدفع).
دخلنا بهو الفندق فإذا هو تحفة معمارية عُمانية من الطراز الرفـيع، يشعر المرء أنه فـي إحدى قلاع عُمان أو حصونها. وفـي تلك اللحظة دخل فـي روعي أنّ هذا القصر ربما هو المكان نفسه الذي قصده أبي - عليه رحمة الله - عندما دُعِيَ إلى الغداء فـي بيت الشيخ هاشل بن راشد المسكري المسمى «بيت المدفع»، وهذا يعني أنني أتلمس الآن خطى والدي على نحو صحيح، وأُكمل خريطة هجرته التي حملته قسرًا لا اختيارًا من عُمان إلى هذه الجزيرة الأسطورية، ليس وحده وإنما كلّ العُمانيين المهاجرين، هذا ما خطر لي فـي تلك اللحظة. وبما أنّ بيوت تلك المنطقة كلها كانت مملوكةً للعُمانيين، وبعضها تابع للحكومة، فقد صادرها الانقلابيون ظُلمًا ولم يسمحوا بمجرد ذكر أصحابها الأصليين؛ لذا فإنّ رحيل أصحاب البيوت وأبنائهم مع عدم توثيق أسمائهم يُعرِّض أصحاب هذه البيوت للنسيان، وعندما سألْنا أحدَهم عن البيت قال: «لا تسألني عن التاريخ»، وكان يقصد فـي الواقع: «لا تنكأ الجراحات القديمة»، ولكن أحد الشباب العاملين فـي الفندق من ذوي الأصل العُماني أخبرنا أنّ البيت يعود للحكومة السلطانية، وكان يُستخدم بيتًا للضيافة فصادَرتْه حكومة الانقلاب، ثم باعته لأحد المستثمرين الذي رممه وأضاف له ركنًا جديدًا، وهو ما أجاب عن تساؤلاتي حين شاهدتُ البيت للوهلة الأولى: هل يمكن أن يكون هذا القصر بفخامته وغرفه الكثيرة مُلكًا لشخص واحد؟ ماذا تراه يفعل بكلِّ تلك الغرف؟! ومع ذلك تواصلتُ مع الشيخ سيف بن هاشل المسكري وسألتُه هل هذا هو «بيت المدفع»؟ فأكد لي أنّ البيت كان للضيافة، وأنّ «بيت المدفع» يقع فـي منطقة أخرى اسمها (مكونازيني) وهو حاليًّا وقفٌ فـي سبيل الله مثل كثير من بيوت العُمانيين فـي زنجبار وممتلكاتهم ومساجدهم. إذن فقد فاتني أن أرى البيت الذي انطلقت منه تلك المقالات الاستنهاضية التي كان الشيخ هاشل بن راشد المسكري يكتبها فـي «الفلق»، وفاتني أن أعيش تلك اللحظات التي دعا فـيها الشيخ هاشل أبي للغداء، ولا أدري كيف كان شعور والدي وهو الفقير المعدم القادم من عُمان عندما يدعوه أحد الأكابر للغداء فـي بيته، ولا كيف تقبّل الشيخ هاشل هدية أبي المتواضعة وهي قلم رخيص كما أشرتُ سابقًا. رحل أبي ولم يُضف لي جديدًا أعرفه، وها أنا أقف الآن على الأرض ذاتها التي صال والدي فـيها وجال مع عُمانيين كثر، وعلى مرمى حجر فقط من البيت الذي دخله بدعوة كريمة من الشيخ هاشل.
على كلّ حال؛ فإنّ مبنى الفندق التقليدي جميل بديكوراته وأبوابه الخشبية. وفـي السقف يمكن للرائي أن يُشاهد ألواح الخشب، وكذلك الأسرّة التي هي خشبية أيضًا وضخمة، ومحاطةٌ بناموسيات ضد البعوض الذي - ولله الحمد - لم يصادفنا لأنّ زيارتنا حدثتْ فـي صيف زنجبار.
قال لنا مرشدنا: «إنّ برنامج اليوم سيكون جولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، وبرنامجُنا الفعلي سيبدأ منذ صباح الغد، حيث سيرافقنا مرشد ملم بالتاريخ، وسيأخذكم فـي جولة ويشرح لكم كلّ شيء».
نظرتُ إلى المرشد بامتنان، وأنا أتحرّق شوقًا لهذه الجولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، التي سأتحدّث عنها فـي مقال الأسبوع المقبل.