«ينهار» بدلا من «يوشك على ذلك»
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
مع مرور الوقت وتكرار ما يحدث في غزة الآن خلال الأعوام الماضية، بدأنا ندرك نوعا من نمط التعاطي مع هذه الكارثة، إذ يتبنى معظمنا خطابا اعتذاريا، نُسَوغ من خلاله أن موقفنا لا يعادي السامية، وإنما يلتزم بمقاومة «الصهيونية» كحركة سياسية شردتنا وهجرتنا وقتلتنا، وربما ومن دون أن نحس بذلك، تأتي هذه «الاعتذارية» من موقف كولونيالي، إذ إن الغرب هو من يشعر بالذنب، هو من تسبب بالهولوكوست، لم نكن جزءا من هذا يوما، وعلينا أن نتذكر هذا بلا هوادة، لسنا في السياق نفسه مع الأوروبيين في تعاطيهم التاريخي مع اليهود، هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، فإن محاولتنا لمقاربة ما يحدث في المنطقة، يقتضي بالضرورة الإحالة للحربين العالميتين الأولى والثانية، فما الذي يحدث معنا إزاء لما حدث هناك. من جديد يعاد تعريفنا وفي سياقات عديدة بالنظر للمركز، لما هو معروف ومألوف بالنسبة للأوروبي والأمريكي. ربما يقول أولئك الذين يتبنون هذا النوع من المقاربات إنهم بهذا يحاولون كسب تضامن أكبر عدد ممكن من الأوروبيين والأمريكيين الذين يمكنهم وعبر الضغط الشعبي التأثير على سياسات دولهم الخارجية، لكن أما زلنا نعول على ذلك فعلا؟ حتى المؤسسات الأكاديمية التي كانت حتى وقت قريب المعقل الوحيد، الذي قد يضمن بعضا من الالتفات لما يحدث فعلا في العالم الجنوبي لم تعد كذلك. ألم تكن هذه المؤسسات الأكاديمية نفسها، هي التي استبعدت أي حضور للأدب والفكر الروسي في مساقات دراسية كاملة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، ألم تكن هذه المؤسسات نفسها التي اتخذت في عديد من المواقف قرارات باستبعاد طلبة فلسطينيين وعرب من برامجها المختلفة بحجة معاداتهم للسامية؟ على من نعول إذن؟ لا يبدو أن هذه المؤسسات التي اشتغلت خلال ثلاثة عقود ماضية بالدراسات ما بعد كولونيالية جادة في تعاطيها مع الإرث الاستعماري الذي خلفته على المعرفة وأي مقاربات تخصنا.
فلنتأمل مقال الكاتب الرائع الذي كنتُ أنتظر قراءته لما يحدث الآن، ناثان جي روبنسون، في محاولته تقريب الصورة لقراء current affairs، يقول ربنسون: دعونا نتخيل أننا نصف الحرب العالمية الثانية كما لو أنها صراع أطلقت فيه أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما حملات قصف وإبادة على كل من هامبورج وبرلين واليابان وقتلوا بذلك آلاف المدنيين ودمروا منازلهم، أمريكا نفسها قتلت ملايين الأشخاص وألقت قنبلتين ذريتين على مدينتين يابانيتين. وسيكون من غير العادل وصف الحرب العالمية الثانية بتجاهل السياقات التي أنتجت هذه الأفعال، ومن غير المنصف عرض أن مذابح المدنيين هذه اُرتكبت بسبب شهوة الدماء الخالصة والتي حدثت بشكل عشوائي. إذ ومن خلال ذلك تُستبعد أسباب الحرب برمتها عن الأنظار. يصف روبنسون استثناء العدوان الذي أدى إلى الحرب بـ«البروباغندا». وبهذه البداية يفتتح ما يُفترض أن يشرح الوضع في غزة بعد السابع من أكتوبر!
ومع ذلك كله نجد أنفسنا في موقف مسؤول عن قول إن ما سيحدث خلال الفترة القادمة لن يكون جحيما علينا وحدنا في الجنوب، بل إنهم أول من سيحترق بهذه النار التي سقوها خلال العدوان القائم على غزة بما سيشعلها بلا عودة، وربما أستدعي هنا موقفا كولونياليا آخر، إنني أظن وآخرون غيري بأن أوروبا تمتلك أدوات تمكنها من قراءة ما يحدث في ضوء «معرفة» ووعي تاريخي وفكري، إنهم يختلفون عنا، هذا الجنون الذي نتلقى به ما يحدث، وهذه الهزيمة التي نجثم تحت ظلالها ليست هي نفسها الموجودة في عالم متنور، درس وعرف واختبر كوارث فادحة على تجاوزاته الظلامية السابقة، لكن ليس هذا ما يحدث، كلنا في العالم اليوم داخل ظلال الكارثة نفسها، إننا في قلب سعار ما سيحرقنا جميعا، وليس لدى الأوربيين أكثر مما هو لدينا. لا شيء يستطيع إنقاذهم من المستقبل الذي يراه قلة منا، مثلما لا يستطيع شيء إنقاذنا الآن.
عندما تحرم ألمانيا المتظاهرين العرب من التعبير عن حدادهم أو غضبهم عما يحدث في غزة الآن، وتعيد مع ذلك مراجعة ملف المهاجرين، على الرغم من أن الدساتير والأنظمة هناك تتعارض أصلا مع هذا المنع للتعبير عن الرأي، حتى أن ألمانيا وجدت نفسها في أكثر من مناسبة مضطرة لمواجهة رغبة «النازيين الجدد» واليمين المتطرف في التعبير عن مواقف متشددة، ووجدت أنها لا يمكن أن تمنعهم من التعبير عن أنفسهم، رغم كل ما حدث، ورغم التاريخ، ورغم أننا وقبل بضع سنوات فحسب، كان من شبه المستحيل أن يتحدث أحد عن النازية والقومية الألمانية بالصفاقة نفسها التي يتحدث بها اليوم منتسبون إلى جماعات معروفة في مشهدهم هناك، فما الذي ينبغي علينا قوله أكثر؟ من أننا ننزلق بلا تأخر إلى نهاية هذا العالم!
إن ما يحدث في غزة واسمحوا لي أن أقول هو استعارة عن الحدود بين الحضارة والبربرية، أما ردة فعل الاحتلال الغاشم إزاء ما حدث في السابع من أكتوبر، إنما هو إذكاء تلك النار التي وقودها في كل مكان من عالمنا المحتقن اليوم، الذي يخلع عنه غطاء «صوابيته السياسية» الكاذبة، ليظهر لنا التقهقر المرعب نحو القومية والفاشية. فلماذا لا يكون لنا حصة نحن العرب والمسلمين، نحن من نسكن في دول «عالم ثالثية» أن نحظى بحقوق الإنسان، أن نتمتع بكل وعود هذا العالم الحديث، وبدلا من أن نكون محرومين فحسب من مكافأة الحداثة والرأسمالية، لا نستبعد من هذا فقط، بل نُقتل وندمر ونباد كما يحدث الآن في غزة. ألا يبدو العالم تافها ويقوده جوقة من الحمقى وهم يتجاوزون أبجدية التعامل المناسب والجذري مع ما يحدث؟ كم عددنا نحن الذين نرى حتفنا وهلاكنا الموشك؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما یحدث فی
إقرأ أيضاً:
هل يكون هجوم كورسك الخطأ الأكثر كلفة على أوكرانيا؟
رأى الضابط البريطاني المتقاعد ريتشارد كمب أن انسحاب أوكرانيا القسري من كورسك يعزز فرص الدخول في مفاوضات سلام مع روسيا.
وكتب كمب في صحيفة ذا تلغراف البريطانية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن ليبحث في محادثات السلام لو لم ينجح في طرد الجيش الأوكراني. بل كان ليشترط انسحاب كييف من الأراضي التي يسيطر عليها أولًا، مما كان سيشكل تحدياً سياسياً هائلاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وكان أحد الأهداف الاستراتيجية لهجوم كورسك كسب ورقة ضغط في مفاوضات مستقبلية، لكن الواقع أثبت أنه لم يؤتِ ثماره. وقد أدرك القائد العام للجيش الأوكراني الجنرال أوليكساندر سيرسكي ذلك، ولهذا بات يركز على الحفاظ على أرواح جنوده بدلاً من القتال للتمسك بالمواقع.
The Kursk Offensive failed for a variety of reasons, one of which being the lack of a clear objective.
Was it to seize the nuclear power plant like we were told in August? Was it to score a PR victory and convince the West to continue supplying Ukraine with weapons? Was it to… pic.twitter.com/MpSsiTgaDA
وكانت كييف تأمل أيضاً أن يُجبر دفع قواتها إلى الأراضي الروسية بوتين على نشر قوات كبيرة لاستعادتها، مما يخفف الضغط على خطوط المواجهة في دونباس. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو أيضاً.
بدلاً من ذلك، ردت روسيا عبر الدفع بقوات محدودة، واستدعت قوات كورية شمالية لتعويض النقص، وفي المقابل واجهت أوكرانيا نقصاً في جميع الجبهات.
وكانت كييف تأمل أن يجبر توغل قواتها في الأراضي الروسية بوتين على نشر قوات كبيرة لاستعادتها، مما يخفف الضغط على الجبهات في دونباس، لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. بدلاً من ذلك، احتوت روسيا الجبهة بهجمات محدودة واستعانت بقوات كورية شمالية لتعويض النقص العددي، بينما اضطرت أوكرانيا لسحب قوات من جبهات القتال الرئيسية لدعم الهجوم.
منذ بدء المعركة في أغسطس (آب) الماضي، واصلت روسيا تقدمها في دونباس، وإن كان ببطء. ومع ذلك، من المحتمل أن أوكرانيا كانت ستخسر أراضي أكثر هناك لولا كورسك. ورغم أن الحروب تُحسم أحياناً بمخاطر كبرى، فإن هذا الهجوم ربما كان مدفوعاً باعتبارات سياسية أكثر من كونه قراراً عسكرياً بحتاً، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الأمريكية وحاجة كييف لتعزيز الدعم الدولي.
It was suicide for the Ukraine to go on the offensive in Kursk, when Russia had complete air superiority. The only thing saving them was the $billion Patriot missile systems. They are gone and now they are being bombed into oblivion. Without American tech, they control nothing. pic.twitter.com/0nIjXgRm5b
— Naughty Beaver (@beaver_naughty) March 11, 2025 فوات الأوانبعد فشل الهجوم المضاد الأوكراني عام 2023، تضاءلت آمال الغرب في تحقيق نصر عسكري حاسم، وبدأ الاهتمام الدولي يتحول إلى الشرق الأوسط.
ومع ذلك، حاولت كييف استعادة الزخم عبر هجوم كورسك، على أمل تكرار نجاحاتها في خاركيف وخيرسون عام 2022. وأراد زيلينسكي إقناع العالم بأن أوكرانيا لا تزال قادرة على تحقيق الانتصارات إذا تلقت الدعم اللازم، لكن هذه الرسالة جاءت متأخرة، إذ كانت الولايات المتحدة وأوروبا قد بدأت تركز على التوصل إلى تسوية تفاوضية بدلاً من تحقيق نصر عسكري.
وهذا الوضع يعكس إخفاق الغرب منذ بداية الحرب، حيث زودت واشنطن وحلفاؤها أوكرانيا بمساعدات عسكرية كافية للدفاع، لكنها لم تكن كافية لتحقيق النصر، وحتى معركة كورسك، وهي أول غزو أوكراني للأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية، لم تغير هذا الواقع. ومع غياب أي تحول استراتيجي لصالح كييف، باتت هزيمة كورسك ترمز إلى المرحلة القاتمة التي تواجهها البلاد الآن.