لجريدة عمان:
2025-04-23@10:18:53 GMT

«موشكا»... أكثر أو أقل وفاء

تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT

(1)

تنهض «رواية» موشكا الصادرة طبعتها الأولى في بيروت عن دار سؤال 2015م، للكاتب محمد الشحري على استلهام التاريخ والتراث غير المادي لأسطورة لم يجرِ تثبيتها عن طريق الكتابة الإبداعية إلا قليلا عن شجرة اللبان. ويتشكّل نص الرؤية السردية للرواية على عدد من الاستراتيجيات، أهمها:

مقطع شعري افتتاحي من كتاب «المسالك والممالك» لابن خرداذبه يُعد بمثابة إشارة تحفيزية إلى الدخول في فضاء سوسيوثقافي-جغرافي لقبائل «الشحرة» إحدى أقدم القبائل التي سكنت في محافظة ظفار، ويعدون من السكان الأصليين فيها ويقول المقطع الاستراتيجي:

اذهب إلى الشحر ودع عُمان

إلا تجد تمرًا تجد لبانا

ويدلل هذا المقطع على ارتباط قبائل «الشحرة» بتجارة اللبان، وهي شجرة منسوبة إلى جبال ظفار ومن أقدم أنواع التجارة التي عرفتها جنوب شبه الجزيرة العربية في جبال هذه المحافظة، ومثلّت عبر التاريخ أهمية اقتصادية واجتماعية ربطت حضارات العالم القديم.

تضمين المتن السردي للأحداث قصصا من العجائبيات وعالم الغرائبيات، تمظهر ذلك في بناء قصة حول شجرة اللبان مبنية على اتصال بين عالمين يمثل الإنس المكون الأول، ويمثل عالم الجّن المكون الثاني. ويلجأ محمد الشحري لتقديم تفسير للعلاقة الملتبسة الحاصلة ما بين العالمين المتنافرين، بل المتضادين في خصائصهما؛ فيكتب في الرواية مثلا: «الإنس يا ابنتي كانوا إخواننا نعيش حياة واحدة ونتشارك في كل شيء عدا النوق «...»، أما الإنسيون فلهم البقر التي لا نمتلكها لأنها تحمل بين قرونا الشياطين التي تُخيفنا...»

يستند المتن الحكائي للرواية على العديد من مفردات البيئة الجبلية لقبائل «الشحرة» في ظفار، وكشف توظيفها عن عالم متسع بالأغاني وأبيات الشعر، مثل: (النانا والدبرارت، نانا غريم ذي شديدن ويسلمه كره، يهجس بمفلي بعسر يذكره... نانا نانا..) أو الأسماء والنعوت، مثل: (أنشرون، موشكا، حلوت، الدعن أبي فُدون طاحن خصيته، دهق بن جدريت، عنوفان، والساحرة روري..)، أو الأمثال الشعبية الدارجة والأصوات الدالة على الفعل ورد الفعل، مثل: (شنى مشنى ذ تيث، فله مشنى ذ ثيرين، أووهِن، يا وليدِ الفرح، إناه جر...)، أو الأماكن والوظائف، مثل: (المجليل، والراعب)، وأساليب التعاون الاجتماعي بين الناس، مثل: (الشتر، السنابيق)، ويعاضد هذا كله حكايات أسطورية صغرى لتتصل اتصالا مع جوهر المتن الرئيس، من ذلك التعضيد مثلا هذه الفقرة الدالة: «لم يكن القدر تعيسا مع بعل صعب بل أسعفه الحظ بوجود حصانه سليل الجواد الأبلق المرفوع نسبا ومكانة في صحائف الملوك، حين رسم تقرّبا للإله الجنوبي -سين-، والمنقوش بالدماء والعسل واللُحُوم، على جدران الكهوف والمغارات...»

يلتصق متن الرواية مع الوثيقة، ويتمظهر ذلك في مقبوس للمؤلف جاء على لسان حتشبسوت بلغ عدد أسطره (33) سطرًا، تخبرنا الوثيقة التاريخية عن «تاريخ المادة العطرية التي استعملتها إيزيس لخداع جواري الملك الذي سقط عنده الصندوق الذي وُضع فيه أوزيريس، بعد تعرضه للخديعة التي دبرها له لطيفو، بالتعاون مع الملكة الأثيوبية آسو...»

(2)

المسرح فن بصري في المقام الأول. وظاهرة إعداد أو اقتباس عرض مسرحي عن جنس أدبي كالرواية أو القصة القصيرة، أو عن مقالة، أو عن تقرير طبي، أو عن مذكرات شخصية، قضية ارتبطت بالمسرح منذ تاريخ طويل. يكتب صاحب (معجم المصطلحات المسرحية)، الناقد المسرحي (د. أحمد بلخيري) حول الاقتباس ما يلي: «إن الاقتباس، خلافا للترجمة أو التحيين، له حرية كبيرة: فهو لا يخشى تعديل معنى الأثر الفني الأصلي جذريا بحيث يجعله يقول العكس. إن الاقتباس هو إعادة كتابة النص من جديد. هذا التطبيق المسرحي أخذ بعين الاعتبار أهمية الدراماتورج من أجل إعداد الفرجة».

بالتحرك من فضاء رواية «موشكا» التي ألفها محمد الشحري إلى فضاء الاقتباس أو الإعداد يخوض المخرج (يوسف البلوشي) مغامرته المسرحية الجديدة المتميزة. تمظهر ذلك من خلال مشاركة فرقة (مزون المسرحية الأهلية) بتقديم عرض مسرحي فرجوي بصري أثار دهشة الجمهور وأسئلتهم وإعجابهم، حيث مثّل عرض «موشكا» وزارة الثقافة والرياضة والشباب في الدورة الرابعة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح التي انعقدت في الفترة (10-18 أكتوبر 2023م) على مسرح الرشيد.

ينتقل عالم الرواية إلى عالم وخصائص العرض المسرحي. ويحكي العرض الذي أعده الكاتب المسرحي (نعيم نور) ودققه لغويا محمد المشيخي، وصمم السيناريو والإخراج المبدع يوسف البلوشي، وأدى الممثلون التالية أسماؤهم أدوارًا لافتة للانتباه، وهم: (عبدالحكيم الصالحي/ ملك الجان، ونادية عبيد/ موشكا، والصلت السيابي/ محضيلول، وأحمد الشبيبي/ مساعد ملك الجان، وعمير البلوشي/ غدير، وزينب البلوشية/ عشيبة)، أما المكياج فصممته الفنانة (عزيزة البلوشية) وغيرهم؛ كمجموعة جوقة الراقصين، والغناء الشعبي، وعازف آلة القربة (خليفة مطر)، ومصممو الديكور، والإكسسوارات، والأزياء، والموسيقى والمؤثرات الصوتية.

بالانتقال إلى محاولة الكاتب نعيم نور إعداد الرواية يجري وضع هذا الملخص على (البانفليت) الموزع للجمهور: «موشكا... من الأساطير العمانية الخالدة المتناقلة عبر الأجيال أسطورة شجرة اللبان. تحكي عن امرأة من بني الخفاء وقعت في عشق إنسي وتحملّت وحدها وزر الخطيئة لأنها خانت عهدهم وأعرافهم فعاقبت نفسها بأن تتحول إلى شجرة تجرحها السكاكين لتخرج من جذعها لبانًا سعت الممالك والحضارات للحصول عليه وإحراقه في الأماكن المقدسة في بلاد الرافدين ومصر والشام وأوروبا والهند وبلاد فارس؛ اللبان الذي يقال عنه مُخ الآلهة». وكان من الممكن الاستغناء عن هذه الفقرة لقيامها بكشف أحداث العرض بمجانية كبيرة. وإذا تحركنا على فضاء الخشبة لا شك في أن الجمهور قد أمتعه العرض الذي ترّشح لثلاث جوائز دون الحصول على أي جائزة! وبالرغم من ذلك، فيمكن تسجيل بعض النقاط التي ترفع من جمالية العرض مع أخذ بعض الانتباه: -

استطاعت الممثلة نادية عبيد التي قام عليها العرض كله أن تجذب إليها إعجاب الجميع، لما تمتعت به من رشاقة وأناقة في الأداء. لكن حاجتها مع المخرج الذكي يوسف البلوشي، إلى المزيد من التدريب المُتقن الخاص بأدائها وهي في السجن، قد أرهق جسدها، وكانت عين المتفرج ومشاعره تتأذى في كل مرة يسقط جسدها ثم يرتفع فيرتمي على الأرض بعنف وقسوة غير مبررتين إخراجيا.

لا شك في أن الممثل عبدالحكيم الصالحي المتعدد الأداء في كثير من الأعمال الفنية، يتمتع بطاقة عالية في التقمص والتلوّن الجسدي والصوتي، وفي هذا العرض لم يكن الصالحي في أحسن أداءاته المسرحية، سعى باجتهاد إلى التخلّص من تقديم نمطية الأداء لشخصية يلعب فيها دور (ملك الجن)، عبر حركات إيقاعية مرسومة، ولكن، إذا تجاوزنا وقوعه في الخطابية التي وقع فيها في بعض المواضع، ثم عدم وصول كلماته إلى مسامعنا بجلاء، يُلقي بالكرة مجددا على يدي المخرج.

في تقديري أن موشكا كجنية كان عليها أن تقع في غرام رجل يتمتع بهيئة تتسم بالتضخيم والمبالغة والقوة، على عكس غرامها بشاب بنيته عادية، فالصراع ما بين طاقتين مختلفتين أو خاصيتين متضادتين، في شأن مثل شأن موشكا وتكوينها، يكون أقرب إلى عالم عجائبيات ألف ليلة وليلة، وهذا ما جعل الممثل الذي قدم شخصية غدير، الضعيف البنية، والرقيق المشاعر، أقل درجة في الإقناع، فمرات وقوفه أمام موشكا، كان يبدو ضحية لا عاشقا، ضئيلا وهشّا، فأكلته موشكا بأدائها الجسدي. ويبدو أن التزام المعد بالرواية في بعض المواضع، قد جعله يكتفي التركيز على ربط علاقة الحب بين الجنية والإنسي مُغلبا في هذا الموضع البنية الخطابية للحكاية على بنية المبالغة في الإدهاش والتحليق مع التخييل الغرائبي، وهذا ما يؤكد عليه النقد إن الغرائبية في العرض الطقسي، تقوم على الانزياحات المتعددة المستويات.

من مظاهر السينوغرافيا في «موشكا»، أنها قالت أشياء متناغمة، بعضها أثار الجدل، وبعضها الآخر صفق له الحضور. ولا يصعب القول إن المزج الموسيقي للآلات مع أصوات الممثلين (المجاميع ونادية عبيد) استطاعوا خلق منعطف جمالي أخاذ، جاء توزيعه على مفاصل العرض مدروسا جيدا، ويُمكن كذلك تسجيل ملمح أكثر جذبًا، تبلور في استخدام بعض مفردات اللغة الشحرية للرواية، ونطقها بلسانها الأصلي، ثم لجوء الممثل إلى قولها باللغة الفصحى حتى يتسنى للجمهور استيعابها.

سيظل العرض المسرحي «موشكا» للمخرج يوسف البلوشي، وللممثلة الصاعدة نادية عبيد، من العروض المدهشة، لاحتفاله بالمسرح في لحظة الطقس، وتجلي الخفي بلغة أنطونان أَرْطُو، وسيكون أيضا عرضا أكثر أو أقل وفاء للرواية وللطقس معا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

تجليات الملحمية في عرض مسرحي عماني

تعدُّ الملحمية نسبة إلى بريشت، وبسكاتور نظرة احتجاج ليست مقصورة على وحدات أرسطو الثلاث، لكنها وجهة نظر ديالكتيكية إلى العالم تتضمن فلسفةً وموقفًا واشتغالًا على المستويين التنظيري والتطبيقي. ويُنعتُ كل مسرح ينبني فضاؤه الدرامي على (سرد الحدث عوض تجسيده، والشخصيات تقدم الأحداث بدل مسرحتها «...» ولعب الممثلين يضاعف التباعد الذي يتجلى مظهره الأول فـي تقنية السرد، ومظهره الثاني فـي عدم اندماج الممثل مع الدور الذي يؤديه «...» ونقض سحرية التطهير... وتدخلات السارد بهدف تسجيل وجهة نظر تتعلق بالحكاية وكيفـية إخراجها مسرحيًا» (أحمد بلخيري، معجم المصطلحات المسرحية، ص 341/342) بالمسرح الملحمي.

العرض المسرحي (دراما ما بعد الحرب الثالثة - طلبة الجامعة العربية المفتوحة)، تأليف أسامة السليمي وإخراج أيمن الحراصي تجلت فـيه عناصر تأسيسية للملحمية البرشتية. أقيم العرض ضمن مهرجان آفاق العربي للمسرح الجامعي الدورة العاشرة للفترة من 12-26 أبريل على خشبة مسرح جامعة التقنية والعلوم التطبيقية يسرد حكاية موضوعها الحرب والخيانة والهيمنة. تجري الحكاية فـي بيت العائلة التي يُهيمن على أفرادها الجد المتسلّط، ومعه الجدة، والأب، وزوجة الحفـيد، والخادمان. فـي هذه المقالة أسعى إلى تقديم قراءة فـي نص العرض وفق زاويتين: الأولى تتضمن النص، الثانية تتضمن الإخراج، والأداء التمثيلي، والسينوغرافـيا والإيقاع العام وتفاعل الجمهور مع العرض.

فـي فضاء النص

استوقفني النص لما يحمله من رمزية سياسية واجتماعية وثقافـية، ولما فـيه من جرأة تخيليّة فـي تصور مستقبل العالم بعد كوارث الحروب التي تفتك بالبشرية. يتحدث النص عن عائلة مكوّنة من الجد، والجدة، والأب، وزوجة الحفـيد الحامل بطفل (مآثر الجابرية)، وخادم وخادمة وطيف للحفـيد الذي ذهب إلى الحرب ولم يَعد. يهيمن الجد (بشار الفلاحي) على العائلة ومعه الجدة (رنيم الهنائية)، ويتحكم فـي مصائر الجميع. اكتسب الجد مجده من خلال إمداده الوطن بالمال والرجال، وتجلت سلطته الأبوية المستبدة فـي تحريكه لأفراد العائلة. فالعائلة هي مركز القيادة والهيمنة الرمزية، فبِاسم الوطنية يرسل حفـيده إلى الحرب، وباِسم المجد العائلي يُقرر قتله بدم بارد بعد أن يكتشف خيانته، والنتيجة انهيار العائلة من الداخل، يموت الحفـيد، وتنتحر الزوجة، ويرحل الأب وينتحر الجد.

حاول المؤلف تقديم رؤية رمزية لما بعد كوارث الحروب. فأثقل على الشخصيات بخطاب متشابه إلى حد الإسراف. من ذلك يمكن مقارنة حوارات الخادمين مع حوارات الأب مثلا، فنجدها تعبر عن لسان المؤلف؛ كأنها تقرأ من كتاب واحد! دون أن تفسح للمشاهد مجالًا للتعرّف على مستويات العلاقات المتداخلة. كان الحفـيد لا يظهر إلا للجد، ووسيلة الارتجاع التي استند إليها النص، لتعرفنا بماضي الجد، عجزت فـي معرفة الأدوار التي قدمها للدولة.

فـي فضاء الإخراج

حسنًا فعل المخرج فـي لجوئه إلى تشذيب النص، وتكثيفه تكثيفًا ملحوظًا. فالنص ينتمي إلى مسرح الأفكار والتمثيلات الرمزية فـي تناول قضية سياسية موضوعها خيانة الحفـيد لتاريخ عائلته ووطنه. لم نشاهد هذا الحدث فـي العرض، إذ تخلى عنه المخرج وهو فـي النص قضيته المركزية.

فالنص وفقًا لمرتكزات الملحمية، لا يركز على مآسي الشخصيات بوصفها مآسي أفراد، بل يجعلنا كجمهور نطرح أسئلة فكرية: من يَملك الحق فـي تعريف الخيانة؟ هل المجد الوطنيّ يُبرر القتل؟ وهل العائلة يمكن أن تكون أداة فـي يد الدولة؟ ما الذي يبقى بعد الحرب؟ ماذا لو كان المجد الذي تتغنى به العائلة عبر العقود مجرد قناع ترتديه لتخفـي سقوطها الأخلاقي؟ هل حماية السمعة أهم من حماية الإنسان؟ هل الوطنية المُطلقة قد تتحول إلى وحش يأكل أبناءه؟ هل تحب الدولة أبناءها بمقادير معينة؟

يتضح لنا، فهم المخرج لموضوع النص؛ فالحدث هو حامل الفكرة أو الأفكار التي تولدها القصة، وحث المتفرج على التفكير لا التعاطف مع الشخصيات التي تؤدي أدوارها كمحمولات فكرية، وليست شخصيات درامية.

سعى المخرج إلى تقديم لغة إخراجية بصرية محاولًا استثمار بعض عناصر المسرح الملحمي وبرز ذلك فـي هذه العناصر:

- افتتح المخرج عرضه بفضاء لا يُقدم تحديدًا زمنيًا دقيقًا للحرب، ولا اسما للدولة ولا وصفًا واقعيًا للمكان. كل شيء يبدو معلقًا غائمًا. الفضاء موجود فـيه كرسي طويل بلا ملامح أو رسوم دالة على وضعية معينة، فالزمان والمكان جاءا كأدوات فكرية، وينسجم هذا مع الفكر الملحمي الذي يرى فـيهما أدوات مجرّدة لتوصيل الفكرة، لا لبناء الواقعية المجتمعية.

- الخلفـية فارغة تمامًا، والإنارة بيضاء/ كاشفة فـي العرض، وجاءت لتكشف الواقع وفضح تناقضاته لا لتجميله. وهذا الفراغ المتعمد فـي الخلفـية استخدم لتجريد الحدث من واقعيته وتحويله إلى فكرة، ويدفع الجمهور إلى التركيز على التركيب الجسدي والمعنوي للمشهد عوض الانشغال بديكور ما.

- استثمار حركة الممثلين فـي مقدمة الخشبة ما يُتيح مسافة للقرب من الجمهور، لخلق تأثير مباشر لكسر الحاجز الرابع. (شاهدنا أربع شخصيات مصطفة فـي الخلف، ثلاث نساء ورجل مسنّ يحمل عصا. جميعهم يرفعون رؤوسهم إلى الأعلى وشخصية خامسة (رجل) يقف فـي المقدمة بجمود ينظر مباشرة إلى الجمهور بتعبير جاد وصامت.

هذا التكوين البصري يسعى إلى تقديم لوحة رمزية مشحونة بالتساؤل عن النظرات المرفوعة التي توحي بانتظار ميتافـيزيقي كسؤال عن المصير مثلا، أو خضوع قِسري لقوة عليا. إن هذا التكوين لا يسعى لإقناعنا بأننا نشاهد عائلة حقيقية فـي لحظة درامية، بل يُعلّق على لحظة إنسانية كونية تدفعنا إلى تأمل الوجود: ماذا يبقى للعائلة بعد أن تستهلكها الحرب؟

- شخّص الممثل (إسماعيل الهادي) فـي شخصية (الأب) دورًا مزدوجًا ضمن تعددية الأدوار، تارة ينفردُ واقفًا فـي الأمام كأنه راوٍ أو شاهد أو الضمير الحي للحفـيد يعلّق على الحكاية، وتارة أخرى يؤدي دور المشاركة فـي الأداء.

- عبّرت الحركة الجسدية الحادة للوحات البصرية عن لحظات التوتر الداخلية، لكنها فـي المسرح الملحمي لا تتركنا لنتعاطف، أو نتماهى معها، بل تدفعنا إلى التفكير؛ أي إن المتفرج يسأل نفسه: لماذا يصرخ الممثل؟ ما السبب الاجتماعي أو السياسي وراء هذا الغضب أو البكاء أو الصراخ؟

- استطاعت المسافة بين الممثلين والتكوين الحركي الإيحاء بعلاقة التراتبية فـي السلطة، حيث شاهدنا الزوجة تستعطف الجّد (هي منحنية وهو قائم يمسك عصاه)؛ فالصورة التي نُفكر فـيها كمتفرجين، إما التواطؤ مع السلطة الأبوية أو الانكسار أمامها.

- هناك توزيع بصري طبقي وهَرمي عند وقوف الجّد صلبًا بعصاه فـي منتصف الخشبة، بينما النساء فـي أوضاع متفاوتة وقوفًا - أو جلوسًا. إن هذا التوزيع كشف لنا منظر زوجة الحفـيد صغيرة الحجم، وتترجم هذه الوضعية بصريا أبعاد العلاقة السلطوية فـي داخل العائلة.

- إن ملابس الشخصيات جاءت موحدة اللون (أبيض وأسود)، بسيطة وغير متكلفة، خالية من التزيين أو الترميز الطبقي، وهذا يتماشى مع بساطة السينوغرافـيا التي حوّلت مركز التركيز، ونقلته من دائرة المشهد إلى دائرة الرِّسالة. كما جعلت الشخصيات أقرب إلى النماذج التي تمثل مواقف فكرية لا نفسية.

- الهاتف القديم على الطاولة. استخدم ككائن رمزي يمكن أن يشير إلى السلطة أو أداة تلقي الأوامر (إشارة غير مباشرة إلى الحرب أو الجهة العليا)، وهو يستخدم فـي المسرح الملحمي، كشيء يجب التفكير فـيه، لا مجرد ديكور.

- الفضاء العام للسينوغرافـيا، انصرف إلى تشكيل مجموعة من اللوحات، فالمؤثرات البصرية بإضاءة زرقاء خافتة، بسيطة، وموحية، استطاعت تكوين فضاء خاطب مع الموسيقى ترجمة أفكار النصّ، لإظهار الأشياء غير المرئية.

- بشائر هذا العرض، كانت الممثلة (رتاج الجابرية) فـي دور الخادمة، واستطاعتها أداء الدور برشاقة جسدية، وظفها المخرج مع (محمد الصبحي) فـي دور الخادم لخلق مساحة التغريب الملحمي وقد استطاع هذين الثنائيين بالظهور فـي وضعيات الهيمنة والخضوع جعل لوحات الضحك أن تقدم درسًا بعيدًا عن التهريج المجاني، فـي نص عوالمه الحرب والخيانة والانتحار.

مقالات مشابهة

  • المعلق الشهير خليل البلوشي يتجول بساحة جامع الفنا
  • إسطنبول: المدينة التي حملت أكثر من 135 اسمًا عبر التاريخ
  • راشد البلوشي ممثلاً لسلامة الراليات في "رالي السعودية الدولي"
  • تجليات الملحمية في عرض مسرحي عماني
  • من أوضة صغيرة لنجومية كبيرة.. وفاء عامر تكشف أسرارًا عن حياتها
  • وفاء عامر تعلن تبرع متابع بـ صدقة جارية لـ سليمان عيد: ماذا بينك وبين الله
  • أسعار البيض تحلّق في أوروبا... من هي الدولة التي تدفع أكثر من غيرها؟
  • ‏الأردن يرحب بالتوافق الذي توصّلت إليه واشنطن وطهران خلال الجولة الثانية من المباحثات التي عُقِدَت في العاصمة الإيطالية روما
  • 3 معارض رائدة في المتحف العربي للفن الحديث بالدوحة
  • "التضامن": لا غرامة جديدة على الأسر التي تعيد الأطفال المكفولين.. والقرار معمول به منذ أكثر من 4 سنوات