وصية هيكل الحب والموت والرحلة.. الحلقة الثانية
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
الوصية حبرٌ على ورق يودعها الراحلون فى مأمن الأهل لتُفتح إلى العلن بعد أن تحين اللحظة الأخيرة، لكنها ليست أى حبر، وليست أى ورق.. هى آخر الكلمات، صوت الراحلين بعد أن يغيبوا، أحلامهم ومطالبهم وأمنياتهم وهم فى العالم الآخر.. الوصية آخر الكلام، وأصدقه!
فى وصية الأستاذ هيكل تعددت الرسائل، وتنوعت المطالب، وكثرت فيها أفكار «هيكل» ورؤاه، ليست عن مسارح السياسة والصحافة والحكم، بقدر ما هى عن الحياة بكل ما فيها، والدنيا بكل ما فيها، والعالم الآخر أيضاً، عالم ما بعد الموت، أو بعد ما وصفه «هيكل» بـ«لحظة النوم العميق».
فى السطور التالية، نستكمل رحلتنا مع وصية «هيكل» فى الحلقة الثانية.
المكان: حجرة المكتبة بالمنزل الريفى فى برقاش
اليوم: الخامس والعشرون من سبتمبر 1997
فى العاشرة وأربعين دقيقة من صباح ذلك اليوم بدأ فى كتابة وصية العمر، وحيداً فى برقاش، لا يصاحبه إلا أنغام بيانو بيتهوفن وحفيف الأشجار المتسلل من خارج الحجرة. فى النصف الأول من الوصية تحدّث بلغة شاعر إلى «هدايت»، الزوجة والحبيبة. وتحدّث بلغة فيلسوف من فلاسفة ما وراء الطبيعة عن الموت الذى وصفه بلحظة النوم العميق، وعن الحياة التى سوف تستمر بعد أن تحين هذه اللحظة ولن تنقطع.
مرت ساعة تقريباً، اقترب العقرب الكبير من الثانية عشرة ظهراً، الآن يمضى «هيكل» إلى مساحات أخرى يريد أن يوردها فى وصيته، لم يكن متخيلاً أن تخلو وصية الأستاذ من حديث منفرد ومتفرّد عن عاصمة قلبه، برقاش.. البيت والمكتبة والمزرعة. المكان الآثر الذى استقبل فيه جمال عبدالناصر أكثر من مرة، وجلس فيه مع أنور السادات مراراً، وزاره قادة سياسيون من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، من بينهم ياسر عرفات القائد الفلسطينى، الذى أقام فى المنزل ثلاثة أيام، وتشى جيفارا القائد الكوبى الذى دعا هيكل إلى الحديث معاً فى أكثر الأماكن المحبّبة إلى قلبه، فاختار أن يكون الحديث فى بيت برقاش.
لمنزل برقاش قصة قديمة، بدأت عندما حصل «هيكل» على مكافأة نهاية الخدمة من صحيفة «أخبار اليوم» بقيمة 7442 جنيهاً نظير عمل استمر 11 سنة بالصحيفة. فكّر الأستاذ أن يضع هذا المبلغ فى مجموعة أسهم بإحدى الشركات الوطنية حينذاك، لكن المحامى ريمون شميل، عضو مجلس إدارة «الأهرام» ومستشارها القانونى فى ذلك الوقت، عرض عليه أن يبيع له مزرعته فى برقاش، لأنه سوف يغادر مصر قريباً. تردّد الأستاذ فى بادئ الأمر، شاور زوجته «هدايت»، ثم قررا معاً معاينة المزرعة التى تقع بين قطع أرض زراعية وتحاوطها أجواء الريف برائحته ونسائم هوائه من كل اتجاه. فور وصول «هيكل» إلى هناك قرّر شراء قطعة الأرض بالمنزل الذى عليها، حسبما حكت لى السيدة هدايت تيمور، قالت: «وقع فى غرام البيت والمكان من أول لحظة، وقرّر أن تتم عملية الشراء».
طلب «شميل» عشرة آلاف جنيه نظير البيع، استطاع «هيكل» من خلال مكافأة نهاية الخدمة أن يُسدّد قيمة القسط الأول بقيمة 5 آلاف جنيه، ثم سدّد فى وقت لاحق القسط الثانى بقيمة مماثلة. تحوّلت برقاش منذ تلك اللحظة حتى اليوم الأخير مستقر روحه ونافذة خياله، كان يقيم فى منزله بالجيزة خمسة أيام من الأسبوع، ثم يقضى الخميس والجمعة بين الورود والمكتبة ونسيم هواء برقاش.
اختلط حبه لبرقاش مع حبه لزوجته وخاطب «هدايت» قائلاً: «كل شىء فى برقاش يشير إليكِ.. جعلتِ من برقاش لوحة حية من جمال الطبيعة»«هدايت» وبرقاش.. حب الحبيبة وحب المكان
فى الوصية، كانت برقاش حاضرة، هناك اختار أن يكتب فيها ويكتب عنها. يمتزج حبه لبرقاش مع حبه لزوجته، فيخاطبها على أوراق الوصية قائلاً:
«كل شىء فى برقاش يشير إليكِ». ويقول أيضاً: «جعلتِ من برقاش لوحة حية من جمال الطبيعة». كان «هيكل» شديد الإعجاب بالطبيعة فى برقاش، كان يحفظ أنواع الأشجار والنخيل التى تحيط بالبيت والمكتبة والمكتب من كل اتجاه، خصّص فقرة كاملة داخل الوصية ليُعدّد تلك الأنواع، فأشار إلى حبه لأشجار الأكاسيا، والجاكرندا، والفيكس، والسرو، وحديقة الصبار، ونباتات البوجنفيليا ذات الأوراق الأرجوانية والبرتقالية والحمراء المعروفة باسم «الشجرة الجهنمية»، وكان «هيكل» لا يحب هذا الوصف أبداً، حسبما أخبرتنى السيدة هدايت تيمور، فكان لا يستخدمه، ويصحّحه لأى شخص يقوم باستخدامه لوصف هذا النوع من النباتات. ويقول دائماً إنها جزء من الطبيعة الجميلة، لا يجب وصفها بهذا الوصف، الذى يستدعى إلى الأذهان أهوال النار والعذاب.
ينتقل الأستاذ من المكان إلى صانعة هذا المكان، الزوجة والحبيبة، يواصل قائلاً:
«أنتِ تعرفين حبى لكِ وإعجابى بكِ وغرامى.
تعرفين أيضاً أن أشواقى إليكِ كانت دائمة مشدودة إليكِ باستمرار،
لكننى فى هذه الحالة -حالة النوم العميق- لا أريد لأشواقى أن تناديكِ،
وإنما أريدك أن تأوى عنى -لأول مرة- قدر ما تستطيعين.
لكن أدعو الله أن تطول أشواقى إليكِ.
أريدك أن تعيشى حياتك بعدى وأن تسعدى فتلك -إذا علمتِ- إضافة إلى عمرى،
ولتكن حياتك آمنة راضية ومطمئنة بمقدار ما أردت دعمك معك،
وأن تكون كذلك من غيرى.
أريدك سعيدة دائماً. عزيزة دائماً. غالية دائماً.
خذى وقتكِ إذن.. ثم وعلى مهلك تعالى إلى جانبى».
خدمة المهنة.. خدمة الوطن.. خدمة الأمة
ربما انتظر فى هذه اللحظة قليلاً، ترك قلمه دقائق، انعطف به الفكر من المستقبل إلى سنوات الماضى.. الإشراق والغليان، الصحافة والسياسة، الحرب والدبلوماسية، السلطة والمعارضة، بدايات العمر ونهايات الرحلة. أمسك قلمه من جديد ليكتب فى جزء آخر على أوراق الوصية عن كل هذا الطريق الطويل والشاق، عن 74 عاماً خلف ظهره فى تلك الساعة، عن تجارب واسعة فى مصر والمنطقة والعالم بأسره خلال حياة مديدة وصفها بـ«شلالات الماء وسط الصخور عند أعالى التلال»، فواصل الكتابة:
رسم حياته فى صورة «شلالات الماء وسط الصخور».. وقال عنها: أنا فخور بكل محطة بما فى ذلك تلك اللحظات الصعبة التى مارست فيها حق الاختيار«هدايت
لقد عِشت حياة أعتقد أنها كانت خصبة ونافعة،
نشيطة ومتدفّقة وفوّارة،
تذكرنى وأنا -ولا أعرف لماذا- بشلالات الماء وسط الصخور عند أعالى التل.
وأنا فخور بكل محطة فى حياتى،
بما فى ذلك تلك اللحظات الصعبة التى مارست فيها حق الاختيار واستعدادى لتكاليف وقبولى لمخاطر.
وصف جمال عبدالناصر بـ«الصديق الحبيب» واختتم كلماته بالدعاء لزوجته وأولاده وأحفادهوأنا راضٍ بما أديت من دور فى خدمة المهنة.. وفى خدمة الوطن.. وفى خدمة الأمة».
جمال عبدالناصر.. خصوصية الصديق الحبيب!
يستقر جمال عبدالناصر فى موضع كبير من عقل «هيكل» وقلبه. علاقتهما لم تكن علاقة رئيس جمهورية برئيس تحرير، ولا علاقة زعيم سياسى صاحب مشروع قومى بكاتب صحفى لامع صاحب قدرة على التحليل والتأثير، ولا هى علاقة تبادلية بين القوة والمعلومة.. السلطة والمعرفة.. الفُتُوة والخيال. ما بين الرجلين كان أكبر من كل ذلك. التقيا أول مرة فى الفلوجة خلال حرب فلسطين، كان «عبدالناصر» يحارب هناك ضمن القوات المصرية، وكان «هيكل» يستقصى ويحقّق ويحلل ويجمع المعلومات. من لقاء الفلوجة الأول عام 1948 إلى مشهد الوداع الأخير عام 1970، كان كل شىء، كل شىء، بين الرجلين.. وحدة المشروع، ووحدة الهدف، ووحدة الصف، ووحدة المشاعر الإنسانية التى جمعتهما إلى الدرجة التى دفعت «هيكل» لأن يقول أمام الجثمان المسجى لجمال عبدالناصر فى لحظة نومه العميق: «كيف رحل جمال.. ولم أرحل معه؟».
ظل «هيكل» وفياً لـ«عبدالناصر»، الحاكم والإنسان، حتى بعد وفاته. لم تتغير المواقف ولم تتبدّل الكلمات. فى سبعينات الرئيس أنور السادات أصدر كتابه «لمصر لا لعبدالناصر» يدافع فيه عن الخمسينات والستينات أمام ما وصفه بـ«الحملة الجائرة». لآخر يوم فى حياته ظل متمسّكاً بالمواقف نفسها، مع إشاراته الدائمة إلى أن تجربة «عبدالناصر» تجربة إنسانية وليست أسطورة، وأنها ليست فوق النقد، ولا أكبر من التقييم ولا خالية من الأخطاء. لكن لا يجب -وفق «هيكل»- إهالة التراب على التجربة بالكامل بإيجابياتها الكثيرة وأخطائها الواردة.
كان جمال عبدالناصر استثناءً فى حياة «هيكل»، وكان أيضاً استثناءً فى وصيته. فهو الاسم الوحيد، من خارج العائلة، ومن دوائر المجال العام فى مصر، سواء سياسية أو صحافة أو تاريخ، الذى أورد اسمه فى الوصية، مسبوقاً بصفات دقيقة تعبّر عن مدى العمق فى العلاقة، على مستوى العقل، أو على مستوى العاطفة. يقول «هيكل» فى الصفحة التاسعة قبل الأخيرة من الوصية:
«ثم إننى سعيد أن الظروف أتاحت أن أشارك وأعيش
سنوات الإشراق فى المشروع القومى العربى
الذى قاده ذلك الصديق
الحبيب إلى قلبى
والأثير عندى
جمال عبدالناصر».
الوصية كمكان للعاطفة.. وليس مساحة للعقل
فى كتاباته وكتبه وأحاديثه على مدار عقود، حرص الأستاذ هيكل على التطرّق إلى جمال عبدالناصر من مساحة العقل وليس العاطفة، التطرّق إليه كرئيس وسياسى صاحب مشروع، وليس كصديق أو رفيق أو حبيب. حتى إنه فى أول مقال كتبه بعد وفاة «عبدالناصر»، ومصر والأمة العربية تتّشح بالأحزان، والعواطف تطغى على كل شىء، حرص «هيكل» على أن يكون عقلانياً إلى أقرب الحدود، وأن يبتعد عن العاطفة إلى أبعد الحدود، فكتب مقاله فى عمود «بصراحة» تحت عنوان «عبدالناصر ليس أسطورة».
يقول «هيكل» فى المقال الذى كتبه فى أربعين عبدالناصر: «ليس من حق أحد بيننا، أن تراوده -على نحو أو آخر، بقصد أو بغير قصد- فكرة تحويل جمال عبدالناصر إلى أسطورة. إن الحب الزائد له، والحزن الزائد عليه -وكلاهما فى موضعه- يمكن لهما أن يدفعا بالذكرى دون أن نشعر إلى ضباب الأساطير». ثم يؤكد من جديد فى موضع آخر: «ليس من حق أحد بعد الرحيل أن يجعل منه إلهاً معبوداً فى هرم آخر على أرض مصر. إن جمال عبدالناصر لا يُسعده أبداً أن يجد نفسه تمثالاً شاهقاً من الحجر، وإنما يسعده أن يظل دائماً مثالاً نابضاً للإنسان».
كانت هذه واحدة من أكثر المرات التى لو حضرت فيها العاطفة، ما طاله اللوم. فلم تمر سوى أسابيع على الرحيل ولا تزال الأحزان ساكنة كل القلوب والبيوت. لكن ومع ذلك حرص «هيكل» لنفسه على مكانة الكاتب الناصح بموضوعية دون عواطف، وحرص لجمال عبدالناصر على مكانة الرئيس الراحل دون أساطير، ولا أسراب من الخيال. استمر على هذا العهد طوال حياته. إلا أنه فى الوصية، ولأول مرة فى كتابات «هيكل»، بدا الحديث عن «عبدالناصر» مختلفاً، عاطفياً أكثر منه موضوعياً، يميل للقلب أكثر من العقل، فهو جمال عبدالناصر -حسب الوصية- «الصديق» و«الحبيب» و«الأثير» إلى القلب.. قبل أى شىء آخر، وبعد أى شىء آخر.
ليست العاطفة خَصماً من العقل ولا تقليلاً من الإنجاز.. فكل إنجاز للبشرية حقّقه العقل، ما كان ليتحقق لولا وجود العاطفة، حسبما قال فيلسوف المثالية الألمانية جورج فريدريش هيجل.
انتهى من كتابة الوصية على 10 صفحات بعد ساعة و26 دقيقة.. وأنهاها فى السطر الأخير بـ«الحمد لله بلا حدود وبلا نهاية» ثم حفظها فى موضع آمنالحق.. الخير.. الجمال
انتقل «هيكل» إلى الصفحة الأخيرة من الوصية، بدا أنه قال كل شىء فى الصفحات السابقة ولم يبقَ له إلا كلمة أخيرة.. كلمة يصف فيها فصول حياته، ويصف انطباعه عن هذه الحياة. كلمة تصلح لأن تكون شهادة وافية بعد أن تنتهى الرحلة ويصل الجثمان إلى لحظة نومه العميق، وتصلح أيضاً لأن تكون وداعاً أخيراً للزوجة والأبناء والأحفاد، ولكل من اقترب إلى «هيكل» أو قرأ له أو سمع منه. يقول الأستاذ فى الصفحة الأخيرة من الوصية، وهو لا يزال يخاطب الزوجة والحبيبة هدايت:
«تلك فصول من قصة بدأت قبل أن تحضرى،
لكن مجيئك كان محطة فارقة فى حياتى،
ولقد عشناها معاً سنين طويلة وتجربة عريضة
تبحث عن الحق والخير والجمال فى هذا الكون بطوله وعرضه.
إن الدنيا يا حبيبتى كانت كريمة معى،
وقد أعطتنى أكثر مما حلمت به وربما أكثر مما أستحقه.
وكان أكرم ما أعطته الدنيا.. أنتِ.
وعندما أذهب للنوم العميق الآن بعد حياة طويلة
فإن الزمن الذى عشته كان جميلاً بكل أحواله وأشكاله،
وأشهد أمامكِ وأمام الكل أن الدنيا والزمن لم يتركا لى سبباً
كى أنظر الآن ورائى فى أسى أو فى ندم أو فى غضب».
فى كل سطور الوصية طغت فكرة التصالح مع كل شىء، التصالح مع قرار الحب والزواج والأسرة، التصالح مع اختيارات السياسة وتكاليفها، التصالح مع المشروع ومع الصديق، التصالح مع الموت الذى هو استمرار للحياة، التصالح مع الدنيا والزمن، والتجربة العريضة التى لا يحمل تجاهها أى مشاعر بالأسى أو الندم أو الغضب.
وصايا ومذكرات القادة والأدباء والكُتّاب لا تخلو من مراجعة أو تعبير عن ندم أو إبداء جملة اعتراضية على الرحلة التى انقضت، لكن وصية «هيكل» خلت تماماً من ذلك، بدأت بالحب وانتهت بالحب، وبين البداية والنهاية سطور من التصالح مع التجربة والحياة والموت أيضاً.
يواصل «هيكل» وداعه فى أسطر أخيرة تحمل السلام وحُسن الدعاء، قائلاً:
«رعاكِ الله يا حبيبتى،
ورعى أبناءنا الثلاثة: على وأحمد وحسن،
ورعى زوجاتهم،
ورعى أبناءهم جميعاً.
رعاك الله يا حبيبتى ورعاهم..
سلمتِ وسلموا..
سعدتِ وسعدوا
وسلامٌ عليكِ وعليهم،
وحمداً لله كثيراً..
بلا حدود، وبلا نهاية.
محمد حسنين هيكل»
انتهت الوصية عند هنا، الحمد بلا حدود، والحمد بلا نهاية. ثم دوّن «هيكل» التاريخ باليوم والساعة والدقيقة، انطلاقاً من دقة الصحفى وحرص المؤرخ وانضباط رجل الوثائق الأول فى مصر والمنطقة، وهى معانٍ لازمته طوال حياته ولا تغب لحظة كتابة الوصية.
بين الكلمة الأولى التى وضعها على غلاف الوصية «هدايت» إلى الكلمة الأخيرة التى وضعها فى نهاية الصفحة العاشرة «بلا حدود وبلا نهاية»، احتاج الأستاذ هيكل إلى ساعة وست وعشرين دقيقة لكتابة تلك الوصية التى بدأها فى العاشرة وأربعين دقيقة بالضبط، وانتهى منها عند الساعة الثانية عشرة وست دقائق.
حرص على الإشارة إلى أسماء الأشجار والنباتات التى زيّنت حدائق برقاش منها «الأكاسيا.. الجاكرندا».. ورفض وصف نباتات البوجنفيليا بـ«الجهنمية»كانت موسيقى بيتهوفن لا تزال تسبح بين أرجاء الحجرة، وكانت الشمس ساطعة تمر أشعتها من النافذة المطلة على حديقة الورد بالخارج، ويمر معها حفيف الأشجار وتغريد العصافير وهديل الحمام.
وضع «هيكل» قلمه، رتّبَ أوراقه، رقّمها من 1 إلى 10، ثم وضعها فى ظرف آمن، داخل موضع آمن، ولم تخرج إلى النور منذ سبتمبر 1997 إلا بعد أن حانت لحظة النوم العميق فى فبراير 2016، ولم يطلع عليها حينذاك إلا الزوجة والأبناء وحدهم.
فى تلك الساعة، بعد الانتهاء من كتابة الوصية، ربما أخذ نفساً عميقاً لتمتلئ رئتاه بهواء الخريف الرطب. ربما أنفث شيئاً من دخان سيجار الظهيرة المصنوع فى إحدى الجزر الكوبية، ربما قطع خطوات نحو حديقة «بيت ورد»، التى تتوسطها برجولة يستظل فيها من الشمس وينعم تحتها باسترخاء وسط كل هذه الزهور والورود والأشجار والنخيل والحشائش والنباتات، وبالقرب من بركة الماء الصغيرة، وهو يتأمل تجربة وصفها بأنها «عمر من الكتب».
فى حديث من أحاديثه، قال «هيكل»: «لم أترك ما مر أمامى يضيع.. وإنما حاولت أن أسجّله موثقاً».
على نحو ما، تعتبر هذه الوصية تسجيلاً موثقاً لجانب كبير ومختلف وغير مرئى من حياة رجل لم يعِش ليروى فحسب، كما قال الروائى الكولومبى العالمى جبرائيل جارثيا ماركيز، وإنما عاش ليروى ويشارك ويصنع ويكون شاهداً على الأحداث، وجزءاً منها أيضاً.
رجل كان ملء الأسماع والأبصار فى حياته..
ويرفض أن يغيب، حتى بعد لحظة النوم العميق!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: هيكل جمال عبدالناصر الأستاذ جمال عبدالناصر التصالح مع بلا نهایة بلا حدود بعد أن کل شىء
إقرأ أيضاً:
وصية القزاز للمعارضة المصرية.. حوار وطني جامع
قبل ساعات قليلة من وفاته يوم الأربعاء الماضي 18 كانون الأول/ ديسمبر 2024، حرص الأكاديمي والسياسي المصري يحيي القزاز على توجيه وصية سياسية لرفاق دربه من القوى السياسية في مصر، وخص بالرسالة الحركة المدنية الديمقراطية، لكنه أرسلها بشكل منفرد أيضا إلى العديد من أصدقائه لعلها تجد صدى، وقد كانت بمثابة النداء الأخير منه للمعارضة المصرية للمسارعة بعقد حوار وطني جامع على قاعدتي المواطنة والدولة المدنية.
كان القزاز سياسيا وأكاديميا مصريا صعب المراس، قضى حياته مناضلا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، شارك في تأسيس حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وفي تأسيس حركة كفاية، وكذا في تأسيس حركة تمرد التي كانت الواجهة الشبابية المدنية للجيش للانقلاب على الرئيس محمد مرسي رحمه الله، لكنه اختلف مع السلطة الجديدة عقب تفريطها في جزيرتي تيران وصنافير، ثم فشلها في إدارة أزمة سد النهضة الأثيوبي، وأصبح واحدا من ألد خصومها. ودفع ثمنا باهظا لذلك باعتقاله، وفصله من عمله الجامعي، وأخيرا حصار أسرته، ومنع نجله من السفر للعمل في إحدى الدول العربية التي حصل على عقد للعمل فيها، وكذا منع زوجته من السفر لأداء العمرة بطريقة مهينة، ووضع الأسرة عموما على قوائم الاشتباه والمنع من السفر، وهو ما لم يستطع القزاز احتماله، فنقل إلى المستشفى لعدة أيام فارق بعدها الحياة.
الوصية التي أوصى بها القزاز المعارضة المصرية التي انتمى إليها ردحا من الزمن، وكان من أبرز وجوهها، كانت بحق وصية مودع، ظهر ذلك في صياغتها، وفي تفصيلاتها، وقد جاءت عقب سلسلة من التغريدات التي حذر فيها من تصاعد المخاطر على مصر من جميع النواحي
وقد وجه قبل وفاته العديد من الرسائل العلنية للنظام للتوقف عن ملاحقة ومعاقبة أسرته التي لا ذنب لها، بل دعا السيسي مباشرة للقبض عليه واعتقاله شخصيا، أو حتى الأمر باغتياله، بدلا من معاقبة الأسرة.
الوصية التي أوصى بها القزاز المعارضة المصرية التي انتمى إليها ردحا من الزمن، وكان من أبرز وجوهها، كانت بحق وصية مودع، ظهر ذلك في صياغتها، وفي تفصيلاتها، وقد جاءت عقب سلسلة من التغريدات التي حذر فيها من تصاعد المخاطر على مصر من جميع النواحي، وفي آخر تغريدة له قبيل وفاته كتب: "واضح أن السلطة مستمرة في غيها وعنادها، ولم تتعلم شيئا من ماض ولا من حاضر.. الخطر يحيط مصر من جميع الجهات. والحوار من طرف واحد لرأس السلطة هو تقطيع طرق النجاة لمصر وخنقها.. عناد الحكام يدمر الدول لأنهم يملكون سلطة القرار، والشعب يدفع الثمن.. السياسات الحالية تعجل بتدمير الدولة ورحيل السلطة".
حرص القزاز في دعوته على شمولها للجميع، مستشهدا بدعوة المجتمع الدولي لحوار مجتمعي سوري بلا إقصاء بمن في ذلك من قامت الثورة عليهم، ومؤكدا ضرورة أن تكون الدعوة للحوار في مصر بمبادرة وطنية (بيدي لا بيد عمرو)، وأن لا تستثني أحدا إلا من يرفض قاعدتها، وأن يصل الحوار إلى توصيات حقيقية، وتحميل كل طرف مسئوليته. ولم ينس القزاز في نهاية دعوته التنبيه إلى احتمال اعتقال الداعين والمشاركين، لكنه يرى أن هذا الاعتقال نتيجة عمل لإنقاذ الوطن سيكون أفضل من الاعتقال بلا سبب!!
عرفت القزاز رحمه الله مبكرا، وتعمقت علاقتنا في أيام الثورة المصرية، لكننا تباعدنا مع تباعد مواقفنا السياسية، ثم استعدنا علاقتنا الطيبة بعد انتقاله من مربع الدعم إلى مربع المعارضة للنظام. تناقشنا كثيرا حول هموم الوطن، والسعي لإنقاذه، ورغم خصومته الشديدة لجماعة الإخوان المسلمين إلا أنه أقر في نهاية حياته أن الوطن يسعنا جميعا، بل لا نجاح لأي جهد لإنقاذه إلا بمشاركة الجميع بمن فيهم الإخوان، وراح ينشر هذه التوجهات عبر تغريداته على موقع إكس (تويتر سابقا)، حيث لم يكن من رواد فيسبوك، كما حرص على استمرار التواصل معي حتى في لحظات مرضه، وكان من بين ما ناقشناه فكرة الحوار الوطني الجامع التي كتبها في وصيته الأخيرة.
الأجواء مهيأة الآن للبدء في تنفيذ هذا الحوار الجامع على القاعدتين اللتين ذكرها الفقيد في وصيته، وهناك الكثير من الأصوات العاقلة تعالت مؤخرا في هذا الاتجاه، خاصة بعد انتصار الثورة السورية، وتمكنها من الإطاحة بحكم الأسد رغم ما توفر له من حماية عسكرية وأمنية محلية وخارجية
لم تكن الدعوة لحوار وطني شعبي غائبة من قبل، بل تم تنفيذها بالفعل على مستوى المعارضة المصرية في الخارج وبمشاركة من بعض الشخصيات في الداخل، وذلك عقب دعوة السيسي لحوار وطني اقتصر على مكونات تحالف 30 يونيو (ليس جميعها)؟ وقد استمر الحوار الشعبي في الخارج لمدة 17 يوما، (7-24 آب/ أغسطس 2022)، ودارت نقاشاته حول 3 محاور في السياسة والاقتصاد والأمن القومي. وقد تزعّم هذا الحوار الدكتور أيمن نور، والدكتور حلمي الجزار، والدكتور ممدوح حمزة، لكن دعوة يحيي القزاز جاءت من الداخل، حيث يخشى معظم رموز المعارضة المشاركة مع معارضة الخارج تجنبا للملاحقة الأمنية.
والسؤال الآن: هل سيبادر رفاق يحيي القزاز سواء في الحركة المدنية التي وجه لها وصيته أو غيرها من الرموز السياسية لإنفاذ هذه الوصية؟
في اعتقادي أن الأجواء مهيأة الآن للبدء في تنفيذ هذا الحوار الجامع على القاعدتين اللتين ذكرها الفقيد في وصيته، وهناك الكثير من الأصوات العاقلة تعالت مؤخرا في هذا الاتجاه، خاصة بعد انتصار الثورة السورية، وتمكنها من الإطاحة بحكم الأسد رغم ما توفر له من حماية عسكرية وأمنية محلية وخارجية. والجميع الآن سواء داخل الحركة المدنية أو خارجها في اختبار عملي لإنفاذ هذه الوصية، والتي هي فرصة جديدة لإنقاذ الوطن.. رحم الله يحيي القزاز وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
محمد باكوس
لا يفوتني في هذا المقام نعي وطني مصري آخر هو صانع المحتوى محمد باكوس، والذي وافته المنية أمس السبت في العاصمة القطرية الدوحة التي لجأ إليها عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وقدم من خلال شاشة الجزيرة العديد من الأعمال الفنية الساخرة، ليقتصر لاحقا على قناته الشخصية على يوتيوب.
وقد ظل باكوس على اتصال بأصدقائه حتى قبل ساعات قليلة من وفاته، لكن حُرم من لقاء أسرته، التي لم تتمكن حتى من المشاركة في توديع جثمانه.. رحمه الله رحمة واسعة.
x.com/kotbelaraby