القيادة العلمية تحت الميكروسكوب
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
في الثامن عشر من فبراير من عام 2022م، ضجت وسائل الإعلام الأمريكية بخبر استقالة المدير الحادي عشر لمكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا في مجلس الوزراء الرئاسي الأمريكي، والمستشار العلمي للرئيس جو بايدن، جاء ذلك التنحي بعد تسعة أشهر من أدائه القَسَم على أحد أقدم الكتب الدينية، أعلن المستشار اعتذاره، وغادر منصبه على أثر تورطه بشكاوى سوء الإدارة التي وصلت لدرجة التنمر، والسلوك المسيء لفرق العمل، قد تبدو لكم هذه القصة نمطية مثل أية حالة فشل إداري، ولكنها ليست كذلك! هذا المستشار هو البروفيسور إريك ستيفن لاندر عالم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية، وعالم الرياضيات، والمدير المؤسس لمعهد برود بجامعة هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكذلك أستاذ علم أحياء الأنظمة في كلية الطب بجامعة هارفارد، وأستاذ علم الأحياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤسس الفخري لمعهد برود البحثية، وهو زميل «منحة ماك آرثر» العلمية المرموقة، ورائد المبادئ الأساسية لاكتشاف الجينات الكامنة وراء الأمراض البشرية، وأحد القادة الرئيسيين لمشروع الجينوم البشري الدولي، وتكاد تشمل أبحاثه معظم جوانب الجينوم البشري، بما في ذلك الأساس الجيني للأمراض الوراثية، ومرض العصر السرطان، وتاريخ السكان البشري، والحمض النووي الريبوزي الطويل غير المشفر، والطي ثلاثي الأبعاد للجينوم، وأسفرت جهوده البحثية عن تسجيل وإدراج (73) براءة اختراع على مدى تاريخه العلمي الحافل، وقبل منصبه الذي استقال منه تم تعيينه من قِبل الرئيس السابق باراك أوباما في عام 2008 ليشارك في رئاسة مجلس مستشاري الرئيس الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا، الذي يقدم المشورة للبيت الأبيض بشأن مسائل علمية ذات الصلة بالقرارات الكبرى في قطاعات الصحة، والتصنيع، والطاقة، وتقنية الاتصالات، وتكنولوجيا النانو.
هذه القصة تقودنا لأهم سؤال يؤرق المجتمع العلمي والبحثي وهو: هل غفلت مبادئ الإدارة والقيادة عن موضوع «القيادة العلمية»؟ وهل كل عالم أو خبير تقني قادر على قيادة الباحثين في المختبرات، والمكتشفين في معاقل الابتكار، والتطوير التكنولوجي؟ وهل حقًا تختلف إدارة وقيادة المؤسسات العلمية والبحثية عن إدارة المؤسسات العامة والخاصة؟ والسؤال الأكبر الآن هو: هل القيادة العلمية أعقد مما ظن علماء ومفكرو الإدارة من قبل؟ أم أن العلم يقود نفسه بنفسه من خلال الجهات التمويلية، ومؤسسات النشر العلمي التي توجه أولويات البحث العلمي، والاكتشاف، والابتكار في ظل تدويل العلوم؟ في البدء دعوني أستعير بعض القوال الشائعة في مقاربات القيادة، مثل: «إذا قدمت لي عرضًا وتأثرت عاطفيًا، فربما تكون فنانًا رائعًا، أما إذا قمت بنقلي جسديًا من مكان لأخر، فأنت بلا شك حافلة، ولكن إن تمكنت من قيادة الحافلة، والتأثير كفنان في وقت واحد فأنت قائد»، قد تبدو هذه الكلمات وصفًا شاعريًا للقيادة ولكنها واقعية جدًا، القادة هم ذلك النوع من المديرين الذين يمتلكون ميزة الجمع بين التأثير العاطفي الذكي لامتلاك الحلم، واتخاذ الخطوات العملية في تحقيق ذلك الحلم، وهذا ينطبق على كل القادة، ولكن الأمر يتطلب ميزات أخرى إضافية في القيادة العلمية، فالأكاديميون والباحثون والمخترعون استثنائيون في التعلم، وحل المشكلات، والارتقاء إلى مستوى التحديات المعرفية، والمساهمة في إثراء المعارف الإنسانية، وتغيير حياة البشرية بالاختراعات العلمية، ولذلك يجب فهم هذه الخصوصية بشكل أعمق من مجرد إدارة مؤسسة بحثية، أو لجنة علمية، فالقيادة هنا تعني خلق الدافع، والإلهام للعمل، أكثر من مجرد التأكد من أن الفريق العلمي يفعل ما ينبغي أن يفعله، فالبحث العلمي عمل إبداعي، ومعقد، ويحتاج للشغف والفضول، وهو في ذات الوقت هو مجال مليء بالنكسات، والفشل، والضغوطات الخارجية من قبل مؤسسات التمويل، ومن المجتمع المستفيد للجهود البحثية والابتكارية، أما العمل في اللجان العلمية التخصصية، والأكاديمية فهو لا يقل تعقيدًا عن العمل في المراكز البحثية، إذ يتطلب مهارات علمية، وتقنية وإدارية، واجتماعية، وأخلاقية، ودبلوماسية، والقيادة العلمية هنا مسؤولية كبيرة، وقد يكون من الصعب العثور على القادة العلميين المتمكنين، وإن وجدوا فمن النادر الوصول للقيادة الناجحة في معظم الأوقات، وهذا ما يستوجب التوقف عن الاعتماد الكلي على العلماء اللامعين، والمتفوقين من أصحاب الإنجازات العلمية الخارقة لقيادة المؤسسات واللجان العلمية، في المقابل يجب التركيز على بناء القادة العلمين من خارج هذه الهالة البراقة كضرورة قصوى وعاجلة؛ لأن فقدان الموهوبين علميًا وأكاديميًا بسبب سوء الإدارة يلحق خسائر عميقة بالأوساط الأكاديمية، والعلمية، والمجتمع المعرفي كله.
إذن أين تكمن الصعوبة في القيادة العلمية؟ لا توجد إجابة سهلة عن هذا السؤال، ولكن اعتمادًا على القياس، فكما أن القائد الأكاديمي الذي لا يؤمن بأهمية التعليم العالي ليس هو الشخص الأنسب لقيادة جامعة، بالمثل إن قائد مركز الأبحاث الذي لا يرغب حقًا في التفاني للخروج بنتائج بحثية تلبي احتياجات الواقع هو ليس بالضرورة القائد المناسب للمعهد، يتعلق الأمر هنا بمجموعة القيم الجوهرية التي تدعم سياقًا عمليًا يعتمد على عقول وأفكار نخبة من العاملين في العلوم بمختلف فروعها، وهي تستوجب استيفاء أركان القيادة الإدارية في العموم، مثل تعزيز الثقافة الإيجابية من أعلى التقسيمات الإدارية إلى أسفل، وتعزيز روح التعاون، وبناء الثقة المهنية وأعلى درجات أخلاقيات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وخلق مساحة التواصل للجميع، وبالإضافة لهذه الركائز الأساسية للقيادة هناك جوانب خاصة ببيئات العمل البحثي والابتكاري، فنجد أن جزءًا كبيرًا من العمل لا يتطلب إلى القيادة الروتينية، فمجالات العلوم هي من أكثر الميادين ديناميكية، لذلك فإن التوجهات الأساسية والأولويات تتماشى بديهيًا مع الحراك العلمي الدولي، وعلى القائد أن يظهر المنهجية الرشيقة كمهارة قيادية في الاستجابة بكفاءة للاحتياجات المتغيرة، والحفاظ على الأداء المتقدم في بيئات التطوير السريعة، والمساهمة بشكل إيجابي في المشهد الأوسع للعلوم والتكنولوجيا.
إن العمل في المختبرات العلمية، والمراكز البحثية والتطويرية يختلف بشكل جذري عن العمل المكتبي، أو ريادة الأعمال، فكل خطوة تؤثر على بروتوكول العمل، وبالتالي تؤثر على النتائج، وعلى المشهد برمته، ولا يمكن إهمال أدنى تحد ينشأ فيها، بدءاً بعطل صغير في الأنظمة الإلكترونية، أو تغير درجة حرارة الأجهزة والأوساط التي تتم فيها التجارب، وانتهاءً بتحديات المنافسات داخل فرق العمل، فطبيعة العمل في المبادرات البحثية، والتكنولوجية تتطلب الاستفادة من المعارف والمهارات الجماعية، فهي ليست وظائف معزولة يمكن أن يُسند إليها المدير مهام منفصلة، ثم يتم جمع أجزاء العمل، إنما هي نتاج عمل ذهني وفكري، ولذلك فإن القيادة العلمية تتطلب القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، والتحلي بالحزم في تفكيك المنافسات، وسد الانقسامات، وتعزيز أوجه التآزر بمهارة، وتنمية بيئة التعاون المفتوح وتكامل الخبرات، وتحقيق الاتساق في دمج المواهب العلمية المتنوعة والمتعددة، سعيًا وراء خلق نتائج متميزة وشاهدة على قوة الجهد الموحد، من منطلق الحكمة التي تقول: «لكي تصبح ذلك القائد العظيم الذي لا يُنسى، عليك أن تأخذ القطع التي بحوزتك ثم تصنع منها الحياة التي تطمح إليها، بدلاً من البحث عن القطع التي تناسب قالبًا معينًا».
القيادة العلمية تشبه كثيرًا مقاربة الفنان والحافلة، فهي في المجمل قصة إرادة وحلم، ولا بد لهذه القصة أن تحدث التأثير العميق في فريق العمل، فإذا توقفت القصة عن التأثير يفقد الفريق الدافع للعمل، وكذلك على هذه القصة أن تمتلك مقومات التحقق، وإذا توقفت القصة عن تحريك الفريق يتعذر الانتقال من الفكرة إلى الواقع، وبذلك يفقد القائد النتائج، ويفقد متابعيه، من أجل ذلك يجب النظر إلى القيادة العلمية بعيدًا عن محدودية أغلب النماذج الأكاديمية، وعن النظرة التقليدية النمطية للقيادة التي تدور حول الإدارة الدقيقة والتفصيلية، فالقائد العلمي لا يحتاج؛ لأن يكون عالمًا عظيمًا حتى يقود مركزًا بحثيًا، أو لجنة علمية استشارية، هو يحتاج لثلاثة مفاهيم وهي الرؤية، والاستراتيجية، والالتزام، وتعززها قوة إلهام الآخرين لتبني الرؤية وتحقيقها، بدلاً من إعطاء الأوامر، والتوجيه المباشر، مع السعي الدؤوب لخلق الفهم المشترك، وتجنب الوقوع في فخ الغرور بعد نيل الإنجازات العلمية الباهرة، والتظاهر بالكمال، بل الإدراك بوعي كامل أن الطريق إلى الإنجاز ينطوي على التعلم من الأخطاء السابقة دون إلقاء اللوم، وإنما بالالتزام نحو الهدف باعتدال، وذلك بالاحتفاء بقصص النجاح، وخلق مساحة لمناقشة الإخفاقات، وتجديد بناء الثقة، والشغف، والعزيمة للتعلم، والتطور مدى الحياة، إن جوهر القيادة العلمية وهو إدراك قُدسيَّة العلم، وأهمية المعرفة، والعمل كمحفز لزيادة رصيد المعرفة والابتكار، وسد الفجوة القيادية التي خلفتها تعقيدات المشهد التكنولوجي المتطور بإرساء صفات وسمات تؤسس للأجيال المستقبلية، وتثمن الخبرة، والقدرة على التكيف، والتواضع، والقيادة الأخلاقية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلمیة ا هذه القصة العمل فی
إقرأ أيضاً:
الجلسة العلمية الثانية بمؤتمر الإفتاء تناقش التحديات وطرائق الفتوى ودَورها في حماية الأمن الفكري
شهد اليوم الثاني من فعاليات ندوة دار الإفتاء الدولية الأولى انعقاد الجلسة العلمية الثانية، تحت عنوان "حماية الأمن الفكري: التحديات وطرائق الفتوى في المواجهة"، بكلمة لرئيس الجلسة الدكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء، والتي استهلَّها بتوجيه الشكر إلى الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد، مفتي الجمهورية، على رعايته للندوة، مثنيًا على الجهود الكبيرة التي تبذلها دار الإفتاء المصرية في التصدي لقضايا العصر وتعزيز الأمن الفكري.
وأشاد الدكتور شومان بالنجاح اللافت الذي حقَّقته الندوة في يومها الأول، والذي كان حافلًا بالأنشطة والنقاشات العلمية الثرية؛ مما يعكس مدى جِديَّة العلماء المشاركين وقدرتهم على الالتزام بالمواعيد المحددة لتقديم رؤاهم الفكرية بأسلوب علمي ومنهجي.
كما رحَّب بالحضور الكريم، مؤكدًا أهمية هذه اللقاءات العلمية في التصدِّي للتحديات الفكرية التي تواجه المجتمع.
وأكَّد أن هذه الندوة تمثِّل منصة علمية رائدة لتعزيز قيم الحوار والانفتاح الفكري، بما يسهم في تقديم طرائق فتوى فعالة لمواجهة القضايا الملحَّة في مجتمعاتنا.
وتحت عنوان "الفتوى وتحقيق الأمن الفكري"، قدم د. إبراهيم ليتوس، مدير الأكاديمية الأوروبية للتنمية والبحث في بلجيكا، مداخلة في الجلسة العلمية الثانية استعرض فيها بحثه بعنوان "الفتوى في المجتمع الأوروبي: ما لها وما عليها - بلجيكا أنموذجًا" وبيَّن العديد من القضايا الهامة المتعلقة بتحديات الفتوى وتأثيرها على الأمن الفكري.
وأكد د. ليتوس أنَّ "تزايد أعداد المسلمين في أوروبا يعكس الحاجة الملحة إلى فتاوى صحيحة تساعد المجتمعات المسلمة في التعامل مع القضايا اليومية والنوازل". مشددًا على أن "الفتوى داخل هذه المجتمعات تختلف تمامًا عن تلك الموجودة في العالم الإسلامي، حيث تعتبر الفتوى في السياق الأوروبي مؤسسة قائمة بذاتها ذات تأثير كبير على الأفراد والمجتمعات".
وأشار ليتوس إلى "العلاقة الجدلية بين السلطة العلمية الدينية والسلطة السياسية"، موضحًا أن "الفتوى لها دَور حسَّاس في كيفية التفاعل مع القوانين الوطنية والمجتمعات المحلية". كما تناول التحديات التي تواجه الفتوى في أوروبا، حيث أشار إلى "تغليب التدين الفردي" و"طبيعة المؤسسات الدينية في بيئة علمانية"، مؤكدًا على أهمية الفتوى كآلية لضبط العمل الإسلامي وتعزيز الأمن الفكري.
وأضاف د. إبراهيم ليتوس: "إن الأمن الفكري يعد من الأبعاد الاستراتيجية للأمن القومي والوطني، ويعتبر وسيلة مهمة للحفاظ على السلم الاجتماعي". وذكر أن "المجالس الإفتائية مسؤولة عن تعزيز هذا الأمن من خلال تقديم فتاوى عصرية وبحوث رصينة، تساهم في تقديم إجابات للمتدينين والناشئة وتساعد على ترسيخ ثقافة الحوار والتسامح".
كما أشار إلى ضرورة تزويد الفكر بالمعرفة الصحيحة كوسيلة لمواجهة التطرف، حيث قال: "الأمن الفكري يتطلب منا توفير معلومات دقيقة وصحيحة، فالجهل هو بيئة خصبة لتنامي الأفكار المتطرفة". وخلص إلى أن "تعزيز المناعة الفكرية يعد من أولويات دور وهيئات الإفتاء في إصلاح الخطاب الديني".
وفي ختام كلمته، ثمَّن مدير الأكاديمية الأوروبية للتنمية والبحث في بلجيكا جهودَ دار الإفتاء المصرية في تنظيم هذه الندوة، معبرًا عن اعتقاده بأنَّ مثل هذه الفعاليات تُسهم في تعزيز الفهم الصحيح للإسلام وتحقيق الأمن الفكري في المجتمعات الأوروبية.
فيما أكدت الأستاذة الدكتورة نهلة الصعيدي، مستشارة شيخ الأزهر لشؤون الوافدين، خلال كلمتها في الجلسة العلمية الثانية، أن الفتوى تمثل أداة استراتيجية لتحصين الأمن الفكري في مواجهة التحديات المعاصرة.
وأشارت إلى أهمية الفتوى كأداة لحماية العقول وضبطها وَفْقَ المقاصد الشرعية، حيث اعتبرت أن الفتوى ليست مجرد حكم فقهي، بل هي رؤية شاملة تعالج القضايا الفكرية والاجتماعية، وتواجه الأفكار المضللة التي تهدد النسيج المجتمعي.
وذكرت مستشارة شيخ الأزهر لشؤون الوافدين أنَّ الأمن الفكري أصبح ضرورة استراتيجية تمسُّ كيان الأمة واستقرارها، مشيرة إلى أن الأفكار، مهما كانت بسيطة، قد تحمل في طياتها بذور بناء الحضارات أو معاول هدمها. وقالت د. نهلة: إن الفتوى تُعَدُّ مؤسسة فكرية تعمل على تحقيق التوازن بين النصوص الشرعية ومتطلبات الواقع المتغير، مُستندة إلى قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
كما تناولت مجموعة من التحديات الفكرية المعاصرة التي تواجه المجتمعات، مثل التطرف الفكري والعقائدي، والتوسع في الأفكار الإلحادية، وفقدان الهُوية الإسلامية، وتأثيرات العالم الافتراضي. وأشارت إلى أن التطرف الفكري يمثل أحد أخطر الآفات التي تهدد استقرار المجتمعات، حيث تعتمد الجماعات المتطرفة على تحريف النصوص الشرعية لتبرير أعمالها.
وفي سياق حديثها عن آليات الفتوى، أكدت د. نهلة الصعيدي على ضرورة إعادة تأصيل المنهج الإفتائي، بحيث يُبنى على منهجية راسخة تجمع بين أصالة النصوص الشرعية واستيعاب متغيرات العصر. ودعت إلى توسيع أفق المفتي ليشمل القضايا الاجتماعية والفكرية الحديثة، مع الالتزام بمقاصد الشريعة التي تسعى إلى تحقيق الخير ودفع الضرر.
كما شددت على أهمية التربية الفكرية والوعي الجمعي، مشيرة إلى أن الفتوى يجب أن تشمل توجيه العقول نحو الفهم الصحيح للدين، مُستندة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة".
ختامًا، أكدت د. نهلة على أهمية تطوير الخطاب الإفتائي ليكون أكثر وضوحًا ومرونة، ولديه القدرة على الإقناع. وأشارت إلى أن الفتوى ليست مجرد إجابة شرعية عن تساؤلات الأفراد، بل هي رسالة تحمل في طياتها مقاصد الإصلاح وحماية العقول.
وأضافت أن تطوير المنهج الإفتائي لمواكبة التحولات الفكرية والتقنية يمكن أن يجعل من الفتوى أداة استراتيجية لتحصين الأمن الفكري، وحفظ استقرار المجتمعات، وتحقيق النهضة الفكرية المنشودة.
بينما تناول الأستاذ الدكتور عبد الله مبروك النجار في بحثه "مفهوم الفتوى ودورها في الدفاع عن قضايا الأمة"، خاصة القضية الفلسطينية، تعريف الفتوى، حيث أوضح أنها ليست مجرد إخبار بحكم شرعي غير ملزم، بل هي إعلام للفرد بما يجب عليه فعله شرعًا لإبراء ذمته أمام الله. ويرى أن الفتوى يجب أن تكون قائمة على الرقابة الذاتية للإنسان، حيث ينطلق الامتثال للفتوى من ضمير الفرد وإيمانه بالله؛ ما يعزز الْتزامه بالقيم الشرعية حتى في غياب السلطة الجبرية.
كما تناول في بحثه أيضًا أهمية مرونة الفتوى في التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وشدد على ضرورة أن تتواكب الفتوى مع الواقع وتُعدل وفقًا للزمان والمكان، كذلك أكَّد أن الأحكام الشرعية قد تتغير بتغيُّر الظروف والمستجدات، إذ ما كان مباحًا في وقت سابق قد يصبح محظورًا في وقت لاحق، والعكس صحيح، مما يعكس مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التعامل مع مستجدات الحياة.
وفي المبحث الأول، سلط الدكتور عبد الله النجار الضوء على العلاقة بين الشأن العام والفتوى ودورها في قضايا الأمة، حيث يرى أن الفتوى ينبغي أن تعكس الوعي بالواقع السياسي والاجتماعي للأمة الإسلامية، ويناقش في المبحث الثاني كيفية تطبيق الفتوى في قضايا الأمة، مع التركيز على القضية الفلسطينية، داعيًا الفقهاء والمفتين إلى الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والسياسية عند إصدار الفتاوى المتعلقة بالأمة وحمايتها من الفتن.
في ختام البحث، أكد النجار على ضرورة أن تكون الفتوى ملائمة للزمن والمكان والواقع المعاصر. وأشار إلى أن التحديات الحديثة كالحروب والتقنيات الحديثة تتطلب فتاوى مرنة ومتجددة، كما أكد على أن الفتوى يجب أن تكون أداة لتوجيه المجتمع نحو ما يحقق المصلحة العامة ويحمي القيم الإنسانية والإسلامية، مع ضرورة أن يراعي المفتون التغيرات الكبيرة التي طرأت على العالم.
من جهته أكَّد الدكتور محمد الشحات الجندي أستاذ الشريعة الإسلامية عضو مجمع البحوث الإسلامية، في بحثه بعنوان "جهود الفتوى في الحفاظ على الأمن الفكري والمجتمعي"، تأثير الإلحاد على الأمن الفكري والمجتمعي في عصر المادة، مشيرًا إلى أن سيطرة المال والمادة على مسار الشعوب يخل بمفهوم الإنسان الذي يتكون من بُعدين مادي وروحي. ويؤكد أن التحديات الفكرية التي يواجهها الإنسان، مثل الإلحاد الذي يعزز الفكر المادي والإفراط الحسي، تتطلب دورًا فعَّالًا من مؤسسات الإفتاء في تصحيح المفاهيم الدينية وتوعية المجتمع بخطر هذا الفكر على الهُوية والمعتقد.
وقد ركَّز الجندي على أهمية الفتوى في الحفاظ على الأمن الفكري للأمة الإسلامية، مشيرًا إلى أن الفتوى ليست فقط أداة لحل القضايا الفردية، بل أيضًا لتوجيه المجتمع نحو قيم الإسلام الصحيحة. ويُعتبر الإلحاد تهديدًا مباشرًا للأمن الفكري، حيث يساهم في تشويش المعتقدات وتعميق الهوية الغربية في المجتمعات الإسلامية، مما يؤدي إلى تدهور السلوكيات وتفشِّي الفكر المضلل.
وفي ختام بحثه، شدد الجندي على ضرورة تعزيز الجهود الإفتائية لمكافحة الإلحاد والتصدي له بالمنهج العلمي، وكذلك أهمية تضمين المناهج الدراسية التوعية بمخاطر الإلحاد وآثاره السلبية على الفكر والسلوك، كما أوصى بضرورة تعاون المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي لتفعيل الوعي الديني الصحيح والعمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة، خاصةً بين الشباب، وذلك لحماية الأمة من الانحرافات الفكرية والاجتماعية.
بينما أكَّدت الدكتورة رهام عبد الله سلامة -مديرة مرصد الأزهر لمكافحة التطرف- سعادتها البالغة بالمشاركة في هذه الندوة القيِّمة، معربةً عن شُكرها لفضيلة المفتي وإشادتها بالعمل تحت إدارته، خاصةً من خلال دَورها في المرصد الذي استحدثه شيخ الأزهر عام 2015 للتصدي للأفكار الشاذة والمنحرفة ودعم شؤون الأقليات المسلمة بالعديد من اللغات.
وقد أشارت الدكتورة رهام إلى الجهود المبذولة للتعامل مع الجماعات المتطرفة من خلال ثلاث إدارات متخصصة تركز على رصد أنشطة الجماعات الإرهابية مثل "داعش" وأمثالها عبر منصات التواصل الاجتماعي بمختلف اللغات.
وتناولت في حديثها أبرزَ تهديدات الأمن الفكري، مشيرةً إلى استغلال بعض الجماعات الدينَ لتحقيق مصالحها، ونشر الأخبار الضالة والضارة، والغزو الثقافي الذي يهدد الهوية، مؤكدة أن قلة الوعي والمعلومات كانت سببًا في سقوط آلاف الضحايا على أيدي هذه الجماعات المتطرفة، التي تتَّخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منصةً لبثِّ أفكارها.
وأضافت أن المعركة الحالية هي معركة وعي، وهنا يأتي دَور الأزهر في حماية المجتمع، عبر تقديم استراتيجيات قابلة للتنفيذ وخطط واضحة تُطبق من خلال القنوات الشرعية المختلفة. وأكدت على أهمية دَور المرصد في رصد الأخبار وتحليلها ومراجعتها للوصول إلى محتوى توعوي هادف، مع التركيز على الفئات الأكثر عرضة لهذه الأفكار المتطرفة لتحصينهم منها.
واختتمت حديثها بالتأكيد على استمرار الجهود المبذولة لدعم الأطفال وحمايتهم من خلال برامج التوعية في المدارس، متعهدة بالمُضي قدمًا في هذه المسيرة، قائلة: "سنظل نحمي مجتمعنا وهويتنا الفكرية بإذن الله".
في إطار متصل قال الدكتور محمد عبد السلام أبو خزيم، أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس، إن "استثمار طاقات دار الإفتاء المصرية يعدُّ أمرًا ضروريًّا في التصدي للفتاوى العشوائية، مما يسهم في تعزيز الأمن الفكري والانتماء الوطني."
وأشار الدكتور أبو خزيم إلى الدور البارز الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية عبر تاريخها الطويل في دعم البحث الفقهي وإصدار الفتاوى الرصينة. وأوضح أن "الفتوى ليست مجرد إجابة على سؤال، بل هي عبارة عن عمل علمي يتطلَّب فهمًا عميقًا للنصوص الشرعية ومقاصدها، بالإضافة إلى التفاعل مع المستجدات المعاصرة."
كما أكد على أهمية التصدي للفتاوى العشوائية التي قد تُحدث بلبلة في المجتمع، قائلًا: "إن الفوضى الفكرية التي تنتج عن الفتاوى المغلوطة تؤثر سلبًا على التوازن الفكري والاقتصادي والاجتماعي. ومن هنا تأتي أهمية وجود أمانة الفتوى والإدارات الشرعية القادرة على تحليل الواقع وبيان الرأي الفقهي الصحيح."
وفي سياق حديثه، تناول الدكتور أبو خزيم أهمية "أمانة الفتوى" التي تضم الهيئة العليا لكبار العلماء في دار الإفتاء، والتي تعمل على التصدي للفتاوى الشاذة. وأشار إلى ضرورة وجود اجتهاد جماعي يستند إلى مناهج علمية رصينة في مواجهة الفتاوى المتطرفة.
كما أوضح الدكتور أبو خزيم أن "المؤشر العالمي للفتوى" يمثل آلية فعالة لرصد الفتاوى التي تدعم بناء الإنسان واستقرار المجتمع، ويعكس جهوده في تحليل الفتاوى الرسمية مقارنةً بتلك الفتاوى المتطرفة، مشيرًا إلى أهمية تقديم الفتاوى المرتبطة بقضايا التنمية المستدامة.
علاوة على ذلك، تناول د. أبو خزيم أهمية "إدارة الأبحاث الشرعية" في دار الإفتاء، والتي تقوم بإعداد بحوث تتسم بالدقة والتأصيل، وتسعى للرد على الشبهات التي تُثار حول الإسلام. وأكَّد أن نتاج هذه الأبحاث يسهم بشكل كبير في مواجهة الفتاوى العشوائية.
في ختام كلمته، دعا الدكتور أبو خزيم إلى أهمية تدريب المفتين وتطوير مهاراتهم من خلال برامج تدريبية متخصصة، مشددًا على أن "الإفتاء صناعة تحتاج إلى تأهيل مستمر، مما يساهم في تعزيز كفاءة المفتين وتمكينهم من التعامل مع الأسئلة المعاصرة بشكل صحيح."
كما أكَّد على دور دار الإفتاء المصرية كمرجعية علمية تسعى إلى الحفاظ على الوسطية والاعتدال في الفتوى، والتصدي لأي محاولات تشوه صورة الإسلام وتعكر صفو التعايش السلمي بين أفراد المجتمع.
في إطار ذي شأن تناول الأستاذ الدكتور أنس أبو شادي، أستاذ الفقه المقارن ورئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية الطب بنين جامعة الأزهر، دراسة تأثير الفتاوى الشاذة على الأمن الفكري للمجتمعات، مسلطًا الضوء على خطر هذه الفتاوى التي تخرج عن المسار الطبيعي للفقه الإسلامي. وقد أوضح في بحثه أن الفقه الإسلامي يتميز بالتعددية والمرونة، ولكنه يبين أيضًا أن بعض الفتاوى قد تخرج عن هذا الإطار لتصبح شاذة، مما يهدد الأمن الفكري للأفراد والمجتمعات، ويتضمن البحث دراسة تطبيقية تهدف إلى قياس مدى انتشار الفتاوى الشاذة في المجتمع، خاصة بين فئة الشباب الجامعي، مما يزيد من أهمية التصدي لهذه الظاهرة.
واستعرض البحث معايير الفتاوى الشاذة والباطلة والصحيحة ويحدد الفروق بينها، موضحًا أن الفتاوى الشاذة قد تنحرف عن مقاصد الشريعة الإسلامية، مثل التغيير في الدين أو الإضرار بالمجتمع. يوضح البحث أن هذه الفتاوى قد تهدد الأمن الفكري من خلال نشر أفكار متطرفة، تشكل تهديدًا للهوية الفكرية والعقائدية للمجتمعات.
كما ناقش كيفية تأثير هذه الفتاوى على الفكر العام، ويقدم أمثلة على بعض الفتاوى الشاذة التي قد تكون لها تداعيات خطيرة.
أخيرًا، قدم الدكتور أنس أبو شادي مجموعة من التوصيات لمواجهة هذه الأفكار المتطرفة والفتاوى الشاذة، من أبرز هذه التوصيات: ضرورة تعزيز المناهج الدراسية لمكافحة هذه الأفكار، وإعداد برامج تعليمية مدروسة بعناية للتصدي لها، مع التأكيد على رصد هذه الأفكار بشكل دوري بين الطلاب، كما دعا إلى إنشاء مركز قومي لإعداد المناهج الدراسية الخاصة بمكافحة هذه الأفكار الضارة، مع وضع سياسات متابعة ورصد دقيقة لضمان تأثير فعال في تقليص هذه الأفكار في المجتمع.
وفى كلمته أكد الدكتور محمد أحمد العزازي، أستاذ أصول الفقه بكلية البنات الأزهرية بالعاشر من رمضان، على أهمية دور المفتي كونه يمثل سلطة دينية تخاطب الجماهير بإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية. وأوضح أن علم أصول الفقه يُعد من الأدوات الأساسية التي تعين المفتي على إصدار الفتاوى الصحيحة والملائمة لمتطلبات العصر، حيث يسهم في حماية الفتاوى من الأخطاء والانحرافات.
وأشار إلى أن علم أصول الفقه ينقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية: الأدلة الشرعية، وكيفية الاستدلال بها، وحالة المستدل. وبيَّن أن أي خلل في هذه المحاور الثلاثة قد يؤدي إلى صدور فتاوى شاذة أو غير صحيحة، مما يستدعي ضرورة الالتزام بأسس هذا العلم لضمان اجتهادات صحيحة.
وأضاف د. العزازي أن الجهل بمعايير أصول الفقه يُعتبر من العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى الفتاوى الشاذة. وقدم أمثلة عملية عن بعض الفتاوى التي صدرت نتيجة سوء فهم النصوص أو الإغفال عن مقاصد الشريعة، محذرًا من خطورة الفتاوى التي لا تأخذ في اعتبارها السياق الشرعي أو الظروف المجتمعية الراهنة.
كما تطرَّق إلى الحاجة الملحة إلى تجديد الفكر الفقهي والتأكيد على ضرورة الابتعاد عن الفتاوى التي تتنافى مع مقاصد الشريعة وأهدافها السامية.
وفي ختام كلمته، دعا د. محمد العزازي الحضور إلى ضرورة تعزيز الوعي بعلم أصول الفقه وأثره الإيجابي في استقرار المجتمع وحمايته من الأفكار المتطرفة، مؤكدًا على أهمية دور الفتوى في إرساء دعائم الأمن الفكري.
وفي بحث بعنوان "دَور دار الإفتاء المصرية في تعزيز الأمن الفكري"، أكَّد الأستاذ الدكتور هشام العربي، كبير باحثين بالأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أنَّ قضية الأمن الفكري تعدُّ من القضايا الحيوية في المجتمع، حيث يشكِّل غيابه تهديدًا لأوجه الأمن الأخرى، إذ لا تقتصر الانحرافات الفكرية على الجانب العقائدي فحسب، بل تمتدُّ إلى السلوكيات والتصرفات التي تؤثر على استقرار المجتمع. وفي هذا السياق، تلعب المؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في تعزيز الأمن الفكري، وتأتي دار الإفتاء المصرية في مقدمة هذه المؤسسات نظرًا لدَورها المهم، ليس فقط على المستوى المحلي، بل والعالمي من خلال ترؤسها الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم.
وأضاف العربي أن منهجية دار الإفتاء المصرية في الحفاظ على الأمن الفكري تتمثل في الْتزامها بعدم مخالفة النصوص الشرعية القطعية والإجماع الفقهي، كما تأخذ في الاعتبار المقاصد الشرعية ومراعاة الواقع في إصدار الفتاوى التي تحقق مصالح الناس وتدفع المفاسد، موضحًا أن هذا الالتزام يساعد في ضبط المسار الفكري ويمنع الانحرافات الفكرية التي تهدد استقرار المجتمع، إضافة إلى التيسير على المكلفين والابتعاد عن التضييق عليهم، مما يساهم في تعزيز الفهم الصحيح والتطبيق السليم لأحكام الشريعة.
وفي ختام عرضه أكد أن دار الإفتاء تسهم من خلال فتاواها في تعزيز الأمن الفكري في مجالات عدة، مثل: تعزيز الانتماء الوطني، والتعايش بين المواطنين من مختلف الأديان، وحماية حقوق الإنسان، كما تؤكد على الوسطية والاعتدال، وتحارب الفكر المتطرف، وتروج المعرفة والإبداع، وتدعم الاستقرار والتنمية في المجتمع من خلال تعزيز التعددية السياسية، والموافقة على طاعة ولي الأمر، وتنظيم الأسواق، والضوابط الشرعية في مختلف القضايا المجتمعية.
وفي كلمته أكَّد الأستاذ الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، على أهمية التفاعل العلمي المستمر في مجال الفتوى، مشيدًا بجهود فضيلة المفتي في قيادة حراك علمي يهدف إلى الحفاظ على القيم الشرعية والفقهية.
وأوضح أنه من الضروري إصدار تشريع يجرِّم التجرؤ على الفتوى من قِبل غير المتخصصين، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة قد أصبحت من الآفات التي عمَّت بها البلوى، ويجب على العلماء والمختصين في الفتوى العمل على استصدار تشريعات تجرمها موضحا ان لفتوى ليست مجالًا للعبث أو التصدر من قبل من لا يملكون علمًا كافيًا."
وأشار إلى أن الفتوى لها حدود يجب أن يحترمها الجميع، ويجب على الناس الرجوع إلى أهل العلم المختصين عند الحاجة. وأضاف أن "أهل الذكر هم الذين اشتُهروا بالتخصص في الفقه وعلم الأصول، وليس مجرد من يملك الشهرة."
كما تناول أهمية التبحُّر في اللغة العربية كأداة أساسية للفقهاء، مشيرًا إلى أن "الفقيه لا يمكنه إصدار حكم دقيق إلا إذا كان متمكنًا من اللغة، ولديه فهم جيد للمطلق والمقيد، والعام والخاص، والقدرة على الجمع بين الأدلة الشرعية."
وختم فضيلته كلمته بالتأكيد على ضرورة الاجتهاد والتجديد في الفتوى، مشيرًا إلى أن هذه العملية لا ينبغي أن تعتمد على آراء الأفراد فقط، بل يجب أن تُدار من خلال الهيئات العلمية والمجمعات الفقهية التي تتمتع بالكفاءة والشمولية.
كما وجَّه الأستاذ الدكتور سلامة داود رسالةً حول خطورة الكلمة وأثرها الكبير، مؤكدًا أن "جراحات اللسان لا تلتئم كما جراحات السنان"، مشددًا على ضرورة توخي الحذر في استخدام الكلمات والتصريحات التي تؤذي صاحبها أولًا والمحيطين به ثانيًا.
وفي ختام الجلسة أكد الدكتور محمد الأدهم، مدير إدارة فتاوى المحاكم والمؤسسات بدار الإفتاء المصرية، على أهمية سلامة التفكير كعامل رئيسي في صلاح الكون، مشيرًا إلى أن صلاح الكون أو فساده يتوقف على مدى سلامة تفكير الإنسان الذي يعيش فيه، وأن ضمانة سلامة التفكير تكون عبر "سياج الأمان الأول وهو الوحي".
وأضاف الأدهم أن الشرع الإسلامي لم يقتصر على معالجة سلامة التفكير في العقائد والأخلاق فحسب، بل تناول أيضًا الفقه والأحكام الشرعية والفتاوى. وأوضح أن الفتوى قد ساهمت في ضمان سلامة تفكير أفراد المجتمع، حيث عالجت الأمن الفكري من خلال محورين رئيسيين: وضع معايير لضمان سلامة الفتوى، ومحاربة صور الانحراف في الفتوى.
وأكد د. محمد الأدهم على أهمية "سلامة مصدر الفتوى وصحة الاستدلال به"، مشيرًا إلى دور علوم الإسناد وأصول الفقه في ضمان صحة الفتوى. كما تناول شروط المفتي، موضحًا أن الفتاوى التي تصدر عن غير المؤهلين لها قد تتسبب في "ضياع حقوق وخراب بيوت".
وفي معرض حديثه عن مواجهة الفتوى للانحرافات الفكرية، استعرض مدير إدارة فتاوى المحاكم والمؤسسات بدار الإفتاء بعضَ صور الانحراف الفكري، مثل الأعراف الفاسدة، والتمسك بظواهر النصوص دون فهم مقصودها. كما أكد على دَور دار الإفتاء المصرية في محاربة محاولات التغريب والغزو الفكري، والفتاوى المتطرفة، ومنع ظاهرة التكفير.
واختتم الدكتور محمد الأدهم كلمته بالإشارة إلى أنَّ "دار الإفتاء المصرية تسعى دائمًا لتصحيح المفاهيم وإرساء دعائم الأمن الفكري"، من خلال الفتاوى التي تعالج القضايا الملحَّة في المجتمع، مؤكدًا أهمية هذه الجهود في تعزيز الفكر الصحيح والتعايش السلمي بين جميع أفراد المجتمع.