رحيل أحد شهود اللحظات الأخيرة للحكم العُماني في زنجبار
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
نأسف كثيرًا عندما يرحل عن عالمنا أناسٌ كان لهم دورٌ في الحياة، ويشكلون التاريخ العماني المحكي الذي لم يُكتب، لأنّ مثل هؤلاء هم نواة حقيقية للتأريخ. والعمانيون عامةً هم أكثر الشعوب تجربةً وخبرةً في الحياة، لكنهم أهملوا جانب التوثيق فذهبت تجاربُهم بذهابهم، ولو أنهم وثقوا تلك التجارب لكان لدينا أرشيف كبير، يستلهم الكتاب والمفكرون والمؤرخون منه كتبًا ودراسات وروايات وقصصًا وأشعارًا ومسرحيات وغيرها من فنون الكتابة، لأنّ التجربة في الأساس كانت ثرية، بعد أن مخروا العباب ووصلوا إلى الصين شرقًا وإلى الشرق الأفريقي جنوبًا، ومعظمُ من قام بتلك الرحلات في القرن الأخير قد ذهبوا.
يوم الأحد الماضي الثالث والعشرين من أكتوبر 2023، رحل عن دنيانا المهندس سليمان بن أحمد بن سليمان الريامي، وهو أحدُ شهود اللحظات الأخيرة لسقوط الحكم العُماني في زنجبار، فجر الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، وكان من ضمن ركاب السفينة السلطانية «السيد خليفة» التي أقلت السلطان جمشيد بن عبد الله آخر السلاطين العُمانيين هناك، إلى منفاه.
عرفتُ المهندس سليمان بن أحمد الريامي عن قرب منذ الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كان مساعدًا لمدرب نادي فنجاء الكابتن الشهير سبيل أحمد سبيل، وكانا قد تلازما في وزارة الكهرباء والمياه صباحًا وفي النادي مساءً لفترة طويلة؛ لكني لم أكن أدري خلفياته حتى قرأت كتاب «زنجبار.. شخصيات وأحداث» لناصر بن عبد الله الريامي الذي تناول اللحظات الأخيرة للحكم العُماني وسفر السلطان، وهو أول كتاب عُماني يتناول الموضوع بالتفصيل ووثق شهادات شهود الأعيان بمن فيهم السلطان نفسه؛ فقرأتُ قصة شاب أراد أن يطلق الرصاص على مفوض الشرطة الإنجليزي داخل السفينة؛ وانبهرتُ بالقصة، فسألت الأستاذ محمد بن عبد الله الريامي: من هو هذا الشاب؟! فقال لي: هذا «الكوتش سليمان».
تفاصيل القصة - كما رواها ناصر الريامي في كتابه -، أنّه عند اللحظات التاريخية العصيبة التي كانت فيها السفينة السّلطانية «السيد خليفة»، تبحر على غيرِ هُدى، وعلى متنها آخر سلاطين دولة البوسعيد في زنجبار، وأسرته ومجموعة من الذين تركوا وراءهم كلّ ما يملكون، مؤثرين على ذلك النفاذ بجلودهم من موتٍ أو تنكيلٍ مُحققين، صدر قرارٌ من غرفة العمليات، التي انعقدت على ظهر السفينة، بالتوجه إلى ممباسا، التي كانت قد خرجت من ممتلكات سلطنة زنجبار لمصلحة دولة كينيا المستقلة، قبل تلك الحادثة بثلاثةِ أشهرٍ فقط، وكان هذا هو رأي السلطان، بعد أن رفض بدائل ثلاثة مطروحة، هي: اللجوء إلى الصومال أو إلى مصر أو إلى الجزيرة الشمالية لسلطنة زنجبار المعروفة بجزيرة بيمبا، على الرغم من أنّ غالبية أهل الرأي رجّحوا اللجوء إلى الجزيرة.
وما يهمنا في مقالنا هذا هو أنه قبل لحظات من وصول السفينة السلطانية الشريط الساحلي لكينيا، أصدر جاك سوليفان مُفوّض الشرطة الإنجليزي الذي كان على ظهر السفينةِ نفسها، تعليماته إلى أفراد الشرطة - أثناء الإبحار - أن يجمعوا السلاح من جميع الرّكاب، بحجّة حفظ الأمن والنظام العام. وقد اغتاظ البعض من هذه التعليمات، وترددوا في الامتثال لها؛ حيث شعروا أنها لا تعدو كونها وسيلة من وسائل الإنجليز لفرض السيطرة عليهم وقيادتهم كيفما يشاؤون؛ فنشبت على إثر ذلك مُلاسنةٌ كلامية بين الشاب سليمان بن أحمد الريامي والمفوّض، إذ قال سليمان: «إنّ تلك الأسلحة إنّما هي أسلحة شخصية، وليست ملكًا للدولة؛ كما أنّ المفوّض، لم تعد له أية صفةٍ رسميةٍ تُؤهله، أو تجيز له إصدار توجيهات أو أوامر إليهم». شرَعَ المفوّض في فرض تعليماته وتنفيذها بالقوةِ الجبرية، بأن أمر اثنين من أفرادِه بسحب البندقية منه كُرهًا؛ فما كان من سليمان الذي لم يكن قد بلغ العشرين من عمره، إلاّ أن أشهر البندقية تجاههما، مُهدِّدًا بالقضاء عليهما إذا ما تحرّكا لخطوةٍ أُخرى إلى الأمام؛ كما هدّدهما بلهجةٍ حادة بألاّ يتدخّلا في الأمر.
حاول المفوّض أن يرهبَ الفتى بسطوته التي ولّت، حيث أخذ يرفع صوته، وينعته بأحطّ الصّفات؛ فما كان من الفتى إلّا أن ازداد قلبه تصلبًا وشجاعةً، مُصوّبًا سلاحه تجاهه، قائلًا في ثباتٍ وهدوء أعصاب: خطوة واحدة إلى الأمام وستجد الرصاصة قد استقرت في قلبك؛ مُضيفًا على ذلك وبلهجةٍ حادة ما معناه أنّ أهله وجماعته يُقَتّلون ويُذَبّحون في زنجبار؛ وأنه لذلك لا يهاب الموت، الذي سيوافيهما حتمًا في آنٍ واحد (يقصد نفسه والمفوّض). هنا توقّف المفوّض، بعد أن أحسّ أنّ سليمان الريامي عازمٌ على تنفيذ ما في رأسه؛ فأخذ يُكلّمه باللين والسياسة؛ طالبًا منه ألاّ ينسى أنّ السلطان على متن السفينة، وأنّ مُقتضيات حفظ الأمن والنظام العام تُحتّم نزع السلاح من الجميع. ردّ عليه سليمان قائلًا: «إنهم ما ركبوا السفينة إلا لحماية السلطان؛ وأنه لا مسوغ من نزع السّلاح». وما حصل أنه بعد أخذٍ وعطاء، وتدخُّل كبار السّن لتهدئة الفتى الشجاع، تراجع الأخير عن موقفه، إلاّ أنه آثرَ أن يُلقي السلاح في البحر، ولا أن يُسلّمه للمفوّض.
بعد رحلة طويلة وشاقة عبر البحر وعدة مطارات، استقر السلطان جمشيد وعائلته وحاشيته في بريطانيا، وبعد أيامٍ معدودة من وصولهم لندن، يقول سليمان بن أحمد الريامي إنّ مندوبًا من مكتبِ العمل، زارهم لتسجيل الحِرَف التي يجيدونها، والمجالات التي يمكنهم الخدمة فيها، لتوفير عمل مُناسب لهم؛ فتمّ ذلك بالفعل، وانخرط الشباب في سوق العمل؛ فكانت تلك من بدايات استقرار العُمانيين القادمين من زنجبار في بريطانيا والعيش فيها، وأغلبهم شقوا طريقهم إلى مسقط رأس أجدادهم في سلطنة عُمان في مطلع السبعينيات، وكان منهم المهندس الراحل سليمان بن أحمد الريامي.
طوال معرفتي بالراحل لم يتطرق إلى تلك المأساة، وإن كنتُ ألاحظ عليه بعض الأحيان، لحظات حزن تطغى على محياه، وقد عاش بتلك الروح المتحدية، حتى أنه شارك قبل وفاته - وهو فوق السبعين - في تلك المسيرة المؤيدة للأشقاء الفلسطينيين في غزة، الذين يتعرضون لأبشع أنواع القتل والإجرام الإسرائيلي والعالمي.
يُحسب لناصر الريامي توثيقه الهام لتلك الحقبة وأحداثها، لأنّ التاريخ ليس ملكًا للجيل المعايش لأحداثِه وكَفى؛ وإنما هو للأجيال الآتية بالمقدارِ نفسه، وإذا كنا نأسف لرحيل التاريخ المحكي دون توثيق نقول إنه ما زال هناك أمل لتوثيق قصص وحكايات العُمانيين الذين سافروا إلى أقاصي الدنيا والبحّارة والنواخذة الذين عرفوا البحار والمحيطات، وحكايات العمانيين الذين سكنوا في الخليج؛ فكلّ واحد من هؤلاء هو مشروع تأريخ، ومشروع حكاية ورواية وقصة وقصيدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی زنجبار الع مانی المفو ض کان من
إقرأ أيضاً:
13 جثـ.ـة.. اللحظات الأولى لتصادم سيارة ميكروباص وأخرى نقل بأسيوط| شاهد
حصل موقع صدى البلد الإخباري على مقطع فيديو يوثق اللحظات الأولى لحادث تصادم سيارة ميكروباص وأخرى نقل محملة بالأسمنت والذي أسفر عن مصرع 13 شخصا وإصابة إثنين أخرين بالطريق الزراعي القوصية / اسي.
وانتقل الى موقع الحادث اللواء دكتور هشام أبو النصر محافظ أسيوط وسيارات الإسعاف إلى موقع الحادث يرافقه الدكتور مينا عماد نائب المحافظ، وأسامة سحيم رئيس مركز ومدينة القوصية، وتبين من المعاينة الأولية للحادث وقوع حادث تصادم بين سيارة ميكروباص رقم ( ي ط أ 8351 ) وأخرى نقل رقم (ن ف و 8931 ) محملة بالأسمنت ما أسفر عن مصرع 13 شخص وإصابة اثنين آخرين.
حيث تم نقل إثنين مصابين (عبد الرحيم صلاح محمد ٢٤ سنه، وماجد عزيز إسكندر ٤٢ سنة) إلى مستشفى القوصية المركزي، و7 جثامين إلى مشرحة مستشفى القوصية وهم (إيمان محمد محمدين ٤٠ سنه، وسيد عبد المحسن عبد الوهاب ٤٩ سنه، وكامل محمد كامل ٤٥ سنه، وأحمد محمد عبد الوهاب ١٨ سنه، وبيتر أشرف نبيل ٢٦ سنه، وجثمانين لذكر وأنثى مجهولي الهوية)، و٤ جثامين إلى مشرحة مستشفى منفلوط وهم (أحمد رمضان عطيه رمضان ٣٣ سنه من قرية المنشأة بالقوصية، وعبدالرحيم على سيد عبدالرحيم ٣٤ سنه من قرية النزالي جنوب بالقوصية، وحمدان فرغلي محمدين على هاشم ٧٢ سنة من قرية عرب فزارة، وآخر مجهول الهوية)، و2 آخرين إلى مشرحة مستشفى ديروط المركزي (سعيد أبانوب سعيد ثابت 24 سنة ـ القوصية، وهيثم مكارم محمد توفيق 23 سنة سائق الميكروباص القوصية) تحت تصرف النيابة العامة، كما تم الدفع بأوناش المرور لتسير الحركة المرورية بالطريق الزراعي.
ووجه محافظ أسيوط مديرية التضامن الاجتماعي ورئيس مركز ومدينة القوصية بصرف إعانات عاجلة والتعويضات اللازمة لأسر المتوفيين داعياً المولى عز وجل أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته وأن يلهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان موجهاً بتقديم الرعاية الصحية للمصابين وكافة سبل الدعم والمساعدة متمنياً الشفاء للمصابين.
لمشاهدة الفيديو اضغط هنا