حينما انتقلت إلى برلين، نشأت لديَّ عادة التوقف عن شتولبرشتاين (أي أنصاب «حجارة العثرات» التذكارية) والقراءة عن اليهود الذين أُخرجوا من بيوتهم ونقلوا إلى معسكرات التعذيب. وثمة مبنى في طريقي إلى مترو الأنفاق أخذ منه ستة عشر شخصا. ولكن حجر لوسي هو الذي يثير القشعريرة فيَّ حتى النخاع، لها حجر تذكاري واحد قبالة مبنى هائل، حجر تذكاري صغير.
تنحدر أسرتي من كرواتيا، وبما أننا من غير الكروات فقد تركنا البلد في فترة السعار القومي الذي سادها في مطلع التسعينيات ووصفته الراحلة دوبرافكا أوجريشتش في كتاباتها بالنضال من أجل «هواء كرواتي خالص». بعد التعرض للاضطهاد في كرواتيا منذ أوائل الأربعينيات في القرن العشرين، تمكن جدي من مغادرة معسكر اعتقال ياسينوفاك حيا وهو في الحادية عشرة من العمر، وجدنا أنفسنا في شمال البوسنة والهرسك وهناك كانت الضحية مختلفة، فقد كان جيراننا البوسنيون الذين لا يختلفون عنا إلا بأسمائهم الإسلامية، يتعرضون للذم العلني من كل وسائل الإعلام الصربية تقريبا، أناس كانوا يعيشون بجانبنا ويرسلون أبناءهم إلى مثل مدارسنا ويتحدثون لغتنا، بات يجري تصويرهم بوصفهم من غير البشر فهم جهاديون قد يقتلوننا ونحن نيام، وهم وحوش قد يخلعون أسناننا ويغتصبون نساءنا، سمعت كل هذه القصص وأنا في السادسة من عمري فعرفت كلمة (المجاهدين mujahideen) قبل أن أتعلم الحروف الأبجدية.
تم تدمير المسجد المحلي الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر في بانيا لوكا، بعض زميلاتي غادرن المدرسة ولم يرجعن ولم يقل لنا أحد عنهن أي شيء في الفصل في اليوم التالي. غيَّر البعض أسماءهم إلى أسماء مسيحية، لكنهم ظلوا يتعرضون للتنمر بشكل يومي على أي حال، وعندما بلغت الثامنة من عمري تعلمت كيف أفرّق بين (نحن) و(هم)، لم تعد المعلمة معلمة وإنما هي صربية ولم يعد زميل الدراسة زميل دراسة ولكنه مسلم، والطبيب لم يعد الطبيب فقد أصبحوا الآن الكروات.
لماذا أكتب عن البوسنة بعد ثمانية وعشرين عاما من اتفاق دايتون للسلام؟ لأنه في الحقيقة لا وجود لشيء اسمه السلام بعد تطهير عرقي ولم تزل البوسنة منقسمة انقساما عميقا فلا يستطيع الناس الاتفاق على ما يطلقونه على اللغة التي يتحدثون بها، ومجرمو الحرب من جميع الأطراف يحظون بالتبجيل، وهجرة العقول البوسنية تتزايد كل عام والأطفال المصابون بصدمات نفسية أصبحوا الآن بالغين مصابين بصدمات نفسية، عاجزين عن العثور على عمل أو الحصول على رعاية صحية لائقة.
لقد كتبت رواية مستوحاة من ذكرياتي في بانيا لوكا وتُرجمت إلى لغات مختلفة منها الألمانية، فأدى ذلك إلى حصولي على منحة ثقافية ألمانية، وقد أمضيت حياتي خلال العامين الماضيين في السفر بأرجاء ألمانيا للحديث عن كتابي وعن الشلل الذي لا تزال البوسنة تعاني منه، وفي كل مكان قابلت مستمعين متعاطفين وأناسا متحمسين لقراءة القصص ونشر الكلمة ومد يد العون. لقد تم تصنيفي بوصفي الفتاة البوسنية، كان الأوروبيون البيض المطمئنون يجلسون في الفعاليات الأدبية وهم يهزون رؤوسهم غير مصدقين وأنا أحكي لهم عن التطهير العرقي ويقولون كلما ظهر في إشعاراتهم أثر لهذه الذكرى البوسنية أو تلك إن ذلك لن يتكرر أبدا.
لكن عبارة «لن يتكرر أبدا» عبارة واهنة؛ فالعالم ينسى تماما كما نسي البوسنة، تلك العبارة وأمثالها بليت وهجرت وتظل التكرارات تتوالي بأعداد أكبر وقصص أظلم.
إن قطاع غزة الفقير فعليا بسبب الاحتلال والحصار غير القانوني المستمر منذ ستة عشر عاما، والذي يمثل الأطفال 47% من سكانه، يتعرض لقصف سجادي من أقوى جيش في الشرق الأوسط بمساعدة أقوى الحلفاء في العالم وأكثر من أربعة آلاف وستمائة فلسطيني يرقدون موتى، ويواجه كثيرون آخرون الموت في غياب وقف إطلاق النار؛ لأنهم لا يستطيعون الهروب من القصف أو يفتقرون إلى الماء أو الغذاء أو الكهرباء، ويزعم الجيش الإسرائيلي أن هجومه الذي يجري تصعيده الآن هو «حرب على الإرهاب» ويقول خبراء في الأمم المتحدة إن الهجوم يرقى إلى حد العقاب الجماعي.
هذه كلها حقائق، ومع ذلك فإن مجرد ذكر كلمة «فلسطين» في ألمانيا يعرّض لخطر الاتهام بمعاداة السامية، وأي محاولة لعرض سياق وتبادل لمعلومات حول خلفية الصراع التاريخية يعد محض تبرير لإرهاب حماس.
ولم يقتصر الأمر على قيام الشرطة بإيقاف أو تفريق المسيرات المؤيدة للفلسطينيين، بل أرسلت سيناتور التعليم الألمانية كاتارينا جونتر-فونش أيضا رسالة إلكترونية إلى المدارس تقول فيها: «إن أي سلوك توضيحي أو تعبير عن رأي يمكن فهمه (والإبراز من عندي) باعتباره موافقة على الهجمات التي تعرضت لها إسرائيل أو دعما للمنظمات الإرهابية التي تنفذها، مثل حماس أو حزب الله يمثل تهديدا للسلام المدرسي في الوضع الحالي ومن ثم فهو محظور». بالإضافة إلى حظر الرموز المرتبطة بحماس وأصبحت للمدارس الآن أن تحظر «الرموز والإيماءات وتعبيرات الرأي التي لا تصل إلى حد المسؤولية الجنائية»، فيشمل ذلك الكوفية والعلم الفلسطيني وملصقات وشارات «فلسطين حرة».
ويمتد كبت معارضة قتل المدنيين في غزة ليشمل حتى اليهود فقد قامت الشرطة الألمانية باقتياد امرأة يهودية إسرائيلية في سيارة شرطة في غضون ثوان من رفعها لافتة في إحدى ساحات برلين تدعو إلى إنهاء العنف ثم أطلقت سراحها فيما بعد، وأي شخص يظهر التضامن مع الفلسطينيين يتعرّض للاشتباه تلقائيا في أنه متعاطف ضمنيا مع حماس. ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل تكريم رواية «تفصيل بسيط» للروائية الفلسطينية عدنية شبلي، وألغى مسرح جوركي في برلين عرض مسرحية «الموقف» للمخرجة النمساوية الإسرائيلية يائيل رونين الذي كان مقررا في 23 أكتوبر. وقال محرر مختارات تضم أعمال أربعة وثلاثين شاعرا عربيا منفيا، إن بيت الشعر في برلين ألغى فعالية له.
وقد نصحني البعض من ذوي النوايا الحسنة بأن التعبير عن هذا الرأي قد يؤدي إلى حرماني من حضور الفعاليات والمهرجانات الأدبية، وأن مسيرتي المهنية في ألمانيا -وهي مصدر رزقي طوال العامين الماضيين- ربما تنتهي.
ومع ذلك، في حين يتم كبت الفنانين والكتّاب بسبب معاداتهم المزعومة للسامية، فإن تيارا حقيقيا من النازية الجديدة آخذ في الصعود، مع فوز حزب (البديل من أجل ألمانيا) اليميني المتطرف في الانتخابات المحلية، وطرح السياسيين الكبار لفكرة إبرام صفقات مع هذا الحزب.
ومعرض الكتاب الذي ألغى حفل منح عدنية شبلي الجائزة، واجه انتقادات في السابق لإدراجه دار نشر أنتايوس اليمينية المتطرفة ضمن برنامجه، بحضور أعضاء حزب (البديل من أجل ألمانيا).
إن الدعم الرسمي الثابت من ألمانيا لأفعال الحكومة الإسرائيلية لا يترك مجالا كبيرا للإنسانية، كما أنه يفضي إلى نتائج عكسية، إذ يعمل على نشر الخوف ورهاب الإسلام وأيضا إلى معاداة السامية، فبعد النشأة في ظل الذنب الجماعي بسبب جرائم الحرب النازية يبدو أن العديد من المثقفين الألمان يرحبون تقريبا بالفرصة للتكفير عن خطايا الأجداد وسوف تقع الكفارة بطبيعة الحال على عاتق الأطفال الفلسطينيين.
ومع أن ما سأقوله يجب أن يكون مدرجا في فئة البديهيات، فلم يزل من الضرري تأكيده: تاريخيا، لم يؤد رهاب الإسلام إلا إلى المزيد من الإرهاب، وأستطيع أن أقول لكم بكل يقين -وقد نشأت في البوسنة- إن الحلقة المفرغة لا تنتهي أبدا، فثمة دائما جثة جديدة تستعمل استعمال السلاح.
إن نفاق (المنقذين البيض) - white saviourist - الذي نشهده في ألمانيا اليوم لن يفيد -على المدى البعيد- إلا الألمان البيض فقط، فإما أن تكون ضد الفاشية بشتى أشكالها، أو أنك منافق تدين منظمة إرهابية، وتدين الإرهاب حينما ترتكبه حكومة.
لقد روعتني أفعال حماس وفكرت في ضحاياهم، لكن ليس لدي رأي في ما يفعلونه ولا أوجِّه أيا من ضرائبي لتمويل حماس ولكن بعض ضرائبي تمول قصف غزة، وفي الفترة ما بين 2018 و2022، استوردت إسرائيل أسلحة بقيمة 2.7 مليار دولار من الولايات المتحدة وألمانيا.
إنني أرى بما أنني أعيش في ألمانيا أن من مسؤوليتي الإنسانية أن أنتقد ألمانيا بسبب انحيازها ونفاقها وقبولها للتطهير العرقي في غزة وإنني أتذكر هذه المسؤولية عندما أمشي بالقرب من حجر لوسي كل يوم، أتذكر ما يمكن أن يفعله الصمت وكم يمكن أن تطول سيطرته على مكان وعلى شعب فقد جئت من مكان صامت، وغارق في الدم ولم يخطر لي قط أن أستشعر مثل ذلك الصمت في ألمانيا.
لانا باستاشيتش روائية صدرت لها رواية «اصطد الأرنب».
عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی ألمانیا
إقرأ أيضاً:
نصائح لتجنب الوقوع في أخطاء الشراء قبل الجمعة البيضاء.. احذر هذه الأفعال
ينتظر الكثير من الأشخاص عروض الجمعة البيضاء كل عام، إذ تتنافس فيها المتاجر بعروض جذابة ومميزة، وهناك الكثير من الأشخاص يقعون في أخطاء أو لا يعرفون كيفية الاستفادة من الجمعة البيضاء، لذلك نقدمها لكم في السطور التالية نصائح لمنع الخسارة المالية.
أخطاء تجنبها في الجمعة البيضاءاقترب موعد تخفيضات الجمعة البيضاء 2024، المنتظرة في نهاية شهر نوفمبر الجاري، وهناك خصومات كبيرة سواء على الملابس أو الأجهزة الكهربائية، وهناك بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الناس في الجمعة البيضاء تمنع الاستفادة، ونقدمها لكم وفقًا لسامية عبدالمطلب، خبيرة الاقتصاد المنزلي، وتتمثل في التالي:
يحب بعض الناس الانتظار إلى نهاية الأسبوع أو اليوم في التخفيض حتى تصبح هناك فرصة لتخفيض أكبر، لكن لا يتعين عليك الانتظار للعثور على خصومات، فيجب أن تسرع للحصول عليها، لأنه قد تنفد المنتجات. يحب الكثير من الناس تجنب المبيعات داخل المتاجر وتسوق عبر الإنترنت، في حين أن العديد من الصفقات ستكون متاحة شخصيًا وعبر الإنترنت قد تتعرض إلى الاحتيال، خاصةً إذا كان من أماكن غير معروفة. يصر الكثيرون على التسوق من مكان واحد، على الرغم من أن الشراء من تجار التجزئة المختلفين، يمنح الحصول على أفضل فرص التوفير المتاحة في الجمعة البيضاء. نصائح لأقصى استفادة في الجمعة البيضاءولمنع الوقوع في أخطاء يجب اتباع بعض النصائح التالية، قدمتها لكم «عبد المطلب»، وتتمثل في التالي:
شراء ما تحتاج إليه فقط والاعتدال في ذلك. تحديد المنتجات التي ترغب فيها. تجنب هوس الشراء بسبب أن السلع عليها خصومات بشكل مبالغ فيه. التأكد أن السلع التي تحتوي على علامات تجارية أنها أصلية. العودة للمكان الأصلي صاحب العلامة والتطلع على السعر الحالي. تحديد المنافذ التي ستشتري منها سواء محال أو مواقع إلكترونية. يجب أن تكون موثوقًا بها وغير وهمية. يفضل الابتعاد عن شراء المنتجات الغذائية لعدم ضمان الصلاحية. الاطلاع على فاتورة الشراء جيدًا. مقارنة الأسعار قبل الخصم وبعد الخصم وهل يستحق بالفعل أم لا. تحديد الميزانية بمبلغ معين للمرغوب فيه لتجنب الإفراط في الشراء.