الباحث والمترجم عماد خلف لـ24: درست الأدب الفارسي واكتشفتُ أنّ فيه كنوزاً
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
أكد المترجم والباحث في مركز زايد للدراسات والبحوث في نادي تراث الإمارات الدكتور عماد عبد الفتاح خلف: " أن الأديب زكريا تامر احتاز صفةَ "شاعر القصة القصيرة" لأنه يَعرِضُ "الـمَحكيَّ اليوميَّ" بأسلوبٍ أدبيٍّ شاعري لا يَتأتَّى لكل أديب أن يُتقنَه، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى شكل القصة القصيرة، التي أَخرجها تامر من التقليدية وألبسها لَبُوساً فنيّاً بديعاً، مستثمراً التراثَ الفلسفي والفكري والأدبي والاجتماعي والسياسي".
خلف: الشعر الحقيقي لا يُترجَم
خلف: ترجمت من أعمال زكريا تامر لأنه "شاعر القصة القصيرة"
وعن سبب اختياره لترجمة مجموعة "الحصرم" القصصية تحديداً، أضاف خلف في حوار خاص لـ24: " أن زكريا تامر في هذه المجموعة يَسبر أغوارَ المجتمع وما يعانيه من أزماتٍ فكرية ونفسية وسلوكية عميقة، فهو كاتب يُكثِّف العبارةَ، ويَتجول في الأزقّة والحواكير بعينٍ سرديةٍ ذكيّة بعد نضوج تجربته أكثر"، ومبيناً أن الشعر الحقيقي لا يُترجَم وإن تسنَّى له أكبرُ شاعر في اللغة المترجَم إليها، والدليل على ذلك شعر المتنبي في اللغات الأخرى.
يشار إلى أن الباحث عماد خلف من مواليد سوريا 1980، حاصل على درجة الدكتوراة في الأدب المقارن العربي – الفارسي المعاصر من جامعة طهران 2017 وترجم أكثر من 6 كتب في الشعر والقصة ومجالات أخرى، كما له عدة مقالات علمية محكمة، وشارك في مؤتمرات للترجمة والنقد الأدبي، وهو يتقن 4 لغات، الكردية، والعربية، والفارسية، والإنجليزية.
وتالياً نص الحوار:
_لماذا اخترت أن تترجم مجموعة قصصية لزكريا تامر تحديداً إلى اللغة الفارسية؟
الأدب الحقيقيَّ لا يكتفي بحمل رسالةٍ مَّا وحدَها، بل إنه يَحملها ويُجنِّح بها بل يُحلِّق في سماوات الالتذاذ اللغوي والفني جميعاً؛ أيْ إنَّ الأدب الحقيقي يُسافر بقارئه إلى ديارٍ لا يَكون الكلامُ فيها مَقولاً وسرداً كالـمَحكي اليومي الذي يتناهى إلى مسامعنا كلَّ يوم، وإلا لكنّا اكتفينا بكتابة ما ننطقه شفاهياً، مع بعض الرتوش البسيطة طبعاً، ليَسير ويَصير إلى حكاية أو "قصة" نَخرج بها إلى الناس، وما يُميِّز زكريا تامر، أنه يَعرِضُ "الـمَحكيَّ اليوميَّ" بأسلوبٍ أدبيٍّ شاعري لا يَتأتَّى لكل أديب أن يُحسِنَه ويُتقنَه، حتى احتاز، بحقٍّ، صفةَ "شاعر القصة القصيرة"؛ بعبارة أخرى، إنّه يَصِل بكتابته إلى ما قد يُسمَّى "شِعريةَ السَّرْد".
وبما أنني، على المستوى الذوقي الفردي والشخصي، شغوفٌ بشعرية اللغة، مؤمنٌ بتأثيرها الأوقع في النفوس إذا ما كانت مرصوصةَ البُنيانِ جمالياً وفنياً، فقد اخترت مختارات قصصية لزكريا تامر، وترجمتها إلى اللغة الفارسية بالاشتراك مع صديقَينِ إيرانيَّينِ مَشغوفَينِ بالأدب العربي الرفيع، ولا سيّما أنّ أدب زكريا تامر يَجلو الغبارَ عن الـمَعيش اليومي، وعن الأعراف والمسلَّمات السائدة، ويُقدِّمُها بأسلوب هَزْلي في كثير من الأحيان، مُحْدِثاً في نفس القارئ أسئلةً كُبرى؛ وهل الأدبُ الحقُّ إلا إحداثُ السؤال وإلا خَلْقُ الشكِّ في نفس القارئ، ثم إعادةُ ترتيب ما تَرسَّب مسبقاً في وعيه وفي لاوعيه كذلك؟
أجل، لقد فعلها زكريا تامر على مستوى المضمون و على مستوى شكل القصة القصيرة التي أَخرجها، أو ساهم بقوةٍ في إخراجها من حالتها التقليدية، وألبسها لَبُوساً فنيّاً بَهيّاً وبديعاً بما لهذه الكلمات قاطبةً من مَعانٍ في عوالمها السرديّة والجمالية، مستثمراً خيرَ استثمارِ التراثَ الفلسفي والفكري والأدبي والاجتماعي والسياسي جميعاً.
ومن الجميل أن ينتقل مثل هذا الأدب الفذّ إلى لغات أخرى، ليُقرأَ بعيون أخرى، ويَتفتّق عن دلالات أخرى قد تَكون خافيةً عمّن أَلِفُوا قراءته بلغته الأصلية، وبالطبع فالعكس بالعكس صحيح أيضاً.
_ما الذي لفت انتباهك في مجموعة "الحصرم" لزكريا تامر حتى ترجمتها ؟
أكثر ما لفت انتباهي في مجموعة "الحصرم" أن زكريا تامر يَسبر فيها أغوارَ المجتمع السوري، وربما غير السوري أيضاً، وما يعانيه من أزماتٍ فكرية ونفسية وسلوكية عميقة، وذلك بعدما نَضجت تجربته في الكتابة السردية أكثر فأكثر؛ فإذا هو يُكثِّف العبارةَ، وإذا هو يَتجول في الأزقّة والحواكير بعينٍ سرديةٍ ذكيّة أكثر، مُميطاً اللثامَ عن هذا الخطاب الاجتماعي الذي يَحتاج إلى الإمساك به من تلابيبه وإلى هزِّه هزّاً عنيفاً لعلّه يستيقظ أو يُعيد النظرَ في مقاربته ورؤيته الكونية للحياة الجمعية، ولسلوكات الأفراد من جميع النواحي.
_ ترجمت مختارات شعرية لمجموعة كتّاب، هناك من يرى أن مترجم الشعر لا بد أن يكون شاعراً كي يتقن صياغة النص بلغة شعرية، ما تعليقك على ذلك؟
لم أترجم عن الشعر الفارسي إلا قليلاً، على أني أومِنُ أن المترجم الناجح الذي يُتقنُ أسرار اللغةِ المنقولِ والمترجَمِ إليها يَستطيع أن يَصوغَ الشعرَ بأسلوبٍ يَدنو، قدر المستطاع، من أسلوب الشعر في لغته الأصلية، كما أني أظنُّ ظنّاً رفيقاً أن الشعر الحقيقي لا يُترجَم وإن تسنَّى له أكبرُ شاعر في اللغة المترجَم إليها، ويكفي أن نتصور شعر المتنبي العظيم في اللغات الأخرى، وأنا شخصياً حين قرأت المتنبي في الترجمة الفارسية شعرتُ أنني أمام شاعر كغيره من الشعراء لا أمام المتنبي الذي يَفتنك ويُسحرك بشاعريته وبمداعباته اللغوية وصوره الشعرية ومشاكساته النحْوية، وكذلك الأمر حين أقرأ حافظ الشيرازي مترجَماً إلى العربية؛ لا لشيء إلا لأن حافظ الشيرازي بنى لشعره قصراً مُنيفاً من البلاغة والجماليات المقصورة على الاستمتاع بها باللغة الفارسية فقط، فإذا ما تُرجِم إلى اللغات الأخرى، ومنها اللغة العربية، ذَوَتْ وذابت هذه الجماليات، فلا تكاد تَكون إلا أمام شاعر كغيره من الشعراء، والحال أنّه لا المتنبي ولا حافظ الشيرازي كغيرهما من الشعراء الأفذاذ في الساحة الشعرية العالمية.
_ما سبب اختيارك لدراسة الأدب المقارن العربي - الفارسي، ما الذي جذبك للأدب الفارسي؟
بدأتْ رحلتي من زمنٍ كنتُ أقرأ فيه رباعيات عمر الخيام في ترجماتها العربية، فنزلتْ مني منزلة رائعة، لما تَحتوي عليه من أفكار كونية سؤالية في المقام الأول، ناهيكم عن أنني أحبُّ التنوع في قراءة الأدب؛ ففضلاً عن لغتَـيَّ الأم الكردية والعربية، وعلاوةً على دراستي اللغة العربية وآدابها، أحببتُ أن أقرأ الأدب باللغة الفارسية أيضاً، ولذلك توجّهت إلى دراسة الأدب الفارسي، واكتشفتُ أنّ فيه كنوزاً أدبية كثيرة، بل اكتشفتُ أنّ عمر الخيام لا يكاد يُشكِّل شيئاً من الناحية الشعرية أمام حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي ومولانا جلال الدين الرومي على سبيل التمثيل لا الحصر.
_ما أهم ما يميز الأدب الفارسي من خلال اطلاعك عليه ودراستك له؟ وأقصد ما يميزه عن الآداب الأخرى؟
سؤال في غاية الجمال، ذلك أنّ لكلِّ أدبٍ ما يُميِّزه عن غيره من الآداب، ولعلَّ ما يُميِّز الأدب الفارسي، القديم على وجه التحديد، هو منادمتُه التصوّفَ على طريقته الخاصة به، ومثالاً على ذلك أودُّ أن أقول إن مولانا جلال الدين الرومي يُقدِّم التصوّف على طبقٍ شعريٍّ سهلٍ يَفهمه المتقنُ للفارسية بيُسر وسهولةٍ إلى حدٍّ كبير، ويَكفي أن نقارن شعره بطريقة محيي الدين بن عربي الوعِرة الـمَسالك في تقديم تصوّفه حتى ندرك الفارق، وحتى نَعرف ما يُميِّز الأولَ عن الثاني.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة سوريا طهران القصة القصیرة على مستوى الذی ی
إقرأ أيضاً:
"الجليل في الأدب" من الأسباب الكبرى لقيام الحركة الرومانتيكية
"الجليل في الأدب" كتاب هام جداً صدر حديثاً لمؤلفه " لونجينوس "( 213 – 273) ، وذلك عن اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، ترجمة وتقديم وشرح الناقد الأدبي والمترجم حنّا عبّود. والكتاب يعد في نظر فيرنون هول صاحب " موجز تاريخ النقد الأدبي" دستوراً ومنطلقاً لمدارس النقد الراقية، مؤلفه ابن مدينة حمص السورية كان المستشار الأول لـ زنوبيا ملكة الشرق القديم، أعدمه القائد الروماني أورليان.
الرّقي همّ وحيدبدأت رحلة تعلّم لونجينوس في حمص، ثم انتقل إلى الإسكندرية، وأكمل تعليمه في مدرستها المشهورة، التي هي العظمى في العصر الهيليني، تلقى فيها علوم الفلسفة والمنطق والبلاغة والشعر، ثم ذهب إلى أثينا، فدرس ودرّس فيها سنوات عديدة، ثم عاد لمدينته حمص.
يقول عنه حنا عبود: حياة لونجينوس مثل كتابته، دقة ووضوح واعتزاز وكرامة ونبل وسموّ وطموح بعيد عن الأنانية، وهو من أهم المفكرين الذين جعلوا الرقي بالبشرية هماً أولاً، وما مشورته لزنوبيا سوى طريقة للحفاظ على هذه الدولة التي تطمح في الرقي، ولكن طموح الملكة تخطى مشورته.
بعدما أعدمه القائد الروماني أورليان بتهمة الخيانة العظمى، عاد إلى الرسائل التي وصلته، فما وجد فيها كلمة واحدة تشبه كلام لونجينوس المكتوب أو المنطوق. أعدمه بعد أن وجّهت له روما تهمة صياغة رسالة الملكة زنوبيا التي نالت فيها من هيبة وكبرياء الإمبراطورية الرومانية بلغةٍ مقذعة وفاحشة أثناء حصار الجيش الروماني لحاضرة البادية السورية.
ويوضّح عبود أسباب الإعدام بالإشارة إلى أن لونجينوس حصل على الجنسية الرومانية ليحصّن نفسه، فجاءه الموت من هذا الحصن بالذات.
نظرة في مؤلفاته
ويقدّم الناقد عبود جوهر مؤلفات لونجينوس التي استدل عليها من الموسوعة التي عند الأوربيين، والتي تشتمل أكثر من 30 ألف مدخل، عنوانها سودا SUDA وهي كلمة يونانية تعني القلعة، وقد ذكرت الموسوعة إلى جانب كتابه " الجليل في الأدب" كتب عدة وهي: 1- المشاكل والمسائل الهومرية: ومن التعليقات نعرف – والكلام لعبود- أن لونجينوس أراد أن يقدّم لنا هومر كما فهمه وكما يفهمه غيره، والمشاكل التي تثيرها مؤلفاته: الإلياذة والأدويسة والترانيم. 2- هل هومر فيلسوف: كتاب يطرح، كما يؤخذ من عنوانه، أهم مشكلة من المشكلات التي يقف أمامها الباحثون، فكل الفلاسفة الذين ظهروا إنما ظهروا بعد هومر من جهة، وغرفوا منه كل معلوماتهم من جهة ثانية.
والمؤكد أن الفلسفة اليونانية خرجت من قلب الميثولوجيا، لتنقل الميثولوجيا إلى فلسفة، وتحوّل الأسئلة التي تطرحها الميثولوجيا إلى أسئلة قابلة للنقاش.
وثمة كتب أخرى توقف عندها عبود، وهي خطابات لغوية، النهاية الأساسية، المرشد إلى الصنعة الهيفيستوسية (نسبة إلى هيفيستوس رب الحدادة والفن)، وفي البلاغة. وعنه يقول: بقيت بعض القطع من هذا الكتاب، من غير أن تدل على شيء معين، وهل يختلف هذا الكتاب عن نظرية أرسطو؟ نرجح أن هذا الكتاب لا بد أن يختلف عن كتاب " البلاغة" (أو الخطابة) لأرسطو، لأن لونجينوس أفلاطوني الميول والتفكير، وإن أخضع الأفلاطونية لكثير من التعديلات.
ثم يتابع عبود قائلاً : كل تلك المؤلفات تنسجم انسجاماً كاملاً مع كتابه " الجليل في الأدب" ، فكل همه البحث عن " الجليل" سواء في الفكر أو الأدب أو الحياة أو الصناعة، بل حتى في استخدام الأوزان والبحور يجب أن يكون " الجليل" وسيلة للرقي والاكتمال. ومن مضمون كتابه " الجليل في الأدب" نستنتج أن الجليل في البحور والأوزان هو ما ناسب الفكرة وعبّر عن الوجدان بحيث يتناسب الإيقاع مع الميلوديا والهارمونيا، من دون أن يحدث أي صدع أو شرخ. ليخلص عبود إلى القول أن تلك الكتب تدل على الشخصية المتماسكة الجادة التي امتاز بها لونجينوس.
لماذا الجليل
ويرى عبود أن الأوربيين ترجموا كتاب لونجينوس باسم Sublime أو ما يمكن أن يشتق من هذه الكلمة. فترجم بـ on the sublime ، ويشير إلى أن هذه الكلمة مطاطة، يقولون أنها لا تحمل المعنى الدقيق للكلمة اليونانية، وإذا انتقلنا إلى العربية والإنجليزية وجدنا المشكلة بينهما لا تختلف عما هي بين الإنجليزية واليونانية، فمعنى sublime : الجليل، الفخم، العظيم، الكبير، السامي، المدهش، الرائع، النبيل، المخيف، المهيب، الوقور، الرفيع، العالي...وكل ما يدل على الأبهة والفخامة.
والمترجم عامة سيحتار في الاختيار، ما دامت، أصلاً، غير متطابقة مع الكلمة اليونانية، إلاّ أن حنا عبود اختار كلمة " الجليل" لسبب كما يقول نعتقد أنه يصدق على لونجينوس، فالرجل كان من أنصار أفلاطون، يكنّ له احتراماً كبيراً، مع أنه انتقده مرات ومرات، ولكن بصورة عامة كان يتبنى نظريته في الجدل الصاعد. وهي النظرية التي طبقها في هذا الكتاب الناعم الدقيق. فهو يرى، كما يرى أفلاطون أن مسعى الإنسان هو الصعود في طريق الإلوهية، وكل ما يقربه من الإلوهية لا بد أن يكون جليلاً، بمعنى أنه يدب في النفس المهابة والخوف والروعة إلى جانب الاحترام والحب والإعجاب. فكل هذه المعاني تشتمل عليها كلمة " الجليل" وهذا يعني أن تكون " جليلاً". فالمؤمنون اليوم يقولون " الله جلّ جلاله" مفصحين عما يكنون له من العواطف المشتملة على الخوف والحب والروعة والإعجاب...وبقية المعاني.
الجليل.. الهائل والمخيف
أمّا سبب كتابة لونجينوس هذه الأطروحة الصغيرة، يخبرنا عبود أن لونجينوس وأحد أصدقائه وهو تيرنتيان تداولا في أمر كراسة لكاتب من القرن الأول اسمه كابسيليوس كالتينوس، كتب فيها عن الأسلوب الأدبي ومسألة الجلال في الأدب، وهناك ملاحظات عدة سجلها لونجينوس على كابسيليوس، ولكن أهمها أن الأدب يجب أن يكون جليلاً، من غير أن يقف عند حدود الجمال العادي. يقول " إن الطبيعة تحثّنا أن نعجب، ليس بصفاء جدول صغير ومنفعته، بل نعجب بالنيل والدانوب والراين، وكل ما خلف المحيط؛ ألاّ نلفت عيوننا المندهشة من النار السماوية، وإن كانت قائمة، إلى الشعلة الصغيرة التي أوقدتها يد الإنسان، مهما كان نورها ثابتاً ونقياً؛ ألا نفكر أن المصباح الصغير يعجبنا أكثر من كهوف جبل أنتا Anta التي من أعماقها الهائجة اندفعت الحجارة وكتل الصخور الضخمة، وانسكبت منها أحياناً سيول من النار الملتهبة الصافية، منطلقة من مركز الأرض" . وبهذا التحديد - والكلام هنا لعبود- بين الجميل والجليل ينطلق في كل كتابه. إن الجميل (الجدول الصغير) درجة أولى لا يجوز أن يقف المبدعون عندها، لا بد أن ينتقلوا إلى الجليل ( الهائل والمخيف والمهيب من أمثال النيل والدانوب) وهي خطة نحو الألوهية، واكتساب الجلالة منها، حسب تعاليم أفلاطون. ويرى عبود أن لونجينوس في كتابه هذا أكمل ما ينقص من كتب أرسطو " فن الشعر" أو كتابه " الخطابة" ليس النقص ذلك القسم المفقود، بل النقص أن أرسطو درس الأسلوب من حيث الآلية والترابط، مهملاً كل نظرية أستاذه أفلاطون، فجاء لونجينوس وأكمل عمل أرسطو، بالقول إن الأسلوب يبدأ من الذات، من أعماق النفس، فمن لا يشعر بالعظمة والجلال والروعة فإنه لا يمكن أن يعبّر عنها بالوضوح الكافي، ولا يمكن أن يثير في القارئ الدافع المطلوب. على أن لونجينوس لم يقف عند الحدود الأفلاطونية المناقضة للأرسطية، بل أبدى آراءه الخاصة التي تدل على شخصيته المتماسكة الجادة القوية. بل إن كل آرائه له وحده، وإن انطلقت من الجذر الأفلاطوني في التعالي.
تشكيل المفاهيم العظيمة
والناقد والمترجم حنا عبود لم يترجم هذا الكتاب، في رأينا، إلاّ لأنه وجد فيه كل الأسس التي وضعها لونجينوس، وبخاصة النقاط الخمس: قوة تشكيل المفاهيم العظيمة، العاطفة الصادقة العميقة، إتقان أشكال اللغة، أسلوب الأداء النبيل، الإنشاء الكريم والسامي والنبيل، وقد غدت دستوراً، في رأي عبود، سارت عليه المدرسة الشامية في الأدب على مدى القرون، وعندما ظهرت الإمبراطورية العربية، كان لا بد أن يكون لها أدب، فكان لها هذا الأدب، وتشكلت فيه مدرسة تلتزم بدستور لونجينوس، وقد تخرّج في هذه المدرسة كل شعراء بلاد الشام: أبو تمام، البحتري، المتنبي، الشريف الرضي، الشريف الرضي، ابن الرومي، حتى أدب المهجر وخليل مطران وكل من انتمى إلى الديار الشامية، وحتى الشعر الشامي الحديث، في معظمه اليوم. إنها مدرسة الفخامة والروعة والجلال والمهابة والكلمة السامية والصناعة اللغوية المتقنة، والعاطفة المخلصة الصادقة، والدعوة إلى السموّ، والسير في طريق الألوهية. إن الأدب سعيٌ نحو الأعلى، نحو الأسمى. ومن اللافت للنظر إشارة عبود إلى أن شاعراً بارزاً في القرن العشرين اتّبع تعاليم المدرسة الشامية كما حددها لونجينوس وهو " ت.س. إليوت" الذي رأى أن الأدب ينتج من التقليد الأدبي القديم والموهبة الفردية. والتقليد الأدبي هو ما شدد عليه لونجينوس وسماه محاكاة القدماء محاكاة منافسة لا محاكاة تبعية وتقليد مبستر.
حضور أبدي
ولم يتأخر عبود عن رصد حضور كتاب " الجليل في الأدب" عبر القرون، فالكتاب حقق شهرة تضاهي كتب أرسطو وأفلاطون، بل تزيد في بعض الأحيان، مع أن هذه الشهرة لم تظهر قبل أواخر القرن الثالث، أي بعد أكثر من ستة قرون من شهرة أرسطو. وبعد إشارته إلى عدد من الطبعات التي حظي بها الكتاب بفترات زمنية متباعدة، رأى عبود أن القرن الذي نال فيه لونجينوس حقه هو القرن الثامن عشر، وذلك بعد ترجمة وليم سميث للكتاب عام 1739 عرف النقاد أهمية هذا الكتاب، وحققت طبعات الترجمة شعبية كبيرة جداً، ويمكن القول إنه كان من جملة الأسباب الكبرى لقيام الحركة الرومانتيكية. فقد طبّقت الحركة كل ما تحدث عنه لونجينوس حول الغريب والعجيب والمدهش والمثير، فكثرت هذه الأشياء في آثارهم. كما رصد عبود تأثير الكتاب في مؤلفات فلاسفة أصدرت مؤلفاتها في القرن الثامن عشر، وهم أدموند بيرك الذي سعى لمنافسة لونجينوس، فألف كتابه المشهور " بحث فلسفي في نشأة أفكارنا عن الجليل والجميل"، مما شجع الفيلسوف الأماني عمانوئيل كانط على منافسة بيرك ولونجينوس في كتابه " نقد ملكة الحكم" وهما كتابان من أغنى الكتب في هذا الموضوع، لكنهما يدينان بالأفكار الأساسية لكتاب لونجينوس، على الرغم من الإضافات النظرية الكثيرة. وبالتزامن مع كتاب كانط نشر فريدريك شيللر كراسته الصغيرة بالعنوان نفسه " في الجليل" وعرض موقفه الذي لا يختلف كثيراً عن موقف لونجينوس. نكاد أن نقول إن القرن الثامن عشر مسجّل باسم لونجينوس من أوله إلى آخره. ولم ينس عبود الإشارة إلى ما حظي به كتاب لونجينوس صاحب النظرة الشمولية التي تربط بين الحياة المادية والقيم المعنوية.
من دراسات التي عزت قيام الحركة الرومانتيكية في ألمانيا وإنجلترا إليه، وتضيف هذه الدراسات إليه الكتابين اللاحقين اللذين كتبهما بيرك وكانط. ويخلص الناقد والمترجم حنا عبود في تحقيق وشرح ودراسة هذا الكتاب إلى القول إن هذا الكتاب دستور لكل جيل، لا يمكن تلخيصه ولا حذف مادة منه، ظهر في مدينة حمص، والتزم به أدباء بلاد الشام على مرّ العصور، ولكنه انتشر في كل الثغور وعرفته كل الأرض.
ودستور الجليل جليل، والجليل يبقى إلى الأبد.