غزة.. هامات الأعزة
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
يوسف عوض العازمي
alzmi1969@gmail.com
"التاريخ سياسة الماضي، والسياسة تاريخ الحاضر" فريمان.
لا شك أن للموضوعية مكانها الوجيه في أي حدث عندما نتحدث عنه على طريقة النقاط المتتابعة أو المرصودة، أو لما يأتي التقييم علميا وفق قواعد واحد اثنين ثلاثة، والأكيد أن البدو وكعادتهم في توثيق الأحداث عبر الأشعار أو الأمثال الدارجة قد قالوا قديما: البر ماينفع نهار الغارة.
أي إن الموضوعية السياسية والتحليلات والحديث النخبوي عن الإستراتيجية يرمى وراء الظهر، عندما يثور غبار الهيجاء وتقف الرجال للرجال، وتصطك السماء بوابل الرصاص، ورشقات القذائف، وهدير الصواريخ، وقتئذ لانملك ولا نقف سوى مع السلاح الذي يرمز للقوة، والذي يسند الموقف ويستر الحال، وأي حل غير ذلك في وقت الغارة هو خيانة للموضوعية التي أساسها الموضوعي التقييم العادل، ولاتسألني عن أي تقييم عادل نتحدث والدماء تنتثر كأنها نهر جارٍ، وجثث الشهداء تغطي الأمكنة.
هناك من يأتي بتحليلات موضوعية ذات مهنية عالية ولها قدرها وتقديرها وقد تكون ليست كما ترى شواهدنا، أو تعتبرها اعتباراتنا، مستمدة وجودها على قاعدة الرأي والرأي الآخر، الاختلاف أنها تحتاج التوقيت المناسب، ففي وقت الوغى لا صوت إلا صوت المقاتلين، بالطبع الرأي قبل شجاعة الشجعان كما قال المتنبي، لكن التوقيت مهم، فأحيانا كلمة الحق في غير الوقت والمكان المناسبين تفقد صوابها، وهنا أنبه لقاعدة عدم خلط الجد بالهزل، تقريبا المعنى المقصود متشابه، وهنا أؤكد أن العبارة الشهيرة الحقيقية المعنى : لاصوت يعلو فوق صوت المعركة، والتي تم استخدامها في غير شأنها وبما يروق لطغاة أهملوا كل شيء إلا تمجيد أنفسهم وماترجوه أنفسهم، فلهذه العبارة وجاهة في وقت الدفاع، حتى لايأتي صوت قد يحمل من الصدق والإخلاص لكنه في وقت أصبحت كلمته كمن يروج للتولي يوم الزحف.
لو تحدثنا كتحليل سياسي فقد نذهب لاجتهادات لا تؤدي إلى الموضوعية المطلوبة، بالطبع ثمة أخطاء لاعذر لمرتكبيها قد حدثت، والوضع الإستراتيجي القائم فاقد للمنطقية والتوازن، توازن القوة مفقود ولاشك، لكن الإيمان بالقضية هو الذي يستند إليه في أوقات قياس الموازين، فأن تحاصر بلدا وتتحكم في جميع المدخلات والمخرجات وتتعسف في تنفيذ قراراتك العدائية لن يتم قبول ذلك، يمكن أن يطول الصمت بسبب قلة الحيلة والعتاد، لكن لا يمكن أبدًا لأي إنسان حر أن يستمر بالصمت، عندما تقيدني وتشد الوثاق ما الذي ستتوقعه؟
لذلك ما حدث في غزة هو ردة فعل على فعل ظالم واعتداء صارخ، واستغرب ممن ينادي بالإنسانية وحقوق الإنسان ثم يقف في صف المعتدي جهارا نهارا، بل ويستنكر على الضحية الدفاع عن نفسها !
يقول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود :
وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ
وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عندما تلعثم غاندي
في بداية مسيرته المهنية، واجه المهاتما غاندي موقفًا محرجًا ترك أثرًا عميقًا في نفسه. عندما وقف كمحام في أول جلسة مرافعة أمام القاضي والجمهور، وجاء دوره للتحدث، استبد به الخوف وارتبك حتى تلعثمت كلماته وارتجفت يداه، مما اضطره إلى مغادرة قاعة المحكمة عاجزًا عن إتمام مرافعته. كانت تلك التجربة مخيبة للآمال وضربة لثقته بنفسه، لكنها، في الوقت ذاته، كانت درسًا بالغ الأهمية، إذ أدرك من خلالها أن النجاح في فن الخطابة والإقناع لا يعتمد فقط على المعرفة أو الموهبة وحدهما، بل يتطلب الإصرار والمثابرة والعمل الجاد على تطوير المهارات.
بعد هذا الموقف، تعرّض غاندي لموقف محرج آخر في جنوب أفريقيا، حيث طُلب منه إلقاء خطاب أمام جمهور يتحدث الإنجليزية بطلاقة. لم يكن غاندي حينها متمكنًا من الإنجليزية بشكل جيد، مما جعله يتحدث ببطء وتردد، ويفتقد الطلاقة التي تجذب انتباه الجمهور. شعر بالخجل من أدائه، وأدرك أن نقص مهاراته اللغوية قد يحدّ من قدرته على إيصال رسالته بفاعلية إلى الجمهور الغربي، خاصة وأن الإنجليزية كانت اللغة السائدة في النقاشات العامة. هذا الموقف دفعه للعمل بجد على تحسين لغته، فأصبح يقرأ الكتب والصحف الإنجليزية يوميًا، ويستمع إلى الخطب، ويقلد المتحدثين البارعين، إلى أن تمكن من التحدث بطلاقة وثقة.
كانت هذه المواقف المحرجة نقاط تحوّل مهمة في حياة غاندي، إذ جعلته يدرك أن النجاح لا يتحقق بالمعرفة وحدها، بل بالممارسة والتطوير المستمر. لم يكن غاندي يمتلك منذ البداية حضور الخطيب البارع، لكنه كان يحمل عزيمة قوية ورغبة صادقة في التطور، الأمر الذي دفعه للعمل الجاد على تحسين أسلوبه. أدرك أن الخطابة ليست مجرد كلمات رنانة أو صوت مرتفع، بل هي القدرة على إيصال الأفكار بوضوح وإقناع الآخرين بالصدق والإيمان العميق بالقضية.
من خلال هذه الدروس، تعلم غاندي أن أي موهبة، مهما كانت واعدة، لا تُثمر إلا إذا اقترنت بالممارسة والرغبة الحقيقية في التحسين. فلو استسلم لفشله الأول في المحكمة أو تواضع لغته في خطابه، لما استطاع أن يصبح فيما بعد ذاك الزعيم الذي ألهم الملايين ودعاهم للنضال السلمي من أجل الحرية؛ بل حول إخفاقاته إلى دوافع للتغيير، حتى أصبح بفضل مثابرته خطيبًا مؤثرًا يحرّك مشاعر الناس ويدفعهم للالتفاف حول قضيته.
حياته كانت نموذجًا على أن الرغبة في التعلم والتطور تتجاوز ما يمتلكه الإنسان من معرفة أو موهبة. غاندي لم يولد قائدًا بليغًا، لكنه صنع من خلال التحديات التي واجهها فرصًا للنمو، وتدرج من شاب خجول يخشى الجمهور إلى قائد يمتلك القدرة على توجيه الأمة بكلماته. لم يحدث هذا التغيير بفضل إمكانيات فطرية، بل بفضل مثابرته واستمراره في صقل مهاراته وتطوير قدراته.
إن تجربة غاندي تبرز أهمية الاستمرارية والعمل على تطوير الذات؛ لأن النجاح في أي مجال لا يتحقق بالموهبة وحدها، بل بمواصلة التدريب ومواجهة الصعوبات بجرأة. أثبت غاندي أن التفوق في الخطابة والإقناع يعتمد على العمل الجاد والانفتاح على التغيير، وأن الدافع الداخلي نحو التعلم وإحداث التأثير هو ما يمنح الإنسان القدرة على التفوق.