ناصر بن جمعة الزدجالي

خلال الحرب الحالية، تعرضت إسرائيل لأزمة وجودية غير مسبوقة أزمة اختل معها توازن الدولة اليهودية وفقدت مصداقيتها وتلاشى رصيد سمعتها كدولة لا تُقهر وباتت تعيش أزمة ثقة عميقة ووصل الأمر بحكومتها أن ترهن وجودها بمدى ردة فعلها؛ إما أن نكون أو لا نكون لأجل ذلك يرى قادة إسرائيل أنه لابد لهم من القيام بإجراءات حاسمة تتناسب مع هول الحدث وجسامته حتى تتصالح إسرائيل مع نفسها وشعبها.

بالمقال السابق استعرضنا بعض خيارات إسرائيل السياسية والإعلامية وكيف يمكن لإسرائيل توظيف ذلك لخدمة أغراض الانتقام، وبهذا المقال نستكمل بعض الأدوات الأخرى التي لا تقل أهمية وهي البعدين العسكري والاقتصادي.

 

عسكرياً لطالما ارتبطت الحرب بالسياسة وأداة لها كما يقول المفكر الاستراتيجي كارل فون كلاوز فيتز (1831-1780)، وهو ما يجعل الحرب إما خاضعة لاعتبارات وحسابات عقلانية صحيحة أو رعناء خاطئة. ولعل الحل العسكري هو الأداة الأسهل والأسرع على طاولة خيارات قادة إسرائيل ربما الوحيد الذي يمكنه أن يستعيد مؤقتاً شيئاً من الثقة ويضمن نسبياً قدراً من التصالح مع الداخل ويوفر الانتقام الذي تطالب به الجماعات اليمينية المتشددة المتحالفة مع رئيس الوزراء نتنياهو على وجه الخصوص. ومع أن إسرائيل بدأت هذا الخيار مبكراً واستشهد من خلال عملياتها الانتقامية بغزة من الفلسطينيين أعداد تفوق خسائرها بالحرب، إلا أن الواضح أن إسرائيل تريد أن تصل إلى أبعد من هذا بكثير حتى تشفي غليلها وتضمن دفع حماس فاتورة ضخمة نظير قرارها الأخير تصل إلى فقدان وجودها بالكامل وتدمير عناصر قوتها. ومع أنَّ إسرائيل لديها القدرة العسكرية لحشد القوات وتأمين الأسلحة والمعدات اللازمة لقوة نيران غير مسبوقة، وتنفيذ مجمل مخططاتها العسكرية، كما ضمنت الدعم الغربي لها، إلا أنها أيضاً تعلمت والعالم من قبلها أن أي ردة فعل غير مسؤولة يمكن أو تنقلب حتماً على المتسبب بنهاية الأمر فبحجم الدمار الذي ستحدثه الحرب والحالة الاقتصادية والاجتماعية التي ستنجم عن ذلك الدمار بقدر ما تقوي عزيمة ورغبة ذلك الشعب في الصمود والانتقام والانتفاضة من أجل النار. لا نحتاج أن نذهب بعيداً لاستخلاص بعض الدروس المشابهة ومحاولة استقراء ما سيكون عليه الأمر وتوقع ردة فعل إسرائيل المحتملة في هذه الحرب، فخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في عام ٢٠١٤ تغللت إسرائيل إلى داخل غزة وأعادت احتلالها لمدة ٥٠ يوماً من خلال عملية نجم عنها استشهاد حوالي۲۰۰۰ فلسطيني وأحدثت قدراً كبيرا من الدمار. يومها تكبدت إسرائيل حوالي۷۰ قتيلاً من خيرة جنودها، إلا أن حماس سرعان ما عادت أقوى من ذي قبل. لا أعتقد أن إسرائيل لديها الصبر والحكمة لتعود إلى أرشيفها العسكري لتدرس التاريخ وإنما ستندفع بقوة إلى التنفيذ لتضمن هزيمة المقاومة وتحييد دورها لفترة أطول. ومن المتوقع أن تتركز الأهداف العسكرية على التالي:

 

أ- القيام بعمليات تمشيط بالمناطق الحدودية المتاخمة لغزة بهدف طرد أفراد المقاومة نهائياً خارج السياج الحدودي حركة المقاومة. اسرائيل تبعات ذلك. بضمان الحصول على هبات ومساعدات لإعادة البناء وتعويض السكان معنوياً واقتصادياً وتقليص الآثار والنتائج العكسية للحرب على الاقتصاد الإسرائيلي.

ب- العمل لاستعادة الأوضاع الأمنية بالحدود مع القيام بعمليات إخلاء واسعة لتسمح بتتبع المقاتلين والتعامل معهم بشكل مباشر

ج- الإغلاق التام للحدود والمعابر وتأمين الحدود البحرية مع فرض حصار بحري واسع.

د- القيام بعمليات قصف جوي مستمرة للبنية الأساسية لمعاقبة السكان، وقصف البنية الاقتصادية والورش لمنع أي قدرات تصنيعية مزدوجة وتدمير؛ أي مقرات لها علاقة بحركات المقاومة.

هـ- استهداف بعض الشخصيات البارزة بحماس والجهاد الإسلامي وعائلاتهم.

و- تدمير واسع للأرض بهدف تعطيل الأنفاق المحتملة بين القطاع وداخل إسرائيل.

ز- القيام بعمليات خاصة من خلال قوات النخبة مثل لواء جولاني والشبح وغيرها من القوات (مع أنها الأكثر تضرراً بالحرب يوم أمس)؛ لإعادة احتلال غزة والقيام بعمليات انتقامية وتفكيك المقاومة.

ح- العمل على تحديد أماكن الرهائن والعمل مع المخبرين على القيام بعمليات إنقاذ شاملة.

ط - التفاوض للانسحاب بعد تحقيق الأهداف مع السعي لتنصيب قيادة بديلة أو تسليم القطاع لإدارته من قبل السلطة الفلسطينية أو تنصيب محمد دحلان أو تسليمه لمصر.

ي- تحييد أي أطراف معادية أخرى كحزب الله والحيلولة دون دخولها الحرب بشكل كامل.

اقتصاديا

مع الحجم الكبير للتداعيات الاقتصادية لهذه الحرب على اقتصاد إسرائيل وبيئتها الاستثمارية، إلا أن هذا البعد غير مرشح أن يكون حاضراً بقوة في ردة الفعل المتوقعة ومع ذلك ستقوم إسرائيل بتوظيف هذا البعد توظيفاً جيداً لقلة كلفته وسهولته النسبية مقارنة بالأبعاد الأخرى، بالإضافة الى قدرتها على التأثير على الأبعاد الأخرى. ويمكن أن تكون أهداف إسرائيل الاقتصادية كالتالي:

أ- السعي للحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية عاجلة لدعم اقتصاد الحرب وتقليص تحمل إسرائيل تبعات ذلك.

 ب- ضمان الحصول على هبات ومساعدات لإعادة البناء وتعويض السكان معنوياً واقتصادياً وتقليص الآثار والنتائج العكسية للحرب على الاقتصاد الإسرائيلي.

ج - فرض حصار اقتصادي واسع على قطاع غزة لمنع الواردات ومراقبة المتسللين عبر الحدود مع مصر ومن ناحية البحر.

د - إغلاق المعابر الحدودية والتضييق على القادمين عبر الحدود

هــ - سحب تراخيص العمل داخل إسرائيل الممنوحة لسكان غزة والتي تصل إلى حوالي ٢٠ ألف تصريح.

و- مراقبة التحويلات ووقف المساعدات المادية للقطاع ووقف البرامج الإنمائية كبرنامج المساعدات القطرية وغيرها.

بطبيعة الحال لا تزال الأحداث تتشكل والمعلومات تتدفق بسرعة كبيرة لذلك تكون الأهداف هي أيضاً متحركة تماماً مثل ما قامت به إسرائيل بعد حرب يوم الغفران أو خلال فترة الصراع الممتدة وكان آخرها حرب ۲۰۱٤ على غزة أو بالحرب مع حزب الله أو حتى من خلال استراتيجية الولايات المتحدة بعد أحداث 9 سبتمبر ۲۰۱۱ بطبيعة الحال يمكن لإسرائيل أن تقوم بالكثير من الإجراءات المؤلمة للطرف الآخر وتنقل المعركة غير المتكافئة إلى غزة الأقل تجهيزاً، لكن لكل سياسة حدود وقيود هي بلا شك خيارات صعبة جداً يتطلب معها دراسة العواقب كما أن تأثيرها يظل محدوداً وقد تكون نتائجها عكسية كما يعلمنا التاريخ من دروس العمليات بأفغانستان والعراق، لكن نتنياهو وحكومته يرى أنه ليس لديه الوقت لدورة تخطيط كاملة لتقييم الأمر ودراسة كافة السيناريوهات والبدائل.

لا أتوقع أن خطط الطوارئ المستفادة من عمليات وحروب إسرائيل السابقة يمكن أن توفر له خطة جاهزة للتطبيق السريع لأنه ببساطة لكل حرب ظروفها والتاريخ لا يعيد نفسه أعتقد أن نتنياهو يفكر بنتيجة كل يوم على حدة ويقوم بتجزئة الحرب الانتقامية على مراحل صغيرة ومتعددة، إنه ينظر فقط للنتائج المتوقعة خلال ما تبقى من فترة حكومته دون مراعاة كافية وواقعية للمستقبل.

ما سطر أعلاه مجرد قراءة تحليلية سريعة ومقاربة من واقع الأحداث التاريخية والسياسات الإسرائيلية خلال السنوات الماضية بطبيعة الحال قد تزيد هذه الأبعاد وقد يتم توظيف أبعاد أخرى أكثر جدوى وقد تلجأ إسرائيل الى إضافة أهداف أكثر وأكبر، وقد تستبعد أهدافاً أخرى، لذلك تعد هذه السيناريوهات هي مجرد تنبؤات قد تصيب وتخطئ بمسار الأحداث المقبلة.

** عميد ركن متقاعد، وخبير ومستشار استراتيجي

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

 الورْطة الإيرانيَّة

إسرائيل تدفع بالمنطقة كلها إلى حرب شاملة


تعددّت صيغ الخطابات وتنوعّت بخصوص ردّ إيران على إسرائيل من عدمه، خاصة بعد الاختراقات الأمنية التي تعرض لها "حزب الله" وانتهت بقتل عدد من قيادته الفاعلة والبارزة وعلى رٍأسها أمينه العام" حسن نصر الله.. الخطابات في معظمها قدّمت تحليلات قامت على فكرة مستندة إلى الطرح الرسمي الإيراني القائل:" نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين".
 ذاك الخطاب الإعلامي والسياسي الإيراني الرسمي يعني لدى البعض رجماً بالغيب، أو ترويجاً لوعود كاذبة، وفي أحسن الظن تأكيداً على التسليم بمواقف القادة من منظور التسليم الديني، وبالنسبة لغيرهم هو خيبة أمل، تقوم على أساس تقديم المصالح الوطنية الإيرانية عن المشروع الديني المؤدلج، الذي يمثل الأولوية عند حركات وتنظيمات المقاومة التي تشكل اليوم تحالفا، مرجعيته ـ من ناحية اتخاذ القرارـ طهران، رغم تمتع تلك القوى باستقلالية في إدارة الحرب الدائرة حاليا في غزة والضفة، وجنوب لبنان.
على مستوى المساءلة، وجدت إيران نفسها اليوم أمام امتحان عسير، انتهى بها ـ نظراً لاستمرار الوضع على ما هو عليه، وبقاء المقاومة سواء في غزة أو في لبنان كَلْمى ـ مطالبة بالإجابة عن السؤال الآتي: متى ستكون طهران طرفا مباشرا في الحرب الدائرة، تؤازر حركات وعناصر المقاومة، بدل أن تبقى معتمدة عليها، أو مضحيّة بها، ومكتفية بدعم مادي ولوجيستي، وخطاب إعلامي معبر عن مواقف خاصة، وقد قدمت جوابا من خلال قصفها لإسرائيل بحوالي 200 صاروخ  الثلاثاء الماضي (1 أكتوبر 2024)
تدرك إيران، كما تعلم تنظيمات المقاومة جميعها، أن إسرائيل تدفع بالمنطقة كلها إلى حرب شاملة، تعول فيها على الانتصار لأنها ستكون ضد جيوش نظامية عاجزة وخائفة بما فيها الجيش الإيراني، وهي بلا شك قادرة على تحقيق نصر، تحُولُ دونه اليوم حرب العصابات، خاصة تلك التي تقوم بها المقاومة اللبنانية.  
وبالمقابل تعرف الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أن إيران تتجنب الحرب، وتودُّ  أن تجْني محاصيل ما يقوم به حلفاؤها دون أن تدخل الحرب بشكل مباشر، كما أنها مستعدة للتضحية ببعض من قيادة جبهات المقاومة، بل من قادتها الإيرانيين مقابل التحول إلى قوة نوويّة في المنطقة، لذلك تعملان ـ أمريكا وإسرائيل ـ لأجل القضاء على جبهات المقاومة، أوّلاً قبل ادخال طهران في حرب تكون فيها نهايتها، والقضاء على قوتها العسكرية وخاصة برنامجها النووي، وفي نظر إسرائيل أن الفرصة اًصبحت سانحة اليوم للقضاء على البرنامج النووي الإيراني، بعد الهجوم الإيراني الأخير.
ما قامت به إيران من هجوم بالصواريخ ـ وهو رد فعل ـ حقّق رغبة عارمة تمّ التعبير عنها من أطراف كثيرة مناصرة لإيران وأخرى معادية تأمل في رد إيراني يزيل الظنون المتعلقة بوعود طهران لحلفائها، ويدفع نحو يقين يحسم الموقف، أو على الأقل يحرك مسار الحرب الدائرة حاليا نحو نهاية تضع فيها أوزارها، بغض النظر عن المنتصر والمنهزم فيها.
يبدو أن هذا الرد الذي روّجت له مراكز الاستخبارات العالمية، خاصة الأمريكية والإسرائيلية، قد تحقق وفق ما تريده أطراف الصراع في المنطقة، خاصة إسرائيل وأمريكا.
هنا يطرح السؤال الآتي: هل ستكتفي إيران بهذا الهجوم على إسرائيل، حتى لو ردّت عليها هذه الأخيرة، وبالتالي قبولها لسياسة الفعل ورد الفعل في المجال العسكري للحرب الجارية الآن في فلسطين ولبنان؟
ليس في مقدور إيران أن تظل ثابتة على مواقفها الرّاهنة، ذلك أنها ستكون مجبرة على دخول حرب إقليمية واسعة النطاق، ولو بالحدود الدنيا، كأن تتحول إلى طرف مساند عسكريا بشكل مباشر لحركات المقاومة، خاصة على الجبهة اللبنانية، وعندها ستجد نفسها معاقبة من الولايات المتحدة الأمريكية بتدخل عسكري مدمر، أما في حال عدم تدخلها في الحرب بشكل مباشر مُكتفية بهجومها الأخير، وتمكنت إسرائيل من القضاء على حركات المقاومة في غزة وجنوب لبنان، فإنها ستواجه بحرب من إسرائيل بشكل مباشر.
مهما كانت الحالة التي ستؤول إليها الحرب الجارية في غزة وجنوب لبنان، فإن إيران في ورطة بعد هجومها الأخير على إسرائيل، قد لا تخرج منها إلا بتصديرها الحرب للمنطقة كلها، وأحسب أن ذلك ما ستقوم به في مستقبل أيام بالشراكة مع إسرائيل.

مقالات مشابهة

  • ما هي المخاطر التي تنطوي عليها الخيارات الإسرائيلية بشأن الضربات الانتقامية على إيران؟
  • الحوثي يلمح لـتصعيد عالٍ بعمليات المقاومة العراقية قريباً ويعلن استهداف 188 سفينة
  • وحدة كوماندوز أحبطت عملية لـحزب الله.. إليكم ما حاول القيام به
  •  الورْطة الإيرانيَّة
  • رئيس الطب الوقائي: فرق خاصة واستجابة سريعة للتعامل مع أي مشكلة صحية
  • جنبلاط: الحرب الإسرائيلية على لبنان يمكن أن تستمر عامين
  • كيف أصبح التعليم في غزة بعد عام من حرب الإبادة الإسرائيلية؟
  • وزيرة البيئة: افتتاح أول مصنع لتدوير مخلفات قش الأرز في البحيرة قريبا 
  • الاشتباكات مستمرة.. الاحتلال يقوم بعمليات تسلل وتدفق لجنوده عبر الجنوب اللبناني
  • الزبيدي : الخيارات مفتوحة لانتزاع دولة الجنوب