ناصر بن جمعة الزدجالي

خلال الحرب الحالية، تعرضت إسرائيل لأزمة وجودية غير مسبوقة أزمة اختل معها توازن الدولة اليهودية وفقدت مصداقيتها وتلاشى رصيد سمعتها كدولة لا تُقهر وباتت تعيش أزمة ثقة عميقة ووصل الأمر بحكومتها أن ترهن وجودها بمدى ردة فعلها؛ إما أن نكون أو لا نكون لأجل ذلك يرى قادة إسرائيل أنه لابد لهم من القيام بإجراءات حاسمة تتناسب مع هول الحدث وجسامته حتى تتصالح إسرائيل مع نفسها وشعبها.

بالمقال السابق استعرضنا بعض خيارات إسرائيل السياسية والإعلامية وكيف يمكن لإسرائيل توظيف ذلك لخدمة أغراض الانتقام، وبهذا المقال نستكمل بعض الأدوات الأخرى التي لا تقل أهمية وهي البعدين العسكري والاقتصادي.

 

عسكرياً لطالما ارتبطت الحرب بالسياسة وأداة لها كما يقول المفكر الاستراتيجي كارل فون كلاوز فيتز (1831-1780)، وهو ما يجعل الحرب إما خاضعة لاعتبارات وحسابات عقلانية صحيحة أو رعناء خاطئة. ولعل الحل العسكري هو الأداة الأسهل والأسرع على طاولة خيارات قادة إسرائيل ربما الوحيد الذي يمكنه أن يستعيد مؤقتاً شيئاً من الثقة ويضمن نسبياً قدراً من التصالح مع الداخل ويوفر الانتقام الذي تطالب به الجماعات اليمينية المتشددة المتحالفة مع رئيس الوزراء نتنياهو على وجه الخصوص. ومع أن إسرائيل بدأت هذا الخيار مبكراً واستشهد من خلال عملياتها الانتقامية بغزة من الفلسطينيين أعداد تفوق خسائرها بالحرب، إلا أن الواضح أن إسرائيل تريد أن تصل إلى أبعد من هذا بكثير حتى تشفي غليلها وتضمن دفع حماس فاتورة ضخمة نظير قرارها الأخير تصل إلى فقدان وجودها بالكامل وتدمير عناصر قوتها. ومع أنَّ إسرائيل لديها القدرة العسكرية لحشد القوات وتأمين الأسلحة والمعدات اللازمة لقوة نيران غير مسبوقة، وتنفيذ مجمل مخططاتها العسكرية، كما ضمنت الدعم الغربي لها، إلا أنها أيضاً تعلمت والعالم من قبلها أن أي ردة فعل غير مسؤولة يمكن أو تنقلب حتماً على المتسبب بنهاية الأمر فبحجم الدمار الذي ستحدثه الحرب والحالة الاقتصادية والاجتماعية التي ستنجم عن ذلك الدمار بقدر ما تقوي عزيمة ورغبة ذلك الشعب في الصمود والانتقام والانتفاضة من أجل النار. لا نحتاج أن نذهب بعيداً لاستخلاص بعض الدروس المشابهة ومحاولة استقراء ما سيكون عليه الأمر وتوقع ردة فعل إسرائيل المحتملة في هذه الحرب، فخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في عام ٢٠١٤ تغللت إسرائيل إلى داخل غزة وأعادت احتلالها لمدة ٥٠ يوماً من خلال عملية نجم عنها استشهاد حوالي۲۰۰۰ فلسطيني وأحدثت قدراً كبيرا من الدمار. يومها تكبدت إسرائيل حوالي۷۰ قتيلاً من خيرة جنودها، إلا أن حماس سرعان ما عادت أقوى من ذي قبل. لا أعتقد أن إسرائيل لديها الصبر والحكمة لتعود إلى أرشيفها العسكري لتدرس التاريخ وإنما ستندفع بقوة إلى التنفيذ لتضمن هزيمة المقاومة وتحييد دورها لفترة أطول. ومن المتوقع أن تتركز الأهداف العسكرية على التالي:

 

أ- القيام بعمليات تمشيط بالمناطق الحدودية المتاخمة لغزة بهدف طرد أفراد المقاومة نهائياً خارج السياج الحدودي حركة المقاومة. اسرائيل تبعات ذلك. بضمان الحصول على هبات ومساعدات لإعادة البناء وتعويض السكان معنوياً واقتصادياً وتقليص الآثار والنتائج العكسية للحرب على الاقتصاد الإسرائيلي.

ب- العمل لاستعادة الأوضاع الأمنية بالحدود مع القيام بعمليات إخلاء واسعة لتسمح بتتبع المقاتلين والتعامل معهم بشكل مباشر

ج- الإغلاق التام للحدود والمعابر وتأمين الحدود البحرية مع فرض حصار بحري واسع.

د- القيام بعمليات قصف جوي مستمرة للبنية الأساسية لمعاقبة السكان، وقصف البنية الاقتصادية والورش لمنع أي قدرات تصنيعية مزدوجة وتدمير؛ أي مقرات لها علاقة بحركات المقاومة.

هـ- استهداف بعض الشخصيات البارزة بحماس والجهاد الإسلامي وعائلاتهم.

و- تدمير واسع للأرض بهدف تعطيل الأنفاق المحتملة بين القطاع وداخل إسرائيل.

ز- القيام بعمليات خاصة من خلال قوات النخبة مثل لواء جولاني والشبح وغيرها من القوات (مع أنها الأكثر تضرراً بالحرب يوم أمس)؛ لإعادة احتلال غزة والقيام بعمليات انتقامية وتفكيك المقاومة.

ح- العمل على تحديد أماكن الرهائن والعمل مع المخبرين على القيام بعمليات إنقاذ شاملة.

ط - التفاوض للانسحاب بعد تحقيق الأهداف مع السعي لتنصيب قيادة بديلة أو تسليم القطاع لإدارته من قبل السلطة الفلسطينية أو تنصيب محمد دحلان أو تسليمه لمصر.

ي- تحييد أي أطراف معادية أخرى كحزب الله والحيلولة دون دخولها الحرب بشكل كامل.

اقتصاديا

مع الحجم الكبير للتداعيات الاقتصادية لهذه الحرب على اقتصاد إسرائيل وبيئتها الاستثمارية، إلا أن هذا البعد غير مرشح أن يكون حاضراً بقوة في ردة الفعل المتوقعة ومع ذلك ستقوم إسرائيل بتوظيف هذا البعد توظيفاً جيداً لقلة كلفته وسهولته النسبية مقارنة بالأبعاد الأخرى، بالإضافة الى قدرتها على التأثير على الأبعاد الأخرى. ويمكن أن تكون أهداف إسرائيل الاقتصادية كالتالي:

أ- السعي للحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية عاجلة لدعم اقتصاد الحرب وتقليص تحمل إسرائيل تبعات ذلك.

 ب- ضمان الحصول على هبات ومساعدات لإعادة البناء وتعويض السكان معنوياً واقتصادياً وتقليص الآثار والنتائج العكسية للحرب على الاقتصاد الإسرائيلي.

ج - فرض حصار اقتصادي واسع على قطاع غزة لمنع الواردات ومراقبة المتسللين عبر الحدود مع مصر ومن ناحية البحر.

د - إغلاق المعابر الحدودية والتضييق على القادمين عبر الحدود

هــ - سحب تراخيص العمل داخل إسرائيل الممنوحة لسكان غزة والتي تصل إلى حوالي ٢٠ ألف تصريح.

و- مراقبة التحويلات ووقف المساعدات المادية للقطاع ووقف البرامج الإنمائية كبرنامج المساعدات القطرية وغيرها.

بطبيعة الحال لا تزال الأحداث تتشكل والمعلومات تتدفق بسرعة كبيرة لذلك تكون الأهداف هي أيضاً متحركة تماماً مثل ما قامت به إسرائيل بعد حرب يوم الغفران أو خلال فترة الصراع الممتدة وكان آخرها حرب ۲۰۱٤ على غزة أو بالحرب مع حزب الله أو حتى من خلال استراتيجية الولايات المتحدة بعد أحداث 9 سبتمبر ۲۰۱۱ بطبيعة الحال يمكن لإسرائيل أن تقوم بالكثير من الإجراءات المؤلمة للطرف الآخر وتنقل المعركة غير المتكافئة إلى غزة الأقل تجهيزاً، لكن لكل سياسة حدود وقيود هي بلا شك خيارات صعبة جداً يتطلب معها دراسة العواقب كما أن تأثيرها يظل محدوداً وقد تكون نتائجها عكسية كما يعلمنا التاريخ من دروس العمليات بأفغانستان والعراق، لكن نتنياهو وحكومته يرى أنه ليس لديه الوقت لدورة تخطيط كاملة لتقييم الأمر ودراسة كافة السيناريوهات والبدائل.

لا أتوقع أن خطط الطوارئ المستفادة من عمليات وحروب إسرائيل السابقة يمكن أن توفر له خطة جاهزة للتطبيق السريع لأنه ببساطة لكل حرب ظروفها والتاريخ لا يعيد نفسه أعتقد أن نتنياهو يفكر بنتيجة كل يوم على حدة ويقوم بتجزئة الحرب الانتقامية على مراحل صغيرة ومتعددة، إنه ينظر فقط للنتائج المتوقعة خلال ما تبقى من فترة حكومته دون مراعاة كافية وواقعية للمستقبل.

ما سطر أعلاه مجرد قراءة تحليلية سريعة ومقاربة من واقع الأحداث التاريخية والسياسات الإسرائيلية خلال السنوات الماضية بطبيعة الحال قد تزيد هذه الأبعاد وقد يتم توظيف أبعاد أخرى أكثر جدوى وقد تلجأ إسرائيل الى إضافة أهداف أكثر وأكبر، وقد تستبعد أهدافاً أخرى، لذلك تعد هذه السيناريوهات هي مجرد تنبؤات قد تصيب وتخطئ بمسار الأحداث المقبلة.

** عميد ركن متقاعد، وخبير ومستشار استراتيجي

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟

قالت مجموعة الأزمات الدولية إن الأزمة الوجودية الحادة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية تفاقمت، ويلومها الفلسطينيون إما لضعفها في مواجهة عدوان الاحتلال أو بسبب تنسيقها الأمني معه. في حين تتهمها إسرائيل بعدم الفعالية في قمع المسلحين الفلسطينيين، وفرض الأمن على عناصر المقاومة بالضفة الغربية.

جاء ذلك في تقرير نُشر الأسبوع الماضي لكبير محللي فلسطين في مجموعة الأزمات الباحثة تهاني مصطفى بعنوان "توغلات إسرائيل في الضفة الغربية تسلط الضوء على معضلات السياسة الفلسطينية".

وقد بدأت إسرائيل عملية "الجدار الحديدي" في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد يومين فقط من دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ، مما أدى إلى تصعيد عسكري واسع النطاق لقمع المقاومة المسلحة الفلسطينية في الضفة.

وتسببت عمليات الاحتلال في دمار واسع للمخيمات والمناطق الحضرية المجاورة لها بالضفة، حيث وصف السكان أحياءهم بأنها "غزة مصغرة". وأدى هذا الدمار إلى تشريد ما لا يقل عن 40 ألف شخص، في وقت يؤكد فيه الإسرائيليون أنهم لن يسمحوا بعودة هؤلاء إلى مخيماتهم، حسب ما جاء في التقرير.

الاحتلال دمر عشرات المنازل والشوارع بشكل جزئي وكامل في مخيم طولكرم (الجزيرة)

الجزيرة نت حاورت محللين وباحثين مختصين في الشؤون الفلسطينية لتسليط مزيد من الضوء على هذه القضية، وخلاصة ما وصلوا إليه يمكن إجمالها في النقاط التالية:

إعلان السلطة الفلسطينية تتحمل الجزء الأكبر مما يحدث في الضفة الغربية. السلطة لم تقدم البدائل الحقيقية لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وخلقت حالة من الترهل داخل المنظومة السياسية الفلسطينية. السلطة مسؤولة عن انسداد الأفق السياسي واستمرار الانقسام الداخلي بوصفها السلطة الحاكمة والمسؤولة عن إدارة البيت الفلسطيني. تخلي السلطة عن مسؤوليتها الوطنية في قيادة الشعب نحو التحرير وإقامة الدولة يدفع الشعب نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية. السلطة لا تعتمد على الشعب الفلسطيني في البقاء، فهي لا تحتاج إليه ماليا أو سياسيا، بل تحتاج إلى دعم كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يوجد في الواقع أي بديل حاليا للسلطة الفلسطينية، ورغم الاستياء الشعبي من أدائها الذي تعكسه استطلاعات الرأي فليس هناك دافع للإصلاح. السلطة واقعيا أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال حيث توفر الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية. السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو، بعد أن فقدت أوراق المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها وتقليص دورها. السلطة ما زالت تعوّل على اتفاق أوسلو رغم أنه انتهى سياسيا وواقعيا، وهناك قرارات من الكنيست تمنع تطبيق بنوده. السلطة تتحمل مسؤولية انهيار المنظومة الأمنية أمام توحش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين، وعدم الاعتراض على ذلك. السلطة تخشى مواجهة الاحتلال أو غض الطرف عن نشاط المقاومين في الضفة خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطة المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني. الوجود العسكري الإسرائيلي المتكرر في الضفة حوّل السلطة إلى شبه بلدية تتحمل الأعباء الصحية والتعليمية الثقيلة، وباقي الملفات المصيرية ذهبت لإدارة الاحتلال العسكرية. إسرائيل تنوي تحويل المخيمات في الضفة الغربية إلى "غزة مصغرة"، أي تدميرها بالكامل. ليس من الصحيح أن السلطة الفلسطينية كانت تحتكر السيطرة في الضفة، فمنذ نشأتها وهي تواجه صعوبة في فرض إرادتها على كامل الضفة، فهي كيان نشأ في الخارج أولا ثم فُرض على الفلسطينيين. يجب على السلطة أن تأخذ قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال وأن تتحول إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال. يجب فصل السلطة الفلسطينية التي تقدم الخدمات للمواطنين عن منظمة التحرير الفلسطينية المعنية بتحقيق تقرير المصير.

 

تقول تهاني مصطفى -في مقابلة مع الجزيرة نت- إن السلطة الفلسطينية تتحمل جزءًا من المسؤولية عما حدث، إما من خلال تقديم بدائل محدودة جدًا لمعظم الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثل فرص اقتصادية ضعيفة، وتدهور مستويات المعيشة، وعدم القيام بأي شيء لمحاولة التخفيف من حدة العنف في الضفة الغربية من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وعدم الدفاع عن الفلسطينيين بشكل صحيح سياسيًا على الساحة الدولية.

إعلان

لا أعتقد أن السلطة الفلسطينية تعتمد على الفلسطينيين للبقاء، فهي لا تحتاجهم ماليًا أو سياسيًا، إنها تحتاج دعم الولايات المتحدة وإسرائيل، فهما الكيانان القويان اللذان يحددان بقاء السلطة، وهي تعرف ذلك، ورغم الاستياء الشعبي الكبير الذي عبرت عنه استطلاعات الرأي مرارًا وتكرارًا فليس لديها أي دافع للإصلاح.

ما دامت الولايات المتحدة مستمرة في توفير البقاء للسلطة، وتستمر أوروبا في تقديم الدعم، وإسرائيل تسمح لها بالبقاء، فإنها ستبقى. وهذا شيء كان واضحًا جدًا خلال 16 شهرا الماضية، فالسلطة الفلسطينية لا تريد التعامل إلا مع الأميركيين والأوروبيين.

لم يحاول قادة السلطة حتى القيام بالكثير فيما يتعلق بما يحدث في قطاع غزة أو حتى في الضفة الغربية، حتى أن الوسطاء الإقليميين مثل قطر كانوا يقولون إن المشكلة ليست أن السلطة الفلسطينية لم تُدعَ إلى طاولة المفاوضات لوقف إطلاق النار، بل لأنها ترفض الحضور.

طبيعة الاحتلال قد تغيرت، فإسرائيل لن تتحمل أي مسؤولية تجاه 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية من حيث توفير الخدمات، والمجتمع الدولي لن يتمكن من القيام بذلك مباشرة، وليس هناك بديل حقيقي للسلطة الفلسطينية.

حتى الفلسطينيين لا يستطيعون تصور بديل الآن، وهو ما يعد أكبر إنقاذ للسلطة الفلسطينية، فبقاؤها بالكامل يعتمد على التنسيق الأمني، وحتى (حركة المقاومة الإسلامية) حماس تدرك أنه يجب أن يكون هناك هذا التنسيق.

السلطة الفلسطينية بشكل عام بدأت تفقد قبضتها منذ فترة طويلة، وهذا ليس لأن الفلسطينيين لا يريدونها أو لأنهم يرون بدائل، ولكن لأنها من الناحية المالية مقيدة جدًا نتيجة ممارسات الاحتلال، بالإضافة إلى الفساد الداخلي للسلطة الفلسطينية الذي يسهم في أن تفقد السلطة قبضتها.

السلطة الفلسطينية لم تكن تحتكر السيطرة على الضفة الغربية طوال الوقت، فعملها كان شاقا للغاية منذ نشأتها، فهي لم تكن كيانًا طبيعيًا نشأ في الضفة الغربية، لقد كانت شيئًا مفروضًا على الفلسطينيين من الخارج.

 

السلطة الفلسطينية تتحمّل مسؤولية كبيرة عن انهيار المنظومة الأمنية الحامية للفلسطينيين أمام توحّش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين في عموم الضفة الغربية، ويعود ذلك لعدة أسباب منها:

إعلان التزامات اتفاقية أوسلو التي جعلت الأجهزة الأمنية والأمن الوطني أداة لحماية المستوطنين، وملاحقة النشطاء والمقاومين للاحتلال، بذريعة محاربة الأعمال "الإرهابية" الضارّة بالسلام ومسار المفاوضات المتوقّف منذ عام 2014. مع أن اتفاقية أوسلو انتهت سياسيا وواقعيا، فإن السلطة الفلسطينية تخشى مواجهة الاحتلال وانتهاكاته أو غض النظر عن النشطاء والمقاومين، وذلك خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطوية المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني الذي يشكّل حاجة إسرائيلية مدعومة من الولايات المتحدّة. استخدام الولاء المطلق لمنتسبي الأجهزة الأمنية في تصفية الحسابات مع المعارضين السياسيين عبر الاعتقال أو الحرمان الوظيفي أو التحييد كما حصل مع المعارض نزار بنات ابن مدينة الخليل الذي توفي بعد ساعات من اعتقاله لدى أجهزة أمن السلطة في يونيو/حزيران 2021.

خطورة ذلك أن السلطة الفلسطينية ستفقد شرعيتها في عين المواطن الفلسطيني الذي ينتظر منها الحماية أمام انتهاكات الاحتلال وعبث المستوطنين الذين وصلت بهم الجرأة إلى سرقة الأغنام وقطع أشجار الزيتون وحرق المركبات والبيوت، كما حصل في قرية حوّارة جنوب نابلس في فبراير/شباط 2023، دون أي حراك من السلطة أو دفاع من أجهزتها الأمنية.

التخلي عن المسؤولية الوطنية يُفقد السلطة أهليتها السياسية في قيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية، مما يدفع الشعب الفلسطيني إلى الاتجاه نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية.

فكرة التنسيق الأمني مع الاحتلال تعد خطيئة من حيث البدء، وكان من المفترض ألا تكون، فمن غير المنطقي أن تعمل سلطة فلسطينية وأجهزتها الأمنية لصالح الاحتلال أو تمنحه معلومات عن النشطاء والسياسيين والعاملين في الحقل الوطني.

الاحتلال تنصّل سياسيا من التزامات اتفاقيات أوسلو، وتبنّى الكنيست الإسرائيلي تشريعا في يوليو/تموز 2024 يرفض فيه قيام دولة فلسطينية بوصفها خطرا وجوديا على دولة إسرائيل ومواطنيها.

إعلان

أصبح من الضرورات السياسية والوطنية أن تأخذ السلطة الفلسطينية قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن تتحوّل إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال بكافة الوسائل وأشكال المقاومة.

واقعيا، السلطة الآن أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال عبر توفير الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية، وبجودة منخفضة، بسبب الفساد الإداري والعجز المالي وغياب معايير الشفافية.

السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو بعد أن فقدت ورقة المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها، وتقليص دورها حتى الإداري بسحب العديد من صلاحياتها التي من المفترض أن تطلع بها، لا سيّما في المناطق المصنّفة "إي" حسب تقسيمات اتفاقيات أوسلو لأراضي الضفة الغربية.

الرئيس محمود عباس يفقد بالتدريج قدرته على السيطرة، ولو على أجزاء من الضفة الغربية، وسيحوّله الاحتلال واقعيا وفي وقت قريب إلى رئيس لسلطة مدنية محلية تحت السيادة الإسرائيلية، إن بقيت السلطة على هذه الشاكلة من دون استدراك عاجل على دورها السياسي والوطني.

 

لا يختلف اثنان من الفلسطينيين حتى ممن ينتمون لحركة فتح التي انبثقت منها السلطة الفلسطينية على أنها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما حل في الضفة الغربية، نظرا لعدد  من الأسباب:

السلطة تتحمل الجزء الأكبر فيما يتعلق باستمرار الانقسام الفلسطيني لأنها في النهاية السلطة الحاكمة والمسؤولة. عدم قدرتها على تجديد الوجوه مما خلق حالة من الترهل داخل أجسام السلطة في كافة المستويات، وهذا الأمر انعكس على رؤية السلطة السياسية نتيجة الاتكاء على فرضية أن الولايات المتحدة معنية بحل الدولتين، وبالتالي لا حاجة لاستحداث وسائل أخرى. السلطة لم تخلق أي رؤية إستراتيجية واكتفت بخط سياسي غير موجود عمليا، مع وجود حالة من البحث عن المصالح الشخصية الضيقة، وبالتالي وصلنا إلى هذا الوضع المتردي أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وبالتالي السلطة الفلسطينية تتحمل الجانب الأهم في ذلك. إعلان

جزء من الفلسطينيين يرى أن السلطة عقبة أمام القدرة على مواجهة الاحتلال، وكذلك هناك من يرى أن وجودها بات عبئا على الفلسطينيين كون سلاحها مستخدما ضد الفلسطينيين بشكل أو بآخر.

هذه الحالة من التخلي عن البعد السياسي وقبول البعد الإداري فقط يترتب عليها ما يلي:

السلطة الفلسطينية ستتحول إلى جهاز إداري فقط يتحمل جزءا من أعباء الفلسطينيين لكنه في الوقت نفسه سيستميت من أجل الدفاع عن نفسه. سنكون أمام حالة من السلطة التي وافقت على تحديد صلاحياتها وتقزيم نفسها، لكنها لن تقبل التخلي عن أي دور. سيولد ذلك حالة من اصطدام داخلي إن لم يكن هناك حراك داخلي فلسطيني باتجاه ترسيخ حلول داخلية ووحدة فلسطينية وإنتاج مظلة جديدة تجمع الكل الفلسطيني.

السلطة الفلسطينية يجب أن تتخلى عن التنسيق الأمني منذ سنوات طويلة، وكانت هناك قرارات من المجلس المركزي الفلسطيني نفسه طالب السلطة بضرورة التخلي عن التنسيق الأمني.

في الفترة الأخيرة، لم تعد إسرائيل تكترث بالتنسيق الأمني كثيرا مع السلطة، لأن إسرائيل عمليا باتت تسيطر أمنيا على الضفة الغربية بشكل كبير.

السلطة الفلسطينية فقدت أوراق السيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية، فهي اليوم ترمى في زاوية تحمل أعباء الفلسطينيين الصحية والتعليمية وغيرها، وباقي الملفات تسحب منها شيئا فشيئا وتذهب لإدارة الاحتلال العسكرية.

السلطة بذلك تحولت إلى شبه بلدية في الضفة الغربية، وهذا لا يرجع فقط للاجتياح المتكرر لمناطق الضفة، بل لأنها قبلت على نفسها مع مرور الوقت الانحناء كثيرا تحت عنوان "الصبر الإستراتيجي" و"الحكمة في التعاطي"، وتحت عناوين مختلفة ومتنوعة ومتعددة.

مقالات مشابهة

  • الشيخ نعيم قاسم : اسناد غزة لم يكن سبب الحرب على لبنان ..!
  • لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟
  • إعلام العدو:المسيرات الإسرائيلية تغتال 700 شخص من غزة ولبنان منذ بدء الحرب
  • هآرتس: القانون ضد الأونروا هو جزء من الحرب الإسرائيلية ضد إقامة دولة فلسطينية
  • العربي للدراسات السياسية: إسرائيل تستخدم سلاح التجويع للضغط على المقاومة
  • نتنياهو والعودة إلى الحرب
  • حماس: نتنياهو يتحمل مسؤولية الحصار والتجويع
  • خطة الجحيمفي غزة.. ما الذي تخطط له حكومة نتنياهو ؟
  • صحف عالمية: سحب القوات الإسرائيلية من غزة ضرورة لإنقاذ الأسرى
  • حماس: الاعتداءات الإسرائيلية على المساجد تصعيد خطير وحرب دينية