محيي الدين بن عربي: شيخ الصوفية الأكبر الذي غيّر مفهوم الوجود

وحدة الشريعة والطريقة والحق: مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي

التصوف ممارسة روحية للوصول إلى الله

الشريعة هي الأساس.. والطريقة هي الوسيلة.. والحق هو الهدف

 

 

بسبب تلك الاتهامات المتناثرة هنا وهناك وبين هذا وذاك، حاولت البوابة اقتحام هذا الملف، ألا وهو ملف شيخ الصوفية الأكبر مولانا محيي الدين بن عربي، لنكتشف سر هذا الجدل الذي يتجدد بين الحين والآخر في كل زمان وفي كل مكان، وبات حاليًأ موضوعا رئيسيا على صفحات المتصوفة من ناحية والوهابية من ناحية أخرى بمواقع التواصل الإجتماعي، فلا عجب أبدًا لأي متابع للصوفية وصفحاتهم ومقالاتهم وكذلك على الجانب الأخر إذا رأي خلافا كل يوم حول فكر بن عربي وشخصه وتاريخه.

ومن ناحيتنا حاولنا تقصي الأمر والبحث في فكر "بن عربي"، فوجدنا بداية أن خلاصة ما فعله الشيخ الأكبر هو محاولة الوصول لمعنى الحياة كلها، على اعتبار انه صاحب التعريف الأشهر لمعنى الوجود، واكثر من بين هذا المفهوم وشرحه في كتبه ورسائله، بل يعتبره البعض انه صاحب هذا التفسير الكوني الوحيد ألا وهو "وحدة الوجود".

في هذا الملف، سنحاول استعراض حياة وآثار سيدي محيي الدين بن عربي، والتعرف على مذهبه ومنهجه في التصوف والفلسفة والأدب. سنتطرق إلى بعض من كتبه المشهورة، مثل "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق". سنناقش أيضا آراء العلماء في شخصه ومؤلفاته، بين المؤيدين والساكتين والمخالفين. سنحاول أن نستخرج من تراثه دروسا وعبرا تنير لنا الطريق، لمن يريد.



 

محيي الدين ابن عربي: رحلة صوفية طويلة عبر العالم الإسلامي

بعيدًا عن مسائل الجدل ومن يثيره ومن يبرره، فمن المؤكد أن للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي مكانة كبيرة في التاريخ العربي، ويعد شخصية فذة في تاريخ الإسلام والحضارة الإنسانية. فهو شاعر وفيلسوف ومتصوف أندلسي الأصل، أثرى الثقافة الإسلامية بأعماله العظيمة، وأثار التفكير بأفكاره المتجددة.

لقد كان الشيخ الأكبر، المولود يوم الاثنين 17 رمضان560 هـ، 26 يوليو 1165 م، في مرسية بشرق الأندلس، رحالة في بلاد الإسلام، ومعلما للصوفية، ومؤلفا لكتب في مجالات مختلفة من العلوم الإسلامية، و ترك إرثا ضخما من المؤلفات، التي تعتبر مصادر أساسية للدراسات الصوفية والفلسفية والأدبية. 

كما اشتهر "بن عربي" بعقائده ونظراته الصوفية، التي أثارت جدلا كبيرا بين المسلمين، وهو ابن أسرة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، اشتهر رجالها بالعلم والصلاح والنفوذ في الأوساط الحاكمة، وذلك في زمن حكم أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش، وكان أبوه مسؤولَا في جيش حاكمها.

وما قيل عنه انه قد اعتبر نفسه خاتم الأولياء، أو آخر من يصل إلى مرتبة الولاية الكاملة، لاسيما حديثه عن مفهوم وحدة الوجود، أو أن كل ما يوجد هو ظهور وتجلي لله تعالى. وأيضا له مفهومه عن الإنسان الكامل، أو أن الإنسان هو مرآة لجميع أسماء الله وصفاته، وكذلك مفهومه لما يعرف بالعشق الإلهي وأن الحب هو القوة المحركة للكون.

وللشيخ بن عربي، المدفون في قبر يزار حتى الآن في دمشق منذ وفاته في 28 ربيع الثاني638 هـ الموافق 16 نوفمبر 1240 م، العديد من المؤلفات أبرزها "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق" و"لا يعول عليه، والكثير غيرها مما جعله صاحب أكبر عدد من المؤلفات في التاريخ العربي، إلا أن "الفتوحات المكية" ستظل هي الأشهر.

و"الفتوحات المكية" هي مؤلف صوفي كبير للشيخ بن عربي، كتبها خلال رحلاته في بلاد الإسلام، وأراد فيها أن يعرض معارفه الروحية والشرعية والحكمية التي فتحها الله عليه، وتضم الفتوحات المكية 560 فصلا في موضوعات مختلفة، وتعتبر موسوعة تصوفية شاملة.

لقد أثارت الفتوحات المكية جدلا كبيرا بين العلماء والصوفية، بسبب طريقة عرض ابن عربي للمعارف الصوفية، وبسبب بعض المفاهيم التي اعتبرها بعضهم مخالفة للعقائد الإسلامية، مثل مفهوم الوحدة الوجودية والإنسان الكامل والعشق الإلهي. لذلك، قد تكلم العلماء حول هذا الكتاب بين المؤيدين والساكتين والمخالفين. 

ورغم تفوق الشيخ الأكبر في العلم والفكر، إلا أنه واجه انتقادات كبيرة من قبل بعض العلماء والعقلاء في عصره. نتيجة للطابع الجريء لأفكاره وآرائه المختلفة، اعتبر بن عربي بعض الأحيان مثيرًا للجدل ومتهمًا بالتطرف في الفكر الديني. هذه الهجمات لم تؤثر على شهرة بن عربي وتأثيره على العالم، بل زادت من تاريخه الكبير كفيلسوف وعالم ومرجع للتفكير الديني.

لقد ترك الشيخ محيي الدين بصمة عميقة في التاريخ والفكر الإسلامي. ظلت أفكاره ومبادئه خالدة على مر العصور، مما جعله مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة والعلماء والفكراء في العالم. اليوم، مازالت أعماله موضوعًا للدراسات العديدة وقد أصبح اسمه مستعارًا للحكمة والروحانية.

 ويمكننا القول أن "بن عربي" رغم التحديات والانتقادات، نجح في تأسيس تفكير مبتكر ورؤيا جريئة حول الوجود والروحانية. إن تأثيره الكبير على الثقافة الإسلامية والفلسفة يستمر حتى يومنا هذا، وسيبقى اسمه سالمًا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.

 

 

"وحدة الوجود": حلول أم تجلى؟

منذ الأزل، كان الإنسان يحاول فهم معنى الوجود، وهل العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية؟ أم هو مجرد وهم؟ أم هو شيء آخر؟،  فقدم لنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، الصوفي والفيلسوف الإسلامي الشهير، رؤية مختلفة للوجود الإلهي، فهو يرفض الرؤية المادية التي ترى العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ويرفض أيضًا الرؤية الروحانية التي ترى العالم مجرد وهم.

يذهب ابن عربي إلى أن الله هو الواحد الأحد. فالله هو خالق كل شيء، وهو مصدر الوجود كله. وكل ما سواه من الموجودات هو مخلوق من قبل الله، فيقول: "كل شيء في الوجود هو من الله، وليس شيء في الوجود إلا الله".

في رؤية ابن عربي، العالم هو تجلي لله. فالله هو الموجود الحقيقي الوحيد، وكل ما سواه من الموجودات هو ظل، أو تجلى لله، ولكنه لا يعني أن الله يحل في الموجودات أو يتحد بها، وأن العالم ليس مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ولكنه تعبير عن صفات الله وكمالاته. فكل شيء في العالم، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، هو دليل على وجود الله وعظمته.

محيي الدين بن عربي: إله واحد.. وجود واحد

يستخدم ابن عربي مصطلح "الظل" أو "التجلي" للإشارة إلى أن كل ما سواه من الموجودات ليس موجوداً بذاته، ولكنه يعكس صفات الله وكمالاته. فالله هو النور، وكل شيء في الوجود هو ظل أو تجلي لهذا النور، وهنا يقول بن عربي: "كل شيء في الوجود هو ظل لله، والظل لا وجود له إلا بوجود النور".

يؤكد ابن عربي أيضًا على أن الله موجود بذاته، وأن الموجودات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. فالله لا يحل في الموجودات، ولا يتحد بها، فيقول ابن عربي: "الله موجود بذاته، والمخلوقات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. لا يمكن أن يحل الله في الموجودات أو يتحد بها".

تعد وحدة الوجود من أكثر العقائد الصوفية جدلاً. وقد تعرضت لانتقادات كثيرة من قبل بعض العلماء والدعاة، فبعض العلماء يرى أن وحدة الوجود تؤدي إلى إلغاء وجود الله، وأنها تجعل الله مرتبطًا بالموجودات، بينما يرى آخرون أن وحدة الوجود لا تعني إلغاء وجود الله، ولكنها تعني أن الله هو مصدر الموجودات كلها، وأن الموجودات كلها ترتبط بالله.

الشريعة والطريقة والحق: الثلاثة التي لا يمكن فصلها

يعتقد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أن الشريعة والطريقة والحق هي ثلاثة أبعاد مترابطة في طريق المريد إلى الله. فالشريعة هي الأساس، والطريقة هي الوسيلة، والحق هو الهدف.

وهكذا، فإن وحدة الشريعة والطريقة والحق هي مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي، وهو مفهوم يؤكد على أهمية هذه الأبعاد الثلاثة في الوصول إلى الله.

فالشريعة هي مجموعة من الأحكام والقواعد التي تنظم حياة المسلم، وهي تستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية. ويرى الشيخ الأكبر أن الشريعة هي التي تحدد المسار الذي يجب على المريد أن يسير فيه، وهي التي تساعده على الابتعاد عن المحرمات، والالتزام بالواجبات.

أما الطريقة فهي الممارسة الروحية التي تساعد المريد على الوصول إلى الله. وهي تتضمن مجموعة من الآداب والسلوكيات والممارسات التي يتبعها المريد في سعيه إلى الله. ويرى الشيخ الأكبر أن الطريقة هي التي تمنح المريد التوجيه والإرشاد، وتساعده على التغلب على العقبات التي يواجهها في طريقه إلى الله.

وأخيرًا، فإن الحق هو الهدف النهائي الذي يسعى إليه المريد. وهو الوصول إلى الله، والاتحاد معه. ويرى الشيخ الأكبر أن الحق هو الغاية من الشريعة والطريقة. فالشريعة والطريقة هما وسائل تساعد المريد على الوصول إلى الحق.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الشیخ الأکبر الوصول إلى مجموعة من فی التصوف کل شیء فی إلى الله ابن عربی الله هو أن الله

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: التراث الإسلامي أساس للاجتهاد في الفتوى وصيانة لمصلحة الأمة

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن التراث الإسلامي يشكّل أساسًا راسخًا للاجتهاد في إصدار الفتاوى، وأن الإفادة منه ضرورة لتحقيق مصالح الأمة في ظل التحديات المعاصرة، موضحًا أن التعامل مع التراث يجب أن يكون بمنهج علمي يقوم على التوازن والاعتدال دون إفراط ولا تفريط، إذ يمثل حصيلة فكرية ضخمة خلفها الأئمة والعلماء والمفكرون عبر العصور.

مفتي الجمهورية يهنئ الشيخ الدكتور صالح الفوزان بتعيينه مفتيًا عامًا للمملكة العربية السعودية مفتي الجمهورية يشارك في الجلسة الافتتاحية «للمؤتمر الدولي عقيدة أهل السنة والجماعة»

جاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقاها فضيلته بكلية الشريعة والقانون، بجامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا، تحت عنوان «التراث كأساس للاجتهاد في إصدار الفتاوى .. التحديات وأهمية الحفاظ على مصلحة الأمة».

التراث الإسلامي

وأوضح مفتي الجمهورية، أن الموقف من التراث الإسلامي في زماننا قد تباين على ثلاثة اتجاهات رئيسة؛ فهناك من غلا في التمسك به حتى جعل منه مرادفًا لصحيح الدين، ودعا إلى الالتزام بكل ما ورد فيه من أقوال ومذاهب دون نظر في تغير الزمان والمكان، معتبرًا فضيلته أن هذا الموقف قاصر لا يعبر عن روح الإسلام، مؤكدًا أن السلف رحمهم الله لو عادوا مرةً أخرى للحياة لتغيرت مواقفهم وآراؤهم بما يتناسب وواقع الحياة اليوم، بينما ذهب آخرون إلى نقيض ذلك فأنكروا التراث وعدّوا الرجوع إليه تخلفًا ودعوا إلى القطيعة معه والانجرار خلف النظريات المادية حتى ولو خالفت الدين، مؤكدًا أن هذا الموقف يجانب المنهج العلمي السليم ويتجاهل القيمة الحضارية والفكرية للتراث الإسلامي، بينما الاتجاه الثالث يتمثل في الموقف الوسط بين هذا وذاك، وهو ما عليه منهج الأزهر الشريف جامعًا وجامعةً، فيأخذون منه ما يتناسب وواقع الناس اليوم، ويرفضون الأخذ بالأقوال والآراء التي قيلت في سياقات تاريخية معينة.

وبين المفتي أن المنهجية المثلى للتعامل مع التراث تقوم على أربعة أركان أساسية هي نفي صفة العصمة عنه، لأنه جهد بشري قابل للخطأ والصواب، وأن التعامل معه ينبغي أن يكون وفق المنهجية التي أشار إليها الفيلسوف ابن رشد رحمه الله «ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم؛ فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم وسُررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبَّهْنَا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم» وقد بين ابن رشد أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع لمن يمتلك ذكاء الفطرة والعدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية، الأمر الثاني الاستثمار، ونقصد به استثمار الصحيح من التراث في خدمة الإنسانية اليوم، وما يمكن أن يسهم في بناء الحضارة الإنسانية، الأمر الثالث، التجاوز، ونقصد به تجاوز الأقوال و الآراء الشاذة والضعيفة والتي لا تتناسب وواقع الناس اليوم، بحيث نتجاوزها إلى الاجتهاد والتجديد وصياغة الأقوال الجديدة التي تتحقق بها مصالح الناس في العاجل والآجل، الأمر الرابع، الاعتبار والدراسة والبحث وهو يتمثل في النظر ـ على سبيل المثال ـ فيما وقع من خلاف في القرن الأول فإنه يجب أن يدرس في إطار البحث العلمي والعبرة التاريخية فقط، وألا يسمح له أن يمتد إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل يجمد من الناحية العملية تجميدًا تاما، ويترك حسابه إلى الله تعالى، مصداقًا لقوله سبحانه: ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾.



وذكر مفتى الجمهورية، أن النص الذي ثبتت قطعيته وثبتت دلالته على الحكم الشرعي لا مجال للاجتهاد فيه، لأنه لا اجتهاد مع النص، أما الاجتهاد فيكون في آلية تطبيق النصوص القطعية على أرض الواقع بما يتناسب مع قدرة الإنسان واستطاعته، بينما النصوص التي ثبتت بطريق ظني أو كانت دلالتها ظنية فهي ميدان الاجتهاد في الفهم قبل التطبيق، وفيها تتعدد أنظار العلماء وآراؤهم تحقيقًا للتيسير وجلب المصالح، غير أن هذا الفهم لا يعد حكمًا شرعيًا قطعيًا بل هو اجتهاد بشري، ومن ثم فإن وصفه بحكم الشريعة فيه مبالغة لأن الأحكام القطعية لا تتعدد ولا تختلف، لقوله تعالى( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) مبينًا أن الأمة هي التي تتحمل مسؤولية اختيار ما يناسبها من الآراء الاجتهادية عبر مؤسساتها الدستورية التي توازن بين الآراء وتنتقي ما هو أقرب إلى الصواب أو أنفع للناس، وربما تمزج بين أكثر من رأي، ولها أن تراجع ما أخذت به إذا تغيّرت الظروف، وبذلك تظل الشريعة حية قابلة للتطور بما يواكب المتغيرات ويحقق المصلحة العامة

وانتقل إلى بيان أهمية النظر المقاصدي في الاجتهاد والفتوى، مؤكدًا أن مراعاة المقاصد أثناء تكييف الفتوى هي الضمانة الأساسية لتحقيق مصالح الأمة وصيانتها، لأن المقاصد تمثل الغايات العليا للشريعة التي توجه حركة التشريع والاجتهاد نحو ما ينفع الناس، والمقصود بالنظر المقاصدي، أن يجتهد الفقيه في استنباط هذه المقاصد من النصوص ويعمل على تحقيقها في الواقع، موضحًا أن مقاصد الشريعة تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وأن حفظ الكليات الخمس، « الدين والنفس والعقل والمال والنسل» يشمل حفظها للأمة قبل الأفراد، فحفظ الدين يعني صيانة العقيدة من الفساد والانحراف، وحفظ النفس هو حماية الأرواح من التلف، وحفظ العقل وقايته من الخلل والجهل، وحفظ المال منع ضياعه واستلابه بغير حق، أما حفظ النسل فهو صيانة النوع الإنساني من الانقطاع والفساد، وكل ذلك يمثل المقاصد الكبرى التي تدور حولها أحكام الشريعة.

وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد الكامل عند الفقيه لا يتحقق إلا بمراعاة مقاصد الشريعة فهمًا وتطبيقًا، كما قرر الإمام السبكي أن الاجتهاد الحق يقوم على إحاطة المجتهد بالقواعد العامة للشريعة وممارسته للنظر في مقاصدها حتى يدرك مراد الشرع وإن لم يصرح به النص، وبيّن الإمام الشاطبي أن درجة الاجتهاد لا تُنال إلا بفهم المقاصد فهما عميقًا مقرونًا بالقدرة على الاستنباط على ضوئها، ومن ثم فإن إغفال هذه القواعد المنهجية في التعامل مع التراث أدى إلى اضطراب في الفقه والفتوى، فظهرت اتجاهات التشدد المفرط والتساهل المخل وصدرت فتاوى شاذة من غير المؤهلين، فوقع الناس في الحيرة والبلبلة، ونشأت نزعات تكفيرية بين الجماعات المتطرفة استهدفت المسلمين ومؤسساتهم، وهي من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات الإسلامية لأنها تزرع الصراع والانقسام وتعرقل وحدة الأمة

ونوه فضيلته أن من أبرز أسباب انتشار فكر التكفير الفهم الخاطئ للنصوص الدينية، سواء القرآن أو السنة، بفهمها فهمًا حرفيًا يغاير مقصودها أو بتأويلها تأويلًا غير معتبر، مثل قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وحديث النبي ﷺ (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، موضحًا أن التعلق بظواهر النصوص دون فهم مقاصدها ومآلاتها يؤدي إلى الغلو المنهي عنه  كما نبّه الشيخ جاد الحق رحمة الله ومن الأسباب كذلك الركون إلى الأقوال الشاذة التي وردت في بعض كتب التراث وخالفت إجماع الأمة وما عليه جمهور العلماء، إذ وجد فيها المتطرفون وسيلة لتسويغ أفكارهم وإضفاء مسحة شرعية عليها، مشيرًا إلى أن الجهل هو السبب المشترك بين هذين المسلكين لأن المبادرة إلى التكفير تغلب على من غلب عليهم الجهل وقصور العلم، كما أشار فضيلته إلى أن خطورة التكفير لا تقف عند حد الفكرة بل تتجاوزها إلى آثار خطيرة تمس الدين والمجتمع، إذ يترتب عليه سقوط الحقوق، واستحلال الدماء والأموال، وتفكك الأسر، وخراب المجتمعات، وقد نبّه العلماء إلى فداحة التساهل فيه، فقال ابن الوزير« إن التسرع في التكفير يفضي إلى مفاسد عظيمة تسقط بها العبادات والحقوق وتضيع بها مقاصد الشريعة»، كما حذر النبي ﷺ من إطلاقه بغير علم بقوله( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وأكد الإمام أبو الحسن الأشعري أنه لا يكفر أحدًا من أهل القبلة لأن الجميع يشيرون إلى معبود واحد وإن اختلفت عباراتهم، وهو منهج وسطي راشد يجمع الأمة على كلمة التوحيد ويصونها من الفرقة والغلو

واختتم فضيلة المفتي كلمته بالتأكيد على أن تكفير المسلمين خطر داهم يهدد وحدة الأمة واستقرارها، وأن الواجب على العلماء أن يتصدوا له بالعلم والحكمة، وأن يعملوا على ترسيخ منهج الوسطية والاعتدال، موضحًا أن التسرع في التكفير يفتح أبواب الفتن ويهدم مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، داعيًا إلى ضرورة التمسك بروح الإسلام السمحة التي تدعو إلى الرحمة والتآلف لا إلى العنف والتناحر، سائلاً الله تعالى أن يوفق العلماء والمفتين لما فيه الخير والرشاد، وأن يجعل الفتوى سبيلًا للهداية ونورًا يبدد ظلمات الجهل والتطرف، وأن يجمع الأمة على كلمة الحق ويؤلف بين قلوب أبنائها، وينشر في العالم قيم السلام والرحمة والعدل.

حضر المحاضرة كل من فضيلة الشيخ أحمد بن فواز علي فاضل، مفتي ماليزيا، و سعادة السفير المصري لدى ماليزيا كريم السادات، وفضيلة الأستاذ الدكتور شريف فودين محمد، رئيس جامعة العلوم الإسلامية، وسعادة الأستاذ الدكتور مشداد حسب الله، نائب رئيس الجامعة، وسعادة الأستاذ محمد عز الدين، مدير مركز معرفة التراث الإسلامي بالجامعة، إضافة إلى عدد من القيادات الدينية والعلمية الماليزية وفي ختام اللقاء، تم تكريم فضيلة مفتي الجمهورية ومنحه لقب “أستاذ زائر” بجامعة العلوم الإسلامية الماليزية، تقديرًا لجهوده المخلصة في نشر الفكر الوسطي، وتعزيز الحوار الحضاري، ودعم العلاقات العلمية والدينية بين مصر وماليزيا.

مقالات مشابهة

  • موفد عربي رئاسي الى بيروت.. و الحزب مُلتزم بتطبيق وقف النار
  • يوسف زيدان: ما يحدث في الموالد جنون فولكلوري جميل لا علاقة له بالتصوف
  • العزة التي أضاعها المطبعون
  • بري يحذّر: وحدة اللبنانيين هي مفتاح الصمود ضدّ إسرائيل
  • ما ضابط الإسراع الذي يؤثر على صحة الصلاة؟.. الإفتاء تجيب
  • التصوف مشروع.. أزهري يعلق على الاحتفال بمولد السيد البدوي وأولياء الله الصالحين
  • مفتي الجمهورية: التراث الإسلامي أساس للاجتهاد في الفتوى وصيانة لمصلحة الأمة
  • الإمام الأكبر ناعيا الشيخ علي عبد الباقي: كان أمينا على نشر رسالة الأزهر ومنهجه الوسطي
  • أردوغان: غزة امتحان للعالم الإسلامي وهناك مفاوضات شاملة بشأن قوة المهام
  • ما الدعاء الذي يفكّ الكرب ويُزيل الهم؟