محيي الدين بن عربي: شيخ الصوفية الأكبر الذي غيّر مفهوم الوجود .. وحدة الشريعة والطريقة والحق: مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
محيي الدين بن عربي: شيخ الصوفية الأكبر الذي غيّر مفهوم الوجود
وحدة الشريعة والطريقة والحق: مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي
التصوف ممارسة روحية للوصول إلى الله
الشريعة هي الأساس.. والطريقة هي الوسيلة.. والحق هو الهدف
بسبب تلك الاتهامات المتناثرة هنا وهناك وبين هذا وذاك، حاولت البوابة اقتحام هذا الملف، ألا وهو ملف شيخ الصوفية الأكبر مولانا محيي الدين بن عربي، لنكتشف سر هذا الجدل الذي يتجدد بين الحين والآخر في كل زمان وفي كل مكان، وبات حاليًأ موضوعا رئيسيا على صفحات المتصوفة من ناحية والوهابية من ناحية أخرى بمواقع التواصل الإجتماعي، فلا عجب أبدًا لأي متابع للصوفية وصفحاتهم ومقالاتهم وكذلك على الجانب الأخر إذا رأي خلافا كل يوم حول فكر بن عربي وشخصه وتاريخه.
ومن ناحيتنا حاولنا تقصي الأمر والبحث في فكر "بن عربي"، فوجدنا بداية أن خلاصة ما فعله الشيخ الأكبر هو محاولة الوصول لمعنى الحياة كلها، على اعتبار انه صاحب التعريف الأشهر لمعنى الوجود، واكثر من بين هذا المفهوم وشرحه في كتبه ورسائله، بل يعتبره البعض انه صاحب هذا التفسير الكوني الوحيد ألا وهو "وحدة الوجود".
في هذا الملف، سنحاول استعراض حياة وآثار سيدي محيي الدين بن عربي، والتعرف على مذهبه ومنهجه في التصوف والفلسفة والأدب. سنتطرق إلى بعض من كتبه المشهورة، مثل "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق". سنناقش أيضا آراء العلماء في شخصه ومؤلفاته، بين المؤيدين والساكتين والمخالفين. سنحاول أن نستخرج من تراثه دروسا وعبرا تنير لنا الطريق، لمن يريد.
محيي الدين ابن عربي: رحلة صوفية طويلة عبر العالم الإسلامي
بعيدًا عن مسائل الجدل ومن يثيره ومن يبرره، فمن المؤكد أن للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي مكانة كبيرة في التاريخ العربي، ويعد شخصية فذة في تاريخ الإسلام والحضارة الإنسانية. فهو شاعر وفيلسوف ومتصوف أندلسي الأصل، أثرى الثقافة الإسلامية بأعماله العظيمة، وأثار التفكير بأفكاره المتجددة.
لقد كان الشيخ الأكبر، المولود يوم الاثنين 17 رمضان560 هـ، 26 يوليو 1165 م، في مرسية بشرق الأندلس، رحالة في بلاد الإسلام، ومعلما للصوفية، ومؤلفا لكتب في مجالات مختلفة من العلوم الإسلامية، و ترك إرثا ضخما من المؤلفات، التي تعتبر مصادر أساسية للدراسات الصوفية والفلسفية والأدبية.
كما اشتهر "بن عربي" بعقائده ونظراته الصوفية، التي أثارت جدلا كبيرا بين المسلمين، وهو ابن أسرة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، اشتهر رجالها بالعلم والصلاح والنفوذ في الأوساط الحاكمة، وذلك في زمن حكم أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش، وكان أبوه مسؤولَا في جيش حاكمها.
وما قيل عنه انه قد اعتبر نفسه خاتم الأولياء، أو آخر من يصل إلى مرتبة الولاية الكاملة، لاسيما حديثه عن مفهوم وحدة الوجود، أو أن كل ما يوجد هو ظهور وتجلي لله تعالى. وأيضا له مفهومه عن الإنسان الكامل، أو أن الإنسان هو مرآة لجميع أسماء الله وصفاته، وكذلك مفهومه لما يعرف بالعشق الإلهي وأن الحب هو القوة المحركة للكون.
وللشيخ بن عربي، المدفون في قبر يزار حتى الآن في دمشق منذ وفاته في 28 ربيع الثاني638 هـ الموافق 16 نوفمبر 1240 م، العديد من المؤلفات أبرزها "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق" و"لا يعول عليه، والكثير غيرها مما جعله صاحب أكبر عدد من المؤلفات في التاريخ العربي، إلا أن "الفتوحات المكية" ستظل هي الأشهر.
و"الفتوحات المكية" هي مؤلف صوفي كبير للشيخ بن عربي، كتبها خلال رحلاته في بلاد الإسلام، وأراد فيها أن يعرض معارفه الروحية والشرعية والحكمية التي فتحها الله عليه، وتضم الفتوحات المكية 560 فصلا في موضوعات مختلفة، وتعتبر موسوعة تصوفية شاملة.
لقد أثارت الفتوحات المكية جدلا كبيرا بين العلماء والصوفية، بسبب طريقة عرض ابن عربي للمعارف الصوفية، وبسبب بعض المفاهيم التي اعتبرها بعضهم مخالفة للعقائد الإسلامية، مثل مفهوم الوحدة الوجودية والإنسان الكامل والعشق الإلهي. لذلك، قد تكلم العلماء حول هذا الكتاب بين المؤيدين والساكتين والمخالفين.
ورغم تفوق الشيخ الأكبر في العلم والفكر، إلا أنه واجه انتقادات كبيرة من قبل بعض العلماء والعقلاء في عصره. نتيجة للطابع الجريء لأفكاره وآرائه المختلفة، اعتبر بن عربي بعض الأحيان مثيرًا للجدل ومتهمًا بالتطرف في الفكر الديني. هذه الهجمات لم تؤثر على شهرة بن عربي وتأثيره على العالم، بل زادت من تاريخه الكبير كفيلسوف وعالم ومرجع للتفكير الديني.
لقد ترك الشيخ محيي الدين بصمة عميقة في التاريخ والفكر الإسلامي. ظلت أفكاره ومبادئه خالدة على مر العصور، مما جعله مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة والعلماء والفكراء في العالم. اليوم، مازالت أعماله موضوعًا للدراسات العديدة وقد أصبح اسمه مستعارًا للحكمة والروحانية.
ويمكننا القول أن "بن عربي" رغم التحديات والانتقادات، نجح في تأسيس تفكير مبتكر ورؤيا جريئة حول الوجود والروحانية. إن تأثيره الكبير على الثقافة الإسلامية والفلسفة يستمر حتى يومنا هذا، وسيبقى اسمه سالمًا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.
"وحدة الوجود": حلول أم تجلى؟
منذ الأزل، كان الإنسان يحاول فهم معنى الوجود، وهل العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية؟ أم هو مجرد وهم؟ أم هو شيء آخر؟، فقدم لنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، الصوفي والفيلسوف الإسلامي الشهير، رؤية مختلفة للوجود الإلهي، فهو يرفض الرؤية المادية التي ترى العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ويرفض أيضًا الرؤية الروحانية التي ترى العالم مجرد وهم.
يذهب ابن عربي إلى أن الله هو الواحد الأحد. فالله هو خالق كل شيء، وهو مصدر الوجود كله. وكل ما سواه من الموجودات هو مخلوق من قبل الله، فيقول: "كل شيء في الوجود هو من الله، وليس شيء في الوجود إلا الله".
في رؤية ابن عربي، العالم هو تجلي لله. فالله هو الموجود الحقيقي الوحيد، وكل ما سواه من الموجودات هو ظل، أو تجلى لله، ولكنه لا يعني أن الله يحل في الموجودات أو يتحد بها، وأن العالم ليس مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ولكنه تعبير عن صفات الله وكمالاته. فكل شيء في العالم، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، هو دليل على وجود الله وعظمته.
محيي الدين بن عربي: إله واحد.. وجود واحد
يستخدم ابن عربي مصطلح "الظل" أو "التجلي" للإشارة إلى أن كل ما سواه من الموجودات ليس موجوداً بذاته، ولكنه يعكس صفات الله وكمالاته. فالله هو النور، وكل شيء في الوجود هو ظل أو تجلي لهذا النور، وهنا يقول بن عربي: "كل شيء في الوجود هو ظل لله، والظل لا وجود له إلا بوجود النور".
يؤكد ابن عربي أيضًا على أن الله موجود بذاته، وأن الموجودات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. فالله لا يحل في الموجودات، ولا يتحد بها، فيقول ابن عربي: "الله موجود بذاته، والمخلوقات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. لا يمكن أن يحل الله في الموجودات أو يتحد بها".
تعد وحدة الوجود من أكثر العقائد الصوفية جدلاً. وقد تعرضت لانتقادات كثيرة من قبل بعض العلماء والدعاة، فبعض العلماء يرى أن وحدة الوجود تؤدي إلى إلغاء وجود الله، وأنها تجعل الله مرتبطًا بالموجودات، بينما يرى آخرون أن وحدة الوجود لا تعني إلغاء وجود الله، ولكنها تعني أن الله هو مصدر الموجودات كلها، وأن الموجودات كلها ترتبط بالله.
الشريعة والطريقة والحق: الثلاثة التي لا يمكن فصلها
يعتقد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أن الشريعة والطريقة والحق هي ثلاثة أبعاد مترابطة في طريق المريد إلى الله. فالشريعة هي الأساس، والطريقة هي الوسيلة، والحق هو الهدف.
وهكذا، فإن وحدة الشريعة والطريقة والحق هي مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي، وهو مفهوم يؤكد على أهمية هذه الأبعاد الثلاثة في الوصول إلى الله.
فالشريعة هي مجموعة من الأحكام والقواعد التي تنظم حياة المسلم، وهي تستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية. ويرى الشيخ الأكبر أن الشريعة هي التي تحدد المسار الذي يجب على المريد أن يسير فيه، وهي التي تساعده على الابتعاد عن المحرمات، والالتزام بالواجبات.
أما الطريقة فهي الممارسة الروحية التي تساعد المريد على الوصول إلى الله. وهي تتضمن مجموعة من الآداب والسلوكيات والممارسات التي يتبعها المريد في سعيه إلى الله. ويرى الشيخ الأكبر أن الطريقة هي التي تمنح المريد التوجيه والإرشاد، وتساعده على التغلب على العقبات التي يواجهها في طريقه إلى الله.
وأخيرًا، فإن الحق هو الهدف النهائي الذي يسعى إليه المريد. وهو الوصول إلى الله، والاتحاد معه. ويرى الشيخ الأكبر أن الحق هو الغاية من الشريعة والطريقة. فالشريعة والطريقة هما وسائل تساعد المريد على الوصول إلى الحق.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الشیخ الأکبر الوصول إلى مجموعة من فی التصوف کل شیء فی إلى الله ابن عربی الله هو أن الله
إقرأ أيضاً:
الإرهاب باسم الشريعة: قراءة في الاستراتيجيات الخطابية لتنظيم داعش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعكس افتتاحية العدد 489 من صحيفة "النبأ" الصادرة عن تنظيم داعش مساء الخميس 3 أبريل 2025، نمطًا متكرّرًا من الخطاب الأيديولوجي للتنظيم، الذي يرتكز على التكفير، والتحريض، وادعاء احتكار الحقيقة الدينية. يقدّم التنظيم نفسه في هذه الافتتاحية بوصفه الجهة الوحيدة التي تطبّق الإسلام "بصورته الصحيحة"، بينما يصنّف كل من يخالفه في دائرة الكفر أو النفاق، مما يعكس منهجًا إقصائيًا يسعى إلى نفي أي اجتهاد ديني أو رؤية مختلفة للشريعة الإسلامية.
ينطلق الخطاب الداعشي من افتراض محوري بأن نموذج الحكم الذي يتبناه هو التطبيق الحصري والصحيح للشريعة الإسلامية، متجاهلًا كل الفروقات التاريخية والاجتماعية بين العصر النبوي والواقع المعاصر. هذا التوظيف الأيديولوجي للنصوص الدينية لا يخلو من الانتقائية، حيث يتم استدعاء بعض الآيات والأحاديث بما يخدم أهداف التنظيم السياسية والعسكرية، بينما يتم تجاهل السياقات الفقهية والتاريخية الأوسع التي قدمها علماء الإسلام على مر العصور.
كما تتبنى الافتتاحية أسلوبًا هجوميًا تجاه كل من يعارض رؤية التنظيم، مستخدمةً مفردات مثل "التدليس" و"التلاعب بالمصطلحات"، وواصفةً المخالفين بأنهم "دعاة على أبواب جهنم". هذه اللغة التحريضية لا تكتفي بإقصاء الخصوم فكريًا، بل تعمل على تأليب الأتباع ضدهم، مما يساهم في تأجيج العنف وترسيخ منطق الصراع الدائم بين التنظيم وباقي مكونات المجتمعات الإسلامية.
ضمن هذا السياق، تأتي هذه الافتتاحية ليس فقط كبيان أيديولوجي، وإنما كأداة تعبئة تهدف إلى استقطاب مزيد من الأتباع، وإعادة إنتاج خطاب العداء تجاه العالم الخارجي، سواء كان ذلك الحكومات، أو الجماعات الإسلامية الأخرى، أو حتى المفكرين والفقهاء الذين لا يتبنون نفس التفسير المتشدد للنصوص. لذا، فإن تفكيك هذا الخطاب وتحليله أمر ضروري لفهم الآليات التي يستخدمها التنظيم في تبرير ممارساته العنيفة واستقطاب المزيد من الأفراد إلى صفوفه.
أولًا: بنية الخطاب وآلياته الحجاجية
يعتمد خطاب الافتتاحية على عدة أساليب حجاجية مركزية، أبرزها:
ثنائية الإيمان والكفر:
يضع النص قارئه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما قبول نموذج الحكم الذي فرضه تنظيم داعش بوصفه "تطبيقًا كاملًا" للشريعة، أو السقوط في دائرة الكفر. لا يترك التنظيم أي مجال للاجتهاد أو النقاش الفقهي، بل يجعل من رؤيته الأحادية معيارًا للحكم على إيمان الأفراد والجماعات. ففي الافتتاحية، يتم تصوير أي معارضة لحكم داعش على أنها رفض صريح للشريعة، حيث يرد فيها: "لم تزد الدولة الإسلامية على أن حولت ما كان حبيس الكتب والمصنفات... إلى واقع عملي يحكم الناس بشريعة خالقهم"، وهو طرح يلغي إمكانية أي اجتهاد فقهي آخر.
هذه الثنائية الإقصائية تلغي أي إمكانية لوجود اجتهاد فقهي أو مقاربة عقلانية لتطبيق الشريعة الإسلامية في واقع معاصر مختلف عن سياقات القرون الأولى. فمثلًا، حين يتحدث التنظيم عن تطبيق الحدود والأحكام الفقهية، يتجاهل الفروق الجوهرية بين مجتمع المدينة في القرن السابع الميلادي والمجتمعات الحديثة اليوم، التي تقوم على أنظمة قانونية معقدة تراعي التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
كما أن التنظيم يستخدم هذه الثنائية لتبرير العنف ضد المخالفين، فهو لا يميز بين المسلمين الذين قد يكون لهم اجتهاد فقهي مختلف، وبين من يعارض الإسلام نفسه. في هذا السياق، يُصر النص على أن كل من لا يقبل نموذجهم هو "كافر ببعض الكتاب"، في تجاهل تام لحقيقة أن المسلمين على مر العصور قد اجتهدوا في تأويل الشريعة بما يتناسب مع أحوال مجتمعاتهم، دون أن يُخرجهم ذلك من دائرة الإسلام
شيطنة الآخر:
يعتمد خطاب الافتتاحية على آلية التشويه المعنوي للمخالفين، إذ يصور كل من يعارض تنظيم داعش على أنه مضلل أو متآمر أو عدو صريح للشريعة. يتجلى هذا بوضوح في استخدام تعبيرات مثل "التدليس" و"التلاعب بالمصطلحات"، حيث يتهم التنظيم خصومه بأنهم يحرفون النصوص الشرعية عن معانيها الحقيقية لخداع الناس، في حين أن التفسير الوحيد المقبول لديهم هو تفسيرهم الحرفي للنصوص.
ولا يقتصر التشويه على الأفراد، بل يتعداه إلى المؤسسات والجماعات الإسلامية المنافسة، التي يتم اتهامها ضمنيًا بأنها "تحارب الشريعة" أو "تروج لنسخة مشوهة من الإسلام". على سبيل المثال، يشير النص إلى أن "الدعاة على أبواب جهنم" يسعون لإبعاد الناس عن تطبيق الشريعة، في محاولة لإضفاء صبغة دينية على خصوماتهم السياسية مع الحركات الإسلامية الأخرى.
كما يوسّع التنظيم دائرة العداء لتشمل ليس فقط الحكومات، بل حتى الفصائل الإسلامية المنافسة التي لا تتبنى منهجه المتشدد. فالتنظيم يضع الجميع في سلة واحدة، سواء كانوا مفكرين إسلاميين، فقهاء، أو حتى قادة جماعات إسلامية أخرى، مدعيًا أنهم جميعًا يروجون "لإسلام مشوه" يخدم مصالح "الطواغيت"، كما ورد في قوله: "وقد استفاد الطواغيت على اختلاف أصنافهم، حكاما وقادة حركات وفصائل جاهلية، ودعموا هذه الأصناف المجادِلة بالباطل كلٌّ حسب حاجته".
هذا النمط من الشيطنة لا يهدف فقط إلى إقصاء المخالفين، بل يسعى أيضًا إلى تبرير العنف ضدهم، من خلال تصويرهم على أنهم خصوم للشريعة الإسلامية ذاتها. وهذا ينعكس في الطريقة التي يتحدث بها النص عن المعارضين، حيث لا يتم الاكتفاء بوصفهم بالمخالفين، بل يُتهمون صراحة بالكفر أو النفاق، مما يشرعن استهدافهم واعتبارهم أعداءً يجب القضاء عليهم.
الاحتجاج بالنصوص الدينية
يوظف التنظيم بعض الآيات القرآنية لتبرير منطقه الإقصائي، لكنه يفعل ذلك بطريقة انتقائية، متجاهلًا السياقات التاريخية والتفسيرية المتعددة التي قدمها علماء الإسلام على مر العصور. فمثلًا، يستشهد التنظيم بالآية: }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ{، ليصور مخالفيه على أنهم وقعوا في ذات الانحراف العقدي الذي اتُّهم به بنو إسرائيل.
لكن ما يتجاهله التنظيم هو أن هذه الآية نزلت في سياق معين، وكانت تتعلق بأحكام محددة تجاه بني إسرائيل، ولا يمكن إسقاطها بشكل مباشر على أي خلاف فقهي أو سياسي في العصر الحديث. هذا النهج في التأويل يُهمل التفسيرات التقليدية التي قدمها العلماء المسلمون، والتي تراعي الفروق بين الأحكام العقدية والأحكام الفقهية القابلة للاجتهاد.
كما أن التنظيم يغفل تمامًا المقاصد الكلية للشريعة، والتي تشمل تحقيق العدل والمصلحة ودرء المفاسد. فالفقه الإسلامي لم يكن يومًا جامدًا أو محصورًا في تأويل واحد، بل ظل عبر التاريخ فضاءً للاجتهاد والتطور، وهو ما يتناقض مع الطرح الداعشي الذي يفرض فهمًا واحدًا متصلبًا، لا يقبل أي نقاش أو مراجعة.
استخدام العاطفة والتخويف
يلجأ الخطاب إلى إثارة مشاعر الرعب والخوف لدى القارئ من مغبة مخالفة "دولة الإسلام"، وذلك عبر تصوير المعارضين على أنهم يواجهون "الخزي في الدنيا وأشد العذاب في الآخرة". يتم ذلك من خلال اقتباس آيات قرآنية تتحدث عن العقاب الإلهي، وإسقاطها مباشرة على الواقع السياسي المعاصر، مما يوحي بأن كل من يرفض نهج التنظيم محكوم عليه بالعذاب حتمًا.
فعلى سبيل المثال، يستخدم التنظيم الآية: }فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ{، ويقدمها كدليل على أن كل من يرفض سلطته الشرعية سيعاني في الدنيا قبل الآخرة. هذه الطريقة في استخدام النصوص تهدف إلى بث الذعر في نفوس المخالفين، ودفعهم إلى الامتثال خوفًا من العواقب.
كما أن الخطاب لا يكتفي بالتحذير الديني فحسب، بل يصوّر كل معارضة للتنظيم على أنها نوع من الخيانة التي تستوجب العقاب الشديد. فالمخالف ليس فقط عرضة للعذاب الإلهي، بل هو أيضًا متهم بالتآمر ضد الإسلام، مما يشرعن استهدافه بالقتل أو العقوبات القاسية.
هذا النمط من التخويف العاطفي ليس جديدًا في خطابات الجماعات المتطرفة، لكنه في حالة داعش يُستخدم بمهارة لتشكيل هوية جماعية قائمة على الطاعة المطلقة، حيث يُدفع الأتباع إلى الالتزام خوفًا من العقاب، وليس عن قناعة حقيقية. وهذا ما يعزز مناخ الإرهاب الفكري داخل التنظيم، ويمنع أي محاولات للنقد أو التفكير المستقل.
ثانيًا: تناقضات الخطاب وتوظيف التاريخ
يتناقض خطاب افتتاحية الصحيفة مع الواقع التاريخي والاجتهاد الفقهي الإسلامي، إذ يقدم تنظيم داعش نفسه على أنه الامتداد الشرعي للدولة الإسلامية الأولى، مدعيًا أنه يطبق الشريعة بنفس الصورة التي طُبقت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة. لكن هذا الادعاء يتجاهل الفروق الجوهرية بين طبيعة المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، الذي بُني على الدعوة والتدرج في تطبيق الأحكام، وبين ممارسات التنظيم التي تتسم بالإكراه والتكفير المطلق للمعارضين، دون مراعاة لاعتبارات الفقه الإسلامي التي وضعها العلماء على مدار القرون.
يدّعي التنظيم أن رفض مشروعه يعني رفض الإسلام نفسه، متجاهلًا أن التاريخ الإسلامي شهد تنوعًا في تطبيق الشريعة وفقًا للسياقات الزمنية والجغرافية المختلفة. فالنموذج الإسلامي لم يكن ثابتًا عبر العصور، بل تأثر بالاجتهادات الفقهية التي راعت مصالح الناس وظروفهم. وفي المقابل، يعتمد خطاب التنظيم على طرح جامد يختزل الإسلام في تصوره الخاص، ويقصي كل الاجتهادات الأخرى التي شكلت تطور الفقه الإسلامي.
ومن أبرز الأدلة على هذا التناقض، استدعاء التنظيم لأحداث تاريخية مثل غزوة بني قريظة، ليبرر أعمال العنف التي يمارسها ضد خصومه. ففي الافتتاحية، يطرح الكاتب سيناريو متخيل لنقل خبر هذه الغزوة عبر وسائل الإعلام المعاصرة، في محاولة لاستفزاز مشاعر القراء وإيصال رسالة مفادها أن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو ذاته ما يقوم به التنظيم اليوم. لكن هذا الطرح يتجاهل السياق التاريخي للغزوة، حيث كانت جزءًا من صراع عسكري أوسع، وليس قاعدة عامة تُسقط على كل زمان ومكان.
إن انتقائية التنظيم في توظيف التاريخ تعكس منهجًا خطيرًا، حيث يتم اقتطاع الأحداث من سياقاتها لتبرير سياسات الإقصاء والعنف. فمثلًا، في حين يستخدم التنظيم غزوة بني قريظة لتبرير القتل الجماعي، فإنه يتجاهل مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى التي اتسمت بالحلم والعفو، كما حدث في فتح مكة عندما عفا عن قريش رغم ما اقترفوه بحقه وبحق أصحابه. وهذا يوضح أن التنظيم يختار من التاريخ ما يخدم مصالحه الأيديولوجية، متجاهلًا القيم الأوسع التي قام عليها الإسلام.
كما أن إصرار التنظيم على إعادة إنتاج وقائع الماضي بشكل حرفي يُظهر عدم إدراكه لتعقيدات العصر الحديث. فالمجتمعات اليوم تخضع لنظم سياسية وقانونية مختلفة، والتعامل مع القضايا الشرعية يستلزم اجتهادًا يراعي هذه المتغيرات. ولكن التنظيم يتجاهل هذه الحقائق، ويطرح رؤيته بوصفها التطبيق الوحيد المقبول للشريعة، مما يجعله في تناقض مستمر مع التراث الإسلامي الغني بالتنوع والاجتهادات المختلفة.
ثالثًا: التأثيرات السياسية والاستراتيجية للخطاب
إن خطاب افتتاحية الصحيفة لا يعكس فقط رؤية دينية متشددة، بل يخدم أهدافًا سياسية واستراتيجية محددة، حيث يسعى التنظيم من خلاله إلى تحقيق مكاسب تتجاوز الجانب العقائدي، ليصل إلى تبرير ممارساته العنيفة، وزرع الانقسامات داخل المجتمعات الإسلامية، واستقطاب أتباع جدد.
تبرير العنف:
يعمل التنظيم على شرعنة ممارساته الوحشية من خلال تأطيرها دينيًا، بحيث تصبح أفعاله، مهما بلغت من قسوة، جزءًا من التزامه المزعوم بتطبيق الشريعة. ففي الافتتاحية، يتم استدعاء مشاهد من التاريخ الإسلامي، مثل غزوة بني قريظة، ليس لإعادة فهمها وفق سياقاتها، بل لتقديمها كدليل على أن العنف الذي يمارسه التنظيم اليوم هو امتداد للفتوحات الإسلامية. هذه المقاربة تهدف إلى تحييد أي نقد لأعماله، بحيث يبدو كل معترض وكأنه يعترض على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مما يمنح ممارساته غطاءً دينيًا يصعب على البسطاء دحضه.
إلى جانب ذلك، يتبنى التنظيم خطابًا يقسم العالم إلى معسكرين متصارعين: معسكر الإيمان الذي يمثله، ومعسكر الكفر الذي يضم كل من يعارضه. وهذا التصنيف المطلق لا يترك مجالًا لأي حلول وسط أو تفاهمات، بل يجعل العنف هو الخيار الوحيد المتاح. وحين يبرر التنظيم عمليات الإعدام الجماعية وقمع المخالفين بحجة "تنقية الصف الإسلامي"، فإنه بذلك يؤسس لنموذج سياسي قائم على الرعب، حيث تصبح القوة والبطش أدوات أساسية للحكم.
الأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب يسهم في تعطيل أي نقاش ديني جاد حول مشروعية أفعال التنظيم، إذ يتم استغلال النصوص الدينية بطريقة انتقائية لمنح صبغة شرعية لأعمال العنف، في حين يتم تجاهل القيم الإسلامية التي تدعو إلى الرحمة والعدل والتدرج في تطبيق الأحكام. وهكذا، يصبح الإرهاب مشروعًا ومقدسًا في أذهان أتباع التنظيم، مما يعزز دائرة العنف المستمرة.
خلق انقسامات داخل المجتمعات الإسلامية:
يستخدم التنظيم خطابًا تكفيريًا حادًا يجعل من كل من يخالفه في الرأي خصمًا دينيًا يجب إقصاؤه أو قتاله. فمن خلال وصف المخالفين بأنهم "يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض"، ومن خلال اتهامهم بأنهم "يتلاعبون بالمصطلحات" و"يتبعون الدعاة على أبواب جهنم"، يسعى التنظيم إلى نزع الشرعية عن أي تيار إسلامي لا يتبنى تفسيره الحرفي والمتشدد للنصوص.
هذه الاستراتيجية تؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل الأمة الإسلامية، إذ يتم تصنيف المسلمين إلى فئتين: مؤيدون لداعش، وهم "المسلمون الحقيقيون" وفقًا لمنطق التنظيم، ومعارضون له، وهم إما "مرتدون" أو "منافقون" يجب التعامل معهم بوسائل الردع والعنف. وبهذا، لا يصبح التنظيم فقط في صراع مع الأنظمة السياسية، بل يدخل في مواجهة شاملة مع كافة التيارات الإسلامية، بما في ذلك تلك التي تدعو إلى تطبيق الشريعة بوسائل سلمية أو إصلاحية.
كما أن هذا الخطاب يساعد التنظيم في عزل المجتمعات المسلمة عن محيطها العالمي، إذ يتم تقديم أي تفاعل مع الدول أو المؤسسات الدولية على أنه "مؤامرة ضد الشريعة". وهذا يعزز حالة العزلة والانغلاق الفكري، مما يسهل على التنظيم فرض سيطرته الأيديولوجية على أتباعه، ويمنع أي محاولات للمراجعة أو النقد الداخلي.
استقطاب الأتباع:
يلعب الخطاب الإعلامي للتنظيم دورًا حاسمًا في تجنيد الشباب، خصوصًا أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة الدينية العميقة. فمن خلال تصوير العالم على أنه في حالة "حرب" ضد الشريعة، يسعى التنظيم إلى خلق إحساس بالمظلومية بين الشباب المسلمين، مما يدفعهم إلى البحث عن "الخلاص" في مشروعه.
في الافتتاحية، يتم تصوير المعارضين على أنهم ليسوا فقط ضد التنظيم، بل ضد الإسلام نفسه، مما يجعل أي مسلم يشعر بالحيرة إزاء موقفه من التنظيم أقرب إلى الانضمام إليه بدافع الخوف من الوقوع في دائرة "الكفر". هذه الاستراتيجية النفسية تعتمد على التخويف والإقصاء، بحيث يصبح التنظيم الملاذ الوحيد لمن يريد أن يكون "مسلمًا حقيقيًا" وفقًا لروايته.
إلى جانب ذلك، يوظف التنظيم فكرة "التمكين"، حيث يقدم نفسه على أنه القوة الوحيدة القادرة على إعادة مجد الإسلام، مستغلًا مشاعر الإحباط لدى الشباب تجاه الأنظمة الحاكمة، التي يعتبرونها فاسدة أو عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية. وهكذا، يصبح الالتحاق بالتنظيم ليس مجرد خيار ديني، بل طريقًا لتحقيق الذات والانتصار على الظلم، وهو ما يفسر نجاح التنظيم في استقطاب مقاتلين من خلفيات جغرافية واجتماعية متنوعة.
وبهذا، يتضح أن خطاب التنظيم ليس مجرد طرح ديني متشدد، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى فرض العنف كأمر واقع، وإحداث انقسامات داخل الصف الإسلامي، واستقطاب أتباع جدد عبر خلق حالة من الاستقطاب الحاد بين "المؤمنين" و"الكافرين"، وهي ثنائية خطيرة تؤدي في النهاية إلى مزيد من الفوضى والدمار.
خاتمة
تعكس هذه الافتتاحية نموذجًا كلاسيكيًا لخطاب التنظيمات المتطرفة، حيث يتم توظيف النصوص الدينية بطريقة أيديولوجية لخدمة مشروع سياسي عنيف. من خلال استغلال آيات قرآنية وأحاديث نبوية خارج سياقاتها، يسعى التنظيم إلى خلق شرعية دينية زائفة لعملياته، ما يجعل تفكيك هذا الخطاب ضروريًا لوقف تمدد الفكر الإرهابي.
إن تأثير هذه الافتتاحية يتجاوز مجرد التنظير الفكري، ليصل إلى مستوى التعبئة والتحريض المباشر على العنف، مما يساهم في إنتاج أجيال جديدة من المتطرفين المستعدين لتنفيذ أجندة التنظيم دون تردد. فحين يتم تصوير كل من يخالف التنظيم على أنه كافر محارب، يصبح العنف ضدهم مبررًا بل وواجبًا دينيًا، وهو ما يغذي دوامة الإرهاب المستمرة.
لمواجهة هذه التحديات، لا بد من تعزيز الوعي الديني العميق، الذي يقوم على فهم شامل ومتزن للشريعة الإسلامية، بعيدًا عن التفسيرات الأيديولوجية الضيقة. يتطلب ذلك دورًا نشطًا من المؤسسات الدينية والعلماء المستقلين في تقديم قراءات عقلانية ومنفتحة للنصوص، تراعي تعقيدات الواقع وتطور المجتمعات.
وأخيرًا، فإن تفكيك هذا الخطاب لا يمكن أن يقتصر على الجوانب الدينية فقط، بل يجب أن يشمل تحليلًا سياسيًا واجتماعيًا يكشف عن الأهداف الحقيقية لهذه الجماعات، ويبين كيف يتم توظيف الدين كأداة للسيطرة وبسط النفوذ، وليس كوسيلة لتحقيق العدل والسلام. من خلال هذا النهج الشامل، يمكن الحد من تأثير هذه الأيديولوجيات المتطرفة، وقطع الطريق أمام استغلالها في صناعة الإرهاب والتطرف.