محيي الدين بن عربي: شيخ الصوفية الأكبر الذي غيّر مفهوم الوجود

وحدة الشريعة والطريقة والحق: مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي

التصوف ممارسة روحية للوصول إلى الله

الشريعة هي الأساس.. والطريقة هي الوسيلة.. والحق هو الهدف

 

 

بسبب تلك الاتهامات المتناثرة هنا وهناك وبين هذا وذاك، حاولت البوابة اقتحام هذا الملف، ألا وهو ملف شيخ الصوفية الأكبر مولانا محيي الدين بن عربي، لنكتشف سر هذا الجدل الذي يتجدد بين الحين والآخر في كل زمان وفي كل مكان، وبات حاليًأ موضوعا رئيسيا على صفحات المتصوفة من ناحية والوهابية من ناحية أخرى بمواقع التواصل الإجتماعي، فلا عجب أبدًا لأي متابع للصوفية وصفحاتهم ومقالاتهم وكذلك على الجانب الأخر إذا رأي خلافا كل يوم حول فكر بن عربي وشخصه وتاريخه.

ومن ناحيتنا حاولنا تقصي الأمر والبحث في فكر "بن عربي"، فوجدنا بداية أن خلاصة ما فعله الشيخ الأكبر هو محاولة الوصول لمعنى الحياة كلها، على اعتبار انه صاحب التعريف الأشهر لمعنى الوجود، واكثر من بين هذا المفهوم وشرحه في كتبه ورسائله، بل يعتبره البعض انه صاحب هذا التفسير الكوني الوحيد ألا وهو "وحدة الوجود".

في هذا الملف، سنحاول استعراض حياة وآثار سيدي محيي الدين بن عربي، والتعرف على مذهبه ومنهجه في التصوف والفلسفة والأدب. سنتطرق إلى بعض من كتبه المشهورة، مثل "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق". سنناقش أيضا آراء العلماء في شخصه ومؤلفاته، بين المؤيدين والساكتين والمخالفين. سنحاول أن نستخرج من تراثه دروسا وعبرا تنير لنا الطريق، لمن يريد.



 

محيي الدين ابن عربي: رحلة صوفية طويلة عبر العالم الإسلامي

بعيدًا عن مسائل الجدل ومن يثيره ومن يبرره، فمن المؤكد أن للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي مكانة كبيرة في التاريخ العربي، ويعد شخصية فذة في تاريخ الإسلام والحضارة الإنسانية. فهو شاعر وفيلسوف ومتصوف أندلسي الأصل، أثرى الثقافة الإسلامية بأعماله العظيمة، وأثار التفكير بأفكاره المتجددة.

لقد كان الشيخ الأكبر، المولود يوم الاثنين 17 رمضان560 هـ، 26 يوليو 1165 م، في مرسية بشرق الأندلس، رحالة في بلاد الإسلام، ومعلما للصوفية، ومؤلفا لكتب في مجالات مختلفة من العلوم الإسلامية، و ترك إرثا ضخما من المؤلفات، التي تعتبر مصادر أساسية للدراسات الصوفية والفلسفية والأدبية. 

كما اشتهر "بن عربي" بعقائده ونظراته الصوفية، التي أثارت جدلا كبيرا بين المسلمين، وهو ابن أسرة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، اشتهر رجالها بالعلم والصلاح والنفوذ في الأوساط الحاكمة، وذلك في زمن حكم أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش، وكان أبوه مسؤولَا في جيش حاكمها.

وما قيل عنه انه قد اعتبر نفسه خاتم الأولياء، أو آخر من يصل إلى مرتبة الولاية الكاملة، لاسيما حديثه عن مفهوم وحدة الوجود، أو أن كل ما يوجد هو ظهور وتجلي لله تعالى. وأيضا له مفهومه عن الإنسان الكامل، أو أن الإنسان هو مرآة لجميع أسماء الله وصفاته، وكذلك مفهومه لما يعرف بالعشق الإلهي وأن الحب هو القوة المحركة للكون.

وللشيخ بن عربي، المدفون في قبر يزار حتى الآن في دمشق منذ وفاته في 28 ربيع الثاني638 هـ الموافق 16 نوفمبر 1240 م، العديد من المؤلفات أبرزها "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" و"ترجمان الأشواق" و"ذخائر الأعلاق" و"لا يعول عليه، والكثير غيرها مما جعله صاحب أكبر عدد من المؤلفات في التاريخ العربي، إلا أن "الفتوحات المكية" ستظل هي الأشهر.

و"الفتوحات المكية" هي مؤلف صوفي كبير للشيخ بن عربي، كتبها خلال رحلاته في بلاد الإسلام، وأراد فيها أن يعرض معارفه الروحية والشرعية والحكمية التي فتحها الله عليه، وتضم الفتوحات المكية 560 فصلا في موضوعات مختلفة، وتعتبر موسوعة تصوفية شاملة.

لقد أثارت الفتوحات المكية جدلا كبيرا بين العلماء والصوفية، بسبب طريقة عرض ابن عربي للمعارف الصوفية، وبسبب بعض المفاهيم التي اعتبرها بعضهم مخالفة للعقائد الإسلامية، مثل مفهوم الوحدة الوجودية والإنسان الكامل والعشق الإلهي. لذلك، قد تكلم العلماء حول هذا الكتاب بين المؤيدين والساكتين والمخالفين. 

ورغم تفوق الشيخ الأكبر في العلم والفكر، إلا أنه واجه انتقادات كبيرة من قبل بعض العلماء والعقلاء في عصره. نتيجة للطابع الجريء لأفكاره وآرائه المختلفة، اعتبر بن عربي بعض الأحيان مثيرًا للجدل ومتهمًا بالتطرف في الفكر الديني. هذه الهجمات لم تؤثر على شهرة بن عربي وتأثيره على العالم، بل زادت من تاريخه الكبير كفيلسوف وعالم ومرجع للتفكير الديني.

لقد ترك الشيخ محيي الدين بصمة عميقة في التاريخ والفكر الإسلامي. ظلت أفكاره ومبادئه خالدة على مر العصور، مما جعله مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة والعلماء والفكراء في العالم. اليوم، مازالت أعماله موضوعًا للدراسات العديدة وقد أصبح اسمه مستعارًا للحكمة والروحانية.

 ويمكننا القول أن "بن عربي" رغم التحديات والانتقادات، نجح في تأسيس تفكير مبتكر ورؤيا جريئة حول الوجود والروحانية. إن تأثيره الكبير على الثقافة الإسلامية والفلسفة يستمر حتى يومنا هذا، وسيبقى اسمه سالمًا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.

 

 

"وحدة الوجود": حلول أم تجلى؟

منذ الأزل، كان الإنسان يحاول فهم معنى الوجود، وهل العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية؟ أم هو مجرد وهم؟ أم هو شيء آخر؟،  فقدم لنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، الصوفي والفيلسوف الإسلامي الشهير، رؤية مختلفة للوجود الإلهي، فهو يرفض الرؤية المادية التي ترى العالم مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ويرفض أيضًا الرؤية الروحانية التي ترى العالم مجرد وهم.

يذهب ابن عربي إلى أن الله هو الواحد الأحد. فالله هو خالق كل شيء، وهو مصدر الوجود كله. وكل ما سواه من الموجودات هو مخلوق من قبل الله، فيقول: "كل شيء في الوجود هو من الله، وليس شيء في الوجود إلا الله".

في رؤية ابن عربي، العالم هو تجلي لله. فالله هو الموجود الحقيقي الوحيد، وكل ما سواه من الموجودات هو ظل، أو تجلى لله، ولكنه لا يعني أن الله يحل في الموجودات أو يتحد بها، وأن العالم ليس مجرد مجموعة من الأشياء المادية، ولكنه تعبير عن صفات الله وكمالاته. فكل شيء في العالم، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، هو دليل على وجود الله وعظمته.

محيي الدين بن عربي: إله واحد.. وجود واحد

يستخدم ابن عربي مصطلح "الظل" أو "التجلي" للإشارة إلى أن كل ما سواه من الموجودات ليس موجوداً بذاته، ولكنه يعكس صفات الله وكمالاته. فالله هو النور، وكل شيء في الوجود هو ظل أو تجلي لهذا النور، وهنا يقول بن عربي: "كل شيء في الوجود هو ظل لله، والظل لا وجود له إلا بوجود النور".

يؤكد ابن عربي أيضًا على أن الله موجود بذاته، وأن الموجودات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. فالله لا يحل في الموجودات، ولا يتحد بها، فيقول ابن عربي: "الله موجود بذاته، والمخلوقات هي مجرد ظلال أو تجليات لله. لا يمكن أن يحل الله في الموجودات أو يتحد بها".

تعد وحدة الوجود من أكثر العقائد الصوفية جدلاً. وقد تعرضت لانتقادات كثيرة من قبل بعض العلماء والدعاة، فبعض العلماء يرى أن وحدة الوجود تؤدي إلى إلغاء وجود الله، وأنها تجعل الله مرتبطًا بالموجودات، بينما يرى آخرون أن وحدة الوجود لا تعني إلغاء وجود الله، ولكنها تعني أن الله هو مصدر الموجودات كلها، وأن الموجودات كلها ترتبط بالله.

الشريعة والطريقة والحق: الثلاثة التي لا يمكن فصلها

يعتقد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أن الشريعة والطريقة والحق هي ثلاثة أبعاد مترابطة في طريق المريد إلى الله. فالشريعة هي الأساس، والطريقة هي الوسيلة، والحق هو الهدف.

وهكذا، فإن وحدة الشريعة والطريقة والحق هي مفهوم أساسي في التصوف الإسلامي، وهو مفهوم يؤكد على أهمية هذه الأبعاد الثلاثة في الوصول إلى الله.

فالشريعة هي مجموعة من الأحكام والقواعد التي تنظم حياة المسلم، وهي تستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية. ويرى الشيخ الأكبر أن الشريعة هي التي تحدد المسار الذي يجب على المريد أن يسير فيه، وهي التي تساعده على الابتعاد عن المحرمات، والالتزام بالواجبات.

أما الطريقة فهي الممارسة الروحية التي تساعد المريد على الوصول إلى الله. وهي تتضمن مجموعة من الآداب والسلوكيات والممارسات التي يتبعها المريد في سعيه إلى الله. ويرى الشيخ الأكبر أن الطريقة هي التي تمنح المريد التوجيه والإرشاد، وتساعده على التغلب على العقبات التي يواجهها في طريقه إلى الله.

وأخيرًا، فإن الحق هو الهدف النهائي الذي يسعى إليه المريد. وهو الوصول إلى الله، والاتحاد معه. ويرى الشيخ الأكبر أن الحق هو الغاية من الشريعة والطريقة. فالشريعة والطريقة هما وسائل تساعد المريد على الوصول إلى الحق.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الشیخ الأکبر الوصول إلى مجموعة من فی التصوف کل شیء فی إلى الله ابن عربی الله هو أن الله

إقرأ أيضاً:

كتاب مؤسسة التصوف والصوفية كمؤسسة اجتماعية متأصلة عبر الزمن

لطالما شغلت الظاهرة الصوفية حيزا مركزيا في التاريخ الإسلامي، إذ اعتُبر التصوف أحد المسارات الكبرى التي عبّر من خلالها المسلمون عن علاقتهم بالله، وعن فهمهم للعالم، وعن تنظيمهم لأنماط الحياة الفردية والجماعية.

وقد ركزت الدراسات التقليدية في الغالب على البعد الروحي والأخلاقي للتصوف، منصرفة إلى تحليل التجارب الفردية للزهاد والأولياء، أو إلى استقصاء المضامين الرمزية لنصوصهم وممارساتهم الشعائرية. غير أن هذا التوجه، رغم ما قدمه من إضافات ثمينة، ظل قاصرا عن الإحاطة بالشبكات المؤسساتية والاجتماعية التي نشأت في كنف التصوف وتفاعلت معه عبر العصور.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي يعنيه أن تكون صحفيا فلسطينيا وسط الإبادة؟end of list

وفي هذا الإطار، يأتي كتاب "مؤسسة التصوف" (Sufi Institutions)، الذي حرره المستشرق الفرنسي ألكسندر باباس، ضمن أبرز الإسهامات الحديثة في ميدان الدراسات الصوفية.

فالكتاب، الصادر عن "دار بريل" عام 2020، والمترجم حديثا إلى العربية عن دار مدارات في القاهرة عام 2025، يضم بين دفتيه أكثر من 20 دراسة لباحثين مرموقين، تناولوا بالتحليل المعمق البنى المؤسسية التي أنشأها المتصوفة وتفاعلوا ضمنها، وذلك في سياقات تاريخية وجغرافية متباينة تمتد من المغرب إلى الهند، ومن العصور الوسطى إلى العصر الحديث.

ينقل الكتاب دراسة التصوف من الحقل التقليدي المتمثل في التجربة الروحية الفردية إلى فضاء مؤسساتي واجتماعي، حيث تقرأ الزوايا والطرق الصوفية بوصفها كيانات فاعلة، لها بناها الداخلية، وآليات تمويلها، وعلاقاتها المعقدة بالسلطة والمجتمع.

الأطروحة والمنهج

يتمحور الطرح المركزي للكتاب حول فكرة مفادها أن التصوف الإسلامي بمجمله لم يكن تصوفا قائما على العزلة أو التجربة الفردانية الخالصة، بل كان حركة مجتمعية مؤسسية متجذرة في الواقع السياسي والاجتماعي.

ومن هذا المنطلق يقدم باباس في مقدمته إطارا نظريا يدمج بين التاريخ، والأنثروبولوجيا، ودراسات الدين، ليقترح مقاربة شاملة للمؤسسة الصوفية تتجاوز المفهوم الضيق للطرق الصوفية، الذي يقتصر على رؤيتها بوصفها تجليات للتدين الشعبي أو مظاهر للورع الشخصي فحسب.

إعلان هيكل المحتوى ومحاوره

يتوزع محتوى الكتاب على 6 محاور رئيسة، كل منها يتناول بعدا من أبعاد العمل المؤسساتي الصوفي.

البعد الأول: النشأة والتطور التاريخي للمؤسسات الصوفية

يستهل باباس الكتاب بفصل تمهيدي يستعرض فيه التحول المؤسسي الذي شهدته الصوفية منذ القرن العاشر الميلادي، ويعيد بناء مسار تطور الرباطات والخوانق (جمع خانقاه) بوصفها نوى أولية لتجسيد الحياة الروحية في فضاءات جماعية منظمة، ويبرز في تحليله كيف مثل هذا التطور نقلة في التصوف من الممارسة الفردية إلى تأسيس شبكات اجتماعية واسعة النطاق.

في السياق ذاته، يوضح ناثان هوفر فكرة أن الطرق الصوفية اتسمت منذ نشأتها بمرونة تنظيمية عالية، مما أتاح لها الانتشار عبر مناطق مختلفة من العالم الإسلامي والتكيف مع شروط البيئة المحلية.

البعد الثاني: الاقتصاد والتمويل الصوفي

يركز المحور الثاني على البنية المالية للمؤسسات الصوفية، وفي هذا السياق، يتناول آدم سابرا دور الأوقاف في تمويل الرباطات والزوايا، خاصة في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، ويظهر كيف منحتها الأوقاف قدرا من الاستقلال المالي مكّنها من البقاء والاستمرار خارج هيمنة الدولة المباشرة، مبينا كيف أسهم الصوفيون في توجيه الموارد الاقتصادية لخدمة شبكاتهم الدينية.

وفي الدراسة، التي أجراها ناثان هوفر في هذا الفصل، حديث عن أهمية شبكات التبرعات الفردية والجماعية في تعزيز الصلة بين الطرق الصوفية ومجتمعاتها.

الكتاب تناول الفضاء المعماري للزوايا والخوانق الصوفية باهتمام لافت (شترستوك) البعد الثالث: المعمار والفضاء الصوفي

يحظى الفضاء المعماري للزوايا باهتمام لافت في الكتاب، وقد تناولت دافنا إفرات في دراستها الطابع المعماري للخوانق، مشيرة إلى الرمزية المتضمنة في توزيع الفضاءات الداخلية: من قاعة الذكر، إلى المطبخ الجماعي، إلى غرفة الشيخ، ويذهب باولو بينتو أبعد من ذلك، فيرى أن هذه الفضاءات لم تكن مجرد أماكن إقامة أو عبادة، بل مثلت بنى معنوية تعبر عن التراتبية والعلاقات داخل الجماعة، وفي هذا الفصل يعيد ناثان هوفر قراءة فكرة الرباط، فيراها مؤسسة صوفية مبكرة، مبينا كيف تحولت الرباطات من مواقع ذات طابع عسكري على الحدود إلى أماكن ذات وظيفة روحية حيث صارت مراكز للزهد والتأمل.

إعلان

وتنظر كاثرين مايو جوان إلى المقامات على أنها فضاءات روحية حية، تتجاوز وظيفتها الشعائرية لتغدو محطات للذاكرة الجمعية والتعبئة الدينية، والفصل يناقش كيف أسهمت هذه الفضاءات المكانية في تشكيل هوية الجماعات الصوفية وتعزيز الروابط بين الشيوخ والمريدين، وفي تلبية الحاجات الروحية للمجتمعات المحلية.

البعد الرابع: الوظائف الاجتماعية للطرق الصوفية

يتضمن الكتاب دراسات تعكس عمق الدور المجتمعي للصوفيين، حيث تبين رشيدة شيه في فصلها أشكالا من الوظائف التعليمية والخيرية التي اضطلعت بها الزوايا، وتظهر صورا من إسهامات الزوايا في رعاية الفقراء واليتامى، وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.

وتتناول ناتالي كلايير العلاقة بين الزوايا والفضاء الحضري، فتبين كيف تحولت الزاوية إلى نقطة التقاء لطبقات المجتمع، وإلى نوع من "المنتدى المدني" في كثير من المدن الإسلامية، ويلفت أحمد يشار أوجاق النظر إلى أهمية الطرق الصوفية في الأرياف، حيث وفرت الطرق في الأرياف القيادة الدينية والخدمة الاجتماعية في آن واحد، بعيدا عن هيمنة الدولة المركزية، حيث بدت الزوايا في صعيد مصر مثلا أماكن للحوار والتفاعل الاجتماعي، فضلا عن كونها مقامات دينية.

البعد الخامس: الصوفية والسلطة السياسية

لا يغفل الكتاب العلاقة المعقدة بين الطرق الصوفية والسلطات الحاكمة، فيستعرض ألكسندر باباس تباين هذه العلاقة تاريخيا بين التعايش والتوتر والصعود والهبوط والتفاعل والتنحي، فالعلاقة كانت تنتقل من النصح والولاء إلى المعارضة والتمرد، مشيرا إلى أن التصوف كان أحيانا ذراعا للسلطة السياسية، وأحيانا أخرى صوتا للمعارضة الرمزية.

ففي حين أقامت بعض الطرق علاقة وثيقة مع الدولة، كما هي الحال مع النقشبندية في العهد العثماني، كانت طرق أخرى أكثر انعزالا أو معارضة في بعض الأحيان، يناقش مارك سيدغويك على سبيل المثال تطور العلاقة بين الصوفيين والدولة في مصر الحديثة، ويبين أن السلطة كثيرا ما حاولت تأميم التصوف وتوجيهه.

إعلان

ولا يفوت ريتشارد ماكغريغور أن يحذر من اختزال هذه العلاقة في الثنائية التبسيطية (موالاة أو معارضة)، داعيا إلى فهمها من خلال "مصفوفة تفاوضية" معقدة.

في فصله حول الطرق المولوية، يبين سميح جيهان فكرة أن الرقص والموسيقا كانت أدوات تعليمية وتنظيمية في آن واحد، لا مجرد ممارسات شعائرية (الأوروبية) البعد السادس: التنظيم الداخلي للطرق الصوفية

يحلل هذا المحور بنية التنظيم الداخلي للطرق الصوفية، بدءا من هياكل القيادة إلى أساليب التربية الروحية وآليات الانتقال بين المراحل الصوفية، ومرورا بنظام الشيخ والمريد، ووصولا إلى تشكل الطرق الكبرى في العصر العثماني. يناقش مارك سيدغويك آليات القيادة والشرعية، مبرزا كيف حافظت الطرق على وحدة رمزية لها رغم اتساعها الجغرافي، ويبحث في المجتمعات الصوفية الأولى ومسارات تبلورها المؤسسي، ويبين سميح جيهان في فصله حول الطرق المولوية فكرة أن الرقص والموسيقا كانت أدوات تعليمية وتنظيمية في آن واحد، لا مجرد ممارسات شعائرية.

وفي دراسة لافتة يقدم ستيفان دودونيون قراءة مستقبلية للصوفية الرقمية أو "التصوف السيبراني"، مبينا كيف وفرت الفضاءات الافتراضية إمكانيات جديدة لإعادة إنتاج العلاقات الروحية، من دون أن تحل كليا محل التجربة المادية للزاوية، ويبين هذ القسم بالمجمل قدرة التصوف على التكيف المؤسسي ومواكبة السياقات المعاصرة.

نافذة جديدة لفهم التصوف

ومجمل القول إن كتاب "مؤسسة التصوف" يمثل خطوة مهمة في إعادة التفكير في التصوف، بعيدا عن القراءات التقليدية التي تعزله عن الواقع الاجتماعي والسياسي، حيث نجح الباحثون المشاركون في هذا الكتاب في تفكيك الفرضيات السائدة التي ترى أن الصوفية تجربة باطنية فردية، وأعادوا تأطيرها ضمن شبكات مؤسسية معقدة، مترابطة مع الاقتصاد والسلطة والفضاء المعماري.

ومن الناحية المنهجية، فإن الكتاب جمع ما بين التحليل التاريخي والأنثروبولوجي، مستفيدا من تراث غني، ومعاينات ميدانية، ودراسات حالة عميقة، وقد مثلت كثافة المشاركات وتنوعها الجغرافي والموضوعي قيمة مضافة تشعر القارئ أنه أمام صورة بانورامية دقيقة لتاريخ المؤسسة الصوفية في الإسلام.

إعلان

هذا الكتاب يمثل نقلة نوعية في دراسات التصوف لأنه يطرح التصوف من منظور مؤسساتي اجتماعي غير تقليدي مخالف لتوجه التلقي المعتاد الذي ألف أن يركز على الأبعاد الروحية أو الأدبية للتصوف، فهو يفتح نوافذ جديدة لفهم التصوف من حيث هو حركة اجتماعية تاريخية، لها مؤسسات وهياكل تتفاعل مع المجتمع والدولة، لا منظومة روحية منعزلة فحسب.

ويشكل الكتاب -على وفرة ما فيه- حافزا لمزيد من الدراسات التي تنبع من داخل السياقات الإسلامية، لتستكمل ما بدأه هذا العمل الجماعي الجديد وتناقشه.

مقالات مشابهة

  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • من مفهوم التجديد الإسلامي إلى نقد تجاربه ومؤسساته.. قراءة في كتاب
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • الإسلام.. يجرّد الدين من الكهنوت
  • النائب مشوقة يسأل عن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لضبط ارتفاع الدين العام
  • كتاب مؤسسة التصوف والصوفية كمؤسسة اجتماعية متأصلة عبر الزمن
  • الشرع يحذر من دعوات “قسد” التي تهدد وحدة البلاد وسلامة التراب السوري
  • دعاء الذي يقال عند بلوغ سن الاربعين
  • رد أحمد كريمة على سعد الدين الهلالي بشأن الميراث
  • الدين ليس وجهة نظر.. سعاد صالح تهاجم سعد الدين الهلالي بسبب المواريث