هاجمو التطبيع والتطهير العرقي.. 2000 مثقف عربي يوقعون بيانا ضد الحرب
تاريخ النشر: 24th, October 2023 GMT
"على مدار 75 عاما، لم يترك الكيان الصهيوني المحتل قيمة أخلاقية إلا انتهكها، ولا مبدأ حضاريا إلا خرقه، ولا قداسة إنسانية إلا داس عليها بأحذية جنوده الملطخة بدماء الأبرياء. على أنه هذه المرة قرر أن يذهب أبعد في طغيانه مستغلا تواطؤ العالم وانحيازه".
المقتبس أعلاه من بيان وقعه أكثر من ألفي مثقف عربي، موزعين على خرائط الإبداع والجغرافيا، لا يجمعهم كيان مهني، أو مظلة سياسية، وإنما القضية، والدم الذي روى أرض غزة، -الدم الفلسطيني- الذي هو "ضحية مشروع إسرائيل الصهيوني الاستيطاني، وضحية مشاريع العنف والظلام التي خلقها هذا المشروع الاستعماري في المنطقة وسوغ وجودها"، بحسب وصف الكاتبة والباحثة اللبنانية هدى فخر الدين، أستاذة الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة.
وترى فخر الدين القضية الفلسطينية "قضية إنسانية، وأنها أعلى وأرفع من أي نظام فاسد، أو أجندة سياسية"، وتواصل في إفادتها للجزيرة نت متحدثة عن البيان الذي وقعت عليه رفقة أسماء كبيرة تتصدر المشهد الثقافي العربي: "هذا البيان موقف عربي موحد -وما أندر هذه المواقف- ضد التطهير العرقي الذي يتعرض له أهلنا في غزة، وفي فلسطين منذ 75 عاما".
هذا البيان موقف عربي موحد -وما أندر هذه المواقف- ضد التطهير العرقي، لكن فاجعتنا هائلة. لا بيان يكفي ولا اللغة تتسع لهول ما يحدث في غزة وفلسطين
وتضيف "البيان وقفة رمزية. تكمن أهميته في أن موقعيه توحدوا على اختلاف بلدانهم وأعراقهم وانتماءاتهم السياسية، في إدانة هذه الجولة من العدوان الوحشي المستمر على غزة وعلى فلسطين. فلسطين قضيتنا -نحن العرب- وقضية كل الأحرار والشرفاء في العالم. ولكن فاجعتنا هائلة. لا بيان يكفي ولا اللغة تتسع لهول ما يحدث في غزة وفلسطين".
نزع الخوف وموقف متحدبيان المثقفين المترجم لعدة لغات تحدث عن العدوان على المقدسات، وتوسع الاستيطان، وتأجيج العنف في نفوس المستوطنين وتسليحهم، وحصار قطاع غزة وتجويع أهله، وعن أشياء يخاف البعض من ذكرها وأهمهما ما وصفه البيان بالتطهير العرقي المُمنهج للشعب الفلسطيني، وأخرى تتمثل في تمرير مشاريع التطبيع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتجريد العرب من كرامتهم، واستنكر البيان تعالي موجة التطبيع وزيادة عدد الداعمين له.
رأينا تجاور أسماء لها تاريخ من الخصومات السياسية والاختلافات الأيديولوجية المعلنة وغير المعلنة، لكن كل الخلافات سقطت من الحسبان أمام قضيتنا المركزية، إنسانيا، وأخلاقيا، وتاريخيا، وثقافيا، جدير بالذكر أن هذا التوافق ليس طارئا، وهذا الاتفاق ليس مستغربا، لأن هذه هي طبيعة فلسطين
ومما يلفت النظر في البيان أسماء الموقعين عليه، فهم من طليعة المثقفين كل في جنسه الأدبي، أو حقله الإبداعي، كما أن الاختلافات الواضحة بين بعض هذه الأسماء في الفكر والسياسة وغيرهما كبير، وهذا ما أشارت إليه الروائية الكويتية بثينة العيسى إحدى الموقعات على البيان في تعليق عنه للجزيرة نت: "رأينا تجاور أسماء لها تاريخ من الخصومات السياسية والاختلافات الأيديولوجية المعلنة وغير المعلنة، لكن كل الخلافات سقطت من الحسبان أمام قضيتنا المركزية، إنسانيا، وأخلاقيا، وتاريخيا، وثقافيا، جدير بالذكر أن هذا التوافق ليس طارئا، وهذا الاتفاق ليس مستغربا، لأن هذه هي طبيعة فلسطين".
صدمتنا ونحن نرى آلة الإعلام الغربي تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم، في سبيل دعم الدعاية الصهيونية. في الأيام القليلة الماضية، رأينا أعدادا من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبدي
أكثر من مخاطبتوجه البيان بخاطبه إلى أهل غزة، وإلى الأمة العربية شعوبا وحكومات ومنظمات، وأحرار الإنسانية، وخص بالتحية من سماهم بأصحاب الضمير الحي من الشركاء في الإنسانية، كما أشار إلى مواقف بعض المثقفين الغربيين سلبا، وإيجابا، ونعت الآلة الإعلامية الغربية بـ"آلة الكذب والتزييف" بحسب ما جاء فيه، وقال: "صدمتنا ونحن نراها تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم، في سبيل دعم الدعاية الصهيونية. في الأيام القليلة الماضية، رأينا أعدادا من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبدي".
ورغم هذه الإشارة فإن إبراهيم الكوني -الروائي الليبي- لا يرى بيانهم ردة فعل في إجابة على ذلك للجزيرة نت: "لماذا لا يكون البيان موقفا إزاء مسألة في غاية الأهمية في وجودنا؟ وهي العدالة، أم أننا بدأنا نشك في أنفسنا وفي عدالة القضية الفلسطينية حتى نتبنى هذا الزعم؟ لماذا نبقى أسرى ردود الفعل دوما بدل أن نبادر بالأفعال؟ لماذا نبقى ظلا في الثقافة العالمية في وقتٍ تؤهلنا فيه ثقافتنا العريقة وتراثنا الكلاسيكي المجيد أن نستعيد الثقة في أنفسنا، فنعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر؟".
جماعية الفعل، وعفويتهالعدد الكبير من الموقعين، والاختلافات الفكرية والسياسية، وعفوية الفعل، مؤشرات لها ما بعدها، سألنا الشاعر المغربي محمد بنيس أحد الموقعين على البيان عن دلالة الإشارة إلى عفوية البيان فقال: "تذييل (بيان المثقفين العرب) بأنه جاء استجابة عفوية للحدث دون أن تتبناه أي جهة ثقافية كان ضروريا، بمعنى أن لا جدوى من أي مؤسسة ثقافية عربية، لذلك اختار المثقفون بوعي عدم استشارتها. هذه المؤسسات فقدت كل مصداقية عبر العالم العربي. وكان جيدا أن يحضر صوت المثقفين مباشرة، حتى تصل كلمتهم من دون رقابة، ودون استغلال لكلمتهم الحرة، وموقفهم الذي يتوافق وقناعتهم. بعيدا عن وصاية مؤسسات تحولت إلى عائق في وجه الضمائر الحية، والتعبير الحر عن الآراء".
ويضيف بنيس "لذا تمت استجابة نخبة من المثقفين للبيان وتفاعلت مع مضمونه، في لحظة لا وقت فيها للتلكؤ أو التردد أو التزييف".
ويرى الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله أهمية هذه الجماعية، وأهمية ما هو فردي كذلك "بقدر ما يضمر البيان الجماعي من معنى، جوهره الوقوف بشكل جماعي داعم لفلسطين وقضيتها، ورافض بوضوح لطغيان القوة الغاشمة الطليقة وإبادة البشر وتهجيرهم، بقدر ما يشير بوضوح أيضا إلى اتفاق الموقعين منفردين، قبل التوقيع، على مواجهة هذا كله. اليوم، يملك كل واحد منهم وسيلته الخاصة، أو منبره، بل منابره، ليواصل العمل على فضح الجريمة والمجرمين".
الدور الحقيقي للكاتب قائم في كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية، ومحتضن للقيم الكبرى، قبل أي حدث كبير.. لا تصمد غزة وتقاتل بسلاحها وحسب، بل ببشر يملكون تاريخا جماليا وإنسانيا عميقا، رسخه على مدى عقود وعقود مبدعون ينتمون إلى روح هذا الشعب وقيمه
دور المثقف وبداية التغييرالبيان أيقظ السؤال المتكرر عن دور المثقف، وهذا مما ذكره نصر الله في إفادته للجزيرة نت: "الدور الحقيقي للكاتب قائم في كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية، ومحتضن للقيم الكبرى، قبل أي حدث كبير، وهذا ما تؤكده كتابات من رحلوا، مثل غسان كنفاني مثلا، الذي نراه يقدم الكثير لشعبه اليوم، مع أنه لم يعد بيننا. لا تصمد غزة وتقاتل بسلاحها وحسب، بل ببشر يملكون تاريخا جماليا وإنسانيا عميقا، رسخه على مدى عقود وعقود مبدعون ينتمون إلى روح هذا الشعب وقيمه". وأضاف نصر الله: "في حالات غير حالة غزة المحاصرة، كان يمكن أن يكون الكاتب واحدا ممن يردون العدو بقتالهم".
أسئلة الاستقلال والمقاومة والحرية والعدالة ستلتهب كما لم تلتهب من قبل، وقد يكون هذا إيذانا بعودة المثقف العربي إلى دوره ولو قليلا بعد عقود من المراوحة على هامش الحياة العربية
القيم التي أشار إليها نصر الله هي مما خفت وتضاءل في المشهد الإبداعي العربي، لكن الشاعر السوداني محمد عبد الباري في إفادة للجزيرة نت يرى أن أسئلة الاستقلال والمقاومة والحرية والعدالة ستلتهب كما لم تلتهب من قبل، وقد يكون هذا إيذانا بعودة المثقف العربي إلى دوره ولو قليلا بعد عقود من المراوحة على هامش الحياة العربية.
هناك أفق حقيقي لتحول هذا الحدث إلى نقطة فارقة تتحرر فيها الثقافة العربية من فصاماتها المستعصية، وتستعيد فيها لغتها المستلبة. فإذا استطاعت هذه الثقافة فقط أن تواكب مستوى الحدث إنتاجا واشتباكا، فستسفر هذه المواكبة عن جديد
ويضيف عبد الباري: "هناك أفق حقيقي لتحول هذا الحدث إلى نقطة فارقة تتحرر فيها الثقافة العربية من فصاماتها المستعصية، وتستعيد فيها لغتها المستلبة. فإذا استطاعت هذه الثقافة فقط أن تواكب مستوى الحدث إنتاجا واشتباكا، فستسفر هذه المواكبة عن جديد. وحينها ستكون فلسطين وفية لعادتها، عادتها في أن تحررنا نحن دون أن تنتظر منا العكس".
لا سلام بلا حرية، ولا سلام بلا عدالة، ولا سلام بلا حقيقة
ويبقى السلام أملاالتوقيعات تتواصل على البيان، والأمل في السلام قائم لكن للسلام مطلوباته بحسب ما ختم المثقفون بيانهم: "إننا في هذه البقعة من العالم، أكثر من يتوق إلى السلام. ولكننا بقدر ما نتوق إليه نعرف حق المعرفة أن لا سلام بلا حرية، ولا سلام بلا عدالة، ولا سلام بلا حقيقة. ولقد أثبتت الأيام أ هذا الكيان الصهيوني لا يعادي شيئا معاداته الحرية والعدالة والحقيقة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للجزیرة نت نصر الله
إقرأ أيضاً:
في ذكرى رحيلها.. حكايات وأسرار من حياة زينات صدقي مع المثقفين والأدباء في جلسات المزاج
صاحبة حضور طاغٍ وروح دعابة جعلتها قريبة من المثقفين والأدباء الذين عشقوا بساطتها وخفة ظلها، زينات صدقي التي تحل اليوم ذكرى رحيلها، "أشهر عانس في السينما المصرية"، ليست مجرد ممثلة كوميدية موهوبة، بل كانت شخصية تحمل في طياتها ثقافة الحياة وتجاربها، مما جعلها مادة خصبة لحكايات لا تُنسى في مجالس الفن والأدب.
زينات ونجوم الفكر في "جلسات المزاج"
عُرفت زينات بعلاقتها الوطيدة ببعض رموز الفكر والأدب، مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وغيرهم من الكتّاب الذين كانوا يلتقون في المقاهي والمنتديات الثقافية، كان نجيب محفوظ من المعجبين بشخصيتها الفريدة، وغالبًا ما كان يلتقي بها في جلسات فنية يتصدرها الحديث عن السينما والمجتمع، ويقال إنها ذات مرة مازحته قائلة: ("يا أستاذ نجيب، إنت بتاخد جايزة نوبل في الأدب، وأنا واخدة نوبل في الضحك" فضحك محفوظ بشدة وردّ: "وأي جائزة أهم من الضحك؟").
أما توفيق الحكيم، الذي كان معروفًا بميوله الفلسفية وحبه للعزلة، فقد وجد في زينات نقيضًا له، لكنها كانت تستطيع إخراجه من جديته بتعليقاتها الساخرة، ويُحكى أنها قابلته ذات مرة وسألته عن أحد كتبه الجديدة، فردّ متحفظًا، فقالت له: "طبعًا كتاب مليان حكم وفلسفة، بس قول لي فيه ضحك شوية ولا كله كآبة؟" فضحك الحكيم وأخبرها أن روحها المرحة تسبقها إلى أي مكان.
مواقف طريفة مع الأدباء
تحكي بعض الروايات أن زينات حضرت إحدى الندوات الأدبية الكبرى التي كان فيها يوسف إدريس، والذي كان معروفًا بحبه للقصص الواقعية والشخصيات الشعبية، وبينما كان يتحدث عن المرأة في الأدب المصري، قاطعته زينات قائلة: "يعني أنا لو كنت بطلة في رواية عندك، كنت هتبقى حكايتي إيه؟" فأجابها ضاحكًا: “أكيد هتبقي رمز البهجة وسط المعاناة، وأنتِ أحق ببطولة أي رواية فيها حياة.”
خفة ظلها التي لا تُنسى
كانت زينات صدقي نموذجًا فريدًا للمرأة التي تحمل بداخلها ثقافة شعبية فطرية، جعلتها قريبة من الجميع، حتى من طبقة المثقفين التي ربما لم تكن في دائرتها المباشرة، لكنها بأسلوبها العفوي وروحها النقية، جعلت الجميع يشعرون بأنهم في حضرة شخصية استثنائية، تمتلك بساطة الناس وذكاءً يضاهي كبار المفكرين.
ورغم أن الأضواء خفتت عن زينات في أواخر حياتها، إلا أن ذكرياتها مع الأدباء والمثقفين بقيت حاضرة في الكواليس والمجالس، شاهدة على زمن كان فيه الضحك والثقافة يسيران جنبًا إلى جنب.
زينات صدقي والفكاهة كوسيلة للنقد الاجتماعي
لم تكن زينات مجرد "خفيفة ظل"، بل كانت تمتلك ذكاءً اجتماعياً جعلها قادرة على فهم قضايا عصرها وتقديمها بطريقة ساخرة، كانت تدرك تمامًا أن الكوميديا ليست مجرد ضحك، بل وسيلة لطرح قضايا الناس، وهو ما جعلها قريبة من الأدباء الذين رأوا فيها نموذجًا للمرأة الشعبية الواعية.
مثلاً، يُقال إنها حضرت ذات مرة ندوة أدبية حول "أزمة المرأة في المجتمع"، فجلست في الصفوف الأولى وهي تستمع بانتباه، وعندما سألها أحد الصحفيين عن رأيها، قالت: "أنا شايفة إن أزمة المرأة في الجواز، مش في المجتمع، الواحد لازم يلاقي عريس الأول وبعدين يفكر في القضايا الكبيرة" فضجت القاعة بالضحك، لكنها كانت في الحقيقة تشير إلى أزمة العنوسة التي كانت قضية اجتماعية بارزة آنذاك.
ذكرياتها في المقاهي الثقافية
كانت زينات من روّاد بعض المقاهي الشهيرة التي يجتمع فيها المثقفون، مثل مقهى ريش، والزيتونة، وكسّاب، هذه الأماكن لم تكن مقتصرة على الأدباء فقط، بل كانت ملتقى لكل من يحب الحوار والفن، في أحد اللقاءات، سألها صحفي عن رأيها في المسرح التجريبي، فردّت ممازحة: "يعني إيه تجريبي؟ إحنا جرّبنا كل حاجة ولسه بنجري ورى الجمهور" فتعالت الضحكات، لكنها في العمق كانت تشير إلى معاناة المسرح في جذب الجمهور أمام زحف السينما والتلفزيون.
رسائل نجيب محفوظ إليها
يُروى أن نجيب محفوظ كان يُكنّ احترامًا كبيرًا لزينات صدقي، لدرجة أنه أرسل لها رسالة في أواخر أيامها بعد أن تدهورت حالتها المادية، قائلاً: "لا يمكن أن ننسى من أضحك مصر ورسم الابتسامة على وجوهنا، أنتِ تاريخ لن يُمحى"، وكانت هذه الرسالة واحدة من لحظات التقدير القليلة التي أسعدتها في سنواتها الأخيرة.
تراثها الممتد في الذاكرة الثقافية
على الرغم من أن زينات لم تكن كاتبة أو مفكرة بالمعنى التقليدي، إلا أنها كانت "مثقفة بالفطرة"، تفهم المجتمع وتعبر عنه بلغة الناس، مما جعلها قريبة من الأدباء الذين وجدوا فيها "حكاية تمشي على قدمين"، تنبض بالحياة والمرح، وتختزن في داخلها تجارب تستحق أن تُروى.