دينا دياب تكتب: فلسطين قضية كل العرب
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
الفيشاوى وأحمد ماهر جسدا شخصيات فلسطينية فى «أنا القدس».. ودموع عابد فهد أبكت الملايين
عادل إمام يؤكد هزيمة إسرائيل ممكنة بالعلم والايمان فى «فرقة ناجى عطالله»
التغريبة الفلسطينية تدق على مشاعر العرب.. و«النهاية» تنبأ بأرض القدس الشريف
إياد نصار ناقش الريف الفلسطينى بجرأة
«القضية الفلسطينية قضية العرب كلهم» كلمة الرئيس السيسى فى قمة القاهرة للسلام، والتى أعلن خلالها عن الموقف المصرى والعربى تجاه القضية، هى تأكيد واضح على انها القضية التى تشغل بال كل عربى على كافة المستويات، ويؤكد أن العالم العربى يدرك أن حلَّ القضيةِ الفلسطينية هو أحدُ المفاتيحِ الرئيسيةِ لاستقرارِ المنطقة، ومن هنا كان الدعم الكبير الذى تقدمه مصر قيادة وشعبًا، للقدس وللقضية الفلسطينية فى كل المجالات وتزامنا مع «انتفاضة الأقصى».
ولم تكن الدراما التليفزيونية العربية أبدا فى معزل عن تناول هذه القضية التى تعتبر مؤصلة فى روح كل مبدع، ولعل تناول القضية كان دائما على مائدة الكتاب والمنتجين، كوسيلة للدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال اختراق وعى المشاهد العربى عبر بث القضية الفلسطينية فى قوالب درامية تُعرف بالحياة وكينونة الأشخاص الذين يعيشون فى وطن السلام بلا سلام.
ونرصد فى هذه السطور أهم الأعمال العربية التى تناولت القضية الفلسطينية، لأن الدراما لا تكتب التاريخ فقط ولكنها تسلط الضوء على ما بين السطور، وتجسد المرحلة التاريخية من خلال أشخاص أو أسماء ربما لم تكن موجودة كاسم ولكن موجودة كحدث.
فى مقدمة الأعمال المصرية التى تناولت القضية كان العمل الاشهر مسلسل «فرقة ناجى عطا الله» بطولة النجم الكبير عادل إمام والذى عرض فى رمضان 2012، من إخراج رامى إمام، ويعد من أبرز المسلسلات التى تناولت موضوع القضية الفلسطينية، من تأليف يوسف معاطى، وإنتاج شركة سينرجى.وتدور أحداث المسلسل حول ناجى عطا الله وبعد سنوات من العمل كملحق بالسفارة المصرية فى تل أبيب وتجميد أرصدته من قبل الحكومة الإسرائيلية، يعود ناجى إلى مصر بعد الاستغناء عن خدماته فيكون فريقه الخاص من أجل العودة لإسرائيل مجددا وسرقة أكبر بنوك تل أبيب، وهنا يتضافر التناول الكوميدى مع التناول التراجيدى للقضية، رغم ان العمل فى الأساس يبدو تناولا سطحيا للقضية لجريمة سرقة اموال من البنك الاسرائيلى، لكن المتتبع للاحداث يجد ان الكاتب يوسف معاطى وضع السم فى العسل، وناقش فكر بعض الشباب العربى الذى لا يعرف أبعاد القضية الفلسطينية، فمنهم من يعرف، ومنهم من لا يعرف الا القليل، فالممثل نضال الشافعى «مهمش وصايع» لكنه مواطن أصيل، ولولا الظروف لأصبح مدركا لما حوله، ولهذا فليس من عجب انه لا يعرف ما الفرق بين «فتح وحماس» وكذلك الجامعى أحمد السعدنى الذى سبق ان سمع بهما، لكنه لا يعرف تفاصيل الخلاف بينهما الأمر الذى يشير اليه النص بذكاء ليعكس ضحالة الثقافة العامة عند الشباب العربى «المتعلم وغير المتعلم»، وكأنه يريد ان يؤكد انه لطالما ان الشباب العربى بلا ثقافة قوية فلن نهزم اسرائيل، وشخصيات العمل كاملة تقودها جاذبية وجماهيرية الزعيم عادل امام، لتنتهى احداث العمل بأن العمل يوجه رسالة للمصريين وللعرب بأنه من الممكن هزيمة اسرائيل بالعلم وبالايمان وبالاتحاد وبالاستعداد الجيد لتحقيق النصر على الرغم من كل الظروف.
مسلسل «فرقة ناجى عطا الله» بطولة الزعيم عادل إمام، أنوشكا، محمد عادل إمام، أحمد السعدنى، نضال الشافعى، محمود البزاوى، أحمد التهامى، عمرو رمزى، سناء يوسف، واخرون، إخراج رامى إمام.
ضمن الاعمال التى تناولت القضية ونهايتها هو مسلسل « النهاية» ليوسف الشريف، الذى تناول القضية بشكل هامشى، ففى سياق تخيُل شكّل العالم بعد مائة عام من الآن تنبأ العمل بتفكك الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالى زوال دولة إسرائيل لتحل محلها إدارة تسمى إدارة القدس الشريف، وسوف يتحقق هذا التطور بعد معركة لتحرير القدس ينتصر فيها العرب على إسرائيل، وقال مخرج العمل ياسر سامى إن «المسلسل يحكى عن حلم عربى نؤمن ونحلم به»، من تاليف عمرو سمير عاطف وبطولة عمرو عبدالجليل وناهد السباعى، واثار العمل ردود فعل اسرائيلية غاضبة قائلين ان العمل يتنبأ بانتهاء اسرائيل رغم اننا نحقق نجاحا وتطورا كل يوم.
أما مسلسل « انا القدس» يتناول القضية الفلسطينية بانتاج مصرى سورى– 2010، وهو دراما ترصد مأساة الشعب الفلسطينى بين عامى 1917 و1967 وهى خمسينية حاسمة فى الصراع على القدس بما فيها من حروب وثورات، مع التركيز على الإنسان الفلسطينى ومصير مجموعة من الشخصيات تأثرت بهذه التحولات السياسية والاقتصادية التى أفقدتهم أراضيهم وأهاليهم.
شارك فى العمل فنانون بينهم السورى عابد فهد والمصريان فاروق الفيشاوى وأحمد ماهر، تأليف واخراج باسل الخطيب.
ويمثل هذا العمل وثيقة هى بمثابة كتاب قديم بتفاصيل كثيرة لجيل لا يعلم ما حدث جراء اتفاقية سايكس بيكو،ويمثل عابد فهد دور فلسطينى شريف ومناضل فقد الكثير من أفراد عائلته، وأب لولدين أحدهما تأثر بالعولمة والتطبيع نتيجة دراسته بالجامعة الأميركية فأصبحت رؤيته مختلفة للاحتلال الإنجليزى، بينما يشكل الابن الثانى نقيض الأول.
يرى الخطيب -الذى عُرف بتبنيه القضية الفلسطينية فى مسيرته الإخراجية عبر مسلسلى يحيى عياش وعائد إلى حيفا وأفلام سينمائية قصيرة- أن ما قُدم سابقا لم يكن بمستوى طموحه، لكن النضج الفنى اكتمل فى «أنا القدس» لأن ارتباطه بهويته الوطنية -وهو الفلسطينى الأصل- انعكس على خياراته الفنية مما جعله يجتهد ليرى هذا المسلسل النور.
ويقول الخطيب إن الفكرة بدأت بصدور روايته «أحلام الغرس المقدس» عام 1990 التى كانت بذرة المشروع، وإنه سعى لاحقا لجمع خطوط وأحداث الكتابة الفعلية للمسلسل التى بدأت منذ ثلاث سنوات وتطلبت مجهودا كبيرا.
حقق العمل نجاحا كبيرا وردود فعل قوية للمشاهد المصرى والعربى وقت عرضه.
أما أبرز عملٍ فى تاريخ الدراما المجسدة للقضية الفلسطينية فهو مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذى أنتج وبث عام 2004 بمشاركة كبار الفنانين السوريين، وباجتماع بين الكاتب المصرى وليد سيف والمخرج حاتم على. كان لهذا المسلسل أثرٌ كبير على المستوى الفلسطينى والعربى، إذ جسّد بحرفيةٍ بالغةٍ جمعت بين التأريخ الحقيقى والحكاية المحبوكة والصورة المميزة، معاناةَ التهجير الفلسطينى فى الـ48 ثم الـ67، وقد حقق هذا المسلسل انتشارًا واسعًا وغير مسبوق فى تاريخ الأعمال الدر امية التى حكت عن فلسطين.
كذلك اهتمت الدراما السورية بتوثيق القضية بشكل كبير وانتج عام 1981 مسلسل عز الدين القسام الذى يروى حكاية شيخ سورى قاد ثورة فى فلسطين واستشهد فى جبالها.. قبل أن يعرض مسلسل «عائد إلى حيفا» الذى أنتج عام 2007 مجسدًا معاناة اللجوء الفلسطينى عام 1948، ومسلسل «الاجتياح» الذى أنتج فى العام نفسه، ليروى حكاية صمود مخيم جنين ومقاومته للحصار والاجتياح الإسرائيلى عام 2002، الإنتاج الدرامى التركى كذلك لم يخلُ من الحديث عن القضية الفلسطينية، ففى عام 2009 أنتج مسلسل باسم Ayrılık aşktave savaşta Filistin ويعنى «الانفصال: فلسطين فى الحب والحرب» والذى يجسد تلذذ جنود الاحتلال بتعذيبهم الفلسطينيين وقتلهم الأطفال، وقد جرت دبلجته إلى العربية وبثَّ عبر قناة MBC باسم «صرخة حجر».
هذا العمل، بالإضافة إلى عمل آخر أيضًا باسم «وادى الذئاب–فلسطين»، أغضبا الاحتلال الإسرائيلى الذى طالب بمنع بثهما، واستدعى السفير التركى لديه فى 20 كانون الثاني/ يناير 2010 لتبليغه باحتجاج «إسرائيل»، حيث تعمد نائب وزير خارجية الاحتلال آنذاك «دانى أيالون» إهانة السفير التركى بإجلاسه على مقعد منخفض. كما طالبت «إسرائيل» حينها بقطع بث قناةMBC عن الأراضى المحتلة بعد بدء القناة بدبلجة العمل وبثّه فورًا لأنه، حسب ادعائها، يحرض على الكراهية، كما وصفته صحيفة يديعوت أحرونوت التى تساءلت: «هل كُره إسرائيل يؤدّى إلى رفع نسبة الاهتمام؟ لقد لاقى المسلسل رواجًا تركيًا وعربيًا واسعًا، وقد وصفته صحيفة الوسط البحرينية بـأنه (مسلسل ذو نفسٍ ملحمى، يُدافع عن أعظم قضية لدى العرب)».
التليفزيون الفلسطينى ايضا ناقش القضية ووثقها من خلال العديد من الاعمال من بينها مسلسل «الأخوة الغرباء»، وهو أول عمل من إنتاج التليفزيون الفلسطينى عام 1998، جمع فنانين من فلسطين والأردن، كتب القصة والسيناريو والحوار الراحل بشير الهوارى وأخرجه حسيب يوسف الذى لم يسعفه العمر لأن يرى ثمرة عمله إذ توفى بعد عشرين يومًا فقط من انتهاء العمل الدرامى.
تمتع المسلسل بنسب مشاهدة عالية نتيجة للطابع الاجتماعى الذى تميز به المسلسل، والذى كان يدور بين ثلاثة أخوة عادوا إلى أرض الوطن بعد اغتراب طويل وحاولوا التأقلم مع الوضع الجديد.
ايضا مسلسل « مطب» الذى أنتجه المركز الفرنسى الألمانى عام 2008 ليُعرض خلال شهر رمضان من ذات العام، ونجح المسلسل الذى كتب سيناريو وحوار حلقاته العشرة وأخرجها الفنان «جورج خليفة»، فى أن يُصور تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين فى الأراضى المحتلة بطريقة كوميدية لا تخلو من قصص الحب.
جاءت الحلقات فى تسلسل منفصل بشكل يومى، ففى كل حلقة يُعايش الجمهور مطبًا يواجهه الفلسطينى فى الأراضى المحتلة سواء المشكلات الأسرية، أو مشكلات الاعتقال التى يتعرض لها المواطن بشكل عشوائى، ما جعله يُلاقى قبولًا جيدًا من الجمهور، رغم منافسة الأعمال الدرامية العربية التى كانت تُبث عبر تليفزيون فسطين وقتها.
ومسلسل «وطن ع وتر» وهو بمثابة نقطة تحول فى الدراما الفلسطينية، وفى تليفزيون فلسطين الرسمى، تم إنتاجه عام 2009، وتميز العمل بالجرأة فى انتقاد الواقع الفلسطينى على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.
حيث انتقد العديد من الظواهر السلبية فى المجتمع الفلسطيني؛ منها الانقسام والانفلات الأمنى وبعض العادات والتقاليد. حظى المسلسل بنجاح واسع ونسب متابعة كبيرة فى صفوف المشاهدين الفلسطينيين، مما أدى فيما بعد إلى إنتاج أجزاء متتابعة من العمل لم تبتعد كثيرًا عن حالة النقد اللاذع لكل ما هو خاطئ على المستوى السياسى والاجتماعى تحديدًا.
الجزء الثانى من المسلسل لاقى انتقادات واسعة من الكُتاب والنُقاد وبعض المسئولين، كونه تعرض لشخصيات فلسطينية بطرق هزلية، وبالغ فى طرح المواضيع الاجتماعية بطريقة دعت الكثيرين إلى المطالبة بوقف بثه خاصة فى ظل تجرئه على الدين بطريقة غير أخلاقية، لكن العمل شكّل الواقع الفلسطينى المُعاش فى الضفة الغربية وقطاع غزة، مادة دسمة لفريق العمل بإنتاج مواضيعه المختلفة بقالب ساخر استطاع أن يوصل الفكرة والمضمون بطريقة بسيطة.
أيضا مسلسل «الروح»، أُنتج وصُور فى بيئة قطاع غزة عام 2014، وأبرز العمل الحالة الملحمية للمقاومة الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة معًا، فقد أظهرت حلقاته حالة ارتباط وامتزاج روح المقاومة والثورة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما كشف عن حالة الألم والمصير المشترك الذى يُعانيه كل أبناء الوطن.
المتابع لمشاهد المسلسل الدرامى على مدار ثلاثين حلقة يجدها لا تخلو من نصوص التوعية الأمنية للمجتمع الفلسطينى، فقد ركز على العديد من القضايا؛ كقضية «عصافير السجون» التى يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون داخل زنازين المحتل، كما عرض قضية العملاء ونبّه فى ثنايا المسلسل إلى مصيرهم فهم يخسرون الوطن واحترام الذات، ويلحقون العار بأسرهم، وغالبًا ما تكون حياتهم مرهونة بمدى صدق المعلومات التى يوصلونها، وإلا فالموت هو المصير المنتظر.
كان العامل الأساسى فى نجاح المسلسل، أن إنتاجه كان وطنيًا من الألف إلى الياء بعيدًا عن أى تدخلات، بالإضافة إلى كونه تناول قصصًا فلسطينية أظهرت المنعطفات التى مرت بها القضية والمقاومة معًا بدءًا من عام 2002 حتى عام 2010، ومن خلال المسلسل استطاع الكاتب «سليمان أبوستة» أن يطرق أبواب الحياة الإنسانية والاجتماعية للفلسطينيين ووضعها فى سياقها الصحيح بعيدًا عن المغالاة أو التكلف.
أيضا مسلسل «الفدائي» بجزأيه الأول والثانى، وكان مبهرًا فى إعطاء الصورة الحقيقية لواقع الحياة الإنسانية والمعاناة الأزلية التى يُقاسيها الشعب الفلسطينى منذ عام 1948،الجزء الأول، كان مُلفتًا بالحديث عن حياة أهل الضفة الغربية ومعاناتهم من التهويد وسلخهم عن واقعهم الحضارى والتاريخى، لقد أفرد المسلسل فى حلقاته الثلاثين التى بُثت على فضائية الأقصى عام 2015، مساحةً كبيرة لما يحدث فى مدينة الخليل من عمليات تهويد وسرقة للأرض وتنكيل على الحواجز، أما الجزء الثانى، فجاء حاملًا لقضية الأسرى والأسيرات، فاستطاع أن يُعرف المشاهد العربى بأدق تفاصيل الحياة اليومية التى يعيشونها فى السجون، ويفضح ممارسات الاحتلال فى تعذيب الأسرى وإذلالهم.
ايضا مسلسل «باب العامود» والذى تناول حالة الحظر الإسرائيلى التى يُمنى بها الفلسطينيون وتمنعهم من زيارة القدس العتيقة، دفعت التليفزيون الرسمى إلى محاولة الكشف عن جوهر الحياة الاجتماعية فى المدينة المقدسة، وما يُعانيه أهلها من شظف العيش وتراكم الضرائب، إضافة إلى الكشف عن بعض الظواهر الاجتماعية بطريق فكاهية باللهجة المحكية فى القدس، ليس ذلك فحسب وإنما أيضًا نقل المشاهد واقعية من أزقة البلدة القديمة وحواريها، التى يحكى كل حجر فيها حكاية صمود وتحدٍ.
ومسلسل «الأغراب» الذى عُرض فى رمضان 2016 وكان له صدى كبير، حيث ارتقى القائمون عليه وهم مجموعة من الشبان فى الضفة الغربية إلى مستوى الأعمال الدرامية الفلسطينية سواء على مستوى كتابة القصة أو الإخراج.
وتدور فكرة المسلسل حول الاحتلال الذى سرق الأرض، فكان اسمه «الأغراب» تعريفًا بالمحتلين الذين لا ينفكون عن النيل من المواطن الفلسطينى فى حياته وأرضه وبيته، حيث يُجسد اعتداءات جنود الاحتلال خلال مصادرة الأراضى، وكذلك قضية العملاء وسماسرة الأراضى، ويُبرز الحالة التضامنية لأهالى القرى مع بعضهم فى وجه سياسات الاحتلال، كما لم يغفل إبراز المقاومة الشعبية للمجتمع الفلسطينى والمقاومة المسلحة أيضًا، بالإضافة إلى قضايا الأسرى وتعامل المواطنين معها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فلسطين قضية كل العرب
إقرأ أيضاً:
رفعت عينى للسما
فى هذه الأيام الحالكة السواد، يتوق المرء إلى تلك اللحظات التى تحمله إلى الفرح والأمل والتوازن النفسى يصنع لنا مسارات التفاؤل بمستقبل، يعد بفيض ممتع من الفن الملهم الراقى. تملكتنى تلك اللحظات مع تتابع تترات النهاية للفيلم الوثائقى «رفعت عينى للسما» الذى يعرض الآن فى قاعات العرض، وقدم خلاله المخرجان «أيمن الأمير» و«ندى رياض» تجربة شديدة التفرد والخصوصية والإبداع، عملا من أجل إنجازها بلا كلل لأربعة أعوام، ليأتى فيلمهما حافلا بالصدق الفنى والرؤية الواعية التى تحملها رسائل تنطوى على الاحتفاء بمقاومة كافة عوامل التخلف الاجتماعى، الذى ترسخه تقاليد بالية تؤسس قواعد قهرها إلى الطرف الأضعف فى معادلة الهيئة الاجتماعية: المرأة.
ينطوى عنوان الفيلم على مضمونه: «رفعت عينى للسما» ليس استجداء أو ضعفا، كما هو المعنى المضمر الشائع لرفع العين إلى السماء، ولا قلة حيلة، بل أملا فى رحمة السماء الواسعة والممتدة، وشغفا بالأحلام والأخيلة التى تتشكل حين النظر إلى النجوم والكواكب فى أرجاء هذا الكون، وصولا لثقة بالنفس، تقود لرفع الرأس عاليا إلى السماء.
ويحكى الفيلم تجربة مجموعة فتيات موهوبات مفتونات بالفنون الإبداعية، ومسكونات بإيمان عميق بقدرة الفن على التأثير فى الواقع أو تغييره، من قرية البرشا - وهو اسم فرعونى للقرية ويعنى بالعربية مقاطعة الأرنب- إحدى قرى مركز ملوى بمحافظة المنيا، التى تقع شرق نهر النيل، حيث يجرى بجمال خلاب لا مثيل له، أحد أوسع فروع النهر، لتكوين «فرقة بانورما البرشا» لتقديم العروض المسرحية، فى شوارع القرية التى تعد نموذجا لكل قرى الصعيد. وبوعى تلقائى، أدركت فتيات البرشا أن الفن هو اللغة المشتركة التى يمكن للناس، أن يفهموا بها بعضهم البعض، برغم اختلاف ثقافتهم ومشاكلهم. فبدأن بتأسيس خشبة للمسرح للقيام بالتدريبات، وجلن شوارع القرية وهن يقرعن آلات إيقاعية، لتقديم مشاهد من عروضهن لأهلها.
أما المشاهد المسرحية، فهى تقدم نقدا لاذعا لما تتعرض له الفتيات من زواج قسرى، وتنمر تسلط ذكورى على مصائرها، داخل الأسرة والمجتمع. ولأنه نقد ينطوى على أهازيج غنائية، فهو يتحلى بالجاذبية والتسلية التى تنجح فى جذب انتباه أهالى القرية. ويعرج الفيلم لمصائر الفتيات أعضاء الفرقة حيث تتخلى إحداهن بالزواج عن حلمها أن تصبح مطربة مثل أصالة. وتستنيم أخرى لطلب خطيبها مغادرة الفرقة، برغم تشجيع أبيها لها على مواصلة حلمها كراقصة باليه وممثلة، وتتشبث ثالثة بحلمها وتقرر السفر للقاهرة لكى تلتحق بمعهد الفنون المسرحية، لكى تدرس فن التمثيل الذى عشقته.
ويأتى المشهد الختامى للفيلم مفعما بالإيحاءات البارعة. جيل جديد نشأ فى ظلال فرقة بانوراما البرشا، وتأثرا بها، متسلحا هذه المرة بما قد تعلمه من دروس نجاحها وإخفاقها، وشتاتها، يجوب أنحاء البرشا، وهو يقرع بشغف وهمة الطبول لإيقاظ الغافلين، ومواصلة الطريق الذى مهدته الفتيات، نحو الحرية والتحقق.
لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بجائزة العين الذهبية، للنقاد فى الأفلام التسجيلية فى مهرجان كان هذا العام، فقد مهد صدقه وتعبيره البسيط العفوى والمتقن عن واقع ريفى تقليدى، الطريق نحو هذا الفوز. فضلا عن التوظيف المتقن للغة والاستخدام الذكى للصورة، وللرموز الكنسية، والقرع المدوى للطبول، بما ينطوى عليه من معانى التحذير والتنبيه الإنذار، والسرد التلقائى والتجريبى لممثلين مبتدئين، وكلها أدوات تصوغ واقعا فنيا ينشد فيه الإنسان بالشجاعة والحرية مواجهة التهميش. ومثلما شيدت واقعية نجيب محفوظ الطريق نحو عالميته، فإن فيلم ندى رياض وأيمن الأمير «رفعت عينى للسما» يؤسس لسينما تسجيلية مصرية، تخطو بثبات نحو العالمية.