أوضاع إنسانية قاسية تُدمي القلوب وتذهب بالعقول، أصبحنا نعيش فى عالم فَقَدَ صوابه، فالذين يصرخون من أجل حقوق الإنسان ويهاجمون حكومات ويُسخِّرون الإمكانيات لرصد التجاوزات، ويُنشئون من أجلها المنظمات والمؤسسات، إذا بهم يسقطون فى اختبار غزة، هذا الاختبار الذى فضح الشعارات وأسقط الأقنعة، صمت العالم الغربى (أغلبه) أمام المجازر التى ارتكبها الكيان الصهيونى، بل إنه لم يكتف بهذا الصمت كنوع من التواطؤ بل فضّل أن يكون فاعلًا أصيلًا وشريكًا حقيقيًا فى الجريمة وليس فقط شريكًا متضامنًا.

كانت الوفود الغربية تترى وراء بعضها البعض ليس لزيارة الضحايا أو المصابين فى المستشفيات المكتظة، ولكن للحج إلى مكتب نتنياهو لينالوا البركة من يدين ملطخة بدماء الأبرياء، مبكرًا جاء بايدن ليكون فى طليعة القادمين ليحتضن القاتل ويحضر اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر، ويعلن أمام العالم كله أن إسرائيل ليست وحدها، هذا التصريح الذى كان بمثابة ضوء أخضر لإعلان الحرب على غزة وحصارها وتجويعها والقتل البطيء لشعبها، ويرسل حاملة طائرات لدعم ومساندة إسرائيل فى مهمتها، ومطالبة الكونجرس بتخصيص مساعدات استثنائية لحكومة نتنياهو بلغت ١٤ مليار دولار كبداية، وهنا ووفقًا لهذا السياق لا نندهش على الإطلاق عندما يقول بايدن بعد مرور ساعات قليلة على قصف المستشفى الأهلى المعمداني ما نصه: يبدو -ولنركز جيدا فى كلمة يبدو أو أنه ليس متأكدا - أن الفريق الآخر هو الذى فعلها [وأظن أنه لا يدرك ولا يعرف من هو الفريق الآخر الذى يتحدث عنه، لتظهر إسرائيل فى الصورة وتتلقف الاتهام وتهندسه على مقاس الجهاد الإسلامي، ثم يسقط بايدن مجددا [بتصريح فضيحة] بإدانته لذبح حماس للأطفال، وتحدث رئيس أكبر دولة فى العالم كأنه مواطن ساذج دون أن يتحقق مما نشرته التايمز [حماس تذبح حناجر الرضع]، واضطر البيت الأبيض للتراجع بعدها عن التصريحات، وإذا عدنا إلى أصل هذا التصريح فسنكتشف أنها مجرد رواية كاذبة على لسان أحد  زعماء ومشاهير الاستيطان فى الضفة الغربية (ديفيد بن صهيون) الذى تحدث عن المجازر المزعومة للتليفزيون الاسرائيلي ونقلتها عنه الصحف والقنوات الأمريكية، ولم يفكر أحد فى هذه المؤسسات الإعلامية العريقة من ضرورة التحقق أو البحث عن أدلة لدعم القصة بمصادر قريبة من الحدث، ولم يسأل منهم أحد نفسه كيف ينقلون عن مواطن يعيش فى الضفة الغربية بعيدا عن الأحداث ويعتمدون نشرها بهذا البساطة؟! وهنا نعزو الأمر لأسباب نفسية بحتة، فنحن نصدق أى أكاذيب تساق عن المقاومة المتوحشة، ألم يصفهم وزير الدفاع الاسرائيلي بأنهم حيوانات بشرية؟! فإذا كانوا كذلك فلا حاجة إذن للبحث والتحرى والتقصى، فهم مؤهلون لفعل كل ما هو قبيح وغير إنسانى وغير أخلاقى.

مشهد سقوط الإعلام الغربى كان مدويًا لا يضاهيه سوى سقوط بايدن نفسه، لقد وقع الاعلام الذى يدعى الموضوعية والمصداقية ويعتبر نفسه النموذج فى عرض الحقائق وتناول القضايا، وامتثل مستسلما لأنماط وصور ذهنية متجذرة فى العقل الغربى عن الشرق الذى لا يقدر ولا يكترث لحقوق الإنسان بشكل مطلق، فماذا إذا دخل هؤلاء فى صراع مسلح بل ماذا تفعل فصائل مقاومة، وليس مؤسسة عسكرية نظامية مع المدنيين، وفق هذه السردية سترتكب المجازر بلا وازع من ضمير، هذه فلسفة الإعلام الغربى فى تناولهم للاحداث فتم تنظيم حملة شرسة لشيطنة غزة وأهلها، وفلسطين وقضيتها، وبما أنهم ملائكة فواجبهم المقدس هو محاربة الشياطين إعلاميا ليطهروا الأرض من شرورهم على يد قيادات عسكرية عظيمة أمثال نتنياهو ورفاقه المتطرفين!.

هذه الحملة الإعلامية الغربية كانت كفيلة لقبول المجتمع الدولى كل الأفعال العنصرية التى تبنتها حكومة الفاسد نتنياهو والملاحق قضائيا، فلم يعبأ أحد بالقنابل الفسفورية التى سقطت على رؤوس الأبرياء فى غزة، ولم يهتم أحد بقطاع محاصر وتستصرخ نساؤه من أجل أطفال لا حول لهم ولا قوة فى محاولة لإبقائهم على قيد الحياة حتى لا يضافوا إلى قائمة الضحايا ( ١٥٠٠ طفلا ) وبينما شيوخه يتضورون جوعا، ومصابيه لا يجدون إسعافا فينتظرون فى صمت رحيلا مؤلما وموجعا، ومدن كاملة تعيش تحت القصف بلا ماء أو دواء أو غذاء.

حكومات كثيرة صمتت، وأخرى اكتفت بتصريح على لسان متحدثها ذرا للرماد فى العيون، ولا مانع لديهم أن يحضروا اجتماعا حتى لا تسقط ورقة التوت الأخيرة عنهم، ووسط كل هذا السقوط والتواطؤ برز الدور المصرى واصرار القيادة السياسية على إغاثة المنكوبين وفك الحصار، وجاءت الكلمات على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي مدوية لِتُسمع كل عواصم الدنيا فى قمة السلام بالقاهرة إن ما يحدث يختبر إنسانية هذا العالم والقيم الحضارية التى أسسها على مدى قرنين من الزمان، لتبدأ شاحنات المساعدات فى الدخول لإغاثة أهل غزة، ولكن على الجانب الآخر تتدفق الأسلحة وكل الأبواق والحكومات الغربية تواصل دعمها اللامحدود عسكريا وماديا ودبلوماسية للكيان وللكائنات نتنياهو ولكن هل نتنياهو قادر على أن يقود هذه الحرب المقدسة ليخلص العالم الأشرار ويهنأ كوكب الأرض بالسلام والاستقرار؟!.

يجيب الكاتب الأمريكى الأشهر توماس فريدمان على هذا التساؤل مخاطبا الرئيس الأمريكى قائلا:

‎يجب على بايدن أن يدرك أن بنيامين نتنياهو غير مؤهل لإدارة هذه الحرب كلاعب عقلاني. بعد هذه الهزيمة الهائلة، كان الشيء الأقوى والأكثر توحيدًا الذي كان يمكن لنتنياهو أن يفعله هو الدعوة إلى انتخابات إسرائيلية جديدة في غضون ستة أو تسعة أشهر - والإعلان عن أنه لن يترشح؛ فهو ينهي حياته المهنية في السياسة، وبالتالي يستطيع الإسرائيليون أن يثقوا في أن أي قرارات سيتخذها الآن بشأن غزة وحماس لن تضع في الاعتبار سوى المصلحة الوطنية الإسرائيلية؛ فهو لن يضع في اعتباره مصلحته الخاصة في البقاء خارج السجن بتهم الفساد، الأمر الذي يتطلب تمسكه بالمجانين اليمينيين في حكومته (الذين يتخيلون في الواقع أن إسرائيل سوف تعيد احتلال غزة وإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية هناك) من خلال مطاردة بعض الأشخاص. نصر عسكري كبير وقصير الأمد يمكن أن يحققه للناخبين الإسرائيليين كتعويض عن الكارثة التي حدثت للتو.

إسلام عفيفى: كاتب صحفى، ترأس تحرير أكثر من صحيفة مصرية، يكتب عن إزدواجية الغرب، وأكاذيبه التى أسقطت كل الأقنعة حول أحاديثهم الممجوجة عن حقوق الإنسان والقيم الإنسانية.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: اسلام عفيفي اختبار غزة الإعلام الغربي توماس فريدمان الحرب غزة إسرائيل

إقرأ أيضاً:

منير أديب يكتب: سوريا المستقبل من بين رحم المؤامرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لا أحد يستطيع أنّ يُنكر فصول المؤامرة التى تُحاك ضد سوريا، ليست سوريا فقط ولكن منطقة الشرق الأوسط؛ مؤامرة يتم تنفيذها بأنامل إقليمة ضمن مخطط الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أمن إسرائيل الكبرى الذى وعد به رئيس الوزراء الإسرائيلى بعد ٧ أكتوبر من العام ٢٠٢٣.

لست من مناصرى التصور التآمرى للأحداث السياسية، ولكننى أدرك فى ذات الوقت أنّ كل شيء يجرى فى عالم السياسه بتخطيط؛ وهناك خطط قد تستغرق عقودًا طويلة، قد لا يستوعبها العقل العربي، لأنه يتمتع بذاكرة ضعيفة لا تحتفظ بالأشياء، كما أنّ هذا العقل لا يُقارب بين الأحداث ولا يُريد أنّ يبذل مجهودًا فى هذا الاتجاه.

أغلب الأقلام منذ ٨ ديسمبر الماضى ذهبت فى اتجاهين، أحدهما حاول أنّ يستغرق فى حلمه بأنّ تتحول سوريا إلى دولة قوية بعد ٥٢ عامًا من حكم الأسد، الأب والابن، وتناست هذه الأقلام التحديات التى تمر بها سوريا والتى قد تعصف بمستقبلها لعقود قادمة.

دعونا نتفق بداية أنّ مستقبل سوريا هو من يُحدده السوريون أنفسهم دون غيرهم، وأنّ أى اجتهادات هدفها قراءة المستقبل واستشرافه وليس تشويه المستقبل لصالح الماضى الزائل، ونقل الصورة بكل تفاصيلها لا يُعنى بطبيعة الحال تماهيًا مع الماضي.

الاتجاه الثاني، نقل الواقع ولا يمهل أيُا من تفاصيله ولم يتصالح مع من خاصم العقل والمنطق والدين والسياسة؛ فلا يمكن أنّ ينتصر الخير على يد دعاة الشر ولا يمكن لهؤلاء أنّ يكونوا أداة للحوار، وهم لا يؤمنون بالحوار أصلًا.

وهنا لا بد أنّ نفرق بين سوريا المستقبل التى نتمنى أنّ تكون عليه، وبين واقعها الآن، والحديث عن الواقع لا يُعنى كما ذكرت تماهيًا مع الماضى الزائل، ولا خصامًا مع المستقبل، الذى نتمنى أنّ يكون مشرقًا بطبيعة الحال، وتبقى الكلمة الأخيرة فى رسم هذا المستقبل للسوريين أنفسهم.

أغلب وسائل الإعلام سيطرت عليها المشاريع السياسية، وباتت السياسة هى الحكم فى نقل الصورة، كما بات تزيين هذه الصورة هو هدف الكثير من الإعلاميين، رغم أنّ وظيفة الإعلام نقل الصورة بلا رتوش، ومناقشة كل التصورات السياسية، ولكن تبقى وظيفة الإعلام نقل الصورة وليس الحكم عليها.

لا أحد يُريد لسوريا أنّ تسقط فى براثن الفوضى ولكنه لا يرضى لدعاة الفوضى أنّ تكون لهم الكلمة العليا فى سوريا، بدعوى أنّ السوريين لابد أنّ يصمتوا، وأنّ الصمت قرار كتب على سوريا لعقود، وشاء الإعلام أنّ يستمر لأخرى.

قراءة المستقبل واستشرافه جزء من وظيفة الإعلام والبحث؛ فمهما كانت القراءة غائمة وغامضة ولا تُروق للبعض، فهى وحدها التى تُساعد على القفز إلى المستقبل، ولا مستقبل إلا بهذه القراءة التى لن نعدمها مهما تجاهلها الآخرون.

نحن على ثقة من المستقبل، كما أننا على ثقة بتجاوز تحدياته، وثقتنا أكبر بقراءة المستقبل، الذى لا يمكن تجاوزه بدون قراءة دقيقه وعميقة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا سوف نستمر فى قراءة التفاصيل وتحليلها بدون أى غيوم سياسية، وبدون أنّ نتأثر بأى خطاب سياسي، لأننا لا نُريد إلا المستقبل المشرق لسوريا والمنطقة العربية.

قد تتعدد الخطابات، وكل خطاب له مرجعية وله أهداف، وهذا لا يمنعنا أنّ نبشر بالمستقبل كما نراه لا كما نتمناه، فنحن باحثون عن هذا المستقبل، ومطلوب منا أنّ ننقل الصورة بكل تفاصيلها لمتخذى القرار ولمن يُريد أنّ يطل على المستقبل بلا أى توهمات سياسية ودون ضغوط من هنا أو هناك.

من يبحثون عن الحقيقة سوف يظلون فى مرمى السهام؛ لأنهم غالبًا مختلفون، يتلاقى البعض معهم، ولكنهم لا يُقدمون ما يرجوه أصحاب الأجندات، ولذلك يحتاج كل طرف من الأطراف إضافة بعض الرتوش للصورة الحقيقية، ويأبى الباحث إلا أنّ تكون الصورة معبرة عن الواقع بلا أى رتوش.

هناك مؤامرة تعيشها سوريا، هذه المؤامرة داخلية وخارجية، لعل أصعبها تأثيرًا وقهرًا أنّ يتآمر عليها بنو جلدتها، ووسط الأفكار والمذاهب والمكونات المختلفة، لا بد أنّ يكون الحوار وسيلة الانقاذ الوحيدة، وهنا لا بد أنّ تُعبر سوريا عن كل السوريين بكل تنوعاتهم.

التغيير فى سوريا هو ملك السوريين دون غيرهم، ولا حكرًا على طائفة أو مذهب أو عرق أو دين، وهنا تبدو أهمية مدنية الدولة وضرورة أنّ يُشارك الجميع فى بناء سوريا المستقبل، ما دون ذلك فلا مستقبل لسوريا ولا يمكن لسوريا أنّ تكون أو تقوم.

مرت سوريا بمخاض التغيير على مدار ١٢ عامًا، ولكنها ما زالت تعيش تبعاته، فواقع المخاض الحقيقى ما تعيشه سوريا الآن، لأنه ببساطه هو ما يُحدد مستقبلها؛ سوريا الأسد مضت بكل ما فيها ولن تُعود ثانية، والمتأملون للمشهد كانوا يُدركون أنها عملية وقت ليس أكثر أو أقل.

ولهذا نقول إنّ مخاض سوريا فى واقعها الحالى وتحدياته، والتهوين فيه يُعنى مستقبلًا غير مرحب به، كما أنّ التهويل فيه قد يضر بقراءة هذا المستقبل، لا يمكن قراءة سوريا المستقبل بدون تفكيك نظرية المؤامرة وقراءة التحديات بلا أى توازنات سياسية غير المعلومة المجردة التى لا بد أنّ تخضع للبحث والتدقيق.

مقالات مشابهة

  • إسلام عفيفي: أحداث ديسمبر تعيد للأذهان مشهد الربيع العربي
  • بوب ديلان: الصوت الذى شكّل ثقافة الستينيات
  • د.حماد عبدالله يكتب: " بلطجة " التعليم الخاص !!
  • ٦ شهور .. حكومة مدبولى مالها وما عليها
  • منير أديب يكتب: سوريا المستقبل من بين رحم المؤامرة
  • محمود حامد يكتب: سلامٌ على سوريا الماضى والحاضر والأمل
  • سوريا.. حنين لا يغادر محبيها
  • مؤتمر الصحفيين ونقطة الانطلاق
  • الجريمة
  • كأسك يا وطن