تسهم السينما عادة في صناعة الصور النمطية، كما تمتلك القدرة على كسر هذه الصور. وعبر مشاريع سينمائية محدودة العدد، قدمت السينما السعودية صورة مشرقة عن المجتمع المحلي من خلال القصور والسيارات الفارهة، لكن أعمالا أخرى كسرت هذه الأنماط عبر تسليط عدستها على حياة المهمشين، وأحدثها فيلم "مندوب الليل" (Night Courier)، الذي عُرض خلال فعاليات مهرجان "تورنتو" السينمائي، ثم نافس على جائزة أفضل فيلم في مهرجان زيورخ السينمائي.

فيلم "مندوب الليل" أخرجه علي الكلثمي، وشارك في تأليفه مع محمد القرعاوي، ولعب بطولته كل من محمد الدوخي ومحمد الطويان ومحمد القرعاوي وسارة طيبة وهاجر الشمري، وهو من إنتاج شركة "تلفاز 11″، ويقدم قصة مختلفة من حيث الشكل والمضمون عن السينما السعودية السائدة.

بطل لا يمكن حبه أو كراهيته

يفتتح "مندوب الليل" بلوحة كتب عليها معاني كلمة "مندوب" في اللغة العربية، المعنى الأول أنه الشخص المسؤول عن التوصيل، والثاني الشخص الذي يندبه محبوه بسبب وفاته، والثالث الشخص المصاب بجرح أو علة واضحة.

تتكرر هذه اللوحة في الختام، كما لو أن المخرج يعطي المشاهدين مع بداية الفيلم مفتاحا لفهم عمله، وأسئلة يجب عليهم الإجابة عنها، أهمها ما موقف البطل بين هذه الإجابات الثلاث؟

فهد -بطل العمل- هو أحد أبناء الطبقة محدودة الدخل، وهو شاب ثلاثيني يعمل في خدمة العملاء بإحدى شركات الاتصالات، يكره وظيفته، ومكانته الاجتماعية وحاجته إلى المال لعلاج والده المسن المريض، ومسؤوليته عن أخته المطلقة، مما ينعكس على كل تصرفاته، والنتيجة طرده من عمله بعدما رفض الاستقالة بسبب أخطائه المتعددة، واعتدائه على مديره بالضرب.

بعد أن يفقد عمله الأساسي يتحول فهد إلى مندوب توصيل عبر تطبيق "مندوبك"، وتبدأ من هنا حياته الليلية، فهو يتنقل عبر شوارع الرياض من مكان إلى آخر، موصلا أطعمة لا يقدر على دفع ثمنها، لزبائن ينظرون إليه وكأنه أداة وجزء من التطبيق على هواتفهم المحمولة.

وعندما يلح المرض على والده، ويحتاج إلى مبلغ كبير تأتيه فرصة الثراء السريع، بسرقة مشروبات كحولية من مصنع سري غير قانوني يعمل على تقطيرها وبيعها في السر.

تبعا لقانون نيوتن الثالث "لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه"، لكن ذلك لم يحدث لبطل "مندوب الليل"، فالفعل الذي ظنه بسيطا بسرقة عدة زجاجات مشروبات من مجموعة محتالين نتجت عنه العديد من العواقب التي تعكس موقعه في المجتمع.

فهو لا يستطيع حتى الانتماء إلى جانب المجرمين، وفي الوقت ذاته لا يحظى باحترام الفتاة المعجب بها؛ لأنه لا يتحدث أي لغات أجنبية، ولا يستطيع العمل في شركة متعددة الجنسيات، كما أن علاقته مع شقيقته سيئة، إذ لا تراه فيه سوى "فاشل".

ما يميز طريقة كتابة شخصية فهد أن المشاهد لا يمكنه أن يتعاطف معها بالكامل؛ فهي شخصية رمادية لها أخطاؤها الأخلاقية التي يصعب التغاضي عنها، فهو عنيف واتكالي، ويقبل القيام بجريمة سرقة وبيع المشروبات الكحولية لحل مشاكله المادية، لكن أيضا يصعب الحكم عليه بصورة سلبية تماما، فهو ضحية الجميع وحتى نفسه واختياراته الخاطئة.

الرياض كما لم نشاهدها من قبل

يحتوي اسم الفيلم باللغة العربية كلمة "الليل"، وهي ليست فقط إضافة على كلمة مندوب، بل هي جزء أصيل من الحكاية، فالليل في هذا العمل هو مرآة أخرى تعكس محل البطل في المجتمع، وفي الوقت ذاته تسمح بإلقاء نظرة على مدينة الرياض من زاوية مختلفة.

يظهر الفيلم تناقض حياة الليل في الرياض بالنسبة للطبقات المختلفة، فنرى بعض أبناء الطبقة المخملية يقيمون الحفلات، بينما يخرج أبناء الطبقة الوسطى في المطاعم الأنيقة، في وقت يخدم فيه أبناء الطبقة محدودة الدخل الجميع.

انعكس هذا الليل على الطبيعة البصرية للفيلم، وذلك نتيجة لتصوير أغلب مشاهد العمل في أماكنها الحقيقية، فسادت الظلمة التي تبددها الإضاءة بصورة تبرز معاني محددة. فعلى سبيل المثال، في مشهد البطل المحبط نتيجة للفظ صديقته له أمام المطعم نرى أعلاه لافتة المطعم تتغير ألوانها، ويشتد الأحمر في إشارة إلى مدى الغضب الذي يتصاعد داخله.

مشهد آخر لعبت فيه الإضاءة دورا محوريا عندما يقابل فهد أخته وابنتها في الكرنفال، حيث الألوان الساطعة والمبهرة، قبل أن يتحول المشهد إلى اختطاف وعنف وانتقام من العصابة التي سرق منها المشروبات الكحولية، فتنطفئ هذه الألوان، ويتحول المشهد إلى الطريق على أطراف الرياض، حيث تتناوب الظلمة والنور من أعمدة الكهرباء، ويجاهد البطل لإنقاذ حياته.

لا يمكن اعتبار "مندوب الليل" فيلم طريق، لكنه ينتمي إلى الشارع الحقيقي، ويعيد إلى الأذهان أفلام مدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة، في ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أخرجت الكاميرا من الأستوديوهات إلى الشوارع والحارات لتنقل حياة الناس العاديين.

عمل البطل مندوب توصيل جعل الشارع يحتل أغلب أجزاء العمل، بما يعكس الفروق الطبقية في المدينة الواحدة، وحتى المشاهد الداخلية تمتعت بالواقعية ذاتها، خاصة منزل البطل وأهله البسيط في أثاثه وترتيبه.

لم يقدم المخرج علي الكلثمي فيلما عن الطبقة العليا أو حتى الوسطى السعودية، وعلى الرغم من تصوير فيلمه في قلب العاصمة الرياض، فإنه وجه كاميرته إلى مجتمع ذوي الدخل المحدود، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في المشهد الختامي للفيلم، والذي يجلس فيه البطل بالكرسي الخلفي لحافلة نقل عام، وترتسم على وجه ملامح اليأس، ثم تتحرك الكاميرا بسلاسة للأمام مستعرضة باقي وجوه الركاب، الذين على الرغم من جنسياتهم المتعددة تحمل وجوههم نفس التعبيرات المثقلة بقلة الحيلة، وكأن المخرج يؤكد أن هموم بطله ليست فردية.

يعد "مندوب الليل" الفيلم الروائي الطويل الأول لعلي الكلثمي، وقد لقي الاحتفاء في اثنين من المهرجانات العالمية الكبيرة، وأصبح عليه عبء أكبر لإثبات أنه أحد مكونات موجة سينمائية سعودية قادمة.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

أحمد العوضي يرد على انتقادات “فهد البطل”

متابعة بتجــرد: شُنت على مواقع التواصل الاجتماعي حملة انتقادات واسعة على الفنان أحمد العوضي بعد نشر تفاصيل مسلسله الرمضاني الجديد “فهد البطل” والذي يجسّد فيه العوضي شخصيتَي الأب والابن، مؤكدين أنه بذلك يحذو حذو الفنان محمد رمضان من حيث الإصرار على تجسيد الشخصيتين في أعماله الفنية.

وردّ العوضي على تلك الانتقادات في تصريح لبرنامج “أراب وود” فقال: “صلاح السعدني عملها في مسلسل “أرابيسك” فقدّم دور الجد والابن والأب، وأستاذ نور الشريف قدّم ذلك من قبل وقبله الأستاذ يحيي الفخراني في “المرسى والبحار”.

وعما إذا كان قد واجه صعوبات خلال تجسيده الدور، خاصة مشهد ركوب الخيل، قال العوضي: “مفيش صعوبات ولا حاجة، الحاجات دي كنت بعملها وأنا صغير، والحمد لله بتعدّي، فميش أي صعوبات”.

وأكد العوضي أن أجمل لحظات مرت عليه في 2024 هي لحظة النجاح التي يستشعرها من حب الجمهور له في أي موقف.

مسلسل “فهد البطل” هو بطولة عدد كبير من الفنانين، بينهم: أحمد العوضي، ميرنا نور الدين، أحمد عبدالعزيز، نسرين أمين، كارولين عزمي، صفاء الطوخي، عزت زين، أحمد ماجد…، ومن تأليف محمود حمدان وإخراج محمد عبدالسلام، وتدور أحداثه في إطار صعيدي شعبي.

View this post on Instagram

A post shared by ArabWood (@arabwoodtv)

2024-12-23Elie Abou Najemمقالات مشابهة مي عز الدين تتخطّى أحزانها: “الحب كله”

دقيقة واحدة مضت

عودة عادل إمام للتمثيل تثير التساؤلات

5 دقائق مضت

عمرو دياب يواجه أزمات قانونية جديدة في 2025

7 دقائق مضت











     Privacy Policy |Copyright 2013-2021 Bitajarod All Rights Reserved © | Developed & Managed by XeyoX Interactiveإلى الأعلى

مقالات مشابهة

  • حرب غزة نظرة إلى الواقع واحتمالات المستقبل.. دراسات إسرائيلية
  • نظرة على سوريا
  • وكيل «تعليم الفيوم» يناقش الاستعداد لامتحانات الشهادة الإعدادية
  • بشخصتين مختلفتين.. أحمد العوضي يخوض تجربة جديدة في رمضان 2025
  • وزير الإسكان يلتقى مجموعة من المطورين العقاريين لمناقشة التحديات التي تواجه القطاع العقاري وبحث فرص التعاون المشترك
  • رئيس الوزراء يؤكد ضرورة العمل على تذليل التحديات التي تواجه القطاع السياحي
  • أحمد العوضي يرد على انتقادات “فهد البطل”
  • مدرب المنتخب السعودي : اتحمل مسؤولية الخسارة من منتخب البحرين ونحتاج الكثير من العمل
  • ترامب واختيار كاش باتيل: نظرة على تأثيرات مواقف "الدولة العميقة" في الحكومة الأمريكية
  • وزير الصناعة السعودي: مضاعفة التبادل التجاري والاستثماري مع مصر هدف مشترك