وكيل الأزهر: حاجتنا إلى المواطنة الرشيدة تشتد في ظل العولمة الخانقة
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
دشن الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف، والدكتور أشرف صبحي، وزير الشباب والرياضة، اليوم الاثنين بمقر مشيخة الأزهر، مبادرة «وطن يجمعنا»، تحت شعار «محبة.. سلام»، في إطار التعاون بين الأزهر الشريف ووزارة الشباب والرياضة، ودورهما التثقيفي والتوعوي في المجتمع، ودعم روح الولاء والانتماء لدى الشباب، وستنفذ المبادرة على ثلاث مراحل.
وقال وكيل الأزهر خلال كلمته بتدشين المبادرة إنَّ هذه المبادرة تؤكد فينا قضيةً ضروريَّةً تُعَالجُ كثيرًا من قضايانا ومشكلاتنا إن أحسنَّا استعمالها، وهي واجب الحوارِ والتعايش والسلام، الذي قد يجنِّبُ مجتمعَنَا ويلاتٍ تعرضت لها مجتمعات كثيرة، وشباب اليوم في أمسِّ الحاجة إلى مثلِ تِلك اللِّقاءاتِ؛ حتى يكونوا على معرفةٍ واعيةٍ بما يدورُ حولَهم في هذا العالمِ سريعِ التَّغيُّرِ، وأيضًا حتَّى نستفيد من رُؤيتهم، ونتفهَّم احتياجاتِهم، وخصوصًا تلك القضايا الحسَّاسةَ التي يعمل مرصد الأزهر الشريف على مواجهتها، والَّتي تُعرضُ في هذه المبادرة من قِبَلِ متخصصين، آملين أن تَجِدَ الإشكاليَّاتِ جوابًا معرفيًّا يَبُثُّ في النَّاسِ الأَمَلَ ويبعثُهم على الرقيِّ والحضارة، وهذا هو منهج الأزهر الشَّريف.
وأكد فضيلته أنَّ من أوجبِ الواجباتِ أن تتضافرَ جهودُ الجميعِ لإعلاءِ قيم التَّعايشِ والتَّسامحِ، ومدِّ جسورِ التَّفاهمِ والإخاءِ، والتَّصدِّي لخطابِ الكراهيةِ، ونشرِ قيمِ العدلِ والمساواةِ مِن أجلِ تحقيقِ السَّلامِ والاستقرارِ. ومن الواجب أن تضع المؤسَّساتُ المعنيَّةُ توصياتٍ جادَّةٍ تحمي الفكرَ، وتصونُ الهويَّةَ من محاولاتِ الاختطافِ أو التَّشويهِ من قِبَلِ أفكارٍ مغلوطةٍ أو مشروعاتٍ منحرفةٍ.
بحضور الضويني وصبحي.. تدشين مبادرة وطن يجمعنا بالتعاون بين الأزهر والشباب والرياضة على رأسها دعم القضية الفلسطينية.. لجان تنفيذية لتطبيق توصيات مؤتمر الإفتاء العالميولفت فضيلته إلى أنَّ الأزهر الشَّريف بحسِّه الدِّينيِّ، وواجبِه الإنسانيِّ، ودورِه العالميِّ حين أدركَ حاجةَ البشريَّةِ إلى أنوارِ النُّبوَّةِ الَّتي تبدِّدُ ظلماتِ العنفِ والتَّطرُّفِ، اسْتَنْبَتَ من آثارِ الوحيِ نبتًا معاصرًا، استطاعَ أن يكشفَ عن حقيقةٍ دينيَّةٍ، وضرورةٍ مجتمعيَّةٍ، وفريضةٍ إنسانيِّةٍ، واستطاع أن يرسيَ قواعدَ المواطنة حين أخرجَ إعلانَه التَّاريخيَّ «إعلانِ الأزهر للمواطنةِ والعيشِ المشتركِ»، ولا يخفى على حضراتِكم وجهُ الحاجةِ الملحَّةِ لهذا الإعلانِ الأزهريِّ الَّذي يواجهُ التَّحدِّياتِ الَّتي يَتعرَّضُ لها الدِّينُ والوطنُ.
وتابع وكيل الأزهر أن الأزهر أكَّدَ خلالَ هذا الإعلانِ أنَّ «المواطنةَ» مصطلحٌ أصيلٌ في الإسلامِ، يتجاوزُ التَّنظيرَ الفلسفيَّ إلى سلوكٍ عمليٍّ، وأنَّ «المواطنةَ الحقيقيَّةَ» لا إقصاءَ معها، ولا تفريقَ فيها، وأنَّ «المواطنةَ الصَّادقةَ» تستلزمُ بالضَّرورةِ إدانةَ كلِّ التَّصرُّفاتِ والممارساتِ الَّتي تُفرِّقُ بين النَّاس بسببٍ من الأسبابِ، ويترتَّبُ عليها ازدراءٌ أو تهميشٌ أو حرمانٌ مِن الحقوقِ، فضلًا عن الملاحقةِ والتَّضييقِ والتَّهجيرِ والقتلِ، وما إلى ذلك من سلوكيَّاتٍ يرفضُها الإسلامُ.
وأشار فضيلته إلى أن الأزهر استطاع من خلالِ التَّواصلِ الفعَّالِ والتَّعاونِ المثمرِ مع المؤسَّساتِ الدِّينيَّةِ الرَّسميَّةِ داخلَ مصرَ وخارجَها، وتبادلِ الرُّؤى والأفكارِ مع مختلِفِ الحضاراتِ والثَّقافاتِ، استطاعَ أن يُقدِّمَ نماذجَ متميِّزةً في التَّعايشِ والتَّلاقي، وأن يُحقِّقَ نجاحاتٍ كبيرةً مِن خلالِ حواراتٍ دينيَّةٍ حضاريَّةٍ حقيقيَّةٍ، تلتزمُ الضَّوابطَ العلميَّةَ، وتحفظُ ثوابتَ الدِّينِ، وتتركُ نتائجَ ملموسةً في سبيلِ تحقيقِ الأمنِ والسَّلامِ للبشريَّةِ كافَّةً. وجهودِ الأزهر متنوعة في ذلك بين لقاءاتٍ وندواتٍ ومؤتمراتٍ ومطبوعاتٍ وغيرِ ذلك من مجهوداتٍ تتعلَّقُ بإقرارِ المواطنةِ والتَّسامحِ.
وبيَّن وكيل الأزهر أنَّ الإسلام الحنيف عرف المواطنةَ الصَّحيحةَ منذ أربعةَ عشرَ قرنًا، وذلك حين وضعَ وثيقةً دينيَّةً سياسيَّةً دستوريَّةً تدعو إلى التَّعايشِ السِّلميِّ بين جميعِ الأعراقِ والطَّوائفِ في مجتمعِ المدينةِ المنوَّرةِ الَّذي كانَ زاخرًا بأطيافٍ متنوِّعةٍ. وإنَّ المتأمِّلَ لـ«وثيقةِ المدينةِ» يرى عشراتِ البنودِ الَّتي تدورُ كلُّها حولَ المواطنةِ الفاعلةِ، والتَّعايشِ السِّلميِّ بين أبناء الوطنِ الواحدِ.
واختتم وكيل الأزهر كلمته بأن المواطنةُ مِن القضايا القديمةِ المتجدِّدةِ، الَّتي تفرضُ نفسَها وبقوَّةٍ، خاصَّةً حين تتبنَّى الأوطانُ مشاريعَ تنمويَّةً كبيرةً تقتضي من أبنائها الولاءَ والانتماءَ، وأوقنُ أنَّ حاجتَنا إلى المواطنةِ الرَّشيدةِ تشتدُّ في ظلِّ العولمةِ الخانقةِ الَّتي تتجاوزُ الحدودَ، وتخترقُ الأسوارَ، وتعتدي على الخصوصيَّاتِ، وتطمسُ الهويَّاتِ. وأنَّ لقاء اليوم وإطلاق مبادرة «وطن يجمعنا» ليؤكد أننا نسير في هذا الطريق الذي يؤكده الإسلام ويحرص عليه، وتطبيق عملي لما ينادي به الإسلام ويتبناه الأزهر دائمًا.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الأزهر وكيل الأزهر الدكتور أشرف صبحي وزير الشباب والرياضة مشيخة الأزهر وطن يجمعنا وکیل الأزهر
إقرأ أيضاً:
هيئة تحرير الشام.. من العولمة الجهادية إلى المحلية السياسية.. قراءة في التجربة
شهدت الحركات الإسلامية في العقود الأخيرة تحولات عميقة ومتشابكة، امتدت من الفكر العابر للحدود الذي تتبناه تنظيمات مثل القاعدة وداعش إلى رؤى أكثر خصوصية ومحلية تتبلور في تجارب مثل "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع (المعروف بـ "أبو محمد الجولاني"). ورغم التحولات المثيرة للجدل التي مر بها الشرع ـ بدءًا من انتمائه لتنظيم القاعدة مرورًا بداعش ثم جبهة النصرة وصولاً إلى هيئة تحرير الشام ـ فإن التجربة التي يقودها الآن قد تقدم نموذجًا جديدًا للحركات الإسلامية في المنطقة. هذا المقال يبحث في طبيعة القيادة الجديدة التي يمثلها الشرع، ويرصد أبعادها المختلفة على المستوى الفكري، السياسي، والاجتماعي.
"هيئة تحرير الشام".. خلفية موجزة
لقد شهدت "هيئة تحرير الشام" تطورًا كبيرًا على مدار سنوات الحرب السورية، بدءًا من نشأتها كجماعة متمردة في إطار "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة"، وصولاً إلى هيكلها الحالي كقوة سياسية وعسكرية ساقطت النظام السوري بالضربة القاضية، حيث تطورت الهيئة بمرور الوقت لتصبح لاعبًا رئيسيًا في المعادلة السورية، لا سيما بعد أن انفصلت عن "القاعدة" في عام 2016، لتتحول إلى "هيئة تحرير الشام" في محاولة لتوسيع نطاق دعمها المحلي والدولي والتخفيف من الضغوط المفروضة عليها.
أحد دروس الربيع العربي التي استوعبتها قيادة هيئة تحرير الشام هو أهمية تعزيز الأمن وتجنب الانقسامات السياسية التي تؤدي إلى انهيار المجتمع. فبدلاً من الدخول في نقاشات أيديولوجية وخلافات سياسية واسعة، ركزت القيادة على إعادة بناء الحياة اليومية في المناطق التي تديرها، معتمدة على خطاب عملي بعيد عن التنظير الفكري.منذ ذلك الحين، بدأت الهيئة تركز على بناء نموذج مستقل، يركز على الشأن المحلي والسيطرة الإقليمية، محاولا التكيّف مع التغيرات في السياسة السورية. بينما كانت الحركات الجهادية الأخرى مثل "داعش" تسعى لإقامة دولة إسلامية من خلال العنف المفرط، كانت "هيئة تحرير الشام" أكثر تميزًا في قدرتها على جمع بين القوة العسكرية والإدارة المحلية، حيث سعت إلى تحسين الوضع الإنساني في المناطق التي تسيطر عليها، وتقديم خدمات أساسية كالتعليم والصحة، وذلك لخلق قاعدة شعبية تدعم وجودها.
وبالتوازي مع تطور هذه الجوانب العسكرية والإدارية، سعت "هيئة تحرير الشام" إلى تجنب الوقوع في أخطاء الحركات الإسلامية الأخرى التي عانت من الانقسامات الداخلية والتطرف الفكري. فقد استطاعت الهيئة أن تواكب التحديات السياسية المعقدة، بما في ذلك التعامل مع القوى الإقليمية والدولية مثل تركيا وروسيا، والتفاوض مع فصائل المعارضة الأخرى. وفي وقت كانت فيه جماعات مثل "القاعدة" و"داعش" قد أخفقت في بناء تحالفات سياسية حقيقية بسبب مواقفها الراديكالية، نجحت الهيئة في تأكيد قوتها كقوة مؤثرة على الأرض، وقادرة على الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى المختلفة.
كما أظهرت "هيئة تحرير الشام" مرونة كبيرة في تعاملها مع الأزمة الإنسانية التي رافقت الصراع السوري، مما منحها نوعًا من الدعم الشعبي المحلي الذي كان مفقودًا لدى العديد من الحركات الجهادية الأخرى. بينما كانت تلك الحركات تعاني من عزلة دولية، نظراً لاستخدامها العنف المفرط والإيديولوجيات المتشددة، نجحت "الهيئة" في تقليل هذا العداء من خلال انفتاحها على الاحتياجات الإنسانية للمدنيين في المناطق التي تسيطر عليها، مما ساعد في تجنب الانهيار الداخلي الذي شهدته الحركات الأخرى. وفي الوقت ذاته، حافظت على أهدافها العسكرية والسياسية، مما أتاح لها الاستمرار في النمو والتمدد.
ومع مرور الوقت، عملت "هيئة تحرير الشام" على تحسين تنظيمها العسكري، من خلال تكوين وحدة قتالية قوية، تعتمد على تكتيك حرب العصابات، واستخدام التكتلات الصغيرة لمهاجمة الأهداف الهامة دون التورط في معارك كبيرة قد تعرضها لخسائر فادحة. كما طورت الهيئة هيكلًا إداريًا مرنًا قادرًا على التكيف مع المتغيرات المحلية، ما ساعدها في الحفاظ على السيطرة على الأراضي التي استولت عليها، وتنظيم شؤونها اليومية بفعالية.
في المقارنة مع الحركات الإسلامية الأخرى، تبرز "هيئة تحرير الشام" كنموذج أكثر مرونة وحكمة، قادر على تحقيق مكاسب طويلة الأمد من خلال التوازن بين القوة والمرونة السياسية. على عكس الحركات المتطرفة التي فشلت في تحقيق أهدافها بسبب التصلب الفكري والانقسامات الداخلية، استطاعت "الهيئة" أن تكون أكثر مرونة في تبني سياسات واقعية، وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها الجماعات الأخرى، مما يجعلها مثالاً يحتذى به في قدرة الجماعات المسلحة على التحول إلى كيانات سياسية وعسكرية قادرة على التفاعل مع البيئة الإقليمية والدولية بذكاء.
التشبيب في القيادة والقاعدة
تمثل القيادة الشابة في هيئة تحرير الشام محركًا أساسيًا في تحول الجماعة، حيث تبتعد عن القيادات التاريخية التي تعاني من قيود أيديولوجية وحسابات قديمة. القيادات التقليدية، التي تشبثت بصراعات ماضية، غالبًا ما تكون عاجزة عن التكيف مع التحولات السريعة، مما يضعف قدرتها على الاستجابة للتحديات الإقليمية والدولية. بالمقابل، توفر القيادات الشابة مرونة أكبر، ما يسمح لها بتطوير استراتيجيات سياسية واقعية وفتح قنوات تواصل جديدة، مما يعزز من قدرة الهيئة على التفاعل بشكل أكثر فاعلية مع المتغيرات في المنطقة.
الحركات التي يقودها قادة تاريخيون تواجه تحديات كبيرة في التجديد بسبب تمسكها بحسابات وأيديولوجيات قديمة. هذا الارتباط بتجارب سابقة يعوق قدرتهم على التكيف مع التغيرات السريعة في البيئة السياسية، مما يؤدي إلى بطء اتخاذ القرارات وضعف في التجديد. هذه القيادات التقليدية تكون أقل قدرة على استثمار الفرص الجديدة، مما يحد من مرونة الحركات ويضعف فعاليتها في مواجهة التحديات المتجددة.
تُعتبر الإدارة المدنية والعسكرية في شمال سوريا، والمقاتلون الذين هم أبناء الثورة، حجر الزاوية في الإنجاز التاريخي لإسقاط نظام الأسد. هؤلاء الثوار الذين لم يرتبطوا بأي أيديولوجيات خارجية أو مصالح إقليمية، حافظوا على ارتباطهم الوثيق بالثورة السورية وقيمها الوطنية. لم يتأثروا بالضغوط الدولية أو الإقليمية، بل كانوا يواصلون نضالهم بإصرار لتحقيق الحرية والكرامة لشعبهم.
تأسست المجالس المحلية في المناطق المحررة بجهود مشتركة بين المدنيين والمقاتلين، وتمكنت من إدارة شؤون الحياة اليومية بشكل مستقل، وتقديم الخدمات الأساسية رغم الظروف الصعبة. هذا النموذج المحلي في الإدارة أثبت قدرة السوريين على التنظيم الذاتي بعيدًا عن التدخلات الخارجية، وأكد على قوة الإرادة الشعبية في مواجهة النظام.
المقاتلون الذين تحركوا في اللحظات المناسبة، بقوا مرتبطين بهموم الشعب السوري في المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد، وكانوا دائمًا في الموعد، ملتزمين بقضيتهم الوطنية. إن هذا التلاحم بين الثوار والإدارة المدنية كان عنصرًا حاسمًا في نجاح الثورة، مما جعلهم القوة الفاعلة في إسقاط النظام وبناء المستقبل السوري.
تحولات ملفته
في عالم يشهد تحولات جذرية على الصعيدين الفكري والاستراتيجي، برزت قيادة أحمد الشرع كدافع رئيسي لتحويل مسار هيئة تحرير الشام من مشروع "العولمة الجهادية" إلى رؤية محلية تركز على إدارة المناطق التي تسيطر عليها. هذا التحول الفكري والاستراتيجي يمثل محاولة لتجاوز التجارب السابقة التي تبنت الأيديولوجيات العالمية، مفسحًا المجال لبناء نموذج محلي يتكيف مع الواقع السوري ويعكس احتياجات المجتمع المحلي بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
من العولمة إلى المحلية
أحد أبرز معالم التحول في قيادة أحمد الشرع هو الابتعاد عن مشروع العولمة الجهادية، الذي ميّز تنظيم القاعدة وداعش، نحو مشروع محلي يرتكز على إدارة مناطق محددة. حيث اتجهت هيئة تحرير الشام بقيادته إلى فكرة “خصوصية القضية”، ما يعني التركيز على المصالح المحلية لشمال سوريا بدلاً من السعي لإقامة خلافة عالمية. هذا التحول نابع من إدراك القيادات أن استيراد فكر عالمي وفرضه على مجتمعات محلية يؤدي إلى صدام مستمر مع الشعب، وهو ما أسقط العديد من المشاريع الجهادية الأخرى.
يؤكد الشرع هذا التحول في خطابه، منتقدًا صراحة السياسات التي تسعى لفرض نماذج تاريخية متشددة على الواقع المعاصر. في أحد تصريحاته، أشار إلى ضرورة مراعاة أعراف وتقاليد المجتمع المحلي عند تطبيق مقاصد الشريعة، معتبراً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وظيفة للأفراد بل للدولة من خلال قوانينها ومؤسساتها.
من فكر الثورة إلى فكر الدولة
إن الانتقال من فكر الثورة المسلح إلى فكر الدولة والتنظيم المدني يمثل أحد أهم السمات التي ميّزت قيادة هيئة تحرير الشام تحت قيادة الشرع. ففي مراحل مبكرة، أظهرت الهيئة وعياً استراتيجياً بأهمية التخلي التدريجي عن الخطاب الثوري المسلح لصالح خطاب الدولة المستقرة. هذا التحول انعكس في خطوات عملية مثل تشكيل حكومة مصغرة تهدف إلى إدارة شؤون المنطقة وإعادة الحياة الطبيعية إلى المناطق التي تسيطر عليها.
يشير مراقبون إلى أن هذا النهج يهدف إلى بناء نموذج عملي يُظهر قدرة الجماعة على إدارة المناطق، مما يختبر مهارات القيادة ويمكّن من تفكيك شعارات الدولة الإسلامية التقليدية التي كانت قائمة على الإيديولوجيا دون رؤية عملية. وقد أثبتت التجربة نجاحاً نسبياً في توطيد الأمن وإعادة الاستقرار، على عكس الفوضى التي أعقبت سقوط الأنظمة في دول مثل اليمن وليبيا.
الاهتمام بالقضايا العامة واحترام الحياة الشخصية
من التحولات البارزة في نهج أحمد الشرع هو تبنيه خطاباً أكثر تسامحاً فيما يتعلق بالقضايا العامة والحياة الشخصية، سواء تعلق الأمر بالنساء أو بالطوائف المختلفة. فعلى عكس الجماعات المتشددة السابقة التي تبنت سياسات صارمة ومواجهات حادة مع المجتمع، أظهرت هيئة تحرير الشام تحت قيادة الشرع مرونة في التعامل مع التنوع الاجتماعي. ويُعد هذا التحول خطوة مهمة لتعزيز العلاقة بين القيادة والمجتمع المحلي، حيث ظهر الشرع في العديد من المناسبات بين السكان، في المناطق التجارية والمحلات، مؤكداً الاندماج مع الشعب.
إلغاء صراعات الماضي وتركيز على الحاضر
ربما كان أحد أكثر التصريحات إثارة للجدل من أحمد الشرع هو دعوته إلى تجاوز صراعات الماضي، خاصة تلك المتعلقة بالخلافات الإسلامية التاريخية. فقد صرح قائلاً: “ما علاقة سوريا بخلافات وقعت قبل 1400 سنة بين علي ومعاوية؟ لما يقتل السوريون اليوم وتحتل بلدانهم باسم الدين؟”. يعكس هذا التصريح وعياً بأهمية تجاوز الموروث التاريخي الثقيل الذي أدى إلى تأجيج الصراعات، والتركيز على بناء مستقبل يستند إلى واقع الحاضر.
إدارة الصراع الإقليمي والدولي
تمثل إدارة العلاقات مع الأطراف الإقليمية والدولية تحدياً كبيراً لأي حركة إسلامية محلية. وقد أظهرت هيئة تحرير الشام وعياً ملحوظاً في هذا الجانب، حيث سعت إلى تهدئة خطابها وتصريحاتها، واعتماد سياسة براغماتية في التعامل مع القوى المختلفة. كان من اللافت أن الهيئة تجنبت الدخول في مواجهات مع إسرائيل أو القوى الدولية الكبرى، معتبرة أن ذلك قد يجهض مشروعها المحلي قبل تحقيق أهدافه.
إن الانتقال من فكر الثورة المسلح إلى فكر الدولة والتنظيم المدني يمثل أحد أهم السمات التي ميّزت قيادة هيئة تحرير الشام تحت قيادة الشرع. ففي مراحل مبكرة، أظهرت الهيئة وعياً استراتيجياً بأهمية التخلي التدريجي عن الخطاب الثوري المسلح لصالح خطاب الدولة المستقرة. هذا التحول انعكس في خطوات عملية مثل تشكيل حكومة مصغرة تهدف إلى إدارة شؤون المنطقة وإعادة الحياة الطبيعية إلى المناطق التي تسيطر عليها.كما أن اختيار الحلفاء الموثوقين واعتماد العقلانية في القرارات السياسية ساعد الهيئة في الحفاظ على نوع من الاستقلالية، بعيداً عن التورط في تحالفات قد تُضعف موقفها. هذا الهدوء في التصريحات والقرارات يمثل جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق الاستقرار.
تعزيز الأمن وتجنب القضايا الخلافية
أحد دروس الربيع العربي التي استوعبتها قيادة هيئة تحرير الشام هو أهمية تعزيز الأمن وتجنب الانقسامات السياسية التي تؤدي إلى انهيار المجتمع. فبدلاً من الدخول في نقاشات أيديولوجية وخلافات سياسية واسعة، ركزت القيادة على إعادة بناء الحياة اليومية في المناطق التي تديرها، معتمدة على خطاب عملي بعيد عن التنظير الفكري.
هل نشهد نموذجاً جديداً؟
اتسام الحركة بمرونة فكرية واستراتيجية، واعتماد على الخصوصية المحلية بدلاً من العولمة الجهادية، ووعي بأهمية التحول من الثورة إلى الدولة، لا يعني أن الهيئة استوفت كافة شروط القدوة السياسية، لكن تبقي انطباعات أولية، ربما رصدت الجانب الأذكى منها، تلتزم الصمت فيي الكثير من القضايا التي غالبا تثير الخلافات والتعارضات، ومع ذلك، تبقى هذهالتجربة خاضعة لتحديات كبيرة، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي،وستكون السنوات القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كان هذا النموذج يمثلنقلة نوعية في مسيرة الحركات الإسلامية أم مجرد مرحلة مؤقتة تفرضهاالظروف.
*كاتب يمني