واشنطن- لا تمثل قضايا السياسة الخارجية عنصرا كبيرا في تحديد اختيارات الناخبين الأميركيين تجاه مرشحيهم في الانتخابات التمهيدية لأي من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، إلا أن عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على قطاع غزة، دفعت بقضية علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل إلى صدارة الحملة الرئاسية.

ودعا جميع المرشحين الجمهوريين بلادهم إلى دعم إسرائيل، لكنهم يختلفون في كيفية تقديم المساعدات، ويختلفون كذلك حول دور بلادهم العسكري في الصراع.

ويراقب المرشحون الجمهوريون خطوات الرئيس جو بايدن تجاه أزمة غزة عن كثب، حيث يمنحهم نهجه في الحرب فرصة للاختلاف مع الرئيس، وربما مهاجمته، بشأن قضية أساسية للسياسة الخارجية للحزب الجمهوري.

وبعد أسبوعين من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كشفت الحرب عن انقسام بين المرشحين الجمهوريين للرئاسة على وجه الخصوص حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة ممارسة الانعزالية في شؤونها الخارجية، أو اتخاذ نهج أكثر تدخلا في الصراع الدائر حاليا.

ونعرض هنا موقف أبرز 6 مرشحين جمهوريين طبقا لنتائج أحدث الاستطلاعات التي أجرتها شبكة فوكس الإخبارية على شريحة من الناخبين الجمهوريين.

الرئيس السابق دونالد ترامب: 59% من الأصوات

يتقدم الرئيس السابق في كل الاستطلاعات التي تجري على المرشحين الجمهورين، ويتمتع دونالد ترامب بثبات تفوقه بما يقترب من 60% من الأصوات، في حين تتوزع الـ40% على بقية المرشحين.

وفي خطاب ألقاه مؤخرا أمام أنصاره، انتقد ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لعدم "استعداده" للهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ثم أثنى ترامب على نحو منفصل على حزب الله اللبناني، واصفا إياه بأنه "ذكي جدا" لقدراته الاستخباراتية.

وانتقد العديد من قادة الحزب الجمهوري ترامب على هذه التعليقات، ووصف حاكم فلوريدا رون ديسنتيس تصريحاته بأنها "سخيفة"، في حين قال نائبه السابق مايك بنس، إنها "متهورة وغير مسؤولة".

وأوضح ترامب لاحقا، أنه يقف مع إسرائيل. وقال إنه يفضل استمرار تجميد دخول اللاجئين، الذي سيشمل القادمين من غزة، إلى الولايات المتحدة.

وقال إنه سيمنع أيضا أولئك الذين يدعمون حماس أو "الشيوعيين أو الماركسيين أو الفاشيين"، من دخول أميركا، "إذا كنت تريد إلغاء دولة إسرائيل، فأنت غير مؤهل (للهجرة للولايات المتحدة)".

رون ديسنتيس طالب إسرائيل باستخدام القوة الساحقة ضد حركة حماس (الفرنسية) حاكم ولاية فلوريدا رون ديسنتيس: 13% من الأصوات

وقال رون ديسنتيس، الذي يحل ثانيا بفارق كبير خلف ترامب في الاستطلاعات، إن على إسرائيل استخدام "القوة الساحقة" حتى "يتم القضاء على البنية التحتية والشبكات الإرهابية وأنفاق حركة حماس".

ولكن بالنسبة إلى تدخل الولايات المتحدة المباشرة في الصراع، قال ديسنتيس إنه يفضل فقط تقديم المساعدات لإسرائيل، ويعارض نشر قوات أميركية إضافية في الشرق الأوسط. كما جادل ديسنتيس بأن الولايات المتحدة يجب ألا تقبل الفلسطينيين الفارين من غزة كلاجئين.

وقال في فعالية انتخابية بولاية أيوه "إذا نظرت إلى الطريقة التي يتصرفون بها -ليسوا كلهم من حماس لكنهم جميعا معادون للسامية-، لا أحد منهم يؤمن بحق إسرائيل في الوجود. لا توجد أي من الدول العربية على استعداد لاستقبال أحد منهم".

معلقون: هيلي كانت سفيرة ثانية لإسرائيل خلال فترة عملها في الأمم المتحدة (رويترز) السفيرة السابقة بالأمم المتحدة نيكي هيلي: 10% من الأصوات

كان الدفاع عن إسرائيل على رأس أولويات نيكي هيلي عندما كانت سفيرة ترامب لدى الأمم المتحدة، وقالت إن الولايات المتحدة يجب أن تقف مع إسرائيل وهي "تنهي" حماس. وانتقدت ديسنتيس لادعائه أن جميع الفلسطينيين معادون للسامية، وقالت إن "هناك الكثير من هؤلاء الناس الذين يريدون التحرر من هذا الحكم الإرهابي".

ويقول بعض المعلقين إن هيلي كانت سفيرة ثانية لإسرائيل خلال فترة عملها في الأمم المتحدة، وأوقفت تعيين مبعوث فلسطيني لدى واشنطن، وادعت أنها ساعدت في اقتطاع فقرة من تقرير أميركي وصف معاملة إسرائيل للفلسطينيين "بالفصل العنصري".

وعندما قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 50 فلسطينيا في عام 2018، دافعت هيلي عن السلوك الإسرائيلي، وانسحبت من اجتماع لمجلس الأمن عندما بدأ مراقب الأمم المتحدة الدائم للأراضي الفلسطينية يتحدث عن عمليات القتل هذه في غزة.

وفي أغسطس/آب الماضي، هاجمت هيلي المرشح الجمهوري فيفيك راماسوامي عندما اقترح أن تخفض الولايات المتحدة تدريجيا مساعداتها العسكرية لإسرائيل.

راماسوامي قال إن على أميركا تجنب أي رد فعل غير محسوب واتخاذ نهج "هادئ" في غزة (رويترز) رجل الأعمال فيفيك راماسوامي: 7% من الأصوات

يتبنى فيفيك راماسوامي موقفا انعزاليا عاما تجاه قضايا السياسة الخارجية، وقد وسع هذا الموقف ليشمل إسرائيل، قائلا إن الولايات المتحدة يجب أن تتخلص تدريجيا من تقديم المساعدات لإسرائيل.

وبينما أدان راماسوامي ما سماه "هجوما بربريا من القرون الوسطى" من حماس، قال إن على الولايات المتحدة تجنب "رد فعل غير محسوب" واتخاذ نهج "هادئ" في غزة حتى لا تتحول الحرب إلى صراع أكبر في الشرق الأوسط.

وقال راماسوامي "نحن ندعم إسرائيل، لكن تحتاج إسرائيل إلى تحديد أهدافها قبل أن نعرف ما ينطوي عليه هذا الدعم. لكنني أعتقد أن الأمر سيتطلب شخصا يصل إلى الحقائق بدلا من مجرد الهستيريا العاطفية التي نراها من بعض المرشحين الآخرين".

وبعد هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، غرد راماسوامي على منصة إكس قائلا إن "المرشحين الجمهوريين الآخرين يتفاعلون بهستيريا بدل من العقلانية".

وكتب أن الولايات المتحدة "يجب أن تزود إسرائيل بالدعم الدبلوماسي وتبادل المعلومات الاستخباراتية والذخائر اللازمة للدفاع عن وطنها، مع الحرص على نحو خاص على تجنب حرب إقليمية أوسع في الشرق الأوسط لا تعزز المصالح الأميركية".

بنس دعا لإرسال قوات خاصة أميركية إلى المنطقة لإنقاذ الأسرى الأميركيين (رويترز) مايك بنس نائب الرئيس السابق: 4% من الأصوات

في مقابلة مع شبكة فوكس الإخبارية، قال نائب الرئيس السابق إن إسرائيل "ليس لديها خيار سوى سحق حماس"، وأضاف "سنقف مع إسرائيل عندما يبدأ هذا الهجوم البري، وسنقف مع إسرائيل كل يوم خلال القتال العنيف والخسارة التي ستحدث حتى تحقق نصرا صريحا".

وألقى بنس باللوم على إدارة جورج بوش "لضغطها على إسرائيل حتى تتخلى عن قطاع غزة إلى حماس"، ووصف سياسة "الاحتواء" بأنها "فشل كارثي". كما انتقد موقف إدارة بايدن من إيران وادعى أنه وضع الأساس لهجوم حماس على إسرائيل.

وقال بنس إنه لو كان رئيسا، لقال للقادة في مصر أن يقبلوا اللاجئين الفلسطينيين "أرسلوا لنا الفاتورة، سنقيم مخيمات اللاجئين".

وقال أيضا إنه سيوجه القوات الأميركية إلى البحر المتوسط كرسالة إلى حليف حماس حزب الله، وأولئك الموجودين في سوريا وإيران بأن "عليهم جميعا البقاء بعيدا عن الصراع". ودعا أيضا لإرسال قوات خاصة أميركية إلى المنطقة لإنقاذ الرهائن الأميركيين.

كريس كريستي أكد سابقا تطلعه لمواجهة ترامب والهجوم عليه خلال المناظرات الانتخابية (رويترز) حاكم ولاية نيوجيرسي السابق كريس كريستي: 3% من الأصوات

زعم حاكم نيوجيرسي السابق على منصة إكس أن إستراتيجية بايدن لما يسمى بالاسترضاء "دعت" إلى الهجوم على إسرائيل، وقال "في ظل رئاستي، تستعيد أميركا الردع الذي تخلى عنه بايدن بحماقة".

وفي مقابلة تلفزيونية، انتقد كريستي ترامب لإشادته بحزب الله، وقال "فقط أحمق يمكن أن يعطي تعليقات يمكن أن تعطي المساعدة والراحة لخصم إسرائيل في هذا الوضع". وأضاف أن "القوات الخاصة الأميركية يجب أن تكون مستعدة لإنقاذ الرهائن الأميركيين".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الرئیس السابق الأمم المتحدة على إسرائیل من الأصوات مع إسرائیل قال إن یجب أن

إقرأ أيضاً:

شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا

في عام 2020، أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أنها تحتاج إلى أن تفهم أنه في حال تعرَّضت أوروبا للهجوم، فإن الولايات المتحدة لن تأتي أبدا لتقديم المساعدة والدعم، وأن "حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد مات"، وأن أميركا ستنسحب منه.

لربما تمنَّى الأوروبيون حينها أن تكون فترة ترامب في البيت الأبيض مجرد زوبعة استثنائية في مسار تاريخ العلاقات بين أوروبا وأميركا، وأن يأتي بعده رؤساء كهؤلاء الذين اعتادت أوروبا على التعامل معهم، ممن يؤمنون في أعماقهم بأن أوروبا هي المُكمِّل الرئيسي لـ "الحضارة الغربية"، وأن الهجوم عليها هو هجوم على الولايات المتحدة نفسها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من يربح حرب القاذفات المقاتلة "بي-2" الأميركية أم "إتش-20" الصينية؟list 2 of 2ماذا تعرف عن مانفيستو 2025؟ وهل يستلهم منه ترامب أفكاره؟end of list

غير أن آمال أوروبا بشأن أن يكون ترامب لحظة عابرة في التاريخ لم تتحقَّق إلا لأربع سنوات، فسرعان ما عاد الرجل إلى رأس السلطة بفترة رئاسية جديدة، وهذه المرة بدعم شعبي أميركي واسع ظهر في نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت نهاية العام الماضي، وصاحبتها سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسَيْ الشيوخ والنواب. ومع بداية فترة ترامب الثانية، يبدو أنه يحمل يوميا خبرا غير سار لحلفاء أميركا التاريخيين في القارة العجوز.

لقد صرَّح بيت هيغْسيث، وزير الدفاع الأميركي الجديد، بأن أوكرانيا عليها ألا تحلم باستعادة حدودها كما كانت في السابق، واتهم ترامب بنفسه نظيره الأوكراني زيلينسكي بأنه "دكتاتور بلا انتخابات"، ومختلس لأموال المساعدات الأميركية، ولا يؤيده إلا 4% من مواطني أوكرانيا.

إعلان

كما قطع ترامب العُزلة الغربية المفروضة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأجرى اتصالا معه دون إبلاغ قادة أوروبا أو أوكرانيا لفتح باب المفاوضات حول الملف الأوكراني.

وقد اتفق الرجلان على اجتماع مرتقب محتمل في المملكة العربية السعودية، ويبدو أن مباحثات واشنطن وموسكو بشأن أوكرانيا ستُقصي الأوروبيين تماما. في الوقت نفسه، أرسل ترامب نائبه جيمس ديفيد فانس إلى أوروبا كي يحاضر القادة الأوروبيين عن افتقار بلادهم إلى الديمقراطية وحرية التعبير.

يبدو أن هناك نظاما عالميا جديدا قد بدأ يتشكَّل في الأسابيع القليلة الماضية، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية نشهد هذا القدر من التناقض بين بروكسل وواشنطن.

لطالما حدثت خلافات قوية بين الولايات المتحدة وأوروبا على مدار الأعوام المئة المنصرمة، لكن لعل الأزمة الحالية هي المرة الأولى التي يكون الخلاف فيها بتلك الحِدّة، وليس فقط حول مصالح مُحدَّدة، وإنما حول الأسس العميقة للرابطة الأطلسية، والقيم المشتركة بين القارة العجوز والدولة الأقوى في العالم، اللتين تُمثلان معا "الحضارة الغربية" كما عرفناها.

انفجار مفهوم الغرب

"يجب أن نكون واضحين اليوم بشأن حقيقة أن أوروبا مُهدَّدة بالموت، ويمكن أن تموت".

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب بتاريخ أبريل/نيسان 2024

مَثَّل مؤتمر ميونخ للأمن، الذي انعقد في مدينة ميونخ بألمانيا في شهر فبراير/شباط الماضي، نقطة تحول كبرى في تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية، إذ ترك المؤتمر القادة الليبراليين في أوروبا في حالة ارتباك.

ففي أثناء المؤتمر، وجَّه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس كلمته إلى قادة القارة في صيغة تحمل توبيخا، وقال: "عندما نرى المحاكم الأوروبية تلغي الانتخابات، وكبار المسؤولين يهددون بإلغاء انتخابات أخرى، نحتاج أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا نلتزم بمعايير عالية بشكل مناسب".

إعلان

وقد شبَّه فانس ما وصفه بحملات أوروبا القمعية على حرية التعبير بتلك التي كانت تجري في الأنظمة الاستبدادية التابعة للاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، وذكر أن هذه الأنظمة كانت تطارد المعارضين وتفرض الرقابة عليهم، وتغلق الكنائس، وتلغي الانتخابات، وأنها خسرت الحرب الباردة لأنها لم تحترم قيمة الحرية، على حد قوله.

وختم فانس كلمته قائلا إن قادة أوروبا لا يحق لهم أن يُملوا على الناس ما يشعرون به أو يفكرون فيه أو يعتنقونه.

نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس يلقي كلمة في مؤتمر ميونخ للأمن أمام القادة الأوروبيين في فبراير/شباط الماضي. (غيتي)

إن الانتخابات التي يقصدها فانس بالتحديد هي انتخابات رومانيا، التي تصدَّر الجولة الأولى فيها مرشح أقصى اليمين، وألغتها المحكمة الدستورية على خلفية اتهامات بتدخُّل روسيا، وهو ما ألمح فانس إلى أنه جرى تحت تأثير القوى الكبرى في أوروبا.

كما يقصد نائب الرئيس الأميركي حملات قمع حرية التعبير، والإجراءات التي تتخذها بعض الدول الأوروبية ضد أحزاب ورموز أقصى اليمين في بلادها، التي يعتقد فانس أنها محاولة من الدول العميقة في أوروبا للوقوف بوجه رغبات واختيارات الناخبين، فضلا عن تكميمها أفواه المواطنين، ومنعها الآراء اليمينية المعارضة للخطاب الليبرالي السائد في أوروبا من وجهة نظره.

رأى العديد من قادة أوروبا في خطاب فانس تدخلا سافرا في شؤون الاتحاد الأوروبي وبلدانه، ودعما صريحا لخطاب أقصى اليمين، وافتراقا تاما في التصوُّرات والقيم السياسية بين واشنطن وبروكسل حيال الديمقراطية والحريات.

وقد أثار خطاب فانس كثيرا من الجدل في أوروبا، إلى الحد الذي دفع كريستوف هويسْغِن، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، للصعود إلى المنبر، حيث قال إنه بعد كلمات فانس، يبدو أن المبادئ المشتركة بين الدول الغربية لم تعُد مشتركة اليوم، ثم انهار هويسْغِن باكيا ولم يستطع إكمال كلمته.

إعلان

إن الشرخ بين شقَّيْ التحالف الغربي، أوروبا وأميركا، كان آخذا في الاتساع منذ سنوات طويلة قبل مجيء ترامب، فقد شاعت مقولات في صفوف النخب الأميركية مفادها أن أوروبا ينبغي أن تتعلم كيف تقف على قدميها بنفسها، وأن الولايات المتحدة عليها أن تتوقف عن الدعم الكبير، والأمني بالتحديد، الذي تمنحه لأوروبا.

في المقابل، ثمَّة استعلاء باسم الثقافة الأوروبية على نظيرتها الأميركية في أروقة الاتحاد الأوروبي، وقد تكثَّف هذا الازدراء للثقافة الأميركية منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي مضت فيه واشنطن منفردة رغم معارضة فرنسا وألمانيا.

وبحسب دراسة نُشِرَت في مطلع الألفية بمؤسسة "هوفر" الأميركية، سادت مشاعر معادية لأميركا في أوروبا، لا تجاه مؤسسات الحكم الأميركي فحسب، بل وتجاه الثقافة الأميركية واختيارات الشعب الأميركي، الذي يجلب أسوأ الحكام عبر الانتخابات في نظر الأوروبيين. ومن ثم يبدو أن الخلاف الحالي ضارب بجذوره في تباين ثقافي وشعبي أوسع من مجرد مشكلة بين صناع القرار في واشنطن وبروكسل.

ورغم كل ذلك، لم يصل الخلاف والافتراق إلى الحد الذي نراه الآن، ويبدو كأنه إعلان طلاق بين ركيزتَيْ الحضارة الغربية، مما دفع إذاعة "مونت كارلو" الدولية الفرنسية للقول إن هذا الطلاق الأوروبي الأميركي يكتب نهاية مصطلح "الغرب"، لأن منظومة القيم التي تحكم أوروبا صارت مختلفة بصورة كبيرة عن نظيرتها على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، ومن ثم لم يعد هناك ما يمكن وصفه بمنظومة القيم الغربية.

تصدُّع القارة الأوروبية أم اتحادها؟

لا يقتصر الأمر على نهاية مفهوم الغرب، إذ إن سياسة الولايات المتحدة الماضية في طريق الانفصال عن أوروبا قد تهدد القارة العجوز، مهد الحضارة الغربية، بعواقب تُزعزعها من الداخل. وكانت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية قد أعدَّت تقريرا قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة تستشرف فيه واقع أوروبا إذا ما صعد ترامب إلى السلطة وطبَّق سياسته التي أعلن عنها تجاه أوروبا، ووضعت المجلة سيناريوهات كابوسية للاتحاد الأوروبي نتيجة فقدان المظلة الأمنية الأميركية.

إعلان

وبحسب التقرير فإن أغلب الناس نسوا ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، حيث أنتجت القارة أبرز المعتدين والطغاة حينها، وكانت أرضا لحروب لا تنتهي، وجمعت الجغرافيا الأوروبية مجموعة من المتنافسين الأقوياء في مساحة واحدة ضيقة نسبيا، ومن ثم حلم كلٌّ منهم بأن يتوسع على حساب الآخر.

لطالما شهدت أوروبا تقلبات من النظم الليبرالية إلى الأنظمة الاستبدادية العنيفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تدخُّل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في إطار الحرب الباردة عبر حلف شمال الأطلسي كان الضامن الوحيد لكبح النزعات المُدمِّرة للدول الأوروبية، إذ باتت المظلة الأميركية السبب الوحيد في ألَّا يخشى أعداء الماضي داخل القارة من بعضهم بعضا كما كان الحال سابقا.

ومن ثم بدأ التعاون بين القوى الأوروبية المتنافسة، كما فرضت الولايات المتحدة النظام الديمقراطي على بعض الدول لمنع عودة الاستبداد، الذي حفَّز الحروب في الماضي.

وقد دعمت الولايات المتحدة، وفقا للمجلة الأميركية، الهياكل التي وفَّرت الرخاء والتقدم في أوروبا على نحو جعلها ما هي عليه الآن، ومن ثم فإن واحدا من السيناريوهات المتوقعة في حالة انعزال أميركا عن أوروبا هو عدم قدرتها على الاتحاد بالشكل نفسه، إذ إن روسيا قد تُشكِّل تهديدا شديد الخطورة بالنسبة للدول الأوروبية القريبة منها، وإن لم تُهدِّد دول الجنوب أو الغرب الأوروبي بالقدر نفسه، وهو ما سيولِّد تضاربا في المصالح بين بلدان القارة يُهدِّد هياكل التعاون القائمة بينها.

وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث متحدثا في قمة الناتو التي انعقدت بشأن الحرب الروسية الأوكانية في بروكسيل فبراير/شباط الماضي (وكالة الأناضول)

ولكن السيناريو الأسوأ الذي توقعته المجلة الأميركية هو أن تعود أوروبا لماضيها، بحيث يؤدي إحساسها بالضعف وعجزها عن حماية نفسها إلى تعزيز إحساس كل دولة فيها بمصالحها الخاصة وبالمخاطر المحدقة بها، فتبدأ العداوات القومية المكبوتة منذ عقود في الانفجار، وتُحفِّز فوضى من التدخل الأجنبي، ويبدأ سباق التسلح بين الدول الأوروبية من جديد، وتتعاظم المشاعر القومية المتطرفة على حساب القيم الليبرالية.

وبشكل حاسم، توقع المقال أن غياب المظلة الأمنية الأميركية عن أوروبا سيغيب معه امتصاص الصدمات الجيوسياسية التي وفرتها الولايات المتحدة لعقود، ومن ثم سيكون شكل القارة العجوز مختلفا كليا عن الشكل الذي نعرفه عنها الآن.

إعلان

والواقع أن صعود ترامب في الولايات المتحدة ونشاطه المكثف من أجل فرض إرادته على العالم لا يهدد أوروبا بإزالة الغطاء الأمني من عليها فحسب، بل ويهددها بشيء آخر، إذ إن خطة الإدارة الأميركية بشأن أوروبا تمتد لمحاولة تصعيد الأفكار اليمينية المشابهة للترامبية داخل الأقطار الأوروبية ذاتها، بحيث يصعد اليمين القومي المتطرف في شتى أنحاء القارة بشكل يجعل "الترامبية" أكبر من مجرد مرحلة زمنية يمكن أن تنتهي سريعا، واتجاها للمستقبل الغربي نفسه لا محض انحراف، بحسب تعبير وكالة "رويترز" للأنباء. وقد بدأت إدارة ترامب تُشجِّع بالفعل أقرانها من الرموز والأحزاب اليمينية القومية في مختلف بلدان أوروبا.

تقول ناتالي توتشي، المحللة بصحيفة "الغارديان" البريطانية، إن فكرة الالتقاء بين الترامبية والحركات اليمينية الأوروبية كانت تشغل ستيف بانون كبير مستشاري ترامب للشؤون الإستراتيجية سابقا، وذلك من أجل إنشاء جبهة مشتركة لمكافحة الليبرالية والتعددية الثقافية والعولمة.

وبحسب توتشي، فإن تلك الإستراتيجية توسعت وتبدو واضحة الآن من هجوم فانس على أوروبا في مؤتمر ميونيخ، الذي تضمن دعم اليمين الأوروبي والترويج لفكرة أنه يتعرض للقمع في القارة، فضلا عن لقاء فانس قبل أيام من الانتخابات الألمانية بالسياسيَّة أليس فايدل، زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، والمرشحة لمنصب المستشار في ألمانيا. وجدير بالذكر هنا أن إيلون ماسك، المستشار رفيع المستوى للرئيس ترامب، وأحد أهم داعميه، قد أعلن تأييده الكامل لحزب البديل من أجل ألمانيا.

صفعات ترامب العنيفة

قبل خطاب فانس الفارق، كان توجُّه إدارة ترامب الجديد تجاه أوروبا قد ظهر أثناء الأيام الأولى لتوليه منصبه، حيث انسحب من منظمة الصحة العالمية ومن اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، وهدَّد أيضا بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، ولم يستبعد استخدام الأسلحة العسكرية أو الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.

خريطة غرينلاند (الجزيرة)

وأعلن ترامب أيضا عن خطته لفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يرى براين كولتون، كبير الخبراء الاقتصاديين في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أن ترامب جاد في تنفيذه، حيث من المتوقَّع أن تزيد الرسوم الجمركية بنسبة 10% أو 20%، وهو ما سيُكلِّف أوروبا 1% زائدة من إنتاجها المحلي الإجمالي.

إعلان

ثم جاءت تطورات تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا وخطاب فانس كي تُقنع قطاعات واسعة من المحللين بأن الطلاق البائن بين أوروبا والولايات المتحدة تمَّ بالفعل، مما دفع صحيفة "لوموند" الفرنسية للقول إن أوروبا الآن في مواجهة تحدٍّ تاريخي، وإن خطاب فانس الفارق في العلاقات عبر الأطلسي أوضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الانقسام بين القارة العجوز وواشنطن جذري، وأن القطيعة ستكون تاريخية.

أمام هذا التحدي التاريخي، يرى غونترام وولف، الخبير بمركز "بروغيل" للبحوث، أن الاتحاد الأوروبي لم يكن مستعدا لهذا السيناريو الراديكالي الذي جاء به ترامب، وأن أوروبا لم تخطط للتعامل معه سواء على مستوى الاتحاد أو حتى على مستوى الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا.

وتوقع الباحث في حديثه مع منصة "سويس إنفو"، التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، أن عدم التخطيط سيؤدي إلى إثارة الذعر بين الدول الأوروبية بسبب خطة الرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها، وربما تذهب كل دولة كي تتفاوض معه بمفردها، فيتعمَّق الانقسام الاوروبي أكثر وأكثر.

لا يمكننا التكهُّن الآن بما ستنتهي إليه الأمور، وتأثير صفعات ترامب على أوروبا، إذ يأمل البعض في القارة بأن يُسهم التهديدان الروسي والأميركي اليوم في تعزيز شعور دول أوروبا بخطورة الموقف، ومن ثم يدفعها إلى إدراك حساسية اللحظة التاريخية الحالية، وضرورة ترجيح كفة التعاون العسكري والحفاظ على وحدة أوروبا وتأسيس دفاع مشترك على كفة مصالح الدول المنفردة.

ولعل هذا السيناريو هو ما يتوقعه أكثر المتفائلين من داعمي القارة العجوز، في حين هناك سيناريو آخر يأمله متفائلون آخرون، وهو أن تنجح رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلوني في تقريب وجهات النظر بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي، خاصة أنها محسوبة على مساحة وسط بين اليمين من جهة، وصناع القرار الليبراليين والمحافظين التقليديين في أوروبا من جهة أخرى.

إعلان

غير أن هناك سيناريوهات متشائمة تنتشر في صفوف محللين أوروبيين آخرين، وتتوقع أن أوروبا في السنوات القادمة، وهي قارة ضعيفة عاجزة عن حماية نفسها بدون المظلة الأمنية الأميركية، لن تتعاون لمواجهة تحدياتها، وأن العديد من أنظمتها السياسية ستتحوَّل إلى أنظمة قومية يمينية أو استبدادية. وهنا ينظر كثيرون إلى المجر، التي عمل نظامها على تفكيك القواعد الليبرالية للممارسة السياسية في بلاده، ولذا يتوقع المتشائمون في أوروبا أن يتكرر النموذج المجري، وأن يصبح أكثر راديكالية واستبدادا في السنوات القادمة، لا سيَّما في ظل رغبة الإدارة الأميركية نفسها بأن يكون لها أصدقاء من هذا النوع في أوروبا.

وتشير بعض التوقعات الأكثر تشاؤما إلى أن بعض دول أوروبا قد تفقد استقلالها وسيادتها بالكُلية في السنوات القادمة أمام المدِّ الروسي، وبالتحديد دول شرق أوروبا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أو حلف وارسو أثناء الحرب الباردة.

أيًّا كان السيناريو الذي يمكن أن يحدث لأوروبا في الفترة القادمة، وما يُمكن أن نسميه حقبة ما بعد الشرخ الأميركي الأوروبي، سواء كان سيناريو القدرة على التعاون والاعتماد على الذات، أو سيناريو عودة أوروبا للحروب الداخلية والصراعات وتحول بعض أنظمتها للاستبداد وفقدان بعضها لاستقلاله؛ فإن اللحظة التي تواجهها القارة الآن هي الأصعب منذ عقود طويلة كانت تتمتَّع فيها بالرعاية الأميركية.

مقالات مشابهة

  • مسؤول بارز: إسرائيل أُبلغت بالضربات على اليمن قبل وقوعها
  • برتقالية وحمراء.. قائمتان امريكيتان لمنع السفر من وإلى الولايات المتحدة تشمل مواطني عدد من الدول بينها اليمن
  • حماس :الكرة في ملعب إسرائيل بعد عرض الإفراج عن رهائن
  • الولايات المتحدة وإسرائيل تتطلعان إلى توطين الفلسطينيين المهجرين من غزة في دول إفريقية
  • شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا
  • من واشنطن يبحث مستقبل مفاوضات الولايات المتحدة المباشرة مع حماس
  • دونالد ترامب يقول إنه يعتقد أن الولايات المتحدة ستضم جرينلاند عسكرياً
  • حماس ترحب بتصريحات ترامب إن عنى ما يقول وتدعو إلى تطبيق اتفاق وقف الحرب كاملا
  • هوس ترامب بضم كندا.. حلم توسّعي أم مجرّد أداة للضغط؟
  • تقرير عبري: تقدم في المفاوضات بشأن صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس