مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.

عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.

com

مدخل

تحاول هذه الورقة تقديم قراءة أولية لثورة أكتوبر 1964، من خلال الاستقراء في مناخ عقد ستينيات القرن العشرين في السودان. تقف الورقة عند مناخ ستينيات القرن العشرين في العالم، باعتباره عقدا لانتصار حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement، وعقدا للتغيير وازدهار حركات التحرر الوطني، والخطاب القومي والعروبي والاتجاهات الزنُوجية وأسئلة الهوية- وباعتباره عقدا كذلك، للتشريع لمفهوم التعدد الثقافي، الذي برز لأول مرة، إلى حيز الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية، واستيعابه في الدساتير والقواميس السياسية، بعد أن توسع تداوله في حقول البحث العلمي.
لم يكن السودان من حيث المكونات والإرث التاريخي، وهو تحت حكم عسكري، بمعزل عن المشهد العالمي. فقد عبرت شعوب السودان عن أشواقها وتطلعاتها إلى التغيير بثورة شعبية سلمية عزلاء إلا من قوة اجماعها، فاستطاعت أن تغير حكماً عسكرياً بالقوة من غير عنف. بيد أن الثورة برغم قوتها، لم تستطع أن تحقق التغيير في اتجاه الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي، بل تبعتها كبوات فكرية وسياسية كبرى، ظل السودان، ولايزال، يعاني منها. تقدم الورقة تفصيلاً وتحليلاً في هذا، وتزعم بأن عقد ستينيات القرن العشرين في السودان، كان عقداً للتناقضات الفكرية والمفارقات السياسية، فثورة أكتوبر من حيث القاعدة/ الجماهير، كانت تعبيراً عن الأشواق للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي، ومن حيث القمة/ زعماء الأحزاب التقليدية وأصحاب الامتياز (غير المهمشين)، لم تكن سوى إعلان لمفارقه السودان لأشواق جماهيره، وتناغمه مع المشهد العالمي، منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. تقدم الورقة تحليلاً وتعليلاً في هذا الاتجاه، وتخلص إلى أن ثورة أكتوبر برغم اختطافها وعدم نجاحها في تحقيق التغيير، سوى تغيير النظام العسكري؛ إلا أنها عبرت عن قوة اجماع الجماهير على إرادة التغيير، كما أنها تركت إرثاً ثورياً ينتظر الاكتمال والتطوير لفكر التغيير وطريقة تحقيقه.
إن مجتمعات التعدد الثقافي، كحال السودان، عصية على الإدارة والبناء والتعايش، في ظل غياب الحقوق المستحقة: الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان. كما أن تحقيق التسوية الوطنية فيها، عبر منهج توقيع الاتفاقيات، الذي تبع اختطاف ثورة أكتوبر، ولا يزال مستمراً، ما هو إلا ترميم لبناء متهالك، في ظل غياب الحقوق المكتسبة. فلا سبيل لتلك المجتمعات لانتزاع تلك الحقوق سوى الثورة الشعبية. إن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". ولهذا جاءت خاتمة الورقة موسومة بـ -"نحو الثورة الكبرى ثورة العقول"- وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، هدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير، وهذا ما سيحدث قريباً، لاريب في ذلك.
تتهيكل الورقة حول ستة محاور أساسية هي طبيعة ثورة أكتوبر، وثورة أكتوبر ومناخ عقد الستينيات في العالم، وقضية الجنوب وملاقاة الآخر، ومواقف النخبة السياسية، والكبوات الكبري التي تعرضت لها الثورة، ثم خاتمة تركّز على موضوع الثورة القادمة.

ثورة أكتوبر ومناخ عقد الستينيات من القرن الماضي في العالم

لم تكن أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، بمعزل عن مناخ عقد الستينيات من القرن الماضي في العالم، حيث انتصار حركة الحقوق المدنية، والتي تبعها الاعتراف بالتعدد الثقافي والتشريع له، إلى جانب ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وتمدد خطاب القومية العربية. لقد برز مفهوم التعدد الثقافي لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة. ودخل مصطلح التعددية Pluralism للتداول في حقل الدراسات الإثنية والسياسية عقب الحرب العالمية الثانية – من قبل جون فيرنفال J. S. Furnivall - وقد استوحى ذلك من واقع دراساته عن بلدان جنوب شرق آسيا، ولا سيما بورما وجاوا. ثم بدأ الاهتمام السياسي بالإثنيات في عقد الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، عقب انتصار حركة الحقوق المدنية التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل أفريقي. كذلك افسح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948، الطريق إلى صدور معاهدتين دوليتين أجيزتا في عام 1966، عالجت الأولى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيما عالجت الثانية الحقوق المدنية والسياسية، وكلا المعاهدتين تؤكدان مبدأ حق تقرير المصير كمبدأ عالمي وتدعوان الدول الأعضاء إلى الدعوة لتحقيق مبدأ تقرير المصير وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. تبع كل ذلك أن زاد الاهتمام بالاثنيات والتنوع العرقي والثقافي وأصبح في مقدمة هموم أهل السياسة في الولايات المتحدة الأميركية، سواء في التعليم بلغات المجموعات أو تشجيع نشر آدابهم وفنونهم وتاريخهم باعتبارها إضافة جديدة للثقافة الأمريكية. ثم تطوَّر مفهُوم التعدد الثقافي Multiculturalism ليشمل التعدد الديني وكريم المعتقدات والتعدد اللغوي والعرقي، ويتضمن تعدد تعبيرات الجماعة والمجتمعات عن ثقافاتها، وأشكال انتقال هذه الثقافات، بالمضامين الحاملة لها، المستمدة من الهويات الثقافية أو المعبرة عنها . تبع ذلك الاستيعاب للتعدد الثقافي في التشريعات ومواثيق الحقوق والحريات ثم وجد طريقه للدساتير القومية. فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت كندا منذ السبعينيات نموذجاً آخر لاستيعاب التعدد الثقافي.
لم يكن السودان عند اندلاع ثورة أكتوبر، بحكم مكوناته وإرثه التاريخي وموقعه الجغرافي في أفريقيا، بعيدا عن هذا المشهد العالمي والإقليمي. فالسودان يزخر بتعدد ثقافي، ليس له نظير في أفريقيا، بل أن تعدده الثقافي من حيث الأصالة والقدم بلا مثيل في العالم. يقول جوزيف أومارا وخديجة صفوت: "كان السودان معبرا عظيما للمسافرين منذ مينا موحد الوجهين القبلي والبحري ومؤسس الأسرة الأولى من الممالك القديمة (2925 ق.م.-2775 ق.م.) تقريباً- وقد بقي السودان ذلك المعبر العظيم من كل مكان إلى كل مكان من القارة الأفريقية وما ورائها- إن تلك الرحلات وموجات هجرة المسافرين المغامرين والغوارين والمكتشفين تركت أجزاء ثقافية منحت السودان تميزاً وتعددا وغنى بلا مثيل، سوى ربما الولايات المتحدة؛ إلا أن الأخيرة لا تملك ادعاء أصالة تاريخ يعود إلى 3000 عام قبل الميلاد". إن بلدا بهذا التعدد الثقافي نادر المثيل، لابد أن يكون منفتحاً على التجارب العالمية في التعاطي مع أشواق مجتمعات التعدد الثقافي، خاصة مع ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا. فعند اندلاع ثورة أكتوبر، والتي كانت قضية الجنوب أهم أسبابها، لم يكن السودان بعيدا عن دعوات حركات التحرر الوطني الأفريقي، إن لم يكن ميدانا لحراكها وشريكاً أصيلا في أشواقها، فهو قطر أفريقي في المقام الأول. ولقد نادت بعض القوى الوطنية إلى ضرورة النظر إلى آثار مشكلة الجنوب على حركات التحرر الوطني، ذلك لأن المحافظة على وحدة السودان ليست بقضية محلية. ففي فبراير 1956 أجاز المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوداني برنامج: سبيل السودان نحو تعزيز الاستقلال والديمقراطية والسلم، وحدد الحكم الذاتي الإقليمي وسيلة لحل مشكلة الجنوب. وفي أكتوبر 1967 أجاز المؤتمر الرابع للحزب برنامجه للفترة الجديدة التي أعقبت ثورة أكتوبر، وتحدث البرنامج عن مشكلة الجنوب ومكانة السودان العربية والإفريقية، قائلا: "وأخطر ما يواجه هذه القضية الهامة سياسة التفتيت التي سلكها الاستعمار في بلادنا الرامية لفصل الجنوب عن شماله. إن وحدة السودان ليست قضية محلية، بل لها أثر كبير بين حركتي التحرر الوطني العربية والأفريقية". لقد شهد عقد الستينيات من القرن الماضي ازدهار حركة التحرر الوطني في العالم الثالث، وقد كانت فترة انطلاقتها الأولية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. قامت حركات التحرير الوطني الأفريقي في مواجهة الأشكال الاستعمارية والأشكال الأخرى لحكم الأقلية البيضاء. امتد النضال الثوري ضد بعض النظم الحاكمة الأفريقية؛ وقد شجب الثوار الأفارقة بعض الحكام بأنهم عملاء للاستعمار الجديد أو طغاة يفرضون حكماً مركزياً على أقاليم كانت مستقلة أو كانت تتمتع بحكم ذاتي. ففي النصف الأول من الستينيات انتقل الشعب الأرتيري إلى مرحلة الكفاح المسلح لتحقيق المصير والاستقلال. وذلك بعد أن ألغت إثيوبيا في 15 نوفمبر 1962 المؤسسات الفيدرالية وضمت أريتريا إلى إثيوبيا. أيضا، القى قيام ثورة 23 يوليو 1952 في مصر بقيادة اللواء محمد نجيب، بظلاله على إفريقيا وعلى السودان بشكل خاص. فعند قيام ثورة 23 يوليو لم تكن في أفريقيا سوى ثلاث دول فقط مستقلة وهي: إثيوبيا ومصر وليبيريا. ما لبث أن خلف جمال عبد الناصر اللواء محمد نجيب، في قيادة الثورة ورئاسة مصر في عام 1954، فكان انطلاق الخطاب العروبي القومي، وكان صيت عبد الناصر الزعيم العربي الداعي لتحقيق القومية العربية. ألقت ثورة 23 يوليو بظلالها وآثارها على كل أفريقيا: حركات التحرر، وتمدد ثقافة الثورات العسكرية التي غشيت الكثير من دول أفريقيا، وتفجير خطاب القومية العربية، والاستقطاب العروبي.
شهد عقد الستينيات كذلك وفي مايو 1963 إعلان رؤساء الدول والحكومات الأفريقية- وكان إبراهيم عبود من بينهم- عن مولد منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي منذ يوليو 2002). ولقد أثار قيام المنظمة تساؤلاً حول مفهومها لمبدأ تقرير المصير، إذ بدا أن إعلانها مبدأ احترام سيادة كل دولة وسلامة أراضيها واستقلالها، وإبقائها على الحدود القائمة وقت استقلال الدول الأفريقية، قد استبعد من مبدأ تقرير المصير حق الأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية في الانفصال عن دول قائمة. وذلك لأن حق الانفصال هذا يتعارض مع تطلعات القارة للوحدة، ولأن تطبيقه سيؤدي في نهاية الأمر إلى تفتيت القارة إلى دويلات تعوزها المقومات السياسية والاقتصادية. وحذر بعض الثوار الأفارقة عند تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، والتي خرجت إلى حيز الوجود بفضل لجنة تحرير المستعمرات الأفريقية التي كانت تمارس عملها من مركز رئاستها في دار السلام بتنزانبا، من أن تلك المنظمة يمكن أن تتحول إلى شكل من أشكال النقابة التي يتحكم فيها أصحاب السلطة الذين يناضلون من أجل أن يدعم بعضهم بعضا كي يتسنى لهم في النهاية مقاومة التيارات الشعبية.
الشاهد أن السودان في عقد الستينيات من القرن الماضي، كان أكثر اتصالا بالمشهد العالمي، وعمقه الأفريقي، الأمر الذي أسهم، إلى جانب المعطيات المحلية ومناخ الستينيات في السودان، في القابلية للثورة.

نلتقي مع الحلقة الثانية وهي تتناول محورين، هما: مناخ ستينيات القرن العشرين في السودان، قضية الجنوب والثورة: الجماهير والخروج من الذات لملاقاة الآخر.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحرب العالمیة الثانیة الولایات المتحدة المشهد العالمی الحقوق المدنیة تقریر المصیر ثورة أکتوبر فی أفریقیا فی السودان فی العالم من حیث لم یکن

إقرأ أيضاً:

السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (1-2)

عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه "حوار مع الصفوة" (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ"القوى الكسبية" و"القوى الإرثية". فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع "الوصائي" (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب.
مرت الخميس الماضي الذكرى السادسة لثورة الـ19 من ديسمبر عام 2018 في السودان. وربما لم يُعدّها ثورة في يومنا قوم حتى من بين مَن قاموا بها قياساً بأعراف فكرية نزعت صفة الثورة عن ثورات سبقت ثورة 2018، في أكتوبر عام 1964 وأبريل عام 1985. فبين الثورة السودانية وعلمها جفاء، إن لم نقُل خصومة. فكانت صفوة من كتابنا تواضعت على نقد خطأ شائع، في رأيهم، وصف الحراكين المذكورين بالثورة. فالثورة في مفهومهم هي التي لا تسقط النظام القديم فحسب، بل تغير ما بنا تغييراً مشهوداً أيضاً. فالثورتان المزعومتان لم تغيرا ما بنا وإن نجحتا في إزالة النظامين اللذين خرجتا لإسقاطهما.
فقال الأكاديمي والعضو المخضرم في الحزب الجمهوري النور حمد إن ثورة أكتوبر ليست "ثورة" لأنها، وإن نجحت في إسقاط نظام الفريق عبود العسكري (1958-1964)، لم تحدث تحولاً جوهرياً مما نُعدّه نقلةً إلى الأمام في الواقع السوداني. فعادت الأحزاب التقليدية التي حكمت قبل الفريق عبود عودة أسوأ مما كانت قبلاً. واستكثر المؤرخ والوزير والدبلوماسي حسن عابدين أن يسمي أكتوبر "ثورة" وقال إنها "انتفاضة" في خفض لمرتبتها لأنها "لم تكُن ثورة، وإنما انتفاضة لأن الصحيح أن تُحدث الثورة تغييراً في نظام الحكم، وفي حركة المجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد، وتغييراً في كل شيء، وهذا لم يحدث في أكتوبر".
وعموماً فالتخليط في علم سياسة الثورة في السودان متفشٍّ. فاشتهر الحراك الذي أسقط نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985 بـ "انتفاضة أبريل"، في حين أنها أسقطت نظاماً قديماً مثلها في ذلك مثل "حراك أكتوبر" الذي يسمى "ثورة". بل يكفي أن مفكراً في مقام الوزير والكاتب منصور خالد وصف أكتوبر بأنها "ثورة" و"لا ثورة" في الكتاب نفسه وعلى مسافة 23 صفحة من الصفتين في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول". فقال في الموضع الأول من الكتاب إن أكتوبر "ثورة لا يعادل خطرها سوى مؤتمر الخريجين (1938)" الذي كان طليعة التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني. فهي عنده ثورة لأن قوامها "قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد وهو انتقال إلى لب السياسة". ووصفها في الموضع الآخر بأنها ثورة "من باب التبسيط". فالثورة في قول منصور "صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر في أكتوبر".

شرط التغيير الجذري
لن يجد المرء سنداً لاشتراط هذه النخبة أن تقوم الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد إسقاط النظام مباشرة وإلا صارت "انتفاضة" في أحسن الأحوال. فالثورة تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. أما التغيير فلا يأتي للتو بعد سقوطه. فهو مما تختلف الآراء فيه وفي سبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. فمن وقف على الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها رأى أن جماعاتها الثورية اختلفت بعد سقوط النظام القديم حول التغيير محلياً وأوروبياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية، وهما العقيدتان من وراء الثورة، تحققتا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يزعم بعض صفوتنا. ويكفي أنه جرى استرداد الملكية التي أسقطتها الثورة نفسها للعرش ثلاث مرات ولم تتوطد عقيدة الجمهورية إلا في ثمانينيات القرن الـ19. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية للمرة الأولى. وتستغرب هذا التباطؤ في العلمانية من ثورة ألغت الدين المسيحي في طورها الباكر واستبدلته بـ"الربوبية" وهي دين يعترف بالرب الذي سرعان ما توارى عن الكون بعد الخلق.
قلَّ أن تتوقف أقلام هذه النخبة عند ما حال دون الثورة والتغيير الذي تكون به أو لا تكون، وكأن امتناع وقوع التغيير عاهة أصل في الثورة لا نتيجة لخلافات حوله بين قوى الثورة نفسها وقوى النظام القديم رجحت فيه كفة النظام القديم. فذكر النور حمد أن ثورة أكتوبر "أُجهِضت" بعد أربعة أشهر فقط من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات التي قامت عام 1965، فعادت بها الأحزاب القديمة للحكم كما كانت قبل انقلاب الجيش عليها عام 1958. ولم يتوقف النور أو غيره عند سياسات ذلك الإجهاض للثورة الذي امتنع به التغيير.
صح السؤال هنا، على ضوء عبارة النور عن إجهاض ثورة أكتوبر من دون إحداث التغيير الجذري الذي انتظره، ما كان ذلك التغيير المنتظر؟ وما هي القوى التي تصارعت حوله في الثورة؟

الصراع حول التغيير
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر 1964 نشرها في كتابه "حوار مع الصفوة" (1979)، فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ"القوى الكسبية" و"القوى الإرثية". فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع "الوصائي" (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة وتعلي النسب على الكسب. وقال عنها إنها تشكل بتصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي، مما يجعلها خصماً للعقلانية والفردية التي هي سمة الطبقة الكسبية الحداثية.
وكانت الديمقراطية هي عظمة النزاع بين الطبقة الإرثية والطبقة الكسبية في ما بعد سقوط الأنظمة بالثورة، فتعاني الطبقة الكسبية حيال هذا المطلب محنة يصفها الأعاجم بـ"كاتش 22" أي إنها المأزق الذي لا فكاك منه لأن أحواله إما تناقض واحدها مع الآخر، أو وجِدت معاً لا يستغني أحدها عن الآخر. فبينما تطلب الطبقة الكسبية الديمقراطية إلا أنها مدركة في الوقت نفسه أنها لن تحظى بتمثيل ذي معنى في البرلمان لضآلة عددها في المجتمع، قياساً بغزارة الطبقة الإرثية. وقال منصور عن فرط نفوذ هذه الطبقة الإرثية في الريف أنها جعلته "مستودعاً لاستجلاب الناخبين والهتيفة".
ولا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مع البرلمانية مثل الأكاديمي والوزير محمد هاشم عوض، وفي وقت باكر عام 1968 باستقدامه لمفهوم "البلوتكرسي" إلى طاولة البحث، والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما، فدولة الإرث هذه هي ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون الطبقة الكسبية وإطلاق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف عوض الحكم في بلدنا بـ"البلوتكرسي" من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نيّر، فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية، محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية تحليلاً شمل المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944) والجمعية التشريعية (1948) والبرلمان الأول والثاني (1954-1958)، فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال.
ونواصل عن الطبقة الكسبية التي لا تريد الديمقراطية ولا تحمل براها.


ibrahima@missouri.edu

   

مقالات مشابهة

  • الإفتاء في حملتها ضد التعدي على المياه.. محرم شرعًا واعتداء على الحقوق
  • في تذكّر ثورة في السودان غابتْ
  • السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (1-2)
  • جابر المري لـ"الوفد" : حقوق الإنسان في الغرب "حبر علي ورق" و عمان تقريرها ممتاز
  • حركة العدل والمساواة السودانية .. بيان بمناسبة الذكرى السادسة لثورة ديسمبر المجيدة
  • (عودة وحيد القرن) كانت من أنجح العمليات التي قام بها قوات الجيش السوداني
  • تقرير يكشف شبكة تضليل مقرها تركيا و سوريا تُناصر الجيش السوداني وتهاجم قوى مدنية
  • من تركيا وسوريا.. شبكة تضليل تُناصر الجيش السوداني وتهاجم قوى مدنية
  • وزير الخارجية الأمريكي: نحن نتحمل مسؤولية وقف المعاناة وإنهاء هذه الحرب ودعم الشعب السوداني
  • حقوق المرأة محك امتحان الحكام الجدد