انسداد أفق الحسم العسكري في فلسطين
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
كان أمرا مستغربا جدًّا رفض الدول الغربية مشروع قرار أممي لوقف مؤقت لإطلاق النار في الأراضي المحتلة لكي يمكن إيصال مساعدات إغاثية لأهالي غزة . وربما الأشد غرابة فشل ما سمي “قمة القاهرة للسلام” التي عقدت يوم السبت الماضي في إصدار قرار بوقف إطلاق النار، وعدم صدور بيان ختامي يمثل المشاركين فيها من حكومات عربية وأوروبية.
وكانت روسيا قد طرحت الأربعاء الماضي مشروع القرار على مجلس الأمن ولكن رفضته كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، واستخدمت أمريكا حق النقض لمنع صدوره. وهذا أمر مقلق جدا، فكيف استطاعت هذه الدول رفض قرار يخفف أزمة قد تكون الكبرى في المنطقة، ويحمي أرواح الكثيرين الذين تحصر أرواحهم آلة الموت الصهيونية بشكل يومي. وها هو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يدعو بقوة إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة.
إن من الصعب أحيانا تصديق ما يحدث في عالم يُفترض أن قواه الكبرى تعمل لتحقيق السلام العالمي، وتدّعي أن سباق التسلح إنما هو وسيلة ردع لمنع نشوب النزاعات المسلحة. في الحالة الفلسطينية لا تنطبق هذه الفرضية نظرا لعدم وجود توازن عسكري بين الطرف المحتل وأصحاب الأرض الذين يسعون لتحريرها.
وفي خضم السجالات السياسية الدولية تغيب حقائق عن أذهان أصحاب القرار. وفي مقدمة هذه الحقائق أن فلسطين أرض محتلة، أُبعد سكانها الأصليون من منازلهم وأجبروا على الفرار إلى خارج حدود فلسطين أو تم توطينهم في مخيمات ما تزال قائمة.
أما الجانب الآخر من هذه الحقيقة فإن أغلب من يستوطن أرض فلسطين اليوم إنما جاء من خارج الحدود ضمن مشروع هجرة واسع فتح الباب أمام يهود العالم للاستيطان في ما يسمونه “أرض الميعاد”. هذه حقيقة لا تجد لها موقعا في السجال الدائر حول ما يجري في فلسطين. أما الحقيقة الثانية فتتمثل بوجود موقف غربي جديد – قديم دعم ذلك المشروع منذ بداياته وما يزال متشبثا بسياسة ثابتة: حماية كيان الاحتلال وضمان تفوقه العسكري على الجانب العربي.
هذه الحقيقة تجد مصاديق لها في مواقف دول الغرب من قضايا فلسطين في أوقات الحرب والسلم. أما الحقيقة الثالثة فتتمثل بغياب موقف عربي – إسلامي يرقى الى مستوى المسؤولية ويتعهد بحماية الحق الفلسطيني وتحرير الأرض المحتلة. والحقيقة الرابعة التي تستعصي على فهم الكثيرين تتجسد بصمود الشعب الفلسطيني على مدى ثلاثة أرباع القرن ورفضه التنازل عن أرضه وإصراره على تحريرها، واستعداده للتضحية بكل ما يملك من أجل ذلك.
في ظل هذه الحقائق فإن النظرة للوضع الحالي الذي تبلور منذ السابع من أكتوبر، برغم دمويته وشمول العدوان فيه وتضافر كافة القوى المعادية للشعب الفلسطيني، تأخذ مسارا آخر غير ما تسعى “إسرائيل” وداعموها الغربيون لترويجه.
هذا المسار يتأسس على استحالة حسم الحرب الحالية التي تشنها قوات الاحتلال بدعم غربي واسع. فالقتل الجماعي الذي تجاوز الحدود والمعدلات السابقة لا يمثل حلا للأزمة ولن يوفر للمحتلين ما يبحثون عنه من أمن واستقرار، ولن يجتث أهل فلسطين من الوجود. فما يبحث عنه الصهاينة خيالٌ لا يمكن أن يتحقق لأنه قائم على فرضيات من صنع الخيال أولا وشعور بالغرور غير محدود، وتأسيس على فرضيات ثبت مرارا عدم جدواها.
وقد استوعب الكثيرون حالة الهوس التي يعيشها قادة الكيان، وأصبحوا يدركون الأخطار التي قد تنجم عن تصوراتهم. وبرغم تصاعد الضحايا الفلسطينيين خلال الأسبوعين الماضيين، إذ تجاوز عددهم 4000 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من اللاجئين، فالمتوقع تضاعف هذه الأعداد في الأسابيع المقبلة لأسباب عديدة:
أولها أن حكومة نتنياهو المتطرفة رسمت أهدافا غير واقعية، لكنها لن تعترف بفشلها، بل ستواصل قصف غزة بعد إخلاء بعض سكانها، بذريعة استهداف أعضاء حركة “حماس”.
وقد بدأت قوات الاحتلال عمليات اغتيال واسعة تستهدف عناصر قيادية في المقاومة الفلسطينية، طالت كلا من جهاد المحيسن وجميلة الشنطي.
ثانيها: استمرت في القصف الشامل لكافة مناطق غزة، بدون توقف، ودمرت ربع مساحة مدينة غزة وشمال القطاع، وأصبح على الاقل 20 في المائة من المنازل غير صالحة للسكن، وتضرر بشكل بليغ حوالي خُمس الوحدات السكنية بمحافظتي غزة والشمال.
ثالثها: الصمت الدولي المطبق أصبح عاملا مشجعا للإسرائيليين لمواصلة عدوانهم. هذه المرة أصبح العدوان مدعوما من قبل دول “العالم الحر” في تحد سافر للأعراف والقوانين الدولية التي تعتبر استهداف المدنيين جرائم حرب. وثمة شعور بالاحباط الشديد لدى المنظمات الحقوقية والإغاثية إزاء التواطؤ الدولي في هذه الجرائم، إذ لم تعد أنباء سقوط الضحايا المدنيين أو تدمير البنى التحتية أمرا مقززا لدى ساسة العالم.
رابعا: أن الغرب منح “إسرائيل” غطاء سياسيا لارتكاب جرائم الحرب، وتواطأ معها في التعتيم على جرائم القتل الجماعي ومنها قصف مستشفى “المعمداني” الذي أدى لاستشهاد 500 فلسطيني على الأقل.
أصبح العدوان مدعوما من قبل دول “العالم الحر” في تحد سافر للأعراف والقوانين الدولية التي تعتبر استهداف المدنيين جرائم حرب
وقد حقّق الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لنفسه سجلا مخجلا عندما رفض استنكار تفجير مستشفى المعمداني متعللا بأنه من فعل “الطرف الآخر” أي الفلسطينيين. وكان واضحا منذ البداية أن الجريمة ارتكبها الجانب الإسرائيلي. كان بايدن يعلم أن جرائم الحرب من هذا العيار لا تحظى باهتمام واسع أو تحقيق مستقل.
لقد كانت زيارة بايدن للكيان الإسرائيلي تعبيرا عن سياسة أمريكية ثابتة منطلقة من عقلية شيطانية لا تحترم النوع الإنساني ولا تلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية. فما دامت أمريكا قد تعهدات بضمان أمن “إسرائيل” وتفوقها العسكري على الجانب العربي، فلماذا هذا الاستفزاز الذي تنكر للأخلاق وتجاهل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة؟ ما المصلحة الاستراتيجية لأمريكا في التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي لارتكاب واحدة من كبريات جرائم الحرب؟ حتى هذه اللحظة لم يصدر “العالم الحر” موقفا واضحا يضغط على الإسرائيليين لوقف الحرب البرية التي يعدّون لها بعد إخلاء غزة من سكانها.
واتضح هذا الموقف أكثر خلال قمة القاهرة قبل يومين. وبدلا من منع تل أبيب عن تنفيذ هذه الخطة الدنيئة، بدأ الامريكيون يضغطون على مصر والسعودية ولبنان للقبول بتوطين سكان غزة بعد ترحيلهم.
وفي الوقت الذي تعاني فيه أوروبا من أزمة اللاجئين الذين يعبرون البحر ليصلوا الى شواطئها، تعمل أمريكا إلى جانب “إسرائيل” لإحداث أزمة جديدة وإضافة مليوني فلسطيني الى موجات اللاجئين المتوجهين الى أوروبا. لماذا لا يقف الأوروبيون موقفا واضحا يرفض المشروع الأمريكي – الإسرائيلي الهادف لخلق مشكلة إضافية تزيد أعداد اللاجئين وتشجع الهجرة عبر البحار بحثا عن ملاذ آمن؟
يوما بعد آخر يتضح أن حرب غزة هذه المرة تختلف تماما عن سابقاتها. وما التحشيد السياسي والإعلامي والعسكري الذي يقوم به الاحتلال إلا تأكيد لحالة جديدة غير مسبوقة، تعرّض أهل غزة للمزيد من المخاطر وربما التصفيات الشاملة والتهجير. ويأمل الإسرائيليون والأمريكيون أن تكون هذه الحالة حاسمة للقضية التي استعصت على الانقراض وترفض كافة الحلول التي لا تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. فظاهرة التحشيد باتجاه واحد لا يسمح بالتراجع، غير مسبوقة، وكذلك إصرار كلا الطرفين على الحسم النهائي ظاهرة جديدة تعكس ما بلغه الطرفان من يأس إزاء أية تسوية سياسية محدودة.
فلا المحتلون يقبلون بوجود كيان فلسطيني مستقل على حدود الأرض التي يحتلونها، ولا هم مستعدون للقبول بما يسمى مشروع الدولة الواحدة التي يقطنها كافة الفلسطينيين واليهود ويدلون بأصواتهم متساوين أمام صناديق الاقتراع. لذلك لا يبدو هناك تفاؤل واسع إزاء المستقبل المنظور، بل أصبح الوجوم سيد الموقف.
إنه فشل الدبلوماسية من جهة، والسياسة الغربية من جهة ثانية لكونها داعمة للاحتلال وعاجزة عن اتخاذ موقف إنساني واضح. إن من الصعب التنبّؤ بهذه الجولة من الصراع، وهي الأصعب والأشمل من حيث استعداد العدو لكسر كافة الحدود والخطوط الحمراء، ولكنُ الأمر المؤكد أن ما طرحه نتنياهو وحكومته، وردّده داعموه الغربيون عن عزمه اجتثاث المقاومة الفلسطينية، واستهداف غزة بدون رحمة لتحقيق ذلك لن يتحقق.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الفلسطينية الاحتلال الحسم فلسطين غزة الاحتلال الحسم مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
بعد سقوط البشير واستقالة صلاح قوش ومن بعده جلال الشيخ، تغولت الاستخبارات العسكرية على ملفات جهاز المخابرات وسيطرت على معظم موارده، وتقاسمته مناصفة مع الدعم السريع، الاستخبارات على المعلومات والتحليل والقرار، والدعم السريع على المقار والموارد الفنية..
تحول جهاز المخابرات إلى جسد بلا روح، يتم ابتزازه سياسياً من قبل قحت بماضيه وانتماءات منسوبيه لنظام الإنقاذ. كثير من عناصره انحنوا للعاصفة، فمنهم من تم إقالته ومنهم من دخل في حالة كمون وانتظار ومنهم من طاوع الحكام الجدد وأدار ظهره لولائه السابق ومنهم من قاوم مشروع الحكم الجديد بممانعة صامتة..
كان الهدف بعد سقوط البشير وبعد حادثة هيئة العمليات أن تكون السيطرة الكاملة لصالح الاستخبارات العسكرية، وكان الرأي الغالب لدى قيادات الجيش أن يدار الجهاز بواسطة ضباط من داخل المؤسسة العسكرية، مثل الفريق جمال عبد المجيد. لم تنجح التوجهات الجديدة لأسباب تتعلق بعدم دراية هؤلاء الضباط بطبيعة الثقافة المؤسسية الطاغية على عمل الجهاز وبطبيعة العمل الأمني في شقه المدني ولغياب الرؤية المشتركة بين الضباط القادمين من الجيش مع الشباب الذين تخرجوا من مؤسسة الجهاز، بالإضافة لتعدد الولاءات داخل الجهاز نفسه بين ولاءات تقليدية وولاءات حديثة مرتبطة بالعناصر المدخلة من قبل مجموعة حميد-تي والنظام الجديد ..
صحيح لم يستطيع حميدتي ابتلاع الجهاز كلياً، لكنه أحدث فيه اختراقات عميقة وخلق حالة من الاهتزاز الداخلي جعله جهاز فاقد للفعالية ومكبل بعزلة سياسية وحالة عداء شعبي مرتبط بديسمبر والخطابات الميدانية الرافضة لعناصره. فحالة الهياج الشعبي الرافض للجهاز ولعناصره وظفها حميدتي لجعل دور الجهاز محصور فقط في جمع المعلومات وتكبيل اي خطوات وقائية يمكن أن يقوم بها وحصرها فقط على الد-عم السريع ..
الأن وبعد قيام الحرب ومع بدء الجهاز في استعادة توازنه وفك قيود التكبيل التي مارسها عليه حميد-تي، يجب على قيادة الدولة أن تسمح بإعادة جهاز الأمن إلى عمله وفق هيكلة جديدة تعيد له صلاحياته الفنية في التحليل والتأمين والتحرك خاصة في الأحياء السكنية وملء الفراغ الاستخباراتي داخل المدن. المطلوب هو فك الارتباط والتداخل بين استخبارات الجيش والجهاز ، خصوصاً على الملفات الأمنية ذات البعد المدني وترك إدارتها للجهاز ، مع زيادة التنسيق بينهم بعيداً عن التعامل مع الجهاز بنظرة ديسمبرية قللت من فعاليته وساهمت في تهميشه. يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان .
حسبو البيلي
#السودان