معلومات الوزراء ينشر تحليل دور السياسات الصناعية في مواجهة التوترات العالمية
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
كتب- محمد غايات:
أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً جديداً تناول من خلاله مفهوم "السياسة الصناعية" موضحاً أن يمكن تعريفه بأنه الجهود التي تبذلها الحكومات لدعم صناعات محددة، مثل: الصناعات الثقيلة (الحديد والصلب، والنفط، والفحم، والسفن)، والصناعات العسكرية، والفضائية، وصناعة أشباه الموصلات، والمركبات الكهربائية.
وتلعب هذه السياسات دورًا مهمًّا في دعم الأمن القومي والقدرات التنافسية للصناعات؛ وذلك من خلال مجموعة من الأدوات تتمثل في الإعانات، والحوافز الضريبية، وتطوير البنية التحتية للنهوض بالصناعة، ودعم البحث والتطوير، والسياسات الجمركية الحمائية (سياسات تهدف إلى حماية المنتج الوطني عن طريق مجموعة من الأدوات تعوق ولوج المنتج الأجنبي). وقد تم استخدام السياسات الصناعية في السنوات الماضية كجزء من استراتيجية النمو؛ بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي، وتأسيس "شركات وطنية رائدة"، ودعم الأمن القومي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الصناعات المهمة، والنمو الشامل، ورفع قدرات التوظيف، وإنعاش قطاع التصنيع.
وفي هذا الصدد، روَّجت دول عديدة لصناعات معينة، مثل: أشباه الموصلات في تايوان، والطاقة المتجددة في ألمانيا، والفضاء في فرنسا، وفي ظل النزعة القومية الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية التي يشهدها العالم فمن المرجح أن يظل إنشاء شركات وطنية رائدة هدفًا سياسيًّا مهمًّا للحكومات التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الوطنية.
استعرض التحليل الدور الذي لعبته السياسات الصناعية في الاقتصادات، ففي الفترات السابقة، أطلقت العديد من الدول سياسات صناعية، بما في ذلك ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وأغلب دول أمريكا اللاتينية والصين، وحققت الدول درجات متفاوتة من النجاح، فبالنسبة لإنجلترا تطورت صناعة الصوف في القرن الرابع عشر باستخدام التعريفات الجمركية وقيود التصدير وبعض العوامل الأخرى، أما بالنسبة لألمانيا فقد فرضت في القرن التاسع عشر تعريفات جمركية لحماية كلٍّ من الزراعة والصناعة، كذلك اتبعت الصين العديد من السياسات الصناعية في إطار الخطة الاستراتيجية "صنع في الصين 2025" والتي تهدف إلى تعزيز التصنيع المحلي عالي التقنية وحددت الاستراتيجية الهدف العام المتمثل في رفع المحتوى المحلي من المكونات والمواد الأساسية إلى 70% بحلول عام 2025. كذلك رفع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة مئوية من المبيعات من 0.95% في عام 2015 إلى 1.68% بحلول عام 2025.
ويزعم العديد من الخبراء أن السياسة الصناعية في آسيا كانت سببًا في تغذية شرق آسيا، وتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة التي شهدتها دول المنطقة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث عززت اليابان وكوريا الجنوبية صناعات الصلب وأشباه الموصلات باستخدام مجموعة من القيود التجارية والاستثمارية والإعانات وغيرها من السياسات، وبحلول الثمانينيات أصبحت اليابان قوة اقتصادية عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يرى البعض أن هذا التقدم كان نتيجة للسياسات التجارية التي اتخذتها.
كذلك دعمت كوريا الجنوبية اقتصادها في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين من خلال تطوير صناعة الحديد والصلب وبناء السفن والإلكترونيات والسيارات وأدى ذلك إلى إنشاء التكتلات الضخمة مثل: سامسونج و"LG" كما قدمت دعما كبيرًا لصناعة أشباه الموصلات، لتصبح صاحبة واحدة من أكبر الشركات العالمية، كذلك لعبت الحكومة في تايوان دورًا حاسمًا في تطوير صناعة أشباه الموصلات من خلال تمويل الأبحاث والاستعانة بالمهندسين المدربين في الولايات المتحدة.
كما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية حزمة من السياسات الصناعية، وكانت هذه السياسات مدفوعة - إلى حد كبير - بمنافسة الاتحاد السوفيتي، فتم إنشاء وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة التابعة للبنتاجون (DARPA)، والتي تم إنشاؤها ردًّا على إطلاق الاتحاد السوفيتي للقمر الصناعي سبوتنيك، أول قمر صناعي، وكان لها الفضل في تمهيد الطريق للإنترنت الحديث والنظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، كذلك تم إطلاق مشروع مانهاتن لتطوير الصناعة العسكرية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد مثَّل الإنفاق على المشروع نحو 0.4% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من (1942- 1946).
كذلك تم إنشاء وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة في مجال الطاقة (the Advanced Research Projects Agency-Energy)، التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية في عام 2007 من أجل الوصول إلى طاقة نظيفة وبأسعار معقولة. وتقدم وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة للطاقة تمويلات لمشروعات الطاقة، وتتراوح الميزانية السنوية للوكالة من 180 مليون دولار إلى 400 مليون دولار.
وأشار التحليل إلى عودة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمفهوم السياسة الصناعية من جديد، مشيراً إلى أنه على الرغم من فقدان هذه السياسة لشعبيتها في الثمانينيات والتسعينيات في ظل تأييد واشنطن لسياسات السوق الحرة وخصخصة مؤسسات الدولة وتعزيز التجارة الحرة، إلا أن الولايات المتحدة أولت في الوقت الحالي اهتمامًا كبيرًا بالسياسات الصناعية بهدف التحكم في السوق المحلية وتوجيهه نحو صناعات محددة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى صعود الصين، والتوترات العالمية، والتهديدات المتمثلة في تغيرات المناخ، ونقاط الضعف في سلاسل التوريد التي كشفت عنها جائحة كوفيد-19، وبناءً على ذلك أطلق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "جو بايدن" ثلاث مبادرات رئيسة تهدف إلى رفع القدرات الصناعية للبلاد، وتشمل كلًّا من قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وقانون خفض التضخم لعام 2022 (وهو قانون يهدف إلى كبح التضخم عن طريق تقليل العجز، وخفض أسعار الأدوية، والاستثمار في إنتاج الطاقة المحلية مع تعزيز الطاقة النظيفة؛ حيث سيخصص القانون حوالي 400 مليار دولار في خلال العقد القادم لخفض الانبعاثات الكربونية وكذلك خفض تكلفة الطاقة النظيفة) وقانون الصناعات التحويلية والعلوم لعام 2022.
وتم تخصيص نحو 50 مليار دولار لتصنيع أشباه الموصلات محليًّا، ونحو 400 مليار دولار لاستثمارات التكنولوجيا الصديقة للبيئة، كذلك مثَّل حجم الإنفاق الخاص على السياسة الصناعية في الفترة من (2021 -2022) نحو 0.4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، بينما مثَّل الإنفاق العام والحوافز الضريبية نحو 0.3% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع وكالة ماكينزي إنفاق الفيدرالي نحو 2 تريليون دولار إعانات على مدى السنوات العشر المقبلة، وهو ما أسهم بدوره في انتقال استثمارات الشركات الأجنبية إلى الولايات المتحدة للاستفادة من التمويل والإعانات الأمريكية، فعلى سبيل المثال وقَّعت اليابان مع الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية لتصنيع المعادن المُهمة المستخدمة في صناعة السيارات الكهربائية وسوف تعفي هذا الاتفاقية اليابان من الضريبة الأمريكية، كذلك يعتزم الاتحاد الأوروبي إبرام صفقة مماثلة مع الولايات المتحدة. وتدرس شركة صناعة البطاريات السويدية نورثفولت (Northvolt) - واحدة من ضمن شركات كثيرة تعتزم إقامة استثمارات لها في الولايات المتحدة الأمريكية - فرص استثمارات جديدة لها في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكد التحليل أن عودة السياسات الصناعية سيترتب عليها عدداً من النتائج، فمن المؤكد أنها ستخلق موجة من التغييرات التنظيمية في الدول، فبعد أن أقرَّت الولايات المتحدة الأمريكية قانون خفض التضخم، شرع الاتحاد الأوروبي في اتخاذ سياسته الصناعية المتعلقة بالمناخ، على سبيل المثال: سياسة دعم تصنيع وتطوير البطاريات التي أطلقها الاتحاد في يوليو 2023، كذلك أصدر الاتحاد قانون الرقائق الذي يهدف إلى زيادة نسبة مساهمة الاتحاد في الإنتاج العالمي من الرقائق بنسبة تتراوح بين نحو 10% و20%، وتقديم نحو 43 مليار يورو لتعزيز صناعة الرقائق الإلكترونية في القارة الأوروبية.
ويرجع إصدار الاتحاد هذه السياسة إلى التخوف من أن يؤدي الدعم الأمريكي الخاص بقانون خفض التضخم لاستخدام الطاقة النظيفة إلى توجه الاستثمار خارج أوروبا. كذلك أقرَّت كلٌّ من كندا وإنجلترا والصين وكوريا الجنوبية بعض السياسات لدعم التصنيع المحلي، فعلى سبيل المثال: أقرت كوريا الجنوبية "قانون رقائق K" (“K-Chips Act”) لتعزيز الاستثمار في الرقائق الإلكترونية.
وبناءً على انتشار السياسات الصناعية في الوقت الحالي، ينبغي على الشركات أن تولي اهتمامًا للاستفادة من هذه السياسات؛ حيث تقدم العديد من السياسات الصناعية الجديدة حوافز للشركات لتحقيق أهدافها المناخية. لذلك يتعين على الشركات أن تُعيد النظر في مبادراتها المتعلقة بالمناخ وخفض الانبعاثات؛ فقد تتمكن الشركات من تسريع أهدافها المناخية من الدعم الحكومي أو إعادة تخصيص رأس المال المخصص لخفض الانبعاثات لاستخدامات أخرى.
وتناول مركز المعلومات في تحليله السياسات الصناعية في مصر، حيث تُعَد الدولة المصرية واحدة من الدول التي أولت اهتمامًا بالسياسات الصناعية في القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات، فأطلقت خطة للتصنيع في الخمسينيات تتضمن تقديم الدعم عن طريق الرسوم الجمركية المرتفعة على الواردات، والقروض الميسرة للصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والمواد الكيميائية، وفي التسعينيات تم إصدار برنامج التعديل الهيكلي، وقد تضمن تحرير الأسعار والتجارة وخفض الدعم.
كما عملت مصر مؤخرًا على تعزيز وتطوير الصناعة من خلال محاور رئيسة تحت مظلة استراتيجية مصر الرقمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات 2030 والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، وهي:
- أولاً: تطوير البنية التحتية الرقمية: حيث تم تخصيص 1.6 مليار دولار أمريكي منذ منتصف عام 2016.
- ثانيًا: رفع كفاءة الاتصال الرقمي، وتوفير إنترنت سريع وبأسعار معقولة، مع توسيع نطاق التغطية له وللكهرباء؛ ومن بين الإجراءات المتخذة في هذا المجال: الاستثمارات في شبكات 4G/ 5G وشبكات الألياف الضوئية من قبل القطاعين العام والخاص، وإطلاق القمر الصناعي "طيبة" لزيادة تغطية المكالمات والإنترنت، كذلك استبدال كابلات الألياف الضوئية بالكابلات النحاسية، والاستثمار في البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس.
- ثالثًا، أصدرت مصر لوائح جديدة للاقتصاد الرقمي 2018 تتيح خيارات الدفع الرقمي من خلال قانون المدفوعات الإلكترونية وقانون حماية البيانات الشخصية.
- رابعًا، تعزيز الرقمنة في الشركات، وتُقدِّم الدولة حوافز جديدة لتسريع التحول الرقمي في الشركات ودعم البحث والتطوير في هذا المجال.
- خامسًا، تعزيز الشركات الناشئة؛ حيث أنشأت جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر في عام 2017، وعملت على سد فجوة التمويل لها، وأطلقت المبادرات والسياسات لدعم الشركات الناشئة، ولا سيما تلك العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإلكترونيات.
المصدر: مصراوي
كلمات دلالية: قمة القاهرة للسلام مستشفى المعمداني طوفان الأقصى نصر أكتوبر الانتخابات الرئاسية أسعار الذهب فانتازي الطقس مهرجان الجونة السينمائي أمازون سعر الدولار أحداث السودان سعر الفائدة الحوار الوطني مركز المعلومات مجلس الوزراء السياسات الصناعية
إقرأ أيضاً:
NYT: كيف عزّز ترامب انعدام الثقة ودفع حلفاء الولايات المتحدة بعيدا؟
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مقالا، للصحفي داميان كيف، قال فيه إنّ: "من الصعب جدا بناء الثقة، ومن السهل تدميرها. وتعيش أمريكا وشركاؤها اليوم في دوامة من انعدام الثقة".
وبحسب المقال الذي ترجمته "عربي21" فإنّه: "طُوّرت طائرة إف-35، وهي مقاتلة من الجيل الخامس، بالشراكة مع ثماني دول، ما يجعلها نموذجا للتعاون الدولي. عندما قدّم الرئيس ترامب خليفتها، طائرة إف-47، أشاد بنقاط قوتها - وقال إن مزايا النسخة المباعة للحلفاء ستُخفّض عمدا، مبيّنا أن ذلك منطقي "لأنه يوما ما قد لا يكونون حلفاءنا".
وتابع: "بالنسبة للعديد من الدول المتمسّكة بالولايات المتحدة، أكد تصريحه استنتاجا ذا صلة: أنه لم يعد بالإمكان الوثوق بأمريكا. حتى الدول التي لم تتأثر بشكل مباشر بعد، تستطيع أن ترى إلى أين تتجه الأمور، حيث يهدد ترامب اقتصادات حلفائه، وشراكاتهم الدفاعية، وحتى سيادتهم".
وأضاف: "في الوقت الحالي، يتفاوضون لتقليل الألم الناجم عن الضربة تلو الأخرى، بما في ذلك جولة واسعة من الرسوم الجمركية المتوقعة في نيسان/ أبريل. لكنهم في الوقت نفسه يتراجعون. استعدادا لأن يصبح الترهيب سمة دائمة للعلاقات الأمريكية، ويحاولون اتباع نهجهم الخاص".
وتابع: "بعض الأمثلة على ذلك: أبرمت كندا صفقة بقيمة 4.2 مليار دولار مع أستراليا هذا الشهر لتطوير رادار متطور، وأعلنت أنها تُجري محادثات للمشاركة في التعزيزات العسكرية للاتحاد الأوروبي".
"تُعيد البرتغال ودولٌ أخرى في حلف الناتو النظر في خطط شراء طائرات إف-35، خوفا من السيطرة الأمريكية على قطع الغيار والبرمجيات" وفقا لمثال آخر، وأيضا: "تسارعت وتيرة المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والهند فجأة بعد سنوات من التأخير".
وفي مثال آخر: "لا تُعزز البرازيل تجارتها مع الصين فحسب، بل تُجريها بالعملة الصينية، مُهمّشة بذلك الدولار"، وأيضا: "في العديد من الدول، بما في ذلك بولندا وكوريا الجنوبية وأستراليا، أصبحت المناقشات حول إمكانية بناء أو تأمين الوصول إلى الأسلحة النووية لحماية نفسها أمرا شائعا".
ووفقا للمقال: "كان هناك أصلا قدرٌ من التباعد عن الولايات المتحدة، إذ ازدادت دولٌ أخرى ثراء وقدرة، وانخفض اقتناعها بأن الدور الأمريكي المحوري سيدوم. لكن الأشهر القليلة الماضية من عهد ترامب الثاني قد عززت هذه العملية".
وأضاف: "يساعد التاريخ وعلم النفس في تفسير السبب. فإنّ قليل من المؤثرات القوية وطويلة الأمد على النواحي الجيوسياسية لها مفعول كما هو الحال في انعدام الثقة، وفقا لعلماء الاجتماع الذين يدرسون العلاقات الدولية. فقد أفسد انعدام الثقة مرارا وتكرارا المفاوضات في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأبقى توترات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مشتعلة لعقود".
"يجادل من يُسمّون بالواقعيين -الذين يرون العلاقات الدولية على أنها صراعٌ غير أخلاقي بين دول ذات مصالح ذاتية- بأن الثقة يجب أن تُقيّم دائما بتشكك، لأن الإيمان بالنوايا الحسنة أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر" وفقا للمقال نفسه الذي ترجمته "عربي21".
وأردف: "لكن ترامب أثار أكثر من مجرد شكوك حذرة. قوبل انعدام ثقته بحلفائه، والذي يتجلى في اعتقاده بأن مكاسب الآخرين خسائرٌ لأمريكا، بالمثل. ما خلقه هذا الأمر مألوفٌ -دوامة انعدام الثقة. إذا كنت تعتقد أن الشخص الآخر (أو الدولة) غير جدير بالثقة، فأنت أكثر عرضة لخرق القواعد والعقود دون خجل، كما تُظهر الدراسات، ما يعزز عدم ثقة الشريك، مما يؤدي إلى المزيد من العدوان أو تقليل التفاعل".
وفي السياق ذاته، كتب عالم النفس بجامعة أوريغون، بول سلوفيك، في دراسة رائدة عام 1993 حول المخاطرة والثقة والديمقراطية: "الثقة هشة؛ عادة ما تُبنى ببطء، ولكن يمكن تدميرها في لحظة، بحادث أو خطأ واحد"، مؤكدا: "في حالة ترامب، يُشير حلفاؤه إلى هجوم مُستمر".
وتابع: "أذهلت تعريفاته الجمركية على الواردات من المكسيك وكندا، والتي تجاهلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي وقّعها خلال ولايته الأولى، جيران أمريكا".
وأضافت: "كانت تهديداته بجعل كندا ولاية أمريكية وإرسال الجيش الأمريكي إلى المكسيك لملاحقة عصابات المخدرات تدخلات صارخة في السيادة، لا تختلف عن مطالبه بغرينلاند وقناة بنما. إن إلقاء اللوم على أوكرانيا في الحرب التي أشعلتها روسيا زاد من نفور الحلفاء، مما دفعهم إلى التساؤل: هل الولايات المتحدة تدافع عن الديكتاتوريين أم عن الديمقراطية؟".
وأردفت: "بسرعة نسبية، أدركوا أنه حتى لو كانت مقترحات ترامب الأكثر وقاحة -مثل تحويل غزة إلى ريفييرا شرق أوسطية- مجرد خيالات، فإنّ خطوط التوجهات تشير إلى نفس الاتجاه: نحو نظام عالمي أقل شبها بالألعاب الأولمبية وأكثر شبها بلعبة: القتال النهائي".
وأكدت: "ربما لا توجد دولة أكثر صدمة من كندا. فهي تشترك مع الولايات المتحدة في أكبر حدود غير محمية في العالم، على الرغم من التفاوت الكبير في القوة العسكرية بينهما. لماذا؟ لأن الكنديين كانوا يثقون بأمريكا. أما الآن، فهم لا يثقون بها إلى حد كبيرش"؛ فيما صرّح رئيس وزراء كندا، مارك كارني، الخميس، بأن علاقة بلاده التقليدية مع الولايات المتحدة قد "انتهت".
وقال أستاذ الشؤون العالمية بجامعة تورنتو، برايان راثبون: "لقد انتهك ترامب الافتراض الراسخ في السياسة الخارجية الكندية، بأن الولايات المتحدة دولة جديرة بالثقة بطبيعتها"؛ مضيفا: "هذا يُهدد بشدة المصالح الكندية الأساسية في التجارة والأمن، مما يدفعها إلى البحث عن بدائل".
وأكد: "تُعتبر الوطنية الاقتصادية جديدة بعض الشيء على كندا، لكنها أدت إلى ظهور حركة "اشترِ المنتجات الكندية" التي تحث المستهلكين على تجنب المنتجات والأسهم الأمريكية. كما يُلغي الكنديون العطلات الأمريكية بأعداد كبيرة".
ولفت إلى أنّ: "الأهم من ذلك على المدى البعيد، أن تهديدات ترامب قد شكّلت إجماعا مفاجئا حول سياسة كانت مثيرة للجدل أو تم تجاهلها: وهي أن على كندا بناء خطوط الأنابيب والموانئ وغيرها من البنى التحتية من الشرق إلى الغرب، وليس من الشمال إلى الجنوب، لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة وتوجيه مواردها إلى آسيا وأوروبا".
وأردف: "أوروبا متقدمة في هذه العملية. بعد الانتخابات الأمريكية، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية تجارية مع دول أمريكا الجنوبية لإنشاء واحدة من أكبر المناطق التجارية في العالم، وسعى إلى توثيق العلاقات التجارية مع الهند وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية والمكسيك".
"كما تُعطي اليابان، أكبر حليف لأمريكا في آسيا، الأولوية للأسواق الجديدة في دول الجنوب العالمي، حيث تُقدم الاقتصادات سريعة النمو، مثل فيتنام، عملاء جدد" تابع التقرير نفسه.
وقال أستاذ السياسة الدولية والأمن في جامعة كيو في طوكيو، كين جيمبو: "نشأ تصور في اليابان مفاده أنه يتعين علينا بالتأكيد تغيير محفظة استثماراتنا". مردفا أنه "بالنسبة للإدارة الحالية والإدارة التي تليها، علينا تعديل توقعاتنا من التحالف الأمريكي".
ولفت إلى أنّه: "على الصعيد الدفاعي، يُعد ما يُطلق عليه البعض "نزع الطابع الأمريكي" أكثر صعوبة. وينطبق هذا بشكل خاص على آسيا، حيث لا يوجد ما يُعادل الناتو، وأدّى الاعتماد على الدعم الأمريكي إلى إعاقة جيوش الدول التي وعدت الولايات المتحدة بالدفاع عنها (اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين)".
إلى ذلك، كان وزير الدفاع، بيت هيغسيث في مانيلا، يوم الجمعة، واعدا بإعطاء الأولوية الحقيقية لهذه المنطقة والتحول إليها. لكن العديد من شركاء أمريكا يعملون الآن معا بدون الولايات المتحدة، ويوقّعون اتفاقيات وصول متبادلة لقوات بعضهم البعض، ويبنون تحالفات جديدة لردع الصين قدر الإمكان.
وأبرز التقرير: "أوروبا أيضا على بُعد سنوات من القدرة على الدفاع عن نفسها بشكل كامل دون مساعدة الأسلحة والتكنولوجيا الأمريكية. ومع ذلك، ردا على رسوم إدارة ترامب الجمركية وتهديداتها وازدرائها العام -كما في محادثة سيغنال المسربة التي وصف فيها هيغسيث أوروبا بأنها "مثيرة للشفقة" -أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخرا عن خطط لزيادة الإنفاق العسكري. ويشمل ذلك برنامج قروض بقيمة 150 مليار يورو لتمويل الاستثمار الدفاعي".
كذلك، أبرز التقرير: "يتعاون الاتحاد الأوروبي، المؤلف من 27 دولة، بشكل متزايد مع دولتين غير عضوين، هما بريطانيا والنرويج، في الدفاع عن أوكرانيا وغيرها من الأولويات الدفاعية الاستراتيجية".
واسترسل: "بالنسبة لبعض الدول، لا يكفي أي من هذا. صرح رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، للبرلمان في أوائل آذار/ مارس أن بولندا ستستكشف إمكانية الحصول على أسلحة نووية، خوفا من عدم إمكانية الوثوق بترامب للدفاع الكامل عن دولة زميلة في حلف شمال الأطلسي". فيما قال توسك: "هذا سباق نحو الأمن".
وفي شباط/ فبراير، صرّح وزير خارجية كوريا الجنوبية، تشو تاي يول، للجمعية الوطنية بأن بناء الأسلحة النووية "ليس مطروحا على الطاولة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه غير مطروح أيضا". ووفقا لبعض التقديرات، تمتلك كل من كوريا الجنوبية واليابان المعرفة التقنية اللازمة لتطوير أسلحة نووية في أقل من شهرين.
وقال الدبلوماسي السنغافوري السابق، بيليهاري كاوسيكان، إنّ: "القليل من عدم الثقة يمكن أن يؤدي إلى حذر صحي"، مشيرا إلى أنّ: "آسيا كانت متشككة في أمريكا منذ حرب فيتنام. وقال إن النتيجة النهائية لعهد ترامب قد تكون: عالما أكثر تنوعا، مع مساحة أكبر للمناورة، والولايات المتحدة أقل هيمنة".
وأكّد: "لكن في الوقت الحالي، ينتشر انعدام الثقة". قال الخبراء إنّ: "الأمر سيستغرق سنوات وسلسلة من جهود بناء الثقة المكلفة لجمع أمريكا مع حلفائها، الجدد والقدامى، على المدى الطويل".
قالت عالمة السياسة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، والتي ألّفت كتابا عن دور انعدام الثقة خلال الحرب الباردة، ديبورا ويلش لارسون: "من الصعب بناء الثقة، ومن السهل فقدانها"؛ مضيفة: "إن انعدام الثقة في نوايا الولايات المتحدة ودوافعها يتزايد يوما بعد يوم".