حرب الخرطوم ورحيل البشرى: دمار وإعمار
تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
مقدمة
أكملت حرب الخرطوم شهرها السادس وزادت عليه بضعة أيام، ولايزال القتال مستمراً بين قوات الشعب المسلحة وقوات الدعم السريع المتمردة عليها، وحجم الدمار المادي والمعنوي قد تجاوز طاقات البلاد والعباد؛ بيد أن التوافق السياسي لإيقاف الحرب يتراءى كسراب بقيعة يحسبه اللاجئون والنازحون أمناً، وهم يواجهون ظروفاً حياتيةً حرجة ًوبالغة التعقيد، ويشعرون بأن وطنهم قد أضحى في مهب الريح، وآلامهم تتصاعد بمتوالية هندسية كلما ابتعد عن أنظارهم أفق إفشاء الأمن والسلام في ربوع ديارهم، التي هجروها تحت تهديد أسلحة قوات الدعم السريع وحالات الانفلاتات الأمنية التي أفرزتها الحرب، وشكلت منها نمطاً حياتياً مرعباً في معظم أحياء مدن العاصمة الثلاث وهوامشها السكنية، وبموجب ذلك تراكمت أحزان الناس، وعيل صبر الكثيرين منهم واُرهق جلدهم.
(2)
الخرطوم عبر الحقب التاريخية
أجمع المؤرخون على أنَّ وجود الخرطوم السكاني في العصور القديمة والوسيطة كان سابقاً لتأسيسها عاصمة للحكم التركي-المصري (1821-1885) في عهد الحكمدار عثمان بك (1824-1825)، الذي نقل العاصمة من ود مدني إلى الخرطوم عند مقرن النيلين الأزرق والأبيض، ثم تطورت الخرطوم عمرانياً وإدارياً وتجارياً في عهد الحكمدار علي خورشيد باشا (1826-1838)، والحكمداريين الذين أعقبوه على المنصب ذاته. وبحلول عام 1840 بلغ عدد سكانها نحو ثلاثين ألف نسمة، وتوسع عمرانها، ونشطت حركتها التجارية. وخلال الأربعة عقود الأخيرة من الحكم التركي-المصري زارها عدد من الرحالة الأوروبيين أمثال جون بزرك (1846)، وجورج ميلي (1850)، وجوزيف شوري (1851)، وأشادوا بجمال موقعها عند مقرن النيلين ودينامية نشاطها التجاري. كما وصفها أحد الأدباء المصريين لاحقاً بأنها مدينة “جامعة إلى جمال الموقع الطبيعي محاسن النظام المدني، والرونق الحضري. وأكثر ابنيتها من الحجر واللبن الأحمر، مزدانة بالجبس والآجر. وقصورها في غاية البهجة والرونق، وشوارعها منتظمة جداً. وفيها شارع يبتدئ من شاطئ البحر الأزرق وينتهي في جنوب المدينة، يسمى السكة الجديدة، استعارة من اسم السكة الجديدة في القاهرة. وجميع سكانها محافظين على عاداتهم الأصلية، ثم نشأ فيها التقليد الغربي، وعادات المدنية الأوروبية، وأصبحت أخلاق وعادات السكان من الطبقة الأولى والثانية حتى في المأكل والمشرب أوروبية محضة…. ولسكان الخرطوم ميل شديد إلى تزين المنازل بأدوات الرياش الفاخر، وهم يقتدون بالأوروبيين فيما يخترعونه من أصناف أثاث المنازل وأنواع الملابس، وعندهم من الملاهي وأماكن الرقص والقهاوي ما يزيد على الخمسمائة.” هكذا كانت الخرطوم قبل حصارها وتحريرها عام 1885.
وبعد الانتصارات التي حققها الإمام محمد أحمد المهدي وأنصاره في مديرية كردفان والجزيرة أضحت الخرطوم محط انظارهم إلى أن ضربوا حولها حصاراً خانقاً في النصف الأخير من العام 1884، امتد إلى بضعة أشهر. وعندما بلغ الحصار غايته، ونفد المخزون الغذائي، وهبطت الروح المعنوية في أوساط الجنود والرعية، بدأ غردون باشا، حكمدار عام السودان (1883-1885)، يتشبث بوصول حملة الإنقاذ التي غادرت أبوطليح متجهة نحو الخرطوم، فكتب منشوراً علَّقه في طرقات المدينة، قائلاً: “قد جاءت البشرى بأن الجيش الإنكليزي فَرّقَ جموعهم [أي الأنصار] في صحراء بيوضة، وقتل منهم أُلوفاً، ونزلت مقدمته المتمة، وهو مسرع لإنقاذنا، وبسبب هذه البشرى عفوتُ عن أحمد بك جلاب مدير الخرطوم، وعمن اشتركوا معه في مراسلة المهدي، وأطلقتُ سراحهم من السجن.” (شقير، 1981م، 526) فكان رد المهدي على ذلك المنشور: “إن الجردة التي تعتمدونها ما لها وجه بوصولها لكم من سَدّ الأنصار الطرق، فإن اسلمت وسلَّمتَ فقد عفونا عنك، وأكرمناك، وسامحناك فيما جرَى، وإن أبيتَ فلا قدرة لك على نقض ما أراده الله… وقد بلغني في جوابك الذي أرسلته إلينا أنك قلت إن الإنكليز يريدون أن يفدوك وحدك بعشرين ألف جنيه… إن أردت أن تجتمع بالإنكليز فبدون خمسة فضة نرسلك إليهم. والسلام.”
وواضح من هذه الرسائل المتبادلة بين الطرفين، أن تعنت غردون وتشبثه بحملة الإنقاذ كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي دفعت الأنصار إلى الانتقال من الحصار إلى الهجوم العسكري، الذي حدث في صبيحة السادس والعشرين من يناير عام 1885م، وأفضى بدوره إلى تحرير مدينة الخرطوم، وقتل الجنرال غردون، واستباحة المدينة، وقتل بعض سكانها، وأخذ بعض نسائها سبايا. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها خُصص قصر الجاركوك للإمام المهدي لقربه من مسجد الخرطوم، ونزل الخليفة عبد الله في سراي الحكمدارية، والخليفة شريف في مبنى الكنيسة الكاثوليكية، واحتل الأمير محمد عثمان أبوقرجة ديوان المديرية. وعين المهدي الأمير أحمد محمد حاج شرفي على إدارة حدائق الخرطوم وجنائنها، والأمير طه محمد لإدارة الترسانة، والأمير عبد الرحيم الطريفي للمحافظة على الجبخانة ومباشرة تعبئة الخرطوش وتصلح الآلات الحربية، ثم بعد ذلك تمَّ تشغيل مطبعة الحجر لإصدار مناشير المهدي وتعليماته الإدارية.
وفي خطبة جمعته الأخيرة بمسجد الخرطوم، وضع المهدي الأسس التي استند إليها في تشجيع الأنصار على الخروج من “عاصمة الترك” (الخرطوم) إلى بقعة أم درمان، مستأنساً في ذلك بقوله تعالى من سورة إبراهيم: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾. وبهذه الخطبة شكل المهدي موقفاً أشبه بما حدث بعد تحرير مدينة الأبيض، حيث آثر البقاء في معسكر الجنـزارة بدلاً من الانتقال إلى مدينة الأبيض المحررة. واستناداً إلى المنطق ذاته، حث المهدي أنصاره بهجر مدينة “الذين ظلموا أنفسهم” والعودة إلى بقعة أم درمان، التي أضحت حاضرة للدولة المهدية، وبلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة عام 1896.
وبعد الانتقال إلى أم درمان يبدو أن بعضاً من أنصار المهدي قد هدَّموا بعض منازل الخرطوم لتعمير منازلهم بالعاصمة الجديدة، الأمر الذي لم يجد استحسان عند الخليفة عبد الله، الذي خاطب أحمد سليمان، أمين بيت المال، بعد شهرين من تحرير الخرطوم، قائلاً: “بعلمك أني نبهت غير ما مرة بعدم تهديم منزل واحد من منازل الخرطوم على وجه العموم من غير استثناء، وأكدت ذلك غاية التأكيد، وأعلمتك بأنه إذا حصل من أي أحد هدم بيت واحد، فإذا لم تستطع منعه خابرني به، وما تركت لك في هذا الخصوص شيئاً. وقد كنت أظن أنك تقوم في تنفيذ هذا الأمر بهمة عالية؛ ولكن بحضوري بالخرطوم ومناظرتي إليه وجدت كثيراً من المنازل مهدوماً، بل وجدت البلد في بعض المحلات صار خرباً، وكل ذلك حصل وأنت بالبلد، لا صقت [كذا] من ارتكب ذلك، ولا أخبرتني بأقل شيء في هذا الخصوص. وعلى أنه لم يخف على الله أمر الناس الذين أجروا ذلك، لما أنه ظاهر على مساكنهم، وقد كان الواجب عليك واللائق بحالك الاهتمام بتنفيذ هذا الأول أول صدوره منا لما أنك تعلم. أنه لا قصد لي غير إجراء ما فيه مصلحة الدين العمومية، وحق تلغرافك هذا أن يأتيني منك أولاً قبل خراب البلد لإمكان المداركة.”
وواضح من هذا الخطاب إن مدينة الخرطوم قد خُربت لإعمار أم درمان، ويبرر البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم ذلك السلوك التخريبي بقول: “إن نشأت مدينة حديثة إلى جوار مدينة قديمة لابد أن يُسرِّع بخراب القديمة وزوالها؛ لأن المدينة الحديثة تنشأ على حساب المدينة القديمة سواء كان مادياً بأخذ طوبها وأحجارها وأخشابها، كما وقع لمدينة سوبا عند إنشاء الخرطوم، وللخرطوم عند إنشاء أم درمان”؛ أو حضارياً وتجارياً مثل ما حدث “لمدينة سواكن عند إنشاء مدينة بورتسودان، ولمدينة بربر التاريخية التي أضعفها ظهور مدينة” أتبرا (عطبرة).
وبعد هزيمة الأنصار في معركة كرري (أم مدرمان) 1898، عاد الغزاة المنتصرون إلى مدينة الخرطوم، وأُوكلت مهمة تخطيط المدنية وإعادة إعمارها إلى المخطط الحضري البريطاني ويليام ماكلين (William Mclean)، الذي صمم المخطط الهيكلي للمدينة، ورسم شوارعها بصورة أشبه إلى خطوط العلم البريطاني (Union Jack)، تتمثل في عشرة شوارع رئيسة، خمسة منها من الشرق إلى الغرب، وخمسة من الشمال إلى الجنوب، وصُممت بينها مربعات المدنية حسب وظائفها الإدارية والتجارية، والسكنية. وتشمل الشوارع الممتدة من الشرق إلى الغرب: شارع كتشنر (شارع النيل)، وشارع غردون (شارع الجامعة)، وشارع ونجت باشا (شارع الجمهورية)، وشارع عباس (شارع البلدية)، وشارع السلطان (شارع السيد عبد الرحمن)؛ وتشمل الشوارع الممتدة من الشمال إلى الجنوب: شارع الدفتردار (شارع المك نمر)، وشارع فكتوريا (شارع القصر)، وشارع الملك فؤاد (شارع عبد المنعم محمد)، وشارع نيوبولد (شارع الحرية)، وشارع إسماعيل باشا (شارع علي عبد اللطيف). وإلى جانب هذه الشوارع الطولية والعرضية كان يوجد عدد من الشوارع الفرعية. وتدريجياً أضحت المدينة تتمدد جنوب السكة الحديدية في شكل أحياء سكنية ومحلات تجارية. بينما ظلت أم درمان عاصمة وطنية، تقطنها مجموعات من قبائل أهل السودان ذات السحناتٍ الاثنية المتعددة والعادات والتقاليد، الموصولة بجينات مواطنها الأصلية. وعلى ضفة النيل الأزرق اليسرى نشأت مدينة الخرطوم بحري بطابعها العمالي وأحيائها الشعبية. هكذا تشكلت الخرطوم الكبرى بمدنها الثلاث، وظل عدد سكانها في زيادة طردية مستمرة، حيث قفز من 70 ألف نسمة عام 1907 إلى نحو 7 ملايين نسمة قبل اندلاع حرب 15 أبريل 2023.
(3)
السيد البشرى وإعادة تخطيط الخرطوم الكبرى
يُعدُّ البروفيسور السيد البشرى من أوائل الجغرافيين السودانيين الذين انتبهوا إلى مشكلات مدينة الخرطوم الكبرى، ونادوا بضرورة إعادة تخطيطها، حيث أبان طرفاً من ذلك في أطروحته (The Khartoum Conurbation: An Economic and Social Analysis) لنيل درجة الدكتوراه بجامعة لندن عام 1970. وعندما كتب أطروحته لم يتجاوز عدد سكان الخرطوم بمدنها الثلاث 700 ألف نسمة. وعزا البشرى الزيادة الطردية في عدد السكان إلى تمركز أكثر 70% من الصناعات والخدمات الصحية والأنشطة التجارية في مدينة الخرطوم، فضلاً عن سوء توزيع الخدمات بين أحياء العاصمة المختلفة، وقلة الساحات المخصصة للمنتزهات والحدائق والميادين الرياضية والاحتفالات الوطنية والدينية العامة. وإلى جانب ذلك نظر إلى مشكلات استخدام الأرض، الناتجة من التوسع العمراني الذي شهدته مدينة الخرطوم، واستشهد بالأمثلة الآتية وطرح بعض الحلول الممكنة:
أولاً: الثكنات العسكرية
انتقد البشرى وجود الثكنات العسكرية في المناطق الاستراتيجية ومداخل الكباري في المدن الثلاث، وأوضح أن الثكنات العسكرية يجب ألا تكون وسط الأحياء السكنية ودواوين الخدمة المدنية؛ “لأسباب تتعلق بأمن المواطنين حالة اندلاع” أي صدام مسلح. ولذلك اقترح نقل الثكنات العسكرية إلى أطراف المدن، بشرط أن تعزز بمساكن للعاملين المنتسبين إليها، مع توفير الخدمات العامة التي يحتاجونها. ولو أخذ أصحاب القرار السياسي والإداري بتوصيات السيد البشرى لتفادى سكان الخرطوم الكثير من الأضرار التي لحقت بهم جراء الحرب الدائرة في الخرطوم الآن.
ثانياً: مطار الخرطوم
انتقد البشرى وجود مطار الخرطوم في وسط الأحياء السكنية، لأنه يشكل خطراً لاحتياطات السلامة الجوية والأمن العمراني للمواطنين الذين يسكنون الأحياء المجاورة له، ويُسهم في التلوث البيئي الناتج عن محركات الطائرات وورش خدماتها الفنية. فأوصى البشرى بضرورة تشييد مطار جديد خارج العاصمة، وعلى مواصفات دولية معاصرة. وبالفعل خصصت حكومة الإنقاذ (1989-2019) مساحة واسعة جنوب أم درمان لأنشاء المطار الجديد، وقّعت وزارة المالية السودانية وشركة “سوما” التركية اتفاقية لتشييد مطار الخرطوم الجديد بنظام “البوت” في مارس 2018، وبلغ الكلفة الكلية لتشييد المطار آنذاك واحد مليار و150 مليون دولاراً أمريكياً، ووعدت الشركة تنفيذ المرحلة الأولى بكلفة 800 مليون دولاراً أمريكياً خلال ثلاثين شهراً من تاريخ التوقيع. لكن اندلاع ثورة ديسمبر 2018 قد أوقف العمل، ولا ندري أين ذهبت الأموال المخصصة لتشييد المطار الجديد.
ثالثاً: المباني الخدمية
انتقد البشرى وجود بعض المباني الخدمية في أماكن استراتيجية وسياحية في مدينة الخرطوم بحري، مثل مصلحة النقل الميكانيكي، ومصلحة المخازن والمهمات، ومصلحة النقل النهري، وسجن كوبر، وأوصى بنقلها ونقل المباني المشابهة لها إلى أطراف المدينة، واستغلال مواقعها في أغراض تجارية وسياحية، تدر عوائداً مجزية إلى الخزينة العامة.
رابعاً: التجمعات الصناعية
انتقد البشرى أيضاً وجود التجمعات الصناعية في وسط الأحياء السكنية بالخرطوم الكبرى، وأوصى بنقلها إلى أطراف المدينة، أو إعادة توزيعها بين العاصمة القومية والأقاليم؛ لأن بعض الصناعات ليس بالضرورة أن تكون في العاصمة الخرطوم، بل يستحسن خلق مدن صناعية خارج العاصمة، توفر للعاملين فيها سكناً وخدمات أفضل.
خامساً: السكن العشوائي
أوصى البشرى بمعالجة السكن العشوائي في أطراف المدن الثلاث (الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري)، واقترح قيام مدن عمالية في المحيط الإقليمي لولاية الخرطوم، مع الاعتناء بالتنمية الريفية والصناعية في ولايات السودان الأخرى؛ لتكون أحد الأسباب الجاذبة للقوى العاملة في السودان، والدوافع الحافزة لتفريغ ولاية الخرطوم من العمالة الزائدة عن حاجتها.
سادساً: البحث عن عاصمة جديدة
إلى جانب توصيات البشرى، اقترح بعض الباحثين من مجال العمران الحضري قيام عاصمة إدارية جديدة؛ لتخفيف الضغط على الخرطوم، التي وصفها أحد أساتذة اللغة الإنجليزية الزائرين بأنها “مدينة كبيرة، تتمدد بعشوائية لا يمكن أن تحظي بالقبول، فهي حارة، ومغبرة، وفقيرة، وغير منظمة، ومزدحمة. توجد فيها مباني قليلة من الطراز القديم، بينما بقية المباني مشيدة من الخرسانة، نصفها مكتمل، ونصفها الآخر مهدم. المباني القليلة التي خلفها عهد الاستعمار البريطاني بحالة سيئة، وتعاني من عدم الصيانة.” إذن إنشاء عاصمة إدارية جديدة سيكون أحد الأسباب التي تسهم في تخفيف الضغط السكاني على الخرطوم، وتفسح المجال لأسلوب جديد لإدارة البلاد وتشجيع الاستثمارات الخارجية.
نأمل أن تجد التوصيات أعلاه التي وضع البروفيسور السيد البشرى لبناتها أذناً صاغية من أصحاب “العقل الاستراتيجي” في السودان، إن وجدوا، وأن تكون هادياً لعملية إعادة أعمار مدينة الخرطوم الكبرى بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة الدائرة الآن وسط أحيائها السكنية ومؤسساتها الخدمة المدنية. ويجب ألا يُترك أمر إعادة تخطيط المدينة إلى السياسيين وبعض الإداريين والعسكريين الذين تنقصهم الخبرة الفنية في مجال التخطيط الحضري، وليس لمعظمهم نظرة مستقبلية عن كيفية استقلال الأرض لخدمة متطلبات الحياة الحضرية.
(4)
خاتمة
لا جدال في أن إعادة تخطيط الخرطوم الكبرى يجب أن تكون من أولويات الفترة التأسيسية، التي تعقب إيقاف الحرب وبسط السلام في ربوع السودان. وتأتي هذه الأولوية بعد التوافق السياسي الوطني العريض، الذي يؤسس لانتقالٍ موضوعي من مربع “خطاب الحرب الوجودي” الذي يتمركز حول الاقصاء السياسي واستئصال الآخر المخالف في الرأي إلى البحث عن طرائق تفكير راشدة، تكون رؤيتها إعادة بناء الوطن، ورسالتها تأسيس نظام حكم جديد-ملائم لسودان ما بعد الحرب، وأهدافها التوافق على وضع نظام ديمقراطي تعددي يسع الجميع باختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، ويكون محروساً بمنظومة عسكرية وأمنية واحدة، تتبلور وظائفها الأساسية في احتكار وسائل العنف الشرعي في المجتمع، والحفاظ على سيادة الدستور والقانون، وصون الأمن القومي، وحماية حدود البلاد السياسية.
***
(5)
نماذج من منشورات السيد البشرى
1. The Khartoum Conurbation: An Economic and Social Analysis: Unpublished Ph.D. Thesis, University of London, 1970.
2. “The Development of Industry in Great Khartoum, Sudan, The East African Geographical Review 10, 1972, pp. 27-50.
3. “Some Demographic Indicators for Khartoum Conurbation, Sudan, Middle Eastern Studies 15, 3, 1979, pp. 295-309.
4. “Development Planning in the Sudan, Erdkunde 39, 1985, 55-59.
5. “The Impact of Great Khartoum on the Rest of Sudan”, in: Abu Sin, M.E; Davies, H.R.J. (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Development and Change, Khartoum: Khartoum University Press, 1991.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: مدینة الخرطوم إعادة تخطیط ألف نسمة أم درمان
إقرأ أيضاً:
مع مكي في اربعينيته وتبقى الذكرى
مع مكي في اربعينيته وتبقى الذكرىطائرة Alitalia حتى اورلي فبراير 1966
كنت أعرفه على البعد وذلك رغم أنه من اقربائي .. خالي متزوج من شقيقته.. ولا انسى عندما قالت لي والدتي زهراء الفحيل طيب الله ثراها " امشوا يا اولاد عيدوا على مرة خالكم ".. كان عيد الفطر ( رمضان) قد هل علينا في الأبيض وذهبنا الى ذلك المنزل قرب قبة شيخنا اسماعيل الولي فأعجبنا بكل ما فيه من نظافة وأناقة مع كعك العيد وحلوياته .. وآمنه الشقيقة الكبرى لمكي كانت من المعلمات الراقيات .. لها الرحمه والمغفره ..
كنت قد ذكرت في كتابي الذي صدر قبل عشرة أعوام (2014) انني وفي نحو التاسعة من عمري رافقت عمي عيسى احمد عيسى له الرحمه والمغفره مشيا على الأقدام من بيوتنا في فريق ( حي) القبه غرب ( سوق ود عكيفه) حتى السوق الكبير وهو يطرق الأبواب واحدا وراء الآخر .. واحيانا ينادي بصوته الجهور فوق الحيطان معلماً الجميع ان ود ابراهيم على جاء الأول ( على الممتحنين للشهادة الوسطى على مستوى الإقليم (كردفان) فتزغرد الامهات والحبوبات ويهلل الرجال .. هكذا رحب أهلنا في العام 1951 بنبوغ وتفوق ابن اخيهم ابراهيم على وهو تفوق استمر حتى التحاقه بعد ذلك بأربعة أعوام أي (1955) بمدرسة خورطقت الثانوية التي كانت الثالثة في البلاد مع وادي سيدنا وحنتوب و بالمجان للمتفوقين من أبناء السودان مهما كان اللون أو العرق .. شبههم كاتبنا العالمي الطيب صالح بمدرسة ايتون البريطانية لأولاد الملوك والأثرياء قرب قلعة ويندزر غرب مدينة لندن ..
وعندما لحقت به هناك عام 1957 لم اتعرف عليه بسبب انني كنت احد ضحايا ابعاد اولاد مدينة الأبيض بقرار ظالم من وزير المعارف ( التربية والتعليم بلغة اليوم) زيادة ارباب وأصبحت من أبناء الخارجية Day Boy اذهب صباحاً للمدرسه واعود لمنزلنا ظهراً فلا اجد فرصه لمعرفة حتى زملائي .. واعتقد ان محمد المكي قد فلت من هذا الابعاد بحكم انه كان سينور ٍSenior والله اعلم .. وكم وددت أن أساله ..
ثم لحقت به في جامعة الخرطوم منتصف العام 1961 .. ولكن لم اجده..كان مكي ( ونقول مكي او محمد المكي) قد غادر السودان بقرار شخصي جرئ الى ألمانيا الغربية رفقة زميله وصديقه النور عثمان ابكر لمدة عام كامل اكتسب فيها تجربة ثرة في العمل والتعلم .. واضاف لغة جديدة إلى جانب حصيلته الراقية من العربية والانجليزية وذلك من خلال عمله اليدوي المتنوع في الخدمات..
وعندما عاد لمواصلة الدراسة بجامعة الخرطوم كانت كلية القانون التي ينتمي إليها قد مددت الدراسة لسنة خامسة أي حتى أبريل 1965.. وخلالها انفجرت ثورة أكتوبر 1964 ( ونحتفل اليوم بالذكرى الستين (60 ) لها قد نجحت في ازالة الحكم العسكري الأول .. وفي العطلة الشتوية القصيرة التي أعقبت ذلك التقينا في الأبيض واحتفلنا مع مدينتنا بعودة الحرية والديمقراطية بعد ست سنوات عجاف .. اذكر في هذا الصدد اننا كنا نتصفح جريدة كردفان نصف الأسبوعية ( التي كانت تصدر في الأبيض صباح كل جمعة ومساء كل اثنين ) وهي صحيفة محبوبه جداً وتغطي اخبار كل من كردفان ودارفور فقرأنا برقية احتجاج أرسلها اهالي مدينة زالنجي يحتجون فيها ضد قرار حكومة الثورة في الخرطوم بإرسال قادة حكومة عبود الى سجن زالنجي دون غيره .. وكانت البرقية لا تخلو من طرافة في صياغتها .. واذكر اننا كنا في نادي المعلمين مساء ذلك الاثنين من ديسمبر وكان مكي يضحك لما جاء في البرقية إن سكان زالنجي خرجوا في موكب ضخم حتى المطار عندما هبطت الطائرة التي أتت بكل القيادة ( ماعادا عبود نفسه ) وانهم هتفوا ضدهم وضد مجيئهم كما إنهم تظاهروا وساروا حتى - كما قالوا - " واريناهم السجن " وكان التعبير غريباً بل ولطيفاً حتى ان مكي احتفظ به فترة من الزمن ..
بعد التخرج مباشرة ذهب كل منا في طريقه .. التحق مكي بالمحاماة مع نشاطه الثقافي الواسع بينما انضممت انا لوزارة الخارجية في سبتمبر ولكن عندما فتحت الوزارة الباب لمزيد من الدبلوماسيين نهاية نفس السنة (1965) جاء مكي وانضم الينا مع ثمانية عشر آخرين وبعد اقل من اسبوعين كان مكي وزميله وزميلنا كلنا ابن مدينة النهود يوسف مختار مع ثلاثتنا - طه ابوالقاسم وهاشم التني وانا فاروق عبدالرحمن على متن الطائرة الايطالية - اليطاليا ALITALIA التي اخذتنا من مطار الخرطوم الى باريس مروراً بروما لنبدأ فترة هامة من حياتنا وصداقتنا .. لم يعترض احد ان الاربعة منا جئنا من كردفان وخور طقت وحتى اخينا الشايقي القح طه ابوالقاسم كان قد درس بخور طقت وعمل في دارفور ويعتز كثيرا بذلك ادعوا له بالرحمه ..
فور تكوين حكومة الإنقاذ حسن الترابي / عمر البشير الأولى مطلع شهر يوليو 1989 واختيارهم علي سحلول وزيراً للخارجية في اليوم التاسع بدأنا نتوقع بعض المفاجئات لأنه خلال فترة توليه وكالة الوزارة بعد ان تركتها انا في يوليو 1987 و اكملت بها عامين - ذهبت سفيرا لدى بلجيكا والسوق الأوروبية (التي كانت تعرف عامه بهذا الوصف) مارس سحلول كثيراً من المضايقات على عدد منا خاصة زميلى وجاري الفكي عبد الله الفكي السفير آنذاك في هولندا .. ولكن ما ان صار وزيراً وبعد زيارة له مع البشير لأديس أبابا لحضور القمة الافريقية ( بعد اربعة اسابيع فقط من الانقلاب المشئوم في 1989/6/30 الا وأصدر أول قائمة بالمطرودين ولا اقول للصالح العام كما يقول الكيزان الكذابون وإنما للضرر العام كان على رأسهم صديقى وزميلى - اطال الله في عمره - إبراهيم طه أيوب وزير خارجية الانتفاضة 1985 والسفير وقتها في روما / ايطاليا وشملت القائمة القصيرة الاخوة عمر الشيخ / نيروبي وأحمد دياب بوخارست ومحمد حمد مطر بكين وعبد المجيد على حسن جنيف والفكي عبد الله لاهاي محمد عثمان بابكر انجمينا والطيب احمد نصر القاهره وفاروق عبد الرحمن بروكسل احمد محمد الأمين الجزائر حمد النيل احمد محمد ابوظبي بالإضافة إلى مصطفى مدني وسيد شريف واحمد بدري بالرئاسة في الخرطوم ..
كانت المفاجأة الأكبر أن القائمة لم تشمل اخرين ك محمد المكي ابراهيم او يوسف مختار او عثمان نافع وحيث ان الاثنين الآخيرين كانا في أديس أبابا يحيطان بعمر البشير الذي يكاد لا يفقه قولا في أول مؤتمر دولي له ( ولا الومه فهذا ليس من شأنه) ويجلس خلفه علي سحلول فان الحسنه التي يمكن ان تنسب للبشير عندما قدمت له قائمة من خمسة اسماء ليوقع عليها بالطرد من الخدمة شملت الزميلين اللذين كانا يجلسان على يمينه وشماله في ذلك الاجتماع الاديس ابابي .. أما الثلاثة الباقين في القائمة مطر وعبد المجيد وفاروق فليذهبوا غير محزون عليهم .. وبالفعل غادرنا مواقعنا واخلينا البيوت وقطعوا عنا الهاتف ولكن سحلول اعطاني شيئاً اضافياً هو طردي من السكن الحكومي بعد شهر واحد فقط في حين أنه منح الاخرين ثلاثة أشهر ولم احتج فكان ان غادرت المكان في منتصف سبتمبر 1989 الى القاهرة حيث التقيت محمد المكي فكان من اوائل من مدوا لي يد العون ولكنه كان يتساءل لماذا لم يطردوه هو ايضاً..
بالعودة الى ايامنا الباريسيه الرائعه وقد استفدنا كثيراً من محمد المكي وروحه المرحه ولطفه وكرمه كنت انا المتلقي والمستفيد الأكبر ومحمد المكي رجل متواضع وحقاني .. رافقته بصفة خاصة في اكتشاف كنوز هذه المدينة من المسارح والمتاحف والمعارض ولذا فإنني أتذكر دائماً البداية لأننا ذهبنا سوياً لمسرحية المغنية الصلعاء La Cantatrice Chauve التي لا زالت حتى اليوم في عرض متواصل يقارب السبعين سنة في مسرح صغير في الحي اللاتيني ( حي الجامعات والمكتبات ) بين أزقة ضيقة قرب كنيسة نوتردام ثم بعد ذلك العديد من العروض الأوبرالية والمتاحف منها معرض توت عنخ امون الطفل الملك الذي خرج لأول مرة من مصر ثم معرض بيكاسو في القصر الكبير .. هنا فهمنا لأول مرة لماذا كان بعض ذوي السحنة السوداء يعاملوننا معاملة خاصة .. ففي يوم شتوي بارد والثلج يتساقط على الرؤوس ونحن نزحف مع مئات الناس حول القصر الكبير وسط باريس في آخر يوم لمعرض بيكاسو يأتينا من حرس المتحف من ينتقينا - مكي وانا - ويذهب بنا حتى البوابه وعندما اردنا ان نشتري تذاكر الدخول للمعرض أتانا بتذاكر مستعمله وقال لنا لاتدفعوا شيئاً !! وعندما سألنا - بعد- الجولة - من أي جزيرة أنتما قلنا له نحن لسنا من اي جزيره بل نحن من بلد شاسع واسع هو السودان .. قال الرجل لكنكم تشبهوننا ولذلك علينا ان نتضامن .. وبالفعل كنا قد لاحظنا أكثر من مرة أن مراقبي بوابات محطات قطار الأنفاق واغلبهم من النساء كبيرات السن إذ لم تكن قد ظهرت المعدات الإلكترونية - كن لايختمن تذاكرنا ما يمكننا من استعمالها عدة مرات .. اتضح لنا بالفعل ان أولئك الناس القادمين من جزر الكاريبي الناطقة بالفرنسية (هايتي و المارتينيك وقوادلوب) لهم موقف مختلف عن بقية الأفارقة العديدين في فرنسا .
كنا في هذه الفترة قد سكنا في ضاحية باريسية اسمها نانتير نسافر إليها بقطار صغير بها مدينة جامعية كانت تحت التشييد,, اربعتنا حصل كل واحد على غرفة جديدة مريحة .. بينما تمكن هاشم من السكن في المدينة الجامعية الأقرب لباريس والأكثر شهرة وجاذبية ..
ولم يكن في باريس آنذاك أي طالب سوداني سوى منصور خالد الذي كان يعد نفسه للحصول على الدكتوراة وقد حدث ذلك بالفعل من جامعة السوربون بعد ثلاثة أشهر من مجيئنا كما لم تكن هناك جالية سودانية ..
كنا في نانتير نعاني الأمرين خاصة عندما اندلعت حرب حزيران (يونيو) 1967 فالمنطقه من ناحية تمثل الحزام الأحمر (للحزب الشيوعي) الذي كان وقتها يحوز على أكثر من ¼ ربع الدوائر الانتخابية في البرلمان الفرنسي ومن ناحية أخري يسكن آلاف الجزائريين المغادرين لبلدهم بعد استقلالها عام 1962 المتعاونين مع فرنسا والمعروفين باسم الحركيين وكثير منهم حاقد على وضعه .. حيث أننا كما يقول هؤلاء الاخوة نتكلم بلهجة مصرية فقد أصبحنا بعد هزيمة مصر في حرب 1967 في مرمى النيران في حين اننا كنا اكثر المغبونين .. كان محمد المكي في أكثر من مرة يصرخ في وجه هؤلاء بانه ليس مصرياً وانه متألم من الهزيمة المصريه اكثر من أهلها ثم ينشدهم بيوتا من الشعر فيتراجعون معتذرين عن تجاوزاتهم ..ولا ننسى ان وضعنا لم يكن مريحاً اذا تذكرنا ان كثيراً من الجزائريين في تلك المنطقة كانوا حاقدين على الافارقه - أمثالنا لأنهم حاربوا لجانب فرنسا في حرب استقلال الجزائر بينما كان الجزائريون موجوعين من هزيمة مصر في حرب 1967 واعتبرونا بحكم تقارب لهجتنا مع اللهجة المصرية ( وهي ليس كذلك بالطبع ) إننا مصريون .. لا انسى في هذا الصدد ان ذهبنا مع الأخ يوسف مختار مع احد الاخوه الجزائريين المتحدثين بالعربية - وهم أقلية اسمه أبوبكر - لحفل زواج جزائري فيه مغنين وراقصات باللغات العربية والأمازيغية وما ان استقرينا في مجلسنا الا اقتحمت فرقة من البوليس الفرنسي الشرس المكان وهي تصرخ في وجه الجميع بالخروج الفوري Tous Le Monde dehors فكان ان آثرنا السلامه ورجعنا الى سكننا الداخلي وعندما التقينا هذا لأبي بكر اليوم التالي وسألناه عما حدث قال انه لم يحدث شيء لانهم بعد ان خفضوا ميكروفون الصوت وكان بالفعل عالياً والوقت يقارب منتصف الليل في حي سكني وأنهم قدموا رشوة للفرقه الشرطية وهكذا يتم التعامل بين الخصماء ..
عدنا للسودان في مطلع العام 1968وفوراً وجدنا أنفسنا - بقدرة قادر مترجمين الفرنسية وإليها وهكذا توزعنا داخل الوزارة بين الإدارات الافريقية ( يوسف مختار ) والقانونية ( مكي) بينما ذهبت انا لإدارة المراسم .. أما طه فقد نقل بعد وقت قصير الى بانقي ( جمهورية أفريقيا الوسطى) وشارك قبل ذلك في عملية إجلاء المرتزقة البيض من رواندا والكونغو .. وخامسنا هاشم الثني وجد بسرعه طريقه إلى باريس كسكرتير ثالث بالسفارة ( ولم يبق بها كثيراً فتم استبداله بيوسف ..
المسألة لم تكن سهلة لان فترة دراستنا في باريس كانت جد قصيرة .. من جانب آخر كان السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة الذي كنا نرافقه او نحضر معه كثيراً اللقاءات لضيوف وزوار متحدثين بالفرنسية كان يأتينا بأعاجيب من التعابير غير القابلة للترجمة ( مثل قوله أن الاستقلال كان زي صحن الصيني لا شق ولا طق) .. وعندما أتى رئيس جمهورية النيجر ديوري هاماني في يوليو 1968 كان علي ان اعتلي معه والرئيس أزهري منصة في مكان مكشوف في مطار الخرطوم في يوم قائظ وشمس حارقة لاترجم على الهواء مباشرة ومن مكبر صوت وانا اقف ملاصقاً للرئيسين اتصبب عرقاً .. وعندما نزلت كانت اول يد ممدودة بالتهنئة هي يد محمد المكي وقد سعدت بذلك كثيراً ,, وتمر السنون ثم كانت نفس اليد بين الاوائل التي مدت لي العون المادي وانا واسرتي في اشد الحوجة لما يسد الرمق بعد أن حلت علينا كارثة الانقاذ في منتصف 1989 .. قال لي ارجو ان تعتبر هذا المبلغ البسيط ( ولم يكن بسيطاً) ديناً او قرضاً حسناً ترده لي متى استطعت .. كان مكي في إجازة من عمله في زائير ( الكونغو ) وجرى اللقاء في القاهرة التي كنت قد انتقلت إليها بحثاً عن المدارس المناسبة لاولادي ..
أقام مكي مع اخيه احمد ابراهيم وصديقهما ( وصديقى ايضاً) المرحوم عمر محمود ذكي وشخص رابع لا اذكر اسمه كان ايضاً كالثلاثة المذكورين من خريجي كلية القانون بجامعة الخرطوم في منزل قرب الكنيسة في بحري وكان يزورهم بانتظام خريج آخر من نفس الكلية هو عز الدين حسن شقيق زميلنا السفير عصام حسن ويتردد عليهم شاب عرفت انه ايضاً طالب حقوق وله آعجاب خاص بمكي بصفته الادبيه والشعريه هو كمال الجزولي الطالب آنذاك بجامعة أوكرانيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي العظيم ( كما يحلو لأهل اليسار ان يقولوا) .. وكنت أنا المقيم في الخرطوم (بيت الشباب) ازورهم من آن لآخر للدردشه وحضور بعض المناسبات الأدبية والترفيهية التي كانت تذخر بها الخرطوم .. وكان ان ذهبنا مساء يوم من الايام في أوائل نوفمبر 1968 الى قاعة الامتحانات في جامعة الخرطوم لنشهد عرضاً للرقصات الشعبية السودانية ولكن ما ان اعتلت بعض الطالبات المسرح لتقديم الرقصه الفولكلورية الكردفانية العجكو الا وهجم المتأسلمون وطارت الكراسي في الهواء وانفض الشمل بعد سقوط بعض الجرحى .. كم تألم مكي وتألمنا كلنا لهذا الإرهاب الذي انطلق ذلك المساء من نفس القاعة التي شهدت الندوة السياسية المشهورة التي قفزت بزعيمهم القادم آنذاك من جامعة السوربون في ُحلة باريسية فاخره وربطة عنق حريرية ومشبك ذهبي مع منديل على الجيب في الصدر في اوائل اكتوبر 1964 قفزت به الى الصف الاول ونال بها اعلى الأصوات في الانتخابات الحرة التي جرت في يونيو 1965 فصار نائباً منتخباً في برلمان حر الوحيد من نوعه آنذاك في كل أفريقيا وعديد بلاد الشرق الاوسط .. وكم كان حزين مكي ان العجكو هي مننا وإلينا نحن سكان شمال كردفان ..
كنت قد عدت قبل يوم واحد من النيجر رفقة الرئيس اسماعيل الازهري حيث شاهدنا العديد من المناسبات الثقافية والفنية وكثير منها يشابه فنوننا ورقصاتنا في سوداننا العريض . كان مكي قد امضى ثلاثة اشهر في داكار عاصمة السنغال ( سبتمبر / نوفمبر 1967) وهي فترة التدريب العملي في السفارات والقنصليات الفرنسية التي قررتها لنا إدارة المعهد وقد عاد سعيداً جداً بالتجربة .. ويقيني انه وكذلك زميله في الرحلة ( زميلنا كلنا ابن ام روابة هاشم التني - قد ازداد اقتناعاً بالدور الافريقي للسودان وذلك فيما كان قد شرع فيه مع بعض زملائه واصدقائه في رابطة الأدباء والشعراء بمشروعهم المسمى الغابة والصحراء ( يوسف وطه ذهبا لألمانيا بينما كان حظي أن أمضى الثلاثة أشهر في إيطاليا شهراً بالقنصلية العامة في ميلانو العاصمة الاقتصادية لإيطاليا وشهرين في روما العاصمة السياسية ومقر دولة الفاتيكان )
قبل ذلك كان المعهد قد نظم لنا زيارات دراسية لكل من محكمة العدل الدولية في لاهاي هولندا وكم كان مكي متميزاً ومتفوقاً كما ذهبنا الى الكسمبورج ثم منظمات الامم المتحده في جنيف السويسرية ..
قبل هذه الرحلات بقليل انفجرت حرب الخامس من حزيران ( 1967/6/5)التي انهزمت فيها كل من مصر وسوريا والأردن في ستة أيام وحقيقة الأمر أن الضربة الكبرى على الجيش المصري وطيرانه لم تدم أكثر من ست ساعات وليس ستة أيام .. نزلت علينا هذه الهزيمة كالصاعقة على رؤوسنا وقلوبنا .. كان مكي يتطوع لمشاهدة التلفزيون الفرنسي مساء اليوم الأول فقد كانت الصوره الثابته المطبوعة على الصفحة الاولى من جريدة لوموند النهارية غير كافية لاقناعنا بالرغم من المصداقية العالية لهذه الصحيفة الباريسية الراقية .. وفي اليوم الثاني رأينا مئات الجنود المصريين حفاة في صحراء سيناء يموتون من العطش تحت شمس شهر يونيو الحارقة وقد صادر الإسرائيليون احذيتهم وهم يحاولون العودة الى قناة السويس .. .. صور لايمكن ان تنسى ..
بعد عام برئاسة الوزارة في الخرطوم صدر كشف التنقلات على ان يتم التنفيذ في شهر يوليو 69 ولكن قبل أن يحدث ذلك وقع انقلاب جعفر نميري في مايو 1969 وتغيرت الاشياء فكان ان تقرر قفل بعض السفارات وفتح غيرها حسب التوجه الجديد لحكومة نميري من بينها فتح سفارات جديدة في شرق أوروبا وقفل أخرى في غربها .. وهكذا وجد محمد المكي نفسه منقولاً لبراغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا بينما تغير نقلي انا من بروكسل الى كينشاسا ( من بلجيكا إلى الكونغو البلجيكي) وذهب كل منا إلى موقعه الجديد .. بينما سبقنا زميلنا يوسف مختار عائداً إلى باريس ( وصدف ان كان عقد زواجه يوم انقلاب نميري في 25/مايو69) بدلا عن هاشم التني الذي وجد طريقه لوزارة الشباب الجديدة التي تولاها لأول مرة منصور خالد القادم من اليونسكو أما زميلنا الآخر طه ابو القاسم فكان قد ذهب واستقر في بانقي عاصمة افريقيا الوسطى..
براغ الأولى( وهناك براغ ثايه سنأتي إليها بعد قليل ) لعبت دوراً كبيراً في حياة مكي .. فهناك التقى مكي بشريكة حياته ويالها من سعادة .. هي سمية ابراهيم الياس ابنة أخت السفير مصطفى مدني ابشر وقد ذهبت للدراسة الجامعية فكانت من نصيب مكي الذي اقترن بها في منتصف عام 1971.. كنت من موقعي الجديد في الكونغو اتبادل معه الرسائل فاحكي له عما سميته الموسيقى "الآسنة" في ذلك الجو الخانق شديد الرطوبة فيحكي لي بدوره عن التشيك وجفافهم بسبب السياسة الشيوعية المتصلبة والرقابة الأمنية الصارمة.. وعندما حدثته عن فيلم الاعتراف المعروض في كينشاسا ببطولة الشيوعي الفرنسي الشهير إيف مونتان L'Aveu قال لي مكي أنه سينتهز اول فرصة له خارج المعسكر الشيوعي ليشاهد هذا الفيلم الذي يحكي سيطرة الشيوعيين وممارساتهم القمعية في تشيكوسلوفاكيا.. حتى على زملائهم كوزير الخارجية ارتور لوندون شخصية الفيلم الأساسية ,,
إجازتي الأولى جاءت بعد انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 وهو تقريباً نفس موعد زواج مكي وسمية في الخرطوم ولذلك ما ان وصلت إلى هناك سارعت لتهنئتهما في منزل والد العروس في الخرطوم بحري .. واذكر ان مكي حكى لي أنه قبل رجوع نميري للسلطة بيوم او يومين ( في 1971/7/22) ان الميدان المجاور لمنزل صهره السيد ابراهيم الياس قد امتلاْ بالاعلام الحمراء ..
بعد انقلاب هاشم العطا توترت العلاقات بين البلدين وتم سحب السفير مصطفى مدني - واعتقد - ولست متأكداً فانا اكتب من الذاكرة - تم نقل مكي لنيويورك لفترة قصيرة .. بعدها ذهب الى العاصمة السويدية ستوكهولم في سفارة جديدة هي الأولى من نوعها فكانت من مبادرات وزير الخارجية الجديد منصور خالد وضمت اول سفير جنوبي هو فرانسيس دينق كما ضمت او دبلوماسية سودانية هي اسماء محمد عبد الله ( التي صارت وزيرة للخارجية في حكومة الانتفاضة مع د.. عبد الله حمدوك ) وبالرغم من ان مكي كان بدرجة سكرتير أول إلا أنه كان واسطة العقد بحق وحقيقة فهو اصلاً قريب من فرانسيس دينق بحكم الدراسة سوياً منذ خور طقت الثانوية وكلية القانون في جامعة الخرطوم ..
ساعدتني الظروف الحسنة في أوائل السبعينات ان زرتهم في يوليو في عام 1973 بعد جولة خاصة أخذتني من الخرطوم الى مهرجان الشباب في برلين الشرقية ( الشيوعية ) ثم موسكو فأمضيت في ضيافتهم اياماً جميلة .. وتعرفت عندهم على صهره أسامة الياس المقيم معنا حالياً في لندن والتقية من حين لآخر ..
بعد المجموعة الأولى من المطرودين ( في أغسطس 1989) جاءت الدفعة الثانية في نوفمبر بثلاثة أضعاف العدد الأول .. من الكبار والصغار والنساء ايضاً و لكنها لم تضم محمد المكي .. ودار السؤال لماذا .. كان هو وقتها سفيراً لدى باكستان وبعد البحث جاءنا ما يفيد ان زعيم الانقلابيين - الذي كان استاذاً ثم عميداً للكلية التي درس بها مكي قد وضعه نصب عينيه وعندما نشر مكي في تلك الأيام مقالا كان هو الأول باللغة العربية في كل البلدان الناطقة بها عن كتاب سلمان رشدي ( آيات شيطانيه Satanic Verses) مما لفت اليه كما سمعنا نظر الترابي واستحسانه وتقرر الابقاء عليه في الوزارة ثم نقله الى مجلس الشعب البرلمان كعضو ملحق بمكتب الرئيس..
في يوليو 2009 زارنا مكي في لندن واشترك معنا في ندوة محضوره استضافتها منظمة مواطن التى تتخذ من كيمبرج مقراً لها وكان لي شرف إدارتها بينما كان المتحدث الأول فيها زميلنا إبراهيم طه أيوب الذي فتح النيران كلها على الإنقاذ وذلك في وقت كانت لازالت تسيطر فيه على الشأن السوداني بقبضة من حديد فكان ان قرأ مكي علينا - وبطلب متكرر من الحضور الكثيف كثيراً من أشعاره الثورية المعروفة والمتجدده .. بينما جلس ضمن الحضور (وفي ادب) زميل دراسته وشريكه في الريادة المدرسية د علي الحاج محمد ولم ينبس ببنت شفة وكان بجانبه جبريل إبراهيم وزير مالية النظام الحالي -
إقامته الطويلة بالولايات المتحدة وعدم حصولنا على تأشيرة دخول حرمنا من فرصة زيارة مكي وسمية واولادهما في كلفورنيا او بنسلفانيا كما كنا نرغب بينما كنا في الماضي ندخل هذه البلاد بدون قيود .. أما مكي نفسه فقد عانى من عدم تجديد جوازه السوداني في أمريكا وقد كتب مقالاً بذلك عنونه ( الخضر ام الخدر).
بعد ان قامت الانقاذ في نوفمبر 1989 بطرد الدفعة الثانية من الدبلوماسيين ( وكانوا نحو 50 من كل الدرجات ) مارست ثانية عملية الانتقاء فكان ان طردت زميلنا السفير آنذاك في العاصمة الفرنسية الطيب حميدة في ديسمبر 1989 ثم سيد احمد الحردلو السفير في صنعاء وجاء بعدهما أفراد متنوعون هنا وهناك كاسفير عبد الله محجوب سيد احمد ( بلعو) وسفير عصام حسن المانيا الاتحادية إلا أنه تم الإبقاء على مكي ويوسف و آخرين مثل محمد العباس ابا سعيد ومحمد عبد الدائم بشير وحسن ادم عمر وجلال عتباني..
ذهب مكي بدلاً عن كنشاسا الى المجلس الوطني ( البرلمان) كعضو ملحق بمكتب الرئيس الذي هو ضابط الصف محمد الأمين خليفة والذي أصبح يترأس وفود المفاوضات ويسافر كرئيس وزراء ويطالب حيث ما يذهب بان يلتقي ملوك ورؤساء الدول وهو ما جعله يغضب على زميلنا عبد الله محجوب السفير آنذاك لدى المملكة المغربية لأنه لم يستطع ان ينظم له لقاء مع الملك الحسن الثاني او أن يسكت الطلاب السودانيين الذين واجهوه في لقاء مفتوح في السفارة بطلب منه هو نفسه وعندما صرخوا في وجهه حمل المسئولية لصديقنا عبد الله وكان أن تم فصله في اليوم التالي ما جعله يغادر الولايات المتحدة ولم يرجع منها الا بعد سنوات طوال الى مدينة ود مدني مسقط رأسه و مرقده الأخير ( له الرحمه) ..من هنا توقعنا ان الدور قادم على مكي ..
عند مغادرتي لمنصب الوكيل للوزارة في التاسع من يوليو 1987 وقد اكتسبت تجربة كبيرة وشاقة تخللتها كثير من المنعطفات لعل خير ما يوجز القول فيها هو ما جاني بخطاب بخط اليد من الاخ محمد المكي السفير آنذاك في العاصمة التشيكية براغ ( سمعت أنك ذاهب في إجازة تعود بعدها سفيراً وهو وداع لمنصب الوكيل إذن لو صحت تلك الأقاويل .. وفي كل الأحوال اهنيئك على صبرك الجميل وعلى الانجازات العديدة والمتفرقه التي سمحوا لك بالفراغ منها خلال ذلك الحصار الطويل ..
لم اكن اكتب اليك في الأشهر الماضية لما علمت من انشغالك وما يحاصرك من خطابات وبرقيات وطلبات شخصية وطلبات تحاويل وهلم جر .. وطبعاً سوف تلاحظ من الان فصاعداً ان ذلك الحصار سوف يرتفع وإن بعضاً من الذين كتبوا لك الرسائل الظريفه الضاحكه أو المليئة بالنصائح والإرشادات ستجد انهم تبحروا في الهواء وإن البريد لا يأتي من جهتهم بالجديد .. هذا حال البشر ومن حسن حظك ان الله أجلسك في موقع تستشرق منه هذه البانوراما البشرية وترى ضعف الإنسان أمام مصالحه ودنياه فلا تأسى عليهم ولاتكن في غم مما يصنعون ..
عندما التقيته آخر مرة داخل وزارة الخارجية في أواخر عام 1993 كنت قد جئت من الدوحة عاصمة قطر لارد إليه جميله واسأله عن أحواله فقال لي انه لن ينتظر أكثر من شهر مارس اللاحق.. رغم أنه قد لعب دوراً ايجابياً في قرار رفع حظر التجوال الذي كان سائدا في البلاد من اليوم الأول لانقلاب الانقاذ .. فقد غادر المجلس الوطني بإصرار منه عائداً للوزارة ليجد فيها وجوها دخيلة تمارس التعالي والازدراء حتى على من هم أكبر سناً وأكثر علماً وتجربةً كمحمد المكي .. جاء مارس ولم تتحقق امنيات مكي فاضطر للمغادرة الى مصر ثم الولايات المتحدة والبقاء بها حيث عمل في تدريس اللغة العربية ..
تكريم مدينة الأبيض لمحمد المكي
كان قراراً عظيماً من هذه المدينة لابنها البار وكنت اتابع هذا الخبر من على البعد الا أنه قد ساءني كثيراً أن احمد محمد هارون والي ولاية شمال كردفان صاحب اكسح امسح ما تجيبوا حي ويديه الملطخين بالدماء في اقليمنا العزيز قد اختطف الاحتفال ما جعل الكثيرين من أهل المدينة ينفضون عنه
اللقاء الاخير
في يوم الأربعاء الثاني من يناير 2019 كان اخر يوم أرى فيه محمد المكي .. وكم كان اللقاء جميلاً وممتعاً لقد دعانا مكي الى الغداء في منزل شقيقته حنان وزوجها تاج السر الحبر المحامي الذي أصبح بعد ذلك بأيام قلائل النائب العام في أول حكومة مدنية بعد سقوط حكومة البشير والإنقاذ .. كان من بين الحضور عدد من زملاء المهنة والاصدقاء وابناء الأهل وكم سرني ان كان منهم ثلاثة من ابناء عمي عيسى احمد عيسى عمي ذاك الذي حكيت لكم عنه في بداية مقالي واعتذر عن التطويل فكيف لي ان أمنح مكي قليلاً مما يستحق ان حبست نفسي في أسطر قلائل - فالحاج ( احمد) وبابكر والطيب هم خير من يمثل أسرتنا الكبيرة في التواصل الأهلي ولكن ايضاً في الشأن العام وثلاثتهم والحمد لله حافظين تقريبا لكل اشعار محمد المكي وحكاويه الممتعة..
ونحن نعاني من هذا البعد الجغرافي الذي يحرمنا للاسف من وداع الأحبة بعد أن تشتتنا في بقاع الأرض فإن الطيب عيسى بجانب آخرين من زملاء واصدقاء المرحوم قد كان حاضراً في تشييعه إلى مثواه الأخير في مصر ..
الا رحم الله اخي وصديقي وزميلي محمد المكي ابراهيم وانزل شبائب رحمته عليه وألهم أسرته الصغيرة والكبيرة - السيده سميه ابراهيم الياس وأولادها - وأخيه احمد ابراهيم على وشقيقته حنان
فاروق عبد الرحمن
لندن : 2024/11/9
farhmaneisa@gmail.com