لجريدة عمان:
2024-07-07@01:36:20 GMT

«السرديات الكبرى».. لا تزال تعيد تموضع المفاهيم

تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT

تذهب الفكرة هنا؛ إلى أن «السرديات الكبرى» مثلت الحاضنة المهمة للمعرفة التي وثقت التاريخ في تجلياته المختلفة، واحتضنت كمّا كبيرا من هذه المعرفة التي لا يمكن حصرها في مجلدات، أو أرفف وأدراج مغلقة، وتبدو المسألة أنه حتى الأشرطة الممغنطة؛ التي حلت حديثا في مفهوم التخزين؛ لن تكون قادرة على احتواء ما تضمه هذه السرديات، وذلك لتعاظمها المعرفي من ناحية، ولما تضمه من محتوى الأحداث، لا يمكن بأي حال من الأحوال إحصاؤه، ولو بالأجهزة الحديثة.

ولأن هذه السرديات بهذا الكمّ الهائل من المعلومات، ومن الرصد الدقيق لكل أحداث التاريخ، فإنها تظل مهيمنة على الفكر الإنساني، بحيث لا يستطيع إنسان أي عصر أن يتجاوزها اعتمادا على ما يتوفر له من معلومات حديثة، ولذلك يظل مرتبطا بها ارتباطا موضوعيا، أي بمثابة المرجع الذي لا غنى عنه؛ فالمسألة تتداخل فيها عوامل نفسية أكثر منها موضوعية، صحيح أن حركة التاريخ سريعة، ولا تكاد تستوعب بالصورة الواعية والدقيقة، ولكن ما يستطيع الإنسان أن يخزنه، وأن يوثقه عبر سرديات مختلفة ومتنوعة، يكون بذلك استطاع رصد حركة التاريخ المتسارعة. يقول الكاتب عادل المعولي؛ في كتابه - لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي: «الإنسان ينطلق نفسيا من ذات منطلقات الإنسان التاريخي» -انتهى النص- وهذا ما يؤصل مقولة: «من ليس له ماضٍ؛ ليس له حاضر» فالماضي؛ وفق هذه المعاني كلها، متجذر كمفهوم لا يمكن التخلص منه، ومتجذر كممارسة يسعى إلى تحقيقها كل من يشعر أن هناك ماض غائب عن حاضره الذي يعيشه، ولذلك يعيش الإنسان هذه الصراعات الدموية القاسية على النفس، ليغرس أرجله أكثر في سجل التاريخ، مقتنعا؛ اقتناعا تاما؛ أنه من غير هذا التاريخ، ولو يفرضه على نفسه بالقوة القهرية الصادمة، لن يكون له سجل مدني يمكن أن يعود إليه، ولذلك يحدث ما يسمى بتزوير التاريخ، وباستحداث التاريخ، وبخلق التاريخ -وهذا يوثق عبر سرديات مختلفة- ليقف هذا الإنسان في يوم من الأيام منتشيا بتاريخه الذي توثقه مختلف السرديات. والسؤال المهم هنا أيضا: كيف سيكون الوضع حاليا عندما تحل الآلة الإلكترونية والتي تخزن محتواها عبر أشعة؛ قد تزول بضغطة زر غير مقصودة؟ وهل سيتعرض تسجيل أحداث التاريخ من هذه اللحظة إلى زوال؟

يبدو أن الإنسان محكوم بتاريخه، لا ينفك عنه قيد أنملة؛ حيث تخيم المرجعية التاريخية على كل تصرفاته، وانفعالاته، سواء على المستوى الشخصي، أو المستوى الجمعي، والقضية هنا تتجاوز الجغرافيا، حتى في ظل الثورة العلمية العالية القيمة والقدر، فما يكتسبه الإنسان من معرفة شيء، وما يخيم على ذاكرته من مأثورات تاريخية شيء آخر، وكأن هذا الإنسان لا يزال عند معقل رباطه الأول عندما استوطن الكهوف كأول مرحلة للاختباء، وكأول مرحلة للتوجس والانتظار، وكأول مرحلة للانقضاض، فإنسان اليوم لا يفصله شيء عن إنسان الأمس، هو ذاته يكرر أفعاله، وانفعالاته، وكلما قطع مرحلة من العلم والتطور؛ كما هو ظاهر الأمر؛ فإذا به يتموضع عند النقطة ذاتها التي أعلنت تحرره من رحم الأم؛ حيث الحياة على اتساعها؛ كما بدت له أول الأمر مخيفة، ولذلك هرع إلى حضن أمه لتحميه من هذا المارد الكبير الذي لا يفقهه، وبعد هذا العمر؛ هل استوعب الإنسان اتساع الحياة، ومشروعها الضخم، أم أنه لا يزال أسير تلك المساحة الضيقة التي عاشها في رحم أمه؟ ربما سيعترض أحد ما؛ ويقول: كيف ذلك، والحياة تعيش تقدما مزدهرا وتسجل كل يوم إنجازا غير مسبوق، ومن يقوم بكل ذلك هو هذا الإنسان الذي يوجه دفتها نحو المسارات المختلفة؟ وأتفق تماما مع وجهة النظر هذه؛ ولكن أعود إلى هذا الإنسان الذي راكم من منجزاته عبر مسيرته الشاقة والطويلة في هذه الحياة، ولا يزال يعيش ذلك التوجس من أقرب المقربين إليه؛ فهل هناك من ينكر ذلك؟ المسألة هنا تتجاوز البعد المادي للصورة الماثلة، وتذهب أكثر إلى حقيقة هذا الإنسان الذي لم يستطع التحرر تماما من واقع ذاته المتربصة، والمتحفزة، والتي هي وإن كسبت الكثير من رهانات المنجز المادي، لا تزال تعيش على تموضعها في الإيمان بأن المكتسب المادي المتحقق لن يخرج عن حقيقته التاريخية، وأنه لا يمكن إيجاد فواصل منقطعة بين الكتل التاريخية، لتجد المبرر بأن في مرحلة ما من مراحل التاريخ هناك أناس مختلفون عن مراحل أخرى من ذات التاريخ، والدليل ماثل أمام الجميع، فالقوس والسيف، وشرارة النار التي ابتدأ بها ذلك الإنسان البعيد تاريخيا حياته؛ لا يزال يتمنطقه إنسان اليوم في تاريخه الحديث، إذن؛ ما الذي تحقق؟ نعم؛ اختلفت الوسيلة، فبدلا من القوس والسيف، حلت الدبابة، والطائرة المقاتلة، وبدلا من شرارة النار، حلت القنابل بأنواعها، ومع هذا التطور في الأداة لا يزال الإنسان يحمل تلك النفس المتوثبة إلى الآخر، لا للتصالح معه، بل للانقضاض عليه.

إنسان اليوم هو نفسه إنسان التاريخ الذي تسلسل عبر الزمن، فكل هذه الحمولة الزمنية بكل ثقلها المادي والمعنوي لم تحرك من حقيقة الفكر الذي يحمله الإنسان في ذاته، صحيح أنه يفكر، ويبدع، وينجز، ويتقدم -ماديا- ويحسّن من حياته الملموسة «المباشرة» التي يتقاسمها مع الآخر من حوله، إلا أنه لا يزال يصر على العودة سريعا إلى حيث تموضعه الذي انطلق منه منذ النشأة الأولى لحياته، التي يوسم بها «الحياة الإنسانية»، والسؤال المحير هنا، لماذا لم يستطع الإنسان الانعتاق من هذه السرمدية التاريخية التي لا تعيد كتابته كإنسان جديد، معبرا عن واقعه، وعن أدواته المتقدمة جدا والتي يستعملها لتسهيل كثير من متطلبات حياته؟ فالمنجز الحضاري المكتسب من نتائج الأفعال والأقوال طوال هذه السنين؛ والذي تؤصله السرديات المختلفة، هو؛ بلا شك؛ يشكل مكتسبا من المعارف، والمفاهيم، التي يحاول الإنسان نفسه أن يجد من خلالها حلولا لمشاكله، وطرقا بديلة لمساراته، وتفكيرا متحررا يتجاوز مرحلة التموضع التي يعيشها، ولكن عندما تصل المسألة إلى حوار الذات، وأيهما الأفضل بالنسبة له؛ هل التموضع على ذاته، أو الانفتاح على الآخر بكل ما يتطلبه هذا الانفتاح من استحقاقات؟ تراه يعود سريعا إلى وكر ذاته، ويضرب بكل المكتسب الذي حققه عرض الحائط؛ حيث يتكور على ذاته من جديد، فيعلن الانفصام عن واقعه.

تقاس نجاعة السرديات، ومصداقيتها، وموضوعيتها من خلال الوعي في بعديه الأفقي والرأسي الذي يتميز به كاتب التاريخ، والكاتب هنا؛ ليس شرطا أن يكون متخصصا في شأن كتابة التاريخ، ولكنه يبقى ذلك الراصد لمجريات التاريخ، في كل مناخاته الإنسانية والمادية والمعرفية، فكاتب النص الأدبي معني بذلك كله، وكاتب النص العلمي معني بذلك كله، وكاتب النص التاريخي معني بذلك كله، وكاتب النص الشعري معني بذلك كله، وكاتب النص القصصي معني بذلك كله، سواء تنوعت الكتابة، أو طريقة الرصد، أو محورية الفكرة، فالمهم أن هناك لحظة فارقة في زمن ما من زمن التاريخ، هناك من يرصد، ويضع ما رصده على أرفف التاريخ، وفق التصنيفات التي ورد ذكرها أعلاه، وبهذا المعنى فمراحل نمو التاريخ لن تنتهي مطلقا، وانطلاقا من هذا النمو المتواصل، والترابط، يكون للتاريخ هذا التأثير في وجدان الأمة، حتى وإن حلت بالأمة فترات قاسية ومهينة، فلن تنسى تاريخها، بل بالعكس ترى في العودة إلى تاريخها حماية لها من الذوبان، ومن ثم الإقصاء والتماهي والانحلال؛ حيث المراحل الأخيرة من البقاء، وهذا ما يسجل لأفراد المجتمع وعيهم الدقيق لما يحيط بهم من مخاطر، وهذا حال كل الشعوب على امتداد الجغرافيا، لا توجد أمة على الإطلاق تتنصل من تاريخها، بل بالعكس تجد فيه بقاءها، وكينوناتها، وشخصيتها، وحقيقتها التاريخية، حتى أولئك الذين يعيشون في الأدغال لا يمكن أن ينفصلوا عن وعيهم الأيديولوجي مهما كان الثمن، حتى ولو تمدنوا، وتحرروا من كثير من الشوائب التي كانت تمتزج بحياتهم اليومية في الأدغال، فتجدهم في المدينة بهيئاتهم الجسدية، وبملابسهم المستنفرة، وبلغاتهم المعقدة، وبنظراتهم المتفحصة، وربما بمشاعرهم المتصالحة مع أصولهم ومنابتهم.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الإنسان لا یمکن لا یزال

إقرأ أيضاً:

إنسان العصر المغترب عن ذاته

من الفلاسفة الذين تشدنى كتاباتهم وآراؤهم  جان جاك روسو فيلسوف القرن الثامن عشر الشهير سواء فيما كتبه فى كتابه الشهير عن «العقد الاجتماعى» أو فى بحثه الأشهر «مقال عن الفنون والآداب» الذى كتبه قبل «العقد الاجتماعى» بعشرين عاما، وكم كان ملهما ورائعا حينما قال فى ذلك البحث بلغة فلسفية رائقة وشفافة تكشف عن رؤيته التنويرية المختلفة عن لغة معاصريه من فلاسفة عصر التنوير « انه لمنظر جليل وجميل أن ترى الانسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التى لفته بها الطبيعة، انه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه الى أطباق السماء وينطلق كالشمس بخطوات جبارة عبر الفضاء الشاسع للكون، وأما الامر الذى يبقى هو الأعظم وهو الأصعب فهو أن يعود الى نفسه ليدرس الانسان ويعرف طبيعته وواجباته وغايته»!
انه فى ختام هذا النص البديع يلمح الى اغتراب الانسان عن ذاته رغم التقدم العلمى والصناعى والتكنولوجى الهائل الذى الذى حققه منذ أن خلقه الله على الأرض، وهو يضيف اليه يوما بعد يوم انجازات جبارة جعلته يكاد يطال عنان السماء ويكتشف أسرار الكون الشاسع!، ان نفس الانسان الذى حقق كل هذا التقدم اغترب عن ذاته فى النهاية ولم يعد يعرف حقيقة ذاته وغايتها فى هذا الوجود  وماذا عليه أن يفعل حتى يعود اليها من جديد ؟! وكم كان روسو صادقا فى ذلك وواعيا بأن هذا التقدم التكنولوجى والصناعى الذى يحققه الانسان سيقوده فى النهاية الى أن يخسر ذاته ويغترب عنها! 
وبالفعل ها نحن وبعد أكثر من قرنين من الزمان نعيش عصرا طغت فيه الآلية والمادية على كل شيء ولم يعد ثمة قيمة للإنسان فى ذاته، عصرا مليئا بالتناقضات السافرة ؛ فنحن ندعو للعودة الى الطبيعة بغرض التقليل من الآثار والمخاطر البيئية المدمرة  وفى ذات الوقت نواصل وندعم التقدم الصناعى وخاصة صناعات الأسلحة الفتاكة التى لا أعرف كم الذعر الذى كان سيتملك هذا الفيلسوف الانسان لو أنه سمع عنها !، وندعو الى الحب ونحلم بالرومانسية فى الوقت الذى انكشفت فيه العورات وذاعت العلاقات الجنسية الشائنة ولم يعد للحب قدسية ولم يعد للجسد حرمة ! وشاعت الجنسية المثلية بل وتم تقنينها وأبيح الزواج المثلى ! ويا لغرابة تعدى الانسان على الطبيعة وتكسيره لقوانينها التى يعرفها ويحترمها ويطيعها الحيوان بالغريزة، بينما يتمرد عليها الانسان العاقل بدعوى أنه «حر» وأن الشعور بالحرية أهم من احترام تلك التقاليد الأخلاقية المتخلفة  البالية! وكم كان روسو صادقا أيضا وهو يصف انسان عصره وكأنه أيضا يصف انسان القرن الحادى والعشين حينما قال « ان الصداقة الخالصة، والتقدير الحق، والثقة الكاملة، قد انمحت من نفوس الناس، أما الغيرة والشك والخوف واللامبالاة والتكتم والخداع والكراهية فقد بقيت باستمرار متخفية تحت ذلك اللباس والحجاب الخادع للأدب الذى ندين به الى نور هذا العصر»!، إن روسو ينتقد معاصريه فى ذلك النوع من النفاق الاجتماعى الذى ساد عصره حيث كان يُظهر الناس من القيم النبيلة والخلق الرفيع مالا يؤمنون به  فعلا، انه يتهمهم بالنفاق الاجتماعى  حيث يظهرون عكس ما يبطنون ويقولون غير ما يفعلون! 
لكن مازاد الطين بلة فى عصرنا الحالى أن الناس تجرأوا على القيم والمبادئ العليا لدرجة أنهم أصبحوا يتباهون بعكسها، وكلما ازدادت اخلاق المرء وضاعة وتدنيا كلما كان ذلك مثار الفخار والاعجاب !! لقد انقلب سلم القيم رأسا على عقب ـ ولم يعد هناك اهتمام يذكر من جانب البشر الا بكل ما يزيد من ثرائهم المادى أيا كانت الوسيلة !، الا بكل ما يشبع غرائزهم الحيوانية بصرف النظر عن العاطفة والجمال ! ولا عزاء للحب الصافى والعشق النبيل والإنسانية الحقة ! اننا فى عصر اغترب فيه الانسان عن ذاته وعن انسانيته وتناسى طبيعته الأصيلة! والسؤال هو : هل يمكن أن يكون هناك طريقا للعودة ؟!

مقالات مشابهة

  • حلو الكلام.. مساء الخير يا عم!
  • كاتب في التاريخ: لو أراد الإنسان معرفة حقيقة التاريخ الإسلامي عليه الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
  • تذكار الأعياد السيدية الكبرى الثلاثة.. أحداث بارزة في التاريخ المسيحي
  • مكتب نتانياهو: لا تزال هناك فجوات بشأن وقف إطلاق النار
  • إنسان العصر المغترب عن ذاته
  • إسبانيا تعيد انفصالياً إلى المغرب بعد رفض طلب اللجوء وطائرة العربية ترفض نقله
  • حرية الإنسان بين هداية الرحمن وضلالة الشيطان.. في فهم سر الوجود
  • تفاصيل الاستقبال الأكثر إثارة في التاريخ لكليان مبابي لاعبا لريال مدريد
  • مرحلة تقييم.. وزير الثقافة يكشف لمصراوي حقيقة تغيير بعض القيادات
  • كيف للإنسان أن يشعر بالاستحقاق وتقدير الذات؟