لجريدة عمان:
2024-11-23@01:26:09 GMT

«السرديات الكبرى».. لا تزال تعيد تموضع المفاهيم

تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT

تذهب الفكرة هنا؛ إلى أن «السرديات الكبرى» مثلت الحاضنة المهمة للمعرفة التي وثقت التاريخ في تجلياته المختلفة، واحتضنت كمّا كبيرا من هذه المعرفة التي لا يمكن حصرها في مجلدات، أو أرفف وأدراج مغلقة، وتبدو المسألة أنه حتى الأشرطة الممغنطة؛ التي حلت حديثا في مفهوم التخزين؛ لن تكون قادرة على احتواء ما تضمه هذه السرديات، وذلك لتعاظمها المعرفي من ناحية، ولما تضمه من محتوى الأحداث، لا يمكن بأي حال من الأحوال إحصاؤه، ولو بالأجهزة الحديثة.

ولأن هذه السرديات بهذا الكمّ الهائل من المعلومات، ومن الرصد الدقيق لكل أحداث التاريخ، فإنها تظل مهيمنة على الفكر الإنساني، بحيث لا يستطيع إنسان أي عصر أن يتجاوزها اعتمادا على ما يتوفر له من معلومات حديثة، ولذلك يظل مرتبطا بها ارتباطا موضوعيا، أي بمثابة المرجع الذي لا غنى عنه؛ فالمسألة تتداخل فيها عوامل نفسية أكثر منها موضوعية، صحيح أن حركة التاريخ سريعة، ولا تكاد تستوعب بالصورة الواعية والدقيقة، ولكن ما يستطيع الإنسان أن يخزنه، وأن يوثقه عبر سرديات مختلفة ومتنوعة، يكون بذلك استطاع رصد حركة التاريخ المتسارعة. يقول الكاتب عادل المعولي؛ في كتابه - لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي: «الإنسان ينطلق نفسيا من ذات منطلقات الإنسان التاريخي» -انتهى النص- وهذا ما يؤصل مقولة: «من ليس له ماضٍ؛ ليس له حاضر» فالماضي؛ وفق هذه المعاني كلها، متجذر كمفهوم لا يمكن التخلص منه، ومتجذر كممارسة يسعى إلى تحقيقها كل من يشعر أن هناك ماض غائب عن حاضره الذي يعيشه، ولذلك يعيش الإنسان هذه الصراعات الدموية القاسية على النفس، ليغرس أرجله أكثر في سجل التاريخ، مقتنعا؛ اقتناعا تاما؛ أنه من غير هذا التاريخ، ولو يفرضه على نفسه بالقوة القهرية الصادمة، لن يكون له سجل مدني يمكن أن يعود إليه، ولذلك يحدث ما يسمى بتزوير التاريخ، وباستحداث التاريخ، وبخلق التاريخ -وهذا يوثق عبر سرديات مختلفة- ليقف هذا الإنسان في يوم من الأيام منتشيا بتاريخه الذي توثقه مختلف السرديات. والسؤال المهم هنا أيضا: كيف سيكون الوضع حاليا عندما تحل الآلة الإلكترونية والتي تخزن محتواها عبر أشعة؛ قد تزول بضغطة زر غير مقصودة؟ وهل سيتعرض تسجيل أحداث التاريخ من هذه اللحظة إلى زوال؟

يبدو أن الإنسان محكوم بتاريخه، لا ينفك عنه قيد أنملة؛ حيث تخيم المرجعية التاريخية على كل تصرفاته، وانفعالاته، سواء على المستوى الشخصي، أو المستوى الجمعي، والقضية هنا تتجاوز الجغرافيا، حتى في ظل الثورة العلمية العالية القيمة والقدر، فما يكتسبه الإنسان من معرفة شيء، وما يخيم على ذاكرته من مأثورات تاريخية شيء آخر، وكأن هذا الإنسان لا يزال عند معقل رباطه الأول عندما استوطن الكهوف كأول مرحلة للاختباء، وكأول مرحلة للتوجس والانتظار، وكأول مرحلة للانقضاض، فإنسان اليوم لا يفصله شيء عن إنسان الأمس، هو ذاته يكرر أفعاله، وانفعالاته، وكلما قطع مرحلة من العلم والتطور؛ كما هو ظاهر الأمر؛ فإذا به يتموضع عند النقطة ذاتها التي أعلنت تحرره من رحم الأم؛ حيث الحياة على اتساعها؛ كما بدت له أول الأمر مخيفة، ولذلك هرع إلى حضن أمه لتحميه من هذا المارد الكبير الذي لا يفقهه، وبعد هذا العمر؛ هل استوعب الإنسان اتساع الحياة، ومشروعها الضخم، أم أنه لا يزال أسير تلك المساحة الضيقة التي عاشها في رحم أمه؟ ربما سيعترض أحد ما؛ ويقول: كيف ذلك، والحياة تعيش تقدما مزدهرا وتسجل كل يوم إنجازا غير مسبوق، ومن يقوم بكل ذلك هو هذا الإنسان الذي يوجه دفتها نحو المسارات المختلفة؟ وأتفق تماما مع وجهة النظر هذه؛ ولكن أعود إلى هذا الإنسان الذي راكم من منجزاته عبر مسيرته الشاقة والطويلة في هذه الحياة، ولا يزال يعيش ذلك التوجس من أقرب المقربين إليه؛ فهل هناك من ينكر ذلك؟ المسألة هنا تتجاوز البعد المادي للصورة الماثلة، وتذهب أكثر إلى حقيقة هذا الإنسان الذي لم يستطع التحرر تماما من واقع ذاته المتربصة، والمتحفزة، والتي هي وإن كسبت الكثير من رهانات المنجز المادي، لا تزال تعيش على تموضعها في الإيمان بأن المكتسب المادي المتحقق لن يخرج عن حقيقته التاريخية، وأنه لا يمكن إيجاد فواصل منقطعة بين الكتل التاريخية، لتجد المبرر بأن في مرحلة ما من مراحل التاريخ هناك أناس مختلفون عن مراحل أخرى من ذات التاريخ، والدليل ماثل أمام الجميع، فالقوس والسيف، وشرارة النار التي ابتدأ بها ذلك الإنسان البعيد تاريخيا حياته؛ لا يزال يتمنطقه إنسان اليوم في تاريخه الحديث، إذن؛ ما الذي تحقق؟ نعم؛ اختلفت الوسيلة، فبدلا من القوس والسيف، حلت الدبابة، والطائرة المقاتلة، وبدلا من شرارة النار، حلت القنابل بأنواعها، ومع هذا التطور في الأداة لا يزال الإنسان يحمل تلك النفس المتوثبة إلى الآخر، لا للتصالح معه، بل للانقضاض عليه.

إنسان اليوم هو نفسه إنسان التاريخ الذي تسلسل عبر الزمن، فكل هذه الحمولة الزمنية بكل ثقلها المادي والمعنوي لم تحرك من حقيقة الفكر الذي يحمله الإنسان في ذاته، صحيح أنه يفكر، ويبدع، وينجز، ويتقدم -ماديا- ويحسّن من حياته الملموسة «المباشرة» التي يتقاسمها مع الآخر من حوله، إلا أنه لا يزال يصر على العودة سريعا إلى حيث تموضعه الذي انطلق منه منذ النشأة الأولى لحياته، التي يوسم بها «الحياة الإنسانية»، والسؤال المحير هنا، لماذا لم يستطع الإنسان الانعتاق من هذه السرمدية التاريخية التي لا تعيد كتابته كإنسان جديد، معبرا عن واقعه، وعن أدواته المتقدمة جدا والتي يستعملها لتسهيل كثير من متطلبات حياته؟ فالمنجز الحضاري المكتسب من نتائج الأفعال والأقوال طوال هذه السنين؛ والذي تؤصله السرديات المختلفة، هو؛ بلا شك؛ يشكل مكتسبا من المعارف، والمفاهيم، التي يحاول الإنسان نفسه أن يجد من خلالها حلولا لمشاكله، وطرقا بديلة لمساراته، وتفكيرا متحررا يتجاوز مرحلة التموضع التي يعيشها، ولكن عندما تصل المسألة إلى حوار الذات، وأيهما الأفضل بالنسبة له؛ هل التموضع على ذاته، أو الانفتاح على الآخر بكل ما يتطلبه هذا الانفتاح من استحقاقات؟ تراه يعود سريعا إلى وكر ذاته، ويضرب بكل المكتسب الذي حققه عرض الحائط؛ حيث يتكور على ذاته من جديد، فيعلن الانفصام عن واقعه.

تقاس نجاعة السرديات، ومصداقيتها، وموضوعيتها من خلال الوعي في بعديه الأفقي والرأسي الذي يتميز به كاتب التاريخ، والكاتب هنا؛ ليس شرطا أن يكون متخصصا في شأن كتابة التاريخ، ولكنه يبقى ذلك الراصد لمجريات التاريخ، في كل مناخاته الإنسانية والمادية والمعرفية، فكاتب النص الأدبي معني بذلك كله، وكاتب النص العلمي معني بذلك كله، وكاتب النص التاريخي معني بذلك كله، وكاتب النص الشعري معني بذلك كله، وكاتب النص القصصي معني بذلك كله، سواء تنوعت الكتابة، أو طريقة الرصد، أو محورية الفكرة، فالمهم أن هناك لحظة فارقة في زمن ما من زمن التاريخ، هناك من يرصد، ويضع ما رصده على أرفف التاريخ، وفق التصنيفات التي ورد ذكرها أعلاه، وبهذا المعنى فمراحل نمو التاريخ لن تنتهي مطلقا، وانطلاقا من هذا النمو المتواصل، والترابط، يكون للتاريخ هذا التأثير في وجدان الأمة، حتى وإن حلت بالأمة فترات قاسية ومهينة، فلن تنسى تاريخها، بل بالعكس ترى في العودة إلى تاريخها حماية لها من الذوبان، ومن ثم الإقصاء والتماهي والانحلال؛ حيث المراحل الأخيرة من البقاء، وهذا ما يسجل لأفراد المجتمع وعيهم الدقيق لما يحيط بهم من مخاطر، وهذا حال كل الشعوب على امتداد الجغرافيا، لا توجد أمة على الإطلاق تتنصل من تاريخها، بل بالعكس تجد فيه بقاءها، وكينوناتها، وشخصيتها، وحقيقتها التاريخية، حتى أولئك الذين يعيشون في الأدغال لا يمكن أن ينفصلوا عن وعيهم الأيديولوجي مهما كان الثمن، حتى ولو تمدنوا، وتحرروا من كثير من الشوائب التي كانت تمتزج بحياتهم اليومية في الأدغال، فتجدهم في المدينة بهيئاتهم الجسدية، وبملابسهم المستنفرة، وبلغاتهم المعقدة، وبنظراتهم المتفحصة، وربما بمشاعرهم المتصالحة مع أصولهم ومنابتهم.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الإنسان لا یمکن لا یزال

إقرأ أيضاً:

«الخارجية الألمانية»: سفارتنا في كييف لا تزال مفتوحة بشكل محدود

قالت وزارة الخارجية الألمانية: «سفارتنا في كييف لا تزال مفتوحة بشكل محدود»، حسبما أفادت قناة «القاهرة الإخبارية»، في نبأ عاجل لها منذ قليل.

مقالات مشابهة

  • فلسطين تعرّي المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي
  • استجابة لمستقبل وطن.. "البترول" تعيد تقسيط الغاز الطبيعي للمنازل
  • الأسلحة الكهرومغناطيسية.. أسلحة قد تعيد البشرية قرونا إلى الوراء
  • عاجل| البترول تعيد أنظمة تقسيط توصيل الغاز الطبيعي للمنازل من جديد بعد الغائها
  • ندوة توعوية عن «تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى أبنائنا الطلاب» بالتعاون مع الإفتاء بطنطا
  • «الخارجية الألمانية»: سفارتنا في كييف لا تزال مفتوحة بشكل محدود
  • قائد عسكري: تموضع اللواءين المشتركين للبيشمركة والجيش بمناطق النزاع
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. ابن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. hبن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
  • الرجل الذي اشترى كل شيء.. بن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي