طوفان القدس يفرض واقعا جديدا
تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT
يوم الأربعاء 6 أغسطس 2014، نشرتُ مقالًا في جريدة «الرؤية» العمانية، بعد المعركة التي خاضتها حركة حماس مع الكيان الصهيوني في ذلك العام، تحت عنوان «حماس.. بين النصر والهزيمة». ومن المفارقات أنّ ما جاء في المقال كأنه يتحدّث عن معركة «طوفان القدس» الحالية، وعن بعض التساؤلات التي لا يزال يطرحها البعض عمّا حققته حركة حماس، ويرون أنّ النتيجة كانت باهظة الثمن.
حقيقة ينتابني العجب ممّن يتساءل عن النتائج التي حققتها حركة حماس في هذه المعركة ويحاولون التقليل من الإنجاز الكبير التي تحقق؛ فما حصل لم يحصل منذ لحظة إعلان الكيان الإسرائيلي عام 1948، لا في مستوى قوة الهجوم، ولا في عدد الخسائر البشرية والعسكرية والمادية التي لحقت بالعدو، فلا تقاس عوامل النصر والهزيمة بعدد القتلى أو بحجم الدمار الذي لحق بالفلسطينيين؛ وإنما تقاس بمدى النجاح في كسر إرادة الخصم، هذا إذا أخذنا في الاعتبار الحصار المفروض على غزة من سبع عشرة سنة، مع الفارق الكبير بين الطرفين في الإمكانيات والقدرات وغير ذلك.
في عام 2014، رأى كثيرون أنّ حركة حماس هُزمت، وارتفعت أصوات عربية من منابر صهيونية تسمى تجاوزًا عربية، تعلن ليل نهار أنّ إسرائيل انتصرت، وصدرت تصريحاتٌ من بعض المسؤولين العرب تؤكد أنّ حماس أخطأت ضد إسرائيل، ووصل الأمر بأن يهزأ البعض بالصواريخ الفلسطينية؛ وكنتُ أرد على البعض ممن علّق على مقالي ذلك بأنّ الحرب طويلة، وأنّ النصر لا يقاس بمعركة أو معركتين، وإنما يقاس بالنتيجة النهائية للحرب، وهي حرب طويلة ولا بد أن تكون هناك تضحيات وتكون هناك ضحايا؛ فالحرب ليست نزهة، وعبر التاريخ كله لم ينتصر دينٌ أو شعبٌ إلا بالتضحيات، والله لا ينصر المتخاذلين. وهزيمة معركة مهما كانت ليست المقياس الأخير لكسب الحرب، ولنا قدوة في سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي دخل معارك وانهزم في بعضها، والله سبحانه وتعالى بإمكانه أن ينصره وهو في بيته في المدينة المنورة دون أن يتحرك من مكانه، لكن بفضل تلك المعارك والغزوات ارتفعت كلمة «لا إله إلا الله» في الأرض، وهذه سنن الكون في أهمية الدفاع عن الدين والعقيدة والوطن. فإذا كان البعض لا يرى النجاحات التي حققها الفلسطينيون، ويحسب عدد الضحايا والخسائر من الجانب الفلسطيني فقط، فعلى بصر هؤلاء غشاوة، وعليهم أن يقارنوا بين المقاومة الفلسطينية قبل تسع سنوات وما هي عليه الآن من قوة، وأن يقارنوا بين الإمكانيات الإسرائيلية وإمكانيات المقاومة، وكيف تطورت خلال هذه الفترة البسيطة، وصنعت أسلحتها ذاتيًا، وهدمت الجدار الأكثر تطورًا في العالم، وقامت بالمبادرة في الهجوم، ردًا على انتهاكات الكيان للمسجد الأقصى الشريف، فقتلت وأسرت وأرهبت، فما حققته الآن عجزت عن تحقيقه الجيوش العربية النظامية، مما يثير ضغينة بعض هذه الجيوش.
نوجه سؤالًا للذين ينظرون إلى الإنجاز الفلسطيني بأنه مغامرة: كيف إذن يمكن أن تتحرر فلسطين؟ وهل هناك انتصار دون جهد وضحايا؟ تقول حكمة قديمة «ليس شرطًا أن تكون الضربة رقم مائة هي التي كسرت الصخر، وإنما الضربات التسع والتسعين السابقة»، وطوفان القدس ليس إلا ضربة من تلك الضربات التسع والتسعين، وما الضحايا إلا رقم ضمن الأرقام الكبيرة في طريق التحرير. لكن المؤلم أن يرى البعض أنّ كلّ ما حدث ليس إلا مسرحية متفق عليها بين الجانبين والهدف منها توطين الغزاويين في سيناء، وهو أمرٌ - بقدر ما يدعو إلى العجب - فإنه مؤلم، ولكن عزاءنا في ذلك أنّ هؤلاء لم يتعودوا على انتصارات كهذه في تاريخهم.
يتحمل الكيان الصهيوني مسؤولية ما جرى. ومن الخطأ تحميل الفلسطينيين المسؤولية - وهم الضحايا أكثر من 75 عامًا - ولا ينبغي أيضًا المساواة بين المجرم والضحية، كما أشارت إلى ذلك بعض البيانات العربية؛ وقد شاهدنا حملات تشويه مُغرضة لحماس وقادتها، ممّا دفع نشطاء إلى التذكير بأنّ النبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما رأى آل ياسر يُعذّبون حتى الموت قال لهم: «صبْرًا آل ياسر»، ولم يقل لهم غامرتُم وتهوّرتُم وكان عليكم التراجع. ومن السخف مثلًا أن يقول الكاتب الطاهر بن جلون في مقال لصحيفة «لو بوان» الفرنسية يوم الجمعة 13 أكتوبر 2023، «إنّ ما فعلته حماس في هجومها ضد إسرائيل لم تكن لتفعله الحيوانات»، وتطاول على رجال المقاومة الفلسطينية الأبطال، فوصفهم بأنهم «بلا ضمير، بلا أخلاق، ولا إنسانية». ويبدو أنّ تَطَلّعَ ابن جلون لجائزة نوبل أعماه عن رؤية الحقيقة ولم يقرأ أو يستوعب ما قاله الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، الذي اتسم بالموضوعية، عندما كتب مقالًا في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، حمل فيه الكيان الإسرائيلي مسؤولية ما حصل، وأنّ السبب وراء كلّ ما حصل هو الغطرسة الإسرائيلية: «فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أيّ شيء، وأننا لن ندفع ثمنًا ولن نعاقب على ذلك أبدًا»، وعدّد الإساءات التي ارتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين قائلا: «نعتقل، نقتل، نسيء معاملة، نسلب، نحمي مستوطِني المذابح، نزور قبر يوسف، ومذبح يشوع، وكلها في الأراضي الفلسطينية، نطلق النار على الأبرياء، نقتلع عيونهم ونهشّم الوجوه، نرحّلهم، نصادر أراضيهم ونَنْهَبُهم، ونخطفهم من أسِرّتهم، ونقوم بتطهير عرقي، أيضًا نواصل الحصار غير المعقول». ويحمّل ليفي، بنيامين نتنياهو المسؤولية كاملة عمّا حدث، ويقول إنّ عليه أن يدفع الثمن. وإذا كان ليفي قد بكى بمرارة الضحايا الإسرائيليين، إلا أني أعتقدُ أنّ تسميتهم بمدنيين من الخطأ الكبير، فهؤلاء جميعهم غزاة وينطبق عليهم ما ينطبق على العسكريين، ولا أدري لماذا تظهر دائمًا الإنسانية عندما يتعلق الأمر بالصهاينة ولا ينطبق على الفلسطينيين من الشيوخ والنساء والأطفال؟! وهناك آلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال دون محاكمة، وأغلبهم بريء، فيما تُعتبر غزة أكبر سجن عرفته البشرية، يضم أكثر من مليوني سجين في مساحة ضيقة جدًا، لكن الإنسانية تظهر فقط عندما يتعلق الأمر بغير هؤلاء.
ولم تسلم المرأة الفلسطينية من التنكيل الصهيوني، ففي العاشر من شهر أغسطس الماضي، تعرضت خمس نساء فلسطينيات من مدينة الخليل للتنكيل من قبل مجندات أجبرنهن على خلع ملابسهن. وحسب التحقيق فإنّ مجندتين إسرائيليتين مسلحتين كانتا ضمن دورية عسكرية ومعهما كلب مهاجم، أجبرتا النساء الفلسطينيات على السير عاريات، وهددتا بإطلاق الكلب نحوهن إذا لم يُطِعن الأوامر، واعتبرت حركة حماس الحادثة -وقتها- تصعيدًا خطيرًا، ودعت حركة الجهاد الإسلامي إلى تصعيد المواجهة، فيما هددت مجموعة «عرين الأسود» بالثأر وأنها ستخرج لجيش الاحتلال من حيث لا يحتسب، وهذه الحادثة لم تجد ذلك الصدى المتوقع في وسائل الإعلام العربية إلا ما ندر، لكنها كانت شرارة من شرارات طوفان القدس.
أثبتت حركة حماس أنّ مقولة «الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر» إنما هي مجرد أسطورة نسجها الإسرائيليون وحدهم أمام تخاذل العرب وتشتتهم، وظلوا أسرى مقولة أنّ إسرائيل تستطيع أن تحتل العواصم العربية ببساطة، فها هم الفلسطينيون يفرضون الآن أنفسهم، على غير ما جرى في كلّ الحروب العربية، وها هم الفلسطينيون يطورون من قدراتهم العسكرية رغم الحصار الشديد، وها هم يستعدون لقتال طويل، وهذا تحوّل كبير في الاستراتيجية القتالية لديهم. ولن تكون المنطقة بعد طوفان الأقصى هي نفسها قبل الطوفان، فقد تغيرت الموازين، وسيكون الفلسطينيون أصحاب القرار وبيدهم مفاتيح التفاوض من منطلق القوة، وليس معنى هذا أنّ كلّ العقبات أمامهم قد زالت، فهناك عداوات كبيرة ستنشأ بهدف تطويعهم وكسر شوكتهم، وهناك حملات تشويه كبيرة وكثيرة ستطال أبطال المقاومة؛ لأنهم أحرجوا الكثيرين، لكنهم فرملوا الهرولة إلى التطبيع. وعبر التاريخ كله؛ فإنّ العالم يحترم القويّ ويحتقر الضعيف والمستسلم، ولا يحترم من يتفاوض من موقف الضعف.
صحيح أنّ الكيان الصهيوني ارتكب مجازر وجرائم، إلا أني أجد نفسي أميل إلى ما سبق وأن قلته في مقالي السابق المنشور عام 2014: «نعم؛ نقولها بصراحة إنّ حماس انتصرت على إسرائيل وفرضت واقعًا جديدًا، وهذا ليس كلامًا عاطفيًا أو حماسًا وقتيًا؛ إنما هو حقيقة اعترفَ بها الإسرائيليون أنفسهم، ويعرفها العرب تمامًا، رغم أنهم «َجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا»، وسأظل على إيماني وقناعاتي بانتصار حماس، تمامًا كما سأظل على إيماني بانتصار حزب الله على إسرائيل عام 2006، وكذلك سأظلّ على إيماني بأنّ القوة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وليس مفاوضات الاستسلام؛ وفي كلّ الأحوال فإنّ المفتاح بيد الفلسطينيين أنفسهم، وقد حان الوقت لكل الشامتين والمستهزئين أن يسكتوا؛ فالمقاومة الفلسطينية أعادت إلينا الكرامة المفقودة، رغم الأرواح الفلسطينية التي أزهقت».
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: طوفان القدس حرکة حماس
إقرأ أيضاً:
ماذا لو نجحت صفقة الممر الآمن وعادت غزة للسلطة الفلسطينية؟
مرّ أكثر من عام كامل على الحرب التي دمّرت قطاع غزة، ولم تتوقف دولة الاحتلال الإسرائيلي عن قتل المدنيين وترويع الصغير والكبير واعتقال الشباب وتحويل القطاع إلى كومة ركام ومكان غير صالح للعيش. ونعلم جميعًا مدى تغير المشهد في غزة بعد اغتيال إسرائيل لـ “يحيى السنوار” زعيم حركة حماس، وكذلك استهداف عناصر ومقرات الحركة في رفح وجميع ربوع غزة. وفي خضم هذه الأحداث، عادت من جديد جهود الوساطة المصرية والقطرية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التهدئة في غزة ووقف الحرب، ولكن تصرّ إسرائيل على شروط غير قابلة للنقاش لوقف هذه الحرب الشعواء.
ومن بين شروط إسرائيل إبرام صفقة تبادل أسرى مع حماس تشمل الإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين “دفعة واحدة”، ومنح قادة حماس ممرًا آمنًا للخروج من غزة إذا ألقوا أسلحتهم. وفي المقابل، يتم الانسحاب التدريجي للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، ولكن بشرط تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية.
وفي الحقيقة، فإن هذا الشرط هو الأنسب والأفضل لأهالي غزة، لأنه يمكن أن يوقف الحرب التي زادت عن العام. هذا بالإضافة إلى أن السلطة الفلسطينية هي سلطة حكيمة وراشدة، وتستطيع أن تتعامل بدبلوماسية مع إسرائيل حتى تحصل على حقوق أهالي غزة في العودة إلى بيوتهم مع وقف الحرب واستمرار التهدئة، لتقوم بعد ذلك بتنفيذ خطة إعمار غزة بشكل تدريجي. كما تستطيع الحصول على الدعم المادي من جميع بلدان العالم والمنظمات الدولية من أجل دعم وتعزيز إعادة إعمار القطاع مجددًا وحق أهله في العودة إلى بيوت آمنة.
وأعلنت بعض قيادات الحركة أن حماس منفتحة على أي اتفاق أو أفكار تُنهي معاناة شعب غزة، وتوقف إطلاق النار بشكل نهائي، وتؤدي إلى انسحاب الاحتلال من كامل القطاع ورفع الحصار، وتقديم الإغاثة والدعم والإيواء لأهالي القطاع. وأيضًا قد تدرس الخروج الآمن لها ولجميع مقاتليها من غزة إلى السودان مقابل انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة ووقف الحرب تمامًا وإتمام صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين، على أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، خاصة وأن فرص حماس في حكم قطاع غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها باتت شبه مستحيلة.
وهنا قد تحصل الحركة على مكاسب مالية وسياسية، خاصة مع إبداء الجيش السوداني موافقته على استضافة جميع قادة حماس ومقاتليها على أراضيه، مع تحرير أموالهم المحتجزة في البنوك السودانية، وتسليمهم كل العقارات والأموال والمحطة التلفزيونية التي كانت تملكها الحركة في الخرطوم إبان حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
أما عن وسطاء الصفقة، فهم يعملون الآن على إقناع حماس وإسرائيل بمقترح لوقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة وتبادل محدود للأسرى، والتي تعتبر هي الصفقة الجزئية كعلامة على حسن النية من الطرفين، على أن تبدأ المفاوضات الفورية لوقف إطلاق النار بشكل دائم في غزة في ظل عدم وجود اشتباكات جارية. وقد تثمر هذه الصفقة عن شيوع الهدوء في المنطقة سواء على صعيد فلسطين ولبنان، وتحسين الظروف الاقتصادية لباقي دول منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد أن تسببت الاضطرابات الجيوسياسية في أزمات اقتصادية متتالية.
وإذا تمت الصفقة بالفعل، فهنا يبقى أهل الأرض وسكانها الأصليون، وتنسحب قوات جيش الاحتلال من غزة، وتخرج حماس عبر معبر رفح إلى مصر، وبعدها إلى السودان بعد أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، والتي يجب عليها من الآن أن تفتح باب الحوار والمشاركة أمام نخبة غزة المهاجرة ومنظمات المجتمع المدني من أجل الإعداد للمرحلة المستقبلية لما بعد الحرب، وهي الورقة الكفيلة بقطع الطريق أمام مخطط عودة السلطة العسكرية الإسرائيلية. ومن هنا يأتي الخير للبلاد والعباد.
لكننا لا نعرف حتى الآن النية الإسرائيلية الحقيقية لهذه الصفقة، فدائمًا ما يراودني سؤال وهو: هل نية إسرائيل في الانسحاب من غزة حقيقية؟ وفي حالة انسحاب حماس، فهل تنسحب إسرائيل بشكل كامل هي الأخرى، ويتركان الشعب الفلسطيني في حاله؟ وتنتهي الخطة الإسرائيلية لتدمير البيوت ومراكز الإيواء والمستشفيات وغيرها، ويعود الأهالي إلى العيش بدون حرب وتحت مظلة السلطة الفلسطينية، أم أنها مجرد أحلام؟ ويظل نتنياهو مستمرًا في نهج الهروب إلى الأمام وإلقاء الكرة في ملعب حماس، ويُرحّل حسم وقف إطلاق النار في غزة إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية؟
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.