كُنت طيباً بريئاً ساذجاً غضاً، استغرب كلمة القسوة، وأستبعد أوصاف التوحش من قاموس مفرداتى. لم أكن أتصور أن هناك بشراً على الأرض يمتلكون كل قساوة القلب، وكل غلظة المشاعر، وكل خشونة الطبع كما رأيت لاحقاً.
صغيراً كنت عندما قرأت تعبير الشاعر الجميل صلاح عبدالصبور الذى يقول فيه «هذا زمن الحق الضائع.. زمنٌ لا يعرف مقتول مَن قاتله ولِمَ قتله.
وربما كبرت قليلاً عندما فكرت كثيراً فى سؤال صديقى المرتاب دائماً، المتشكك غالباً الذى باغتنى به قائلاً: «ما الجرم الذى يمكن لإنسان أن يرتكبه فيساوى أن يقبع فى عذاب النار إلى الأبد؟».
ولم تكن دماغى تظن أن هناك بالفعل بشراً أقسى وأحدّ وأعنف وأبشع وأخشن وأحقر من أى خيال جامح حتى عرفت وقرأت وتابعت وشاهدت واستمعت وفهمت واستنرت وعرفت بأن الإنسان فى دمويته أبعد مما يتصور عاقل.
فكرت كثيراً فى ضمير الطيار الإسرائيلى الذى قصف مستشفى المعمدانى بغزة سائلاً كيف لم يوخزه للحظة وهو يطلق وابل قنابله على مرضى وجرحى وأطفال باحثين عن ملجأ؟ كيف بضغطة زرـ أزهق أرواح خمسمائة إنسان وكأنه يمسح عرقه؟ كيف لم تسائله أخلاق، ولم تعاتبه بقايا حس إنسانى وهو يرش الموت عبثاً على عُزل أبرياء؟
قبل ذلك مراراً شهدنا قسوة جنود إسرائيل وهم يقتلون أطفالاً ورضعاً ونساء بدم بارد، ربما تضاحكوا بعدها، وربما دخنوا فى زهو، وربما عانقوا أطفالهم بعد عودتهم منتفخين كأبطال دون أن ترتعش لهم شعرة إنسانية.
استعدت بشاعات الإنسان الوحش الذى تفوق على الشيطان جحوداً وقسوة ودموية، وإن ادعى تمدنه وتحضره.
فى الساعة الثامنة والربع من صباح السادس من أغسطس 1945 ألقى الطيار الأمريكى بول تيبيتس القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما، ومات على الفور 66 ألف إنسان، ثم مات لاحقاً آلاف آخرون نتيجة التأثيرات الذرية، وعاش «تيبيتس» حتى بلغ الثانية والتسعين عاماً، وكان مما يقوله دائماً بأنه على استعداد لإلقاء قنبلة نووية أخرى على كابول أو مكة أو القاهرة أو أى مصدر خطر إن طلب منه ذلك، وأن على الصحف أن تتوقف على وصف الحرب بالبشاعة!
وفى اعترافات رجال النازى وهم يشهدون بالمحاكمات بعد سقوط هتلر، أفاد بعضهم أنهم كانوا يطلبون من الأم أن تحتضن وليدها فى «الهولوكست» حتى تخترقهما رصاصة واحدة فتثقب رأس الرضيع، ثم تنفذ لأمه توفيراً للذخيرة.
وتذكرت كيف ابتكرت استخبارات الخومينى أسلوباً جديداً لإعدام خصومها، حيث يوضع الضحية فى زنزانة ثم يدخل أحد الحراس ويطلق رصاصة واحدة على قدمه ويتركه ينزف حتى الموت.
استزدت مما كتبه المؤرخون حول أولئك الذين ابتكروا أساليب تعذيب قاسية لردع أعدائهم ومنها تفنن جلادى الدولة العثمانية فى تنفيذ القتل بالخازوق ليمر بجسم الإنسان بمهارة دون أن يقطع أحشاءه أو يجرح أعضاءه ليموت فى أطول مدة زمنية.
ومثلهم كثيرون، يدعون أنهم بشر، بأقنعة وبدون، أمامنا وخلفنا وحولنا، لا رحمة فى قلوبهم. لا ذرات حب، لا رأفة، لا أخلاق، وعدلهم المستحق يقينا هو الجحيم.
آمنت بالله وبيومه الآخر وبعدله البات وبعذابه ونعيمه.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
أوروبا في مواجهة ترامب جحيم نووي.. رؤية الرئيس الأمريكي الاستعمارية تجعل مشاهد أفلام الحرب حقيقة واقعة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يحلم ترامب بإمبراطورية ماجا، لكنه على الأرجح سيترك لنا جحيمًا نوويًا، ويمكن للإمبريالية الجديدة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن تجعل العالم المروع الذى صوره صانعو أفلام الحرب الباردة حقيقة.. هكذا بدأ ألكسندر هيرست تحليله الشامل حول رؤية ترامب.
فى سعيه إلى الهيمنة العالمية، أصبحت رؤية ترامب لأمريكا الإمبريالية أكثر وضوحًا. ومع استعانة الإدارة الحالية بشكل كبير بدليل استبدادى وإظهار عداء متزايد تجاه الحلفاء السابقين، أصبحت خطط ترامب للتوسع الجيوسياسى واضحة. تصور الخرائط المتداولة بين أنصار ترامب، والمعروفة باسم "مجال الماجا"، استراتيجية جريئة لإعادة تشكيل العالم. كشف خطاب ترامب أن أمريكا الإمبريالية عازمة على ضم الأراضى المجاورة، بما فى ذلك كندا وجرينلاند وقناة بنما، مما يعكس طموحه المستمر لتعزيز السلطة على نصف الكرة الغربى.
تعكس هذه الرؤية لعبة الطاولة "المخاطرة" فى طموحاتها، مع فكرة السيطرة على أمريكا الشمالية فى قلب الأهداف الجيوسياسية لترامب. ومع ذلك، فإن هذه النظرة العالمية تضع الاتحاد الأوروبى أيضًا كهدف أساسى للعداء. إن ازدراء ترامب للتعددية وسيادة القانون والضوابط الحكومية على السلطة يشير إلى عصر من الهيمنة الأمريكية غير المقيدة، وهو العصر الذى قد تكون له عواقب عميقة وكارثية على الأمن العالمى.
مخاطر منتظرةمع دفع ترامب إلى الأمام بهذه الطموحات الإمبريالية، يلوح شبح الصراع النووى فى الأفق. لقد شهدت فترة الحرب الباردة العديد من الحوادث التى كادت تؤدى إلى كارثة، مع حوادث مثل أزمة الصواريخ الكوبية فى عام ١٩٦٢ والإنذار النووى السوفيتى فى عام ١٩٨٣ الذى كاد يدفع العالم إلى الكارثة. واليوم، قد تؤدى تحولات السياسة الخارجية لترامب، وخاصة سحب الدعم الأمريكى من الاتفاقيات العالمية وموقفه من أوكرانيا، إلى إبطال عقود من جهود منع الانتشار النووى.
مع تحالف الولايات المتحدة بشكل متزايد مع روسيا، يصبح خطر سباق التسلح النووى الجديد أكثر واقعية. الواقع أن دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وكندا، التى اعتمدت تاريخيًا على الضمانات الأمنية الأمريكية، قد تشعر قريبًا بالحاجة إلى السعى إلى امتلاك ترساناتها النووية الخاصة. وفى الوقت نفسه، قد تؤدى دول مثل إيران إلى إشعال سباق تسلح أوسع نطاقًا فى مختلف أنحاء الشرق الأوسط، إذا تجاوزت العتبة النووية.
رد أوروبابدأ الزعماء الأوروبيون، وخاصة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى الاعتراف بمخاطر عالم قد لا تكون فيه الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا به. وأكدت تعليقات ماكرون الأخيرة على الحاجة إلى استعداد أوروبا لمستقبل قد لا تتمسك فيه الولايات المتحدة بضماناتها الأمنية، وخاصة فى ضوء سياسات ترامب الأخيرة. فتحت فرنسا، الدولة الوحيدة فى الاتحاد الأوروبى التى تمتلك أسلحة نووية، الباب أمام توسيع رادعها النووى فى مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبى. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا: حتى لو مدت فرنسا قدراتها النووية إلى أعضاء آخرين فى الاتحاد الأوروبى، فهل سيكون ذلك كافيًا لحماية أوروبا من التهديدات الوشيكة التى تشكلها كل من روسيا والدول المسلحة نوويًا الأخرى؟
إن التوترات المتصاعدة بين حلف شمال الأطلسى وروسيا بشأن غزو أوكرانيا والتهديدات النووية الروسية المتكررة تؤكد على الحاجة الملحة إلى أوروبا فى سعيها إلى رادع أكثر استقلالية وقوة. وإذا لم تتمكن أوروبا من الاعتماد على الولايات المتحدة، فقد تحتاج فى نهاية المطاف إلى إنشاء آلية دفاع نووى خاصة بها.
عالم منقسمقد تكون تداعيات رؤية ترامب كارثية. فمع إعادة تسليح العالم بسرعة، ترتفع مخزونات الدفاع، ويرتفع الإنفاق العسكرى إلى مستويات غير مسبوقة. ويتم توجيه الموارد التى ينبغى استثمارها فى الرعاية الصحية والتعليم وحماية البيئة واستكشاف الفضاء بدلًا من ذلك إلى ميزانيات الدفاع. وإذا سُمح لسياسات ترامب بالاستمرار، فقد تؤدى إلى عالم حيث تصبح الحرب حتمية، أو على الأقل، حيث يتحول توازن القوى العالمى بشكل كبير. مع ارتفاع الإنفاق الدفاعى العالمى، هناك إدراك قاتم بأن البشرية تتراجع إلى نظام عالمى خطير ومتقلب، حيث يتم التركيز بدلًا من ذلك على العسكرة والصراع.
ضرورة التأملويمضى ألكسندر هيرست قائلًا: فى مواجهة هذه التحولات الجيوسياسية، أجد نفسى أفكر فى التباين بين العالم الذى حلمت به ذات يوم والعالم الذى يتكشف أمامنا. عندما كنت طفلًا، كنت أحلم بالذهاب إلى الفضاء، ورؤية الأرض من مدارها. اليوم، أود أن أستبدل هذا الحلم بالأمل فى أن يضطر أصحاب السلطة إلى النظر إلى الكوكب الذى يهددونه من الأعلى. ولعل رؤية الأرض من الفضاء، كما ذكر العديد من رواد الفضاء، تقدم لهم منظورًا متواضعًا، قد يغير وجهات نظرهم الضيقة المهووسة بالسلطة.
إن رواية سامانثا هارفى "أوربيتال" التى تدور أحداثها حول رواد الفضاء، تلخص هذه الفكرة بشكل مؤثر: "بعض المعادن تفصلنا عن الفراغ؛ الموت قريب للغاية. الحياة فى كل مكان، فى كل مكان". يبدو أن هذا الدرس المتعلق بالترابط والاعتراف بالجمال الهش للحياة على الأرض قد ضاع على أولئك الذين يمسكون الآن بزمام السلطة. وقد يعتمد مستقبل كوكبنا على ما إذا كان هؤلاء القادة سيتعلمون يومًا ما النظر إلى ما هو أبعد من طموحاتهم الإمبراطورية والاعتراف بقيمة العالم الذى نتقاسمه جميعًا.
*الجارديان