-1-

يُشار عادة إلى أن سؤال الهوية حين يطرح فهذا يعنى أنها مأزومة. فمفهوم الهوية لا يُستدعى إلى سطح الوعى إلا عندما تواجه «الأنا» الاجتماعية خطر الإلغاء أو التفكك، وهو الخطر الذى ينشأ عن حضور «آخر» ثقافى يطرح نفسه كبديل لثقافة الأنا أو كطرف شريك فيها.

يفترض هذا التحليل أن ثمة «ثقافة» جماعية سائدة تتشكل من خلالها هوية المجتمع، وأن هذه الثقافة معطى أحادى ثابت، أى حصرى لا يقبل التعددية، ونهائى لا يقبل التطور، وهو مفهوم الهوية الشائع فى المجتمعات التقليدية، التى لا تزال تتبنى آليات التفكير السابقة على الحداثة.

لم تؤد الحداثة إلى نفى مفهوم الهوية، لكن هذا المفهوم صار يتطور تدريجيًا بفعل التحولات الهيكلية (الاقتصادية/ السياسية/ العقلية) التى غيرت أنساق الوعى بفكرة الدولة وفكرة المجتمع وفكرة الذات الفردية. التحول الأبرز هنا يتمثل فى ظهور «الدولة القومية» فى أوربا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية «المقدسة». كان هذا التطور يعبر عن تحول جسيم فى بنية الثقافة السائدة، الخاضعة كليًا لهيمنة الدين. تم نزع الدين من موقعه المركزى داخل الثقافة، لتنشأ مركزية جديدة أكثر مرونة حيال واقعة التنوع الاجتماعى والحضور المتصاعد لمطالب الذات الفردية.

بامتداد العصور الوسطى سيطر الدين على الفضاء الاجتماعى، أى على الثقافة إلى حد الاستغراق، ولم يعد -كما كان فى العصور القديمة- واحدًا من روافدها الرئيسية. ويمكن تفسير هذا الاستغراق بسببين؛ الأول: يتعلق بالطبيعة الحصرية لنسق التدين الذى انتشر على نطاق واسع، وهو النسق الإبراهيمى الموروث من التجربة العبرية، والذى تمدد عبر المسيحية والإسلام بين الشرق الأوسط وأوربا الرومانية. والثانى يتعلق بالامتزاج المتواصل بينن الدين والدولة عبر التاريخ الطويل للمسيحية والإسلام، الأمر الذى ساعد على تكريس سلطة الدين فى المجال العام وداخل الوعى الفردى.

-2-

مع الحداثة «التنويرية» المبكرة، بدأ مفهوم الهوية يتحرك من خلال خلق هذه المركزية الثقافية البديلة للدين، لكنه ظل مفهومًا فرديًا يدور حول الذات، وظلت الذات تشير إلى جوهر ثابت وموحد داخليًا. هذا المفهوم سيتطور بدوره مع حركة الحداثة المتأخرة، الذى ستعيد النظر فى فكرة الثقافة المركزية ذاتها، وستجعل الفرد بصفته ذاتًا موحدة فى حالة من التففت. وهو التطور الذى يرصده ستيوارت هول فى دراسته «حول الهوية الثقافية»، حيث يتحدث عن ذات ما بعد الحداثة بوصفها ذاتًا «متشظية» فى داخلها، ويشير إلى هويات متعددة تتخذها الذات مع حركة الزمن. لم يعد ثمة هوية موحدة من المهد إلى اللحد، ذلك محض استيهام.

بحسب هول تمثل «الحداثة حالة تثوير دائم وازعاج متواصل لجميع العلاقات الاجتماعية. وكل ما ظنناه جامدًا يتحلل وينعكس على المجتمعات الحديثة، حيث تخضع الممارسات الاجتماعية للفحص بصورة دائمة، ويجرى إصلاحها فى ضوء المعلومات الواردة عنها. وهو الأمر الذى يؤكد أن التبديل فى تكوينها طبيعى. وسنجد أن البنية التى اقتلعت مكانها أو نزعت مركزيتها لم تستبدل بها مركزية أخرى، بل تعددت مراكز السلطة داخلها.

وبالتأسيس على ذلك، يلاحظ هول أن «الهوية القديمة التى شكلت لفترة طويلة قاعدة لاستقرار الفضاء الاجتماعى، فى طريقها إلى الزوال، وأننا «نشهد انبثاقًا لأنواع جديدة من الذوات والهويات ما بعد الحداثية. لقد صار الموقف كالآتي: تفترض الذات هويات مختلفة فى مختلف الأزمنة، هويات ليست موحدة لذات متماسكة، ففى داخلنا تكمن هويات متناقضة تسحبنا فى اتجاهات متغايرة، بحيث تتغير تماهياتنا وتتنقل باستمرار». ويؤكد هول على أن « الهويات الحديثة أصبحت منزوعة المركزية، أى مقتلعة من مكانها ومشرذمة منذ أواخر القرن العشرين، نتيجة لتفتت المشاهد الاجتماعية والثقافية، والأصل أن هذه المشاهد هى التى منحتنا مواقع ثابته بوصفنا أفرادًا اجتماعيين. هذه التبدلات أدت إلى تحويل هوياتنا الشخصية، ومن ثم ضعف إحساسنا بأنفسنا كذوات متحدة». وهذا هو السياق الذى يدفع إلى الاستخدام المتكرر لعبارة «أزمة الهوية».

-3-

على ضوء هذا التحليل، كيف نقرأ حالة الازدواجية الثقافية القائمة فى الواقع العربى المعاصر؟ هل تشير هذه الحالة إلى أزمة هوية؟ إلى أى مدى يمكن الحديث عن تفتت ثقافى «ما بعد حداثي» داخل الذات العربية الفردية والجماعية؟ كيف يمكن تكييف المسألة فى النموذج المصرى الذى يعاين -الآن- لحظة انقطاع طويلة فى مسار التجربة التحديثية التى بدها قبل قرنين؟ وكيف يمكن تكييفها فى النموذج السعودى الذى يشرع -الآن- فى خوض هذه التجربة، فى سياقات ثقافية واجتماعية أكثر تشوشًا بفعل الاستقطاب التراثي/الحداثى الحاد؟

-4-

ينطلق هول -صاحب الخلفية الماركسية- من مشاغل التفكير ما بعد الحداثي/ المعنى بنقد الحداثة الرأسمالية وتداعياتها التقنية فى المجتمع الغربى. وفقًا لهول ينتج التفتت الثقافى كعرض جانبى للانغماس الحداثى، وبالتالى فأزمة الهوية ليست حكرًا على المجتمعات التقليدية قريبة العهد بالصدام الحداثى، بل هى أزمة عالمية مرشحة للحضور بدرجات متفاوتة فى جميع المجتمعات المعاصرة، خصوصًا المجتمعات الغربية التى عاينت نتائج الحداثة، وتتوفر من ثم على مثيرات أوسع للتشظى على مستوى الذات الفردية.

ومع ذلك تظل لأزمة الثقافة فى المجتمعات التقليدية (العربية) سماتها التمييزية الأكثر تعقيدًا: يصعب الحديث -بالطبع- عن أزمة هوية بالمعنى الغربى ما بعد الحداثى الذى يشير إلى تفتت الذات بفعل تداعيات الحداثة التقنية، لكن عن أزمة هوية فى صيغتها الكلاسيكية التى تشير إلى صدام كلى بين ثقافة التراث السائدة وثقافة الحداثة المبكرة.

الطرف التراثى فى المعادلة لا يزال حاضرًا بقوة، أعنى لا يزال يتمسك بموقعه المركزى داخل الثقافة، وقد انتقل مع الأصولية من حالة الدفاع العشوائى المبكرة أمام الحداثة، إلى وضعية هجومية واعية ذات عمق سياسى واجتماعى، وتحظى بخدمات تنظيرية وأطر تنظيمية متعددة.

فى المقابل، يواصل الطرف الحداثى حضوره بقوة الدفع الطبيعية، وفيما يبدو، من زاوية، وكأنه يتراجع أمام الضغط الأصولى، يبدو من زاوية أخرى، متفاقمًا ومحملًا بتداعيات الحداثة المتأخرة التى تتسرب عبر قنوات التواصل المفتوحة على العالم. والحال كذلك، يدخل المجتمع-الذى لم يفرغ بعد من مشاكل الصدام الأصلى مع الحداثة- فى مواجهة جانبية مع مشاكل الوعى ما بعد الحداثى، التى تضرب فى عمق الذات الفردية.

مشاكل الصدام الأصلى تشير إلى جملة المشاغل المبدئية التى اشتغلت عليها الحداثة «المبكرة» والتى يمكن اختزالها فى شقين متلازمين؛ العلمانية، والعلم: الأول يهدف إلى تكريس فكرة الدولة المدنية والمجتمع المدنى فى مواجهة التراث الثيوقراطى الأتوقراطى القديم، أى حل مشكل السلطة عبر الإقرار بوضعانية القانون، وتصعيد قيم التعددية، والحرية الفردية. والشق الثانى يروج لعقلانية التجربة التى لا تستمد المعرفة من النصوص التاريخية، بل من الواقع المادى الذى تعمل على تطويره بالتقنية لصالح المستقبل.

أما مشاكل الوعى ما بعد الحداثى فتشير إلى النتائج السلبية الناجمة عن تجربة الحداثة بشقيها، خصوصًا على مستوى الذات الفردية، التى صارت أكثر عرضة للانسحاق أمام سلطة التقنية وسلطة الدولة. منذ منتصف القرن الماضى يتحدث الفكر الغربى عن «أزمة الحداثة المتأخرة» فيشير إلى تداعيات التكنولوجيا وحوسبة المعرفة، والارتهان الواسع للرأسمالية ونفوذ الشركات الكبرى، والتحول فى مفهوم السلطة وعلاقتها بالذات، وإلى العقلانية السياسية ومسئوليتها عن شرعنة القمع. سهام النقد طالت المفاهيم الأساسية للحداثة بما فى ذلك العلم الذى لم يعد يستطيع الدفاع عن مزاعم «الحتمية»، والعقلانية التى لم تعد تستطيع الدفاع عن فكرة «الحقيقة».

هذه المشاغل الجديدة تبدو غربية خالصة، أو غربية بوجه خاص. والسؤال الآن عن الواقع العربى المعاصر-الذى لم ينغمس كليًا فى تداعيات التقنية، ولم يكمل بعد تجربته العلمانية، أى لم يتعرض على نطاق واسع لإشعاعات الحداثة المتأخرة- هل يستطيع تجنب هذه الإشعاعات أو تأجيل المواجهة مع نتائجها السلبية؟

فى هذه المشاعل لم تعد تحضر فكرة الصدام مع التراث الديني؟ كونها لم تعد سببًا للتوتر الثقافى فى الغرب مثلما كانت فى مراحل الحداثة المبكرة. ومن هنا فالفارق الجوهرى مع الحالة العربية يكمن فى قوة الطرف التراثى الدينى، الذى لا يزال يتمسك بموقعه المركزى داخل الثقافة. الحضور الجزئى للحداثة ليس كافيًا لتنحيته عن هذا الموقع. فهل هذا الحضور الجزئى كافٍ لخلق أزمة هوية؟ متى يؤدى الصدام الثقافى إلى خلق أزمة هوية؟ كيف يمكن مناقشة هذا السؤال تطبيقيًا فى النموذجين المصرى والسعودي؟

يتبع..

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: سؤال الهوية الاقتصادية السياسية ثقافة المجتمع تشیر إلى مفهوم ا ما بعد

إقرأ أيضاً:

مهرجان القاهرة السينمائي.. أحلام وقضايا الشعوب العربية تتلاقى في رحلة من السعادة والمتعة

فى حضرة الشاشة الكبيرة تجوب الأنفس أرجاء العالم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث تتلاقى الثقافات والفنون والعادات والتقاليد من مختلف دول العالم فى مهرجان القاهرة السينمائى بدورته الـ45، التى تحمل تنوعاً وثراءً فنياً واضحاً من جميع الدول، فى رحلة لا منتهية من السعادة والمتعة، فمن بين الأعمال السينمائية المشاركة والتى تعرض لأول مرة ضمن فعاليات المهرجان، الفيلم المغربى «أنا مش أنا»، والسورى «سلمى»، كل منهما يحمل قصة ورسالة مختلفة بقضية إنسانية تلمس الوجدان.

«أنا مش أنا» فيلم مغربى مدبلج باللهجة المصرية

وقال هشام الجبارى، مخرج ومؤلف الفيلم المغربى «أنا مش أنا»، الذى جرى عرضه باللهجة المصرية بعد دبلجته، إن الفيلم يعد خطوة فى مسار تعزيز التبادل الفنى بين المغرب ومصر، وبخاصة أن اللهجة المغربية صعبة الفهم، لذا تمت دبلجة الفيلم لكسر الحاجز بين الشعوب العربية حتى يتمكنوا من فهم أحداث العمل. 

والأمر نفسه أكده بطل العمل عزيز داداس، الذى أعرب عن فخره وسعادته بمشاركته فى مهرجان القاهرة، قائلاً: «شرف كبير لى عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الأهم والأعرق فى المنطقة العربية، وسعيد بدبلجته إلى اللهجة المصرية».

وشهدت قاعة العرض حالة كبيرة من التصفيق والتفاعل مع الحضور فور انتهاء عرض الفيلم، الذى حرص عدد من نجوم الفن والرياضة المغاربة على دعمه بمشاهدته بالمهرجان، حيث رفع الفيلم شعار كامل العدد قبل أيام من انطلاقه بدور العرض المصرية. 

فيلم «أنا مش أنا» من تأليف وإخراج هشام الجبارى، بطولة عزيز داداس، مجدولين الإدريسى، دنيا بوطازوت، وسكينة درابيل، ووِصال بيريز، وإنتاج فاطنة بنكران.

يأتى ذلك كجزء من مبادرة مهرجان القاهرة السينمائى لدعم التجارب السينمائية التى تعزز التواصل الثقافى بين الشعوب، إذ يمكن الجمهور المصرى من التفاعل مع إنتاجات دول أخرى خارج الدائرة المعتادة للسينما العالمية. 

وذكر مهرجان القاهرة السينمائى، فى بيان، أنه فخور بهذه التجربة التى تسعى إلى تقديم صورة جديدة للإبداع السينمائى، من خلال التفاعل بين الصورة والصوت والتجارب الثقافية المختلفة، وهو ما يعكس التزامه بدعم التنوع السينمائى عالمياً.

«سلمى» يسلط الضوء على معاناة الشعب السورى

أما الفيلم السورى «سلمى»، الذى يشارك فى مسابقة آفاق للسينما العربية، فهو من بطولة الفنانة السورية سولاف فواخرجى، التى أعربت عن سعادتها بالعرض العالمى الأول لفيلمها بمهرجان القاهرة السينمائى، موضحة فى تصريحات خاصة لـ«الوطن»، أن الفيلم يتناول قضية إنسانية رغم المآسى التى يتطرق إليها وتعبر عن واقع الشعب السورى إلا أنها حاولت أن يكون الفيلم رسالة قوية للقدرة على المواصلة فى تجاوز الصعاب بالإرادة.

«سولاف»: رسالة لتجاوز الصعاب بالإرادة

وقال جود سعيد، مخرج «سلمى»، الذى يشارك فى فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى للمرة السادسة، منذ عام 2009، إنه كان يشعر بالحزن عندما لا يشارك بأفلامه ضمن المهرجان، مشدداً على رفضه لفكرة حمل الفيلم رسالة محددة، وأن كل مشاهد هو صانع العمل بعينه ويراه حسبما يشاء تبعاً لثقافته وما يشعر به.

وأضاف «سعيد» أنه مهووس بالقصص والحكايات الحقيقية وتحويلها لعمل فنى يتفاعل ويستمتع معه الجمهور، لافتاً إلى أنه تجمعه علاقة صداقة قوية مع «سولاف»، أفضت إلى مزيد من التعاون بينهما وحالة من الشراكة انعكست على الشاشة. 

من جانبه، أعرب الفنان السورى ورد، الذى يجسد دور شقيق بطلة العمل «سولاف» بالأحداث، أن مشاركة «سلمى» بالمهرجان حلم بالنسبة له وطموح لكل من يعمل فى صناعة السينما، معرباً عن فخره بفكرة الفيلم التى تنتمى إلى الكوميديا السوداء.

مقالات مشابهة

  • «جمال الغيطانى»
  • «الغيطانى» حكاء الماضى.. سردية الوجع الإنسانى
  • مهرجان القاهرة السينمائي.. أحلام وقضايا الشعوب العربية تتلاقى في رحلة من السعادة والمتعة
  • محافظ أسوان يلتقى بالأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية.. شاهد
  • عادل حمودة يكتب: سفير ترامب الجديد فى إسرائيل: لا شىء اسمه فلسطين
  • زكريا فلاح الدقهلية البسيط يحلم بوا قع أفضل
  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • عبقرية سعد!!
  • عبقرية صلاح جاهين
  • فنان يوثق صراعات الهوية الثقافية لشباب مسلمين في بريطانيا