أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «8»
تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT
إن مكتب درَيْدِن مؤثَّث بِقِطَعٍ دائريَّة وبيضاويَّة تحيل إلى الأنوثة ومنها، على سبيل المثال، طاولة مستديرة موضوع عليها طاسَتَا زينة، واحدة كبيرة والثانية صغيرة. وبالإضافة إلى تُمَيْثيِلٍ لِفِينِس Venus (إلهة الحب والخصوبة لدى الرُّومان)، فإن المكتب يضم أيضا تذكارات من الحضارة المصريَّة القديمة مثل تمثال لِباسْتِتْ Bastet (وهي إلهة أسطوريَّة بدأت عبادتها في مصر الفرعونيَّة اعتبارا من المملكة الثَّانية 2890 قبل الميلاد.
لكن المشكلة هنا هي أن درَيْدِن، وهو السيَّاسي الضَّليع الدَّهقن الدَّاهية، مقرون بامتلاك المعرفة والحكمة الذي يرتبط عادة بشخص الأب (البطريرك النَّموذجي في كل الثَّقافات تقريبا) وصورته، وليس بِـ«الطَّبيعة الوحشيِّة»، المُرَمَّزة بالجنرال مُرِيْ. إنَّه درَيْدِن من يشرح لِلورَنس أن غرض مهمَّته هو معرفة أهداف الأمير فيصل بعيدة المدى. وهو، في ذلك، يبرهن على معرفة حَسَنَة بالأمير وقومه، ووضعهم، وقدراتهم: «إنهم على بعد ثلاثمائة ميل من المدينة المُنوَّرة ، وهم بدوٌ هاشميُّون، ويستطيعون قطع ستِّين ميلا عبر الصَّحراء في اليوم». عبر طرحه هذه الضُّروب من المواقع المتناقضة (درَيْدِن «أنثوي» لكنه يحوز على الحكمة والمعرفة) فإنَّ الفيلم يمضي في تحدِّيه لتلازمات الأدوار الجَنْدَرِيَّة، وعلى لورَنس أن يكتب هويَّته ورغبته ضمن تلك المعطيات.
إن الثُّنائيَّ الأول، أي الجنرال مُرِيْ/ درَيْدِن، يوجَد ويؤدي دورَه المِهني في محيطٍ مدينيٍّ (القاهرة) الذي هو مكان تواجد البريطانيِّين، وبالتالي مكان وجود «الحضارة»؛ فمن النَّموذجي والمعياري في الأفلام الاستشراقيَّة أن تربط «الحضارة المدينيَّة» بالمستعمِرين (وهم البريطانيُّون في هذه الحالة)، بينما تربط السُّكان الأصليِّين (وهم العرب في هذه الحالة) بـ«التَّضاريس المقفرة». تشير إيلا شُحْطْ إلى فيلم «لورَنس العرب» بوصفه مثالا على تلك النَّزعة المُكرَّسة تقليديَّا (45). وفي ذلك المحيط المديني (القاهرة) فإن الفيلم يُرينا لورَنس، وعلى الرغم من ارتدائه زيَّه العسكري، بوصفه شخصا أخرقَ، غير قابل على التَّماس مع البيئة المِهَنيَّة، الذكوريَّة والعسكريَّة، التي يعمل فيها، والتي تبدو غريبة عنه وهو غريب فيها. إنه غير قابل للانصياع للقواعد والشَّعائر العسكريَّة الصَّارمة؛ فهو، على سبيل المثال، يدخل إلى مكتب آمِرِهِ الجنرال مُرِيْ من دون أن يؤدِّي التَّحية المعروفة في التَّقاليد العسكريَّة. وحين يأمره الجنرال أن يؤدِّي التحيَّة التقليديَّة فإنه ينفِّذ الأمر بطريقة غير عسكريَّة وغير احترافيَّة، ومائعة، بل ومُضحِكة حقَّا. بكلمات أخرى فإن الفيلم يصوِّر لورَنس في هذه المرحلة من القصَّة باعتباره غير رجولي، بل أنثوي، وهناك ما «ينقُصه» بوضوح شديد.
يدلُّ موقف الجنرال مُرِيْ وموقف درَيْدِن المتعارضان تجاه لورَنس على انقسام في المواقف ضمن إطار المؤسَّستين العسكريَّة والسِّياسيَّة البريطانيَّتين في القاهرة، وهو انقسام يؤلِّف تصرُّفات السُّلطة الكولونياليَّة؛ فالجنرال مُرِيْ (الأب) يمثِّل الحرس القديم، والمبادئ التقليديَّة للرُّجولة والطُّقوس العسكريَّة التي عليها أن تؤدَّى على نحوٍ تَعَبُّدي. أمَّا دْرَيْدِنْ (الأم) فإنَّه، بانفتاحه وتفهُّمه ولين عريكته، يمثِّل اتِّجاها مختلفا. هذا ويجري الحكم على لورَنس من خلال صيغتي الفهم المتضاربتين هاتين؛ فهنا يراه الجنرال غير مؤهَّل للمهمَّة، بينما يراه السِّياسي مناسبا جدا لها («إنه يعرِف شُغْلَهُ يا سيدي»، كما يقول درَيْدِن). والأمر ذو الشَّأن هنا هو أننا نرى الجنرال مُرِي الذي -بالنَّظر إلى رأيه غير المتحمِّس لِلورَنس- ما كان قطعا ليأتمنه، مثلا، على قيادة رهط من الجنود البريطانيِّين يُفسح، على الرغم من ذلك، مجالا لتقييم درَيْدِنْ أن لورَنس، في الحقيقة، مؤهَّل بصورة مثاليَّة للقيام بالمهمَّة تحديدا وبالضبط لتلك الأسباب عينها التي جعلت الجنرال يرى فيه شخصا غير ملائم لأداء المهمَّة. هكذا، إذن، تصبح «لا رجولة» لورَنس، وميوله الجنسيَّة والأيروسيَّة «المشبوهة»، أرصدة استثماريَّة ذات ميزة وليست عوائق. هذا الانعطاف الغريب لمنطق الأشياء له علاقة جوهريَّة بِفَرَضِيَّة درَيْدِن الضِّمنيَّة أن لورَنس سيكون قادرا على التَّعامل مع العرب لأنَّه من شاكلتهم، فهو ليس «رَجلا» بصورة جازمة وصريحة. وهكذا فإن نظريَّة درَيْدِن لا تشذُّ عن الصورة التقليديَّة الموروثة للشَّرقي في التَّخليقات والأدبيَّات الغربيَّة باعتباره موقع تجميعات (syntheses) خلائط واستيهامات حسيَّة وأيروسيَّة متباينة. لورَنس هو «الرَّجل» المناسب لأداء المهمة ليس فقط لأنه «يعرف شُغْلَهُ» بل كذلك لأنه يمثِّل ذات «الشُّغل» الذي سيجعل العرب قابلين للتَّعاطي والتَّفاعل معه. وهكذا فإن الجنسانيَّة والأيروسيَّة المثليَّة مُتَضَمَّنَتان في الخطاب الاستشراقي للفيلم، وهو خطاب ينتِج ويعيد إنتاج المعرفة بالآخر.
نار، وشمس، وأخْمِرَةٌ، وأودية
هكذا فإن الموقع المُلتبِس الذي يحتلُّه لورَنس فيما يخصُّ الأيروسيَّ قد جرى تأسيسه مبكِّرا في الفيلم. ومازوشيَّته تلوِّح بعلوِّ شأنه في قدرته على السَّيطرة على ألمه، وبتحقيقه لِذَاته في انسحاره بإيلام نفسه؛ فالمشهد الممتد الأول الذي يحدث في القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة يعرِّفنا إلى مازوشيَّة لورَنس.
------------------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(44): للوقوف على معالجة مضيئة ومستفيضة لهذا الموضوع أنظر:
Antonia Lant, The Curse of the Pharaoh, or How Cinema Contracted Egyptomania in Visions of the East: Orientalism in Film, ed., Mathew Bernstein and Gaylyn Studlar (New Brunswick, N. J.: Rutgers University Press, 1997), 69-98.
(45): Ella Shohat, Israeli Cinema: East/West and the Politics of Representation (Austin: University of Texas Press, 1989), 149.• •
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجنرال م ر ی
إقرأ أيضاً:
صاروخ روسي وراء تحطم الطائرة الأذربيجانية.. ما الذي حدث؟
الخطوط الجوية الأذربيجانية (مواقع)
شهد يوم الأربعاء الماضي حادثًا مأساويًا تحطمت فيه طائرة ركاب تابعة لشركة أذربيجان إيرلاينز بالقرب من مدينة أكتاو في كازاخستان. وفي تطور صادم للأحداث، كشفت مصادر حكومية أذربيجانية، وفقًا لقناة يورونيوز، عن أن الصاروخ الروسي هو السبب وراء هذه الكارثة الجوية.
اقرأ أيضاً الانتقالي يكشف الأسباب الحقيقية وراء انسحاب الزبيدي من "الرئاسي" 26 ديسمبر، 2024 تعالج الكوليسترول وتحمي القلب.. مكملات غذائية تزيد في العمر أكثر من 4 سنوات 26 ديسمبر، 2024
تفاصيل الحادث:
تشير المعلومات الأولية إلى أن الطائرة، وهي من طراز إمبراير 190، كانت في رحلة من باكو إلى غروزني عندما تعرضت لإطلاق صاروخ أرض-جو روسي من طراز بانتسير-إس. وقد حدث هذا الحادث أثناء نشاط مكثف لطائرات بدون طيار فوق غروزني، حيث كانت القوات الروسية تحاول إسقاط طائرات بدون طيار أوكرانية.
تفيد التقارير بأن الشظايا الناتجة عن انفجار الصارو بالقرب من الطائرة تسببت في أضرار جسيمة بها، مما أدى إلى فقدانها للتحكم وسقوطها. وعلى الرغم من طلبات الطيارين للهبوط اضطرارياً في مطارات روسية، إلا أنه تم رفض طلباتهم وأُمرت الطائرة بالتحليق فوق بحر قزوين باتجاه أكتاو.
التشويش على أنظمة الملاحة:
يزداد غموض الحادث مع ورود معلومات حول تشويش أنظمة الملاحة GPS للطائرة طوال مسار الرحلة فوق البحر. هذا التشويش قد يكون مقصودًا أو نتيجة للظروف التشغيلية المعقدة في المنطقة.
التساؤلات المطروحة:
يثير هذا الحادث العديد من التساؤلات حول المسؤولية عن هذه الكارثة:
خطأ بشري أم عمد؟ هل كان إطلاق الصاروخ خطأ بشريًا أم كان هناك نية متعمدة لاستهداف الطائرة؟
فشل في تحديد الأهداف؟ كيف تم الخلط بين طائرة ركاب مدنية وطائرة بدون طيار؟
مسؤولية السلطات الروسية: هل تتحمل السلطات الروسية مسؤولية هذا الحادث؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذها لمعاقبة المتسببين؟
الآثار المترتبة: ما هي الآثار المترتبة على هذا الحادث على العلاقات بين روسيا وأذربيجان؟ وكيف ستؤثر هذه الحادثة على ثقة المسافرين بالطيران المدني؟.
التحقيقات الجارية:
من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من التطورات في هذا الملف، حيث ستجري تحقيقات شاملة لكشف ملابسات الحادث وتحديد المسؤولين. كما ستعمل السلطات المعنية على تقديم تعويضات لعائلات الضحايا.
أهمية الحقيقة:
يعتبر كشف الحقيقة حول هذا الحادث أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط لتقديم العدالة للضحايا وعائلاتهم، بل أيضًا لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل. يجب على المجتمع الدولي الضغط من أجل إجراء تحقيق شفاف ومحايد في هذا الحادث.
ختامًا:
تحطم طائرة أذربيجان إيرلاينز يمثل مأساة إنسانية كبيرة، ويطرح تساؤلات جدية حول أسباب الحادث والمسؤولية عنه. من الضروري أن يتم إجراء تحقيق شامل وشفاف في هذا الحادث، وأن يتم محاسبة المسؤولين عن أي إهمال أو خطأ.