لجريدة عمان:
2024-11-26@21:09:04 GMT

نوافذ: سقط القناع

تاريخ النشر: 22nd, October 2023 GMT

إنّ أكثر ما يُروعنا ويهزنا الآن هو ذلك الشعور العميق بالخزي إزاء بسالة الفلسطينيين، ذلك التضاؤل والتقهقر النفسي أمام صور أطفالهم وتلك المقاطع المصورة التي تُرينا انعكاس خذلاننا لهم أكثر مما تُرينا هشاشتهم وموتهم اليومي، لا سيما وأنّنا نلعبُ باقتدار دور المتفرج في حلكة أيامهم بل سنواتهم وعقودهم الماضية، فيشعرُ كل عربي منا بخناجر مُسننة تطعنُ إنسانيته، ناهيك عن العروبة والقومية.

لكن أليس غريبا أنّ الفلسطينيين وفي كل مرّة ينفخون فيها الرماد عن جمر نضالهم المستعر، يبرق فينا أمل خافت؟ أليس غريبا أنّ كل ما يُثار عن تشرذمنا العربي، ينهارُ عندما تمسُ فلسطين بأذى؟ نحن الشعوب المكلومة والمتفجعة والمسيجة بالموت؟ أليس عجيبا أن تنبثق مياه وحدتنا من قلب فلسطين المحاصر؟ أليس من المذهل حقا لسان أطفالهم الحر الطليق وأفعالهم التي تُوقف شعر الرأس، بينما ترن القيود والأقفال في أقدامنا وألسنتنا المتعثرة بالكلام؟

ليس بالضرورة أن نحمل سلاحا لكي نقول إننا مع القضية، يمكن أن تمنح الشعوب العربية بلدانها تعليما رصينا، فهما أعمق لنقاط اشتراكنا العربي في الدين واللغة والجغرافيا والاقتصاد، إعلاما ناضجا في أطروحاته قادرا على تقديم صورتنا الإنسانية للآخر، فلسنا وحوشا متعطشة للدماء. لقد أخبرنا أمل دنقل من قبل أنّ أيدي العار تبقى بأصابعها الخمس مرسومة فوق الجباهِ الذليلة! «أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبّت جوهرتين مكانهما/ هل ترى؟ / هي أشياء لا تشترى».

من حسن حظنا أننا الآن في زمن الإعلام المتعدد، فلسنا رهن آلة إعلامية واحدة مسيّسة ومسمومة بالأكاذيب. تلك الآلة التي تقبض خناق الحقيقة وتشوهها، تلك التي لم نكن يوما جزءا من هيمنتها لندلي بشهادة مناقضة لما يدعون، فالإعلام المضلل لطالما لعب بمصائر الشعوب ومواقفها واصطفافاتها. ولذا لا ريب أن يتمّ تقديمنا باعتبارنا إرهابا بوهيميا. لقد انسل الإعلام الحديث قليلا من ربقة المركزية الغاشمة، صار بيد الأفراد أن يُغيروا بيادق اللعبة، رغم الأفعال المشينة المتعلقة بحجب المحتوى أو تقليص مشاهدته، فالصور التي خرجت من غزة ومقاطع الفيديو لن تُسكت الحقيقة وإن رغبوا. جزء كبير من حربنا، هي حرب الوعي، وتغيير الأفكار التي دأبت على شيطنتنا، كما فعل الإعلامي باسم يوسف بلغة ساخرة حين اخترق الحجب بلغتهم وبواسطة مفاتيح تخصهم، ففي الوقت الذي كان الإعلامي البريطاني بيريس مورغان ينتظر منه أن يُدين «حماس»، قلب باسم الطاولة عليه بكوميدياه السوداء. ولم يكن وحده من فعل، فلقد خرجت العديد من الأصوات من صمتها، بعضها كان من صفوف العدو.

عندما لا تدين مؤسسات المجتمع الدولي ما حدث في «غزة»، فذلك يعني أننا كعرب ومسلمين -على كثرتنا- نكرة ودماؤنا رخيصة. رغم أن الثمن باهظ الكلفة الذي دفعه الفلسطينيون لنصحو من سباتنا الطويل، كما يقول محمود درويش: «ذهبَ الذين تحبُّهم ذهبوا فإمَّا أن تكونْ أَو لا تكونْ، سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ، سقط القناعُ ولا أَحدْ إلاَّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيانِ».

الأمر الذي يُذكرني مجددا بالمقالات التي تركها لنا المفكر الكيني الذي ينتمي إلى أصول عُمانية، علي المزروعي، في كتاب بعنوان: «براهمة العالم ومنبوذوه»، ت: أحمد المعيني، والتي رغم أنّ زمن كتابتها يعود إلى نهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، إلا أنّها تتدفق في راهننا كأنّها قيلت للتو. ذهب المزروعي إلى أنّ فكرة التقدم تبرر تصنيف المجتمعات إلى «براهمة» و«منبوذين» فنحن سكان آسيا وإفريقيا ولأننا محكومون بتراجع الصناعة وبتراجع الاختراعات وبوفرة الأمية، تتراجع قيمتنا أمام العالم، فلسنا سوى أرقام لا تستدعي الالتفات في عداد الموت، لا ننتج ولا نُصدر سوى «الإرهاب». لذلك علينا ألا ننتظر الكثير، فـ«المساعدات الخيرية» هي أقصى ما يمكن أن يُقدمه البراهمة للمنبوذين، ليكونوا أكثر ولاءً لليد التي تمتد إليهم، وعليهم ألا ينتظروا أكثر من هذا إلى أن تقوم لهم قائمة. في ظرف استثنائي كهذا، يتمثل أهل «غزة» شعر دنقل ببسالة نادرة، نأمل ألا تذهب طيّ النسيان كما حدث في أوقات مضت، وألا تنخفض وتيرتها، فنصاب بالعمى، ونعود أدراجنا لسذاجة يومياتنا: «لا تصالح/ فليس سوى أن تريد/ أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد/ وسواك.. المسوخ!»

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

رضوخُ حكام العرب وانبطاحُهم أمام إسرائيل.. إلى متى؟

شاهر أحمد عمير

مع مرور الأيّام، يتضح أكثر فأكثر التناقض بين مواقف الشعوب العربية ومواقف حكامها تجاه القضية الفلسطينية والجرائم الإسرائيلية؛ ففي الوقت الذي تظهر فيه بعض الدول الغربية مواقف تُظهر الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية والعدالة، نجد الحكام العرب غارقين في مستنقع التواطؤ والانبطاح أمام الكيان الصهيوني، غير آبهين بصوت شعوبهم أَو بجرائم الاحتلال.

على سبيل المثال، نرى هولندا تُعلن حظر تصدير الأسلحة لـ “إسرائيل”؛ بسَببِ إساءة جماهير المنتخب الإسرائيلي للنشيد الوطني الهولندي خلال مباراة رياضية، كما ترفض إسبانيا استقبال سفينة إسرائيلية على سواحلها، في موقف يهدف إلى تجنب دعم الإبادة الجماعية في غزة، بل إن دولًا غربية أعلنت استعدادها لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذَا دخل أراضيها، متهمةً إياه بارتكاب جرائم حرب.

ورغم أن هذه المواقف الغربية لا تُعتبر مواقف استراتيجية تُنهي الجرائم الإسرائيلية، إلا أنها تُظهر على الأقل احتراماً لمبادئ العدالة الإنسانية، وتُحرج الحكام العرب الذين فشلوا في اتِّخاذ أية خطوة مشابهة.

على الجانب الآخر، نرى الحكام العرب يُسارعون إلى تطبيع علاقاتهم مع “إسرائيل”، بل ويتسابقون لتقديم التنازلات، وكأنهم يخشون غضب الكيان أكثر من غضب شعوبهم، وصل الأمر ببعض الأنظمة العربية إلى التواطؤ العلني مع الاحتلال؛ فبدلًا من دعم المقاومة الفلسطينية أَو حتى الاكتفاء بالصمت، تقوم هذه الأنظمة بشن حملات تشويه للمقاومة، وتصفها بأنها “إرهاب” يهدّد الاستقرار الإقليمي.

وفي الوقت الذي تتعرض فيه غزة للقصف الوحشي، تنشغل بعض العواصم العربية بتنظيم مؤتمرات لتعزيز “التعاون الأمني” مع “إسرائيل”، ضاربةً بعرض الحائط كُـلّ قيم الأخوة والعروبة، لقد أصبح واضحًا أن هذه الأنظمة لا ترى في فلسطين قضية مركزية، بل تعتبرها عبئًا سياسيًّا تسعى للتخلص منه بأي ثمن.

في المقابل، تظل الشعوب العربية على عهدها مع فلسطين؛ ففي كُـلّ مناسبة، تثبت الجماهير العربية أنها ترفض التطبيع وتدين الخيانة، وأنها تقف مع المقاومة بوصفها الخيار الوحيد لاستعادة الحقوق المسلوبة، من المحيط إلى الخليج، تُرفع الأعلام الفلسطينية في المظاهرات، وتُسمع الهتافات المندّدة بالاحتلال.

إن هذا التناقض الصارخ يجعلنا نطرح سؤالًا أَسَاسيًا: هل هؤلاء الحكام يمثلون شعوبهم حقًا؟ الجواب واضح لكل متابع منصف، وهو أن هذه الأنظمة قد انفصلت تمامًا عن هوية الأُمَّــة وقيمها، لقد انسلخوا عن الإسلام، والعروبة، والإنسانية، وأصبحوا أدوات لتنفيذ أجندات غربية وصهيونية، على حساب قضايا الأُمَّــة وكرامة شعوبهم.

إن “إسرائيل”، كما قال أحد المفكرين، هي “ظل الأنظمة العربية”، فإذا زالت هذه الأنظمة التي تحمي “إسرائيل” وتحتمي بها، زال هذا الظل، الكيان الصهيوني لا يزدهر إلا في وجود أنظمة خانعة، تخلت عن مبادئ العزة والكرامة، وتنكرت لمسؤولياتها تجاه القضية المركزية للعرب والمسلمين.

يبقى الأمل معقودًا على الشعوب التي أثبتت في كُـلّ محطة أنها على العهد مع فلسطين، وأنها ترفض هذا الخنوع والرضوخ، لقد حان الوقت لأن تستعيد الأُمَّــة إرادتها، وتعمل على إزالة هذه الأنظمة التي أصبحت عبئًا على حاضرها ومستقبلها؛ فالمعركة ليست فقط مع “إسرائيل”، بل مع كُـلّ من يُقدسها ويمنحها الشرعية على حساب دماء الأبرياء وآلام الشعوب.

إن الأُمَّــة العربية والإسلامية أمام مفترق طرق؛ فإما أن تستعيد شعوبها زمام المبادرة، وتعمل على التخلص من الأنظمة الخانعة التي تُعيق تحرّرها، أَو تستمر في حالة التراجع والانقسام، تاركة المجال للكيان الصهيوني ليُحقّق أطماعه.

لكن التاريخ علمنا أن الشعوب لا تموت، وأن الظلم مهما طال لا يدوم، وكما اندثرت أنظمة خائنة في الماضي، فَــإنَّ هذه الأنظمة الحالية لن تبقى، وسيأتي اليوم الذي تستعيد فيه الأُمَّــة عزتها وكرامتها، وتُحرّر فلسطين وكلّ أرض محتلّة.

إن المعركة ليست فقط مع الكيان الصهيوني، بل مع كُـلّ من يُقدس وجوده ويعمل على حمايته؛ فالحكام العرب الذين باعوا شرفهم وقيمهم لا يمثلون شعوبهم، ولن يستطيعوا أن يطفئوا جذوة الأمل في قلوب الأحرار.

مقالات مشابهة

  • رضوخُ حكام العرب وانبطاحُهم أمام إسرائيل.. إلى متى؟
  • «موموريا».. نافذة آسرة على ثقافات الشعوب
  • النضال.. طريق الشعوب نحو الحرية والاستقلال
  • نوافذ للحياة
  • شاهد بالفيديو.. قصة الأغنية السودانية التي حققت أكثر من 2 مليون زيارة على يوتيوب والجمهور يسأل أين هذه المبدعة؟
  • أَسْر الفقه السياسي
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • غزة: أكثر الأماكن التي تضررت بها خيام النازحين في القطاع نتيجة الأمطار
  • ما الذي يحدث في السعودية؟.. أكثر من 19 ألف موقوف خلال أسبوع
  • "مانهاتن الصحراء".. مدينة عربية بناطحات من الطين