كانت وما تزال مقولات الديستوبيا وفناء الأرض من موضوعات سينما وأدب الخيال العلمي المفضلة التي يتواصل انتاج الاعمال الأدبية والسينمائية حولها وتلقى رواجا ملحوظا لما تنطوي عليه من مزج بين الخيال وبين الأصوات المحذرة من فناء الكون سواء بسبب الحروب النووية الشاملة او الأوبئة أو الكوارث الطبيعية.

تحت وطأة هذه التحديات الثلاثة انقسمت أفلام الخيال العلمي منذ بواكيرها وكانت ثيمتها الغالبة هي قصّة الناجين وكيف سوف يكافحون من اجل الحفاظ على حياتهم والخروج من جوف الكارثة.

بالطبع سوف نتذكر هنا عشرات الأفلام من هذا النوع مثل فيلم كوكب القردة – 1968 وفيلم متسابق المتاهة -1982، وفيلم الطريق 2009، وفيلم العامل الخامس -1997 وفيلم وسلسلة ماد ماكس ابتداءا من 1979 وفيلم آلة الزمن -1960 وفيلم رجل اوميغا 1971 وفيلم ميتروبوليس 1927 وفيلم البرتقالة الميكانيكية 1971 وفيلم طريق المحارب 1981 وفيلم أطفال الرجال 1971 وسلسلة الفاني وسلسلة روبوكوب وفيلم فهرنهايت 451- 1966 وغيرها.

وفي هذا الفيلم للمخرجين الشقيقين وكاتبي السيناريو اليكس وديفيد باستور وهما مخرجان اسبانيان في أواخر الثلاثينيات من العمر، سوف يحشدان الكثير مما ننشده في فيلم الخيال العلمي القائم على فكرة الديستوبيا وصراعات الناجين ومغامراتهم.

فهما ينحتان عملهما على وفق معطيات ما تزال حاضرة في الذهن في نوع من المحاكاة لأفلام أخرى عالجت الإشكالية ذاتها وإن بأسلوب مختلف لعل من أهمها فيلم “صندوق الطيور” للمخرجة الدنماركية الحاصلة على الأوسكار والغزيرة الإنتاج سوزان بيير،

حيث أسست ديستوبيا قاتمة وقائمة على فكرة خلاصتها أن وباءً يفتك في روسيا تتحدث عنه وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات، يجعل البشر يمارسون أفعال الزومبي ثم يقدمون على الانتحار بأي طريقة، وفيما الجمهور يتفرج، إذ بالوباء يفتك بالناس في أماكن أخرى ومنها الولايات المتحدة.

في موازاة ذلك كان هنالك فيلم مكان هادئ بجزئيه اللذين ظهرا في عامي 2018 , 2020 للمخرج جون كراسنيسكي ومن المؤمل ظهور جزئين آخرين في عامي 2024 و 2025 على يدي مخرجين آخرين وحيث أن الصمت هو السبيل الوحيد إلى الخلاص عندما تواجه الشخصيات مصيرها القاتم في وسط غزو الأرض من قبل كائنات وحشية تفتك بالبشر بمجرد التقاطها أي صوت بسبب حساسيتها المفرطة للأصوات في مقابل عدم قدرتها على الإبصار.

أما هنا فالأمر مقتصر على الإبصار الذي سوف يفضي الى تواصل مع مؤثرات خارجية تعبث بالكائن البشري وتتلاعب بعقله وتستدرجه الى ان يفقد السيطرة على نفسه ثم يقدم على الانتحار.

يواجه المهندس سيباستيان – يقوم بالدور ماريو كاساس، هذه الكارثة بشكل مفاجئ عندما تنقلب المدينة – برشلونة رأسا على عقب ويتحول اغلب سكانها الى كائنات متوحشة تقوم بقتل نفسها لمجرد الكشف عن العينين.

في هذا المدخل حرص المخرجان على تقديم صورة بانورامية شديدة الغزارة والتنوع عندما غاصا في عمق المدينة ورافقا انتحار أبنائها وخلال ذلك كانت الشوارع المضطربة بالحشود الركضة والسيارات الهاربة والمقاتلات التي تحلق في السماء ونشرات الاخبار التي تبث الهلع بتفشي الوباء في أوروبا، كل ذلك هيأ فعليا لتقديم شخصية سيباستيان الذي كافح مع نفسه من اجل التغلب على فكرة فقدان ابنته وزوجته.

من هنا نجد ان المعالجة الفيلمية ذهبت بعيدا في استقصائها للمعطيات الفكرية والجمالية المرتبطة بالشخصية فالاشكالية لا تقتصر على الوباء في حد ذاته بل في كون تلك الكائنات الحزينة والمحبطة والباحثة عن احبائها وسط هول الكارثة تصبح اكثر عرضة للإستدراج من طرف قوى غامضة تدفعها لاحقا لإيذاء النفس بشتى الاشكال.

الناجون هم الركن الأساس في اغلب أفلام الديستوبيا وفي هذا الفيلم يوف ينظم سيباستيان الى مجموعة من الناجين من بينهم كلير – تقوم بالدور الممثلة جورجينا كامبل وأوكتافيا – الممثل دييغو كالفا، وفتاة ألمانية ضائعة تبحث عن والدتها، هي صوفيا – الممثلة نايلا شوبيرث، وزوجين مسنين، هما إيزابيل الممثلة لولا دوينياس وروبرتو -الممثل غونزالو دي كاسترو.

ويكرس المخرجان شخصية سيباستيان المزدوجة في سياق السرد الفيلمي فهو من جهة يريد انقاذ الاخرين لكنه في في الواقع انتهت علاقته بأي شيء بعد فقدان احبائه ولهذا فهو يرتدي تلك النظارات الواقية والسميكة كما الآخرين لكنها بالنسبة له لا وظيفة لها فغايته كانت المضي في مشاهدة ابنته التي راحت ضحية ذلك الخراب ولهذا يتواصل مع الطفلة من جهة وارتداء النظارات السميكة.

من جانب آخر هنالك بناء سردي قائم على الحركة والاثارة ترافق الشخصيات وهي تتنقل بين الأماكن المهجورة ووسط الأشخاص المسعورين الذين يلاحقونه من اجل الاستحواذ على الطعام.

يقدم سيباستيان نفسه على انه ضحية تلك الكارثة من خلال سعيه لايجاد توازن ما بين هدفه للوصول الى ابنته وزوجته وفي ذات الوقت إخراج من تبقى ممن هم غير مصابين بالوباء الى منطقة آمنة ولهذا ينتهي الأمر بكلير والطفلة الألمانية الى مشاهد حبس الانفاس في اعلى احد الابراج المؤدية الى عربات التلفريك المهجورة.

على ان هنالك خليط من اللاهوت والفلسفة والرفض والانكار كلها تلتبس في احداث هذا الفيلم وتتداخل وخاصة عندما يكون احد القساوسة هو احد أسباب استدراج الاخرين الى نهاياتهم الكارثية وهو ما يواجهه سيباستيان وينتهي به الامر ان يقتل القس وأيضا يُقتل على يديه وذلك في قسم آخر من الفيلم وظف فيه التفجيرات بالإضافة الى ما كان وظفه قبل ذلك من تساقط أجساد من اعلى الأبراج ووجود اشخاص يقدمون على الانتحار شنقا وما الى ذلك.

ومن الملفت للنظر خلال ذلك استخدام المزيد من الحبكات الثانوية لتمرير المزيد من الصراعات والتحولات والاحداث مع إبقاء بضعة شخصيات هي المحور الأساس الذي تتحرك من خلاله تلك الدراما الفيلمية وهو ما نجح فيه المخرجان وكاتبا السيناريو في إيجاد تلك الصلة العميقة ما بين السرد الفيلمي وبين وقع المفاجأة التي كانت تقطع سيرورة الاحداث باتجاه مزيد من الشد والترقب.

وحظي الفيلم باهتمام نقدي لجهة مقاربته بأفلام ديستوبية أخرى تفاوتت مستوياتها، ومن ذلك ما كتبه روبرت دانييلز في موقع روجر ايبرت، قائلا " ان السيناريو قدم لنا فكرة خلاصتها أن الصدمة التي يسببها الحزن قد تدفعك إلى فقدان حواسك، وتدمير منطقك، وربما تدفعك إلى الانخراط في حملة صليبية دينية. لكن هذا المعنى لا تشعر به بعمق في أي من الشخصيات. وبدلاً من ذلك، فقد جسّدوا امامنا مآسيهم وليس أي شيء آخر".

فيما ذهب بينجامين لي، الناقد في الغارديان البريطانية الى القول أن" الفيلم ظهر بشكل أفضل بكثير مما كان يمكن أن يكون، تجديد بسيط على فيلمين سابقين تحول إلى شيء مختلف من خلال فيلم مصنوع بكفاءة وملفت للنظر من الناحية السردية، وإن كان بشكل طفيف. مع وجود المزيد من المدن التي يجري ترويع ساكنيها والشوارع المهجورة والكائنات التي ضربها الذعر".

...

• سيناريو وإخراج الأخوان/ اليكس ويفيد باستور

• عن رواية صندوق الطيور للكاتب جوش ماليرمان

• بالاستفادة من فيلمي صندوق الطيور ومكان صامت.

• تمثيل/ ماريو كاساس، جورجينا كامبل، دييغو كالفا، نايلا شوبيرث، لولا دوينياس، غونزالو دي كاسترو.

• تقييم آي ام دي بي 5.3 من 10 نقاط وموقع روتين توماتو 25% وموقع كومن سينس 6 من 10

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إنجاز جديد لـ GPT-4.5.. يجتاز اختبار "العقل البشري" ويربك خبراء الذكاء الاصطناعي

كشفت دراسة جديدة أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو أن أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي، GPT‑4.5 من OpenAI وLlama‑3.1‑405B من Meta، تمكّنا من اجتياز اختبار تورينغ ثلاثي الأطراف تحت ظروف معينة، وهو ما يعيد طرح الأسئلة حول مدى اقتراب الذكاء الاصطناعي من التفكير البشري.

ووفقاً لنتائج الدراسة، أخطأ المحققون في تمييز الآلة عن الإنسان خلال جلسات محادثة استمرت لمدة 5 دقائق، حيث تم اعتبار GPT‑4.5 في 73% من الحالات هو "الإنسان"، مقارنة بالشخص البشري الحقيقي، وفق "إنترستينغ إنجينيرينغ".

هذا الإنجاز تم بفضل استخدام مُوجِّه استراتيجي يُعرف باسم "PERSONA"، يُزوّد النموذج بشخصية افتراضية مليئة بالتفاصيل اليومية والعاطفية، ما يجعل تفاعله أكثر واقعية.

أما نموذج Llama‑3.1‑405B، فنجح هو الآخر في خداع المحققين بنسبة 56% عند توجيهه لشخصية معينة، في حين حقق النموذج المرجعي GPT‑4o نسبة لا تتجاوز 21% باستخدام تعليمات بسيطة فقط.

ووفقاً للباحث الرئيسي كاميرون جونز، حقق  GPT‑4.5، باستخدام مُوجِّه "PERSONA" الاستراتيجي، نسبة نجاح بلغت 73% ، مما يعني أنه في جلسات الدردشة التي استمرت خمس دقائق، تم التعرف على نظام الذكاء الاصطناعي على أنه الإنسان أكثر من الإنسان نفسه.

وبحسب كاميرون جونز، فإن الأداء المذهل للنماذج اللغوية لا يعود فقط إلى تطورها التقني، بل إلى مدى قدرة النموذج على تبني "هوية" كاملة، تُضفي على المحادثة طابعاً بشرياً مقنعاً، يشمل الحديث عن العلاقات والمشاعر واليوميات.

وعند إزالة هذه "الشخصيات الافتراضية"، تراجع أداء GPT‑4.5 إلى 36%، مما يؤكد أن التخصيص عامل حاسم في قدرة الذكاء الاصطناعي على تجاوز الاختبار.

هل اختبار تورينغ لا يزال معياراً فعّالًا؟

يهدف اختبار تورينغ، الذي وضعه العالم البريطاني آلان تورينغ عام 1950، لقياس قدرة الآلة على "التفكير" عبر محاكاة المحادثة مع البشر.

فإذا فشل الشخص في التمييز بين الإنسان والآلة خلال المحادثة النصية، فإن الآلة تعتبر قد نجحت في "لعبة المحاكاة".

لكن مع تطور التكنولوجيا، بات هذا المعيار محل شك، إذ يرى نقّاد أن الاختبار بات يقيس قدرتنا على تصديق المحاكاة أكثر من كونه مقياساً دقيقاً للوعي أو الذكاء الحقيقي.

 محاكاة أم ذكاء؟

ورغم الإنجاز التقني اللافت، يبقى السؤال الأهم مطروحاً: هل هذه النماذج "تفكر" حقاً؟، أم أنها فقط تحاكي السلوك البشري ببراعة، بفضل قواعد بيانات ضخمة ونماذج مطابقة أنماط معقدة؟

الدراسة تُظهر أن الذكاء الاصطناعي بات يقترب من اجتياز واحد من أقدم تحديات الفكر البشري، لكنها في الوقت ذاته تُسلّط الضوء على حدود هذا الإنجاز، وتعيد طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى حول طبيعة "الذكاء" و"الوعي".

وسيبرز السؤال، هل تُقنعنا روبوتات الدردشة البليغة بسهولة بالغة، أم أن نماذج الذكاء الاصطناعي قد تجاوزت بالفعل عتبةً مُميزة من التفكير الحسابي؟.

خلاصة

بينما يُواصل الذكاء الاصطناعي تقدمه بخطى متسارعة، يبدو أن اجتياز اختبار تورينغ لم يعد مجرد إنجاز تقني، بل أصبح مرآة تعكس قدرتنا كبشر على التفاعل مع آلة تتحدث لغتنا، بل وتُجيد خداعنا أحياناً.

مقالات مشابهة

  • أغنية لأم كلثوم سعت جاهدةً لإخفائها من الوجود
  • مانشستر سيتي يواجه الشياطين الحمر من الاجل البقاء بسباق التأهل
  • سيدة تلاحق مطلقها لسداد 4 ملايين جنيه بعد 21 سنة زواج وتطليقها غيابيا
  • صواريخ الاحتلال تلاحق النازحين في غزة.. وحصيلة الشهداء تواصل الارتفاع
  • إنجاز جديد لـ GPT-4.5.. يجتاز اختبار "العقل البشري" ويربك خبراء الذكاء الاصطناعي
  • قزيط: لدينا زعامات جاهزة لمقايضة كل شيء مقابل البقاء في السلطة
  • وزارة الصحة: استراتيجية استباقية للوقاية من فيروس الورم الحليمي البشري
  • ورشة تدريبية حول فهم السلوك البشري
  • تهم الاغتصاب والاعتداء الجنسي تلاحق ممثلاً بريطانياً
  • سيدة تلاحق زوجها للحصول على متجمد نفقات وتعويض لزواجه بأخرى بعد عشرة 22 سنة