بالرغم من أننى أتفادى بقدر الامكان التعليق على ما ينشر فى وسائط التواصل الاجتماعى، إلا اننى و فى بعض الأحيان أجد نفسى مرغما على تناول البعض منها، مساهمة منى و مع آخرين فى محاولة ازالت ما تسببه من إلتباس و منعا لتغبيش الرؤى التى يهدف اليها الموضوع المثار فى تلك الوسائط.
فى نفس تلك الوجهة أحاول مناقشة ثلاث قضايا وردت فى وسائل التواصل الاجتماعى فى الفترة الأخيرة ،أرى من وجهة نظرى انها مهمة و تستحق التناول بالنقاش لأنها تتعلق مباشرة بمآلات الحرب التى تدور رحاها الآن فى السودان، و التى دمرت البنية التحتية للبلد، قتلت أكثر من عشرة آلاف و شردت أكثر من خمسة ملايين فى المنافى الداخلية و الخارجية.
1- العدالة و المحاسبة !
هنالك فيديو متداول فى الوسائط الأجتماعية يتحدث فيه العالم و الخبير القانونى فرانسيس دينغ، و كما يبدوا لى انه جزء " منتزع " قسرا من سياق خطاب له أورده فى احد المحافل، يستهدف الذى قام بنشره استخدام الجزء الذى أدلى به فرانيس دينغ ( حول المحاسبة و العدالة ) لخدمة هدف بعينه، و هو الترويج لاعفاء المتسببين عن جرائم حرب و جرائم ضد الانسانية و جوناسايد فى الحرب الدائرة اليوم من المحاسبة و الهروب من العدالة، و ذلك بدعوى الحفاظ على سلاسة الحياة السياسية و عدم تعقيدها من جانب و محاولة الترويج للاستناد من جانب آخر على العرف الأفريقى فى حل الخلافات و المساءلة.
فى البداية وأنا اتناول بنقاش ما ورد فى الفيديو أؤكد ان القانون الدولى الأنسانى هو قانون يتعلق بالحقوق الأساسية للانسان و لا خلاف عليه ، و قد قامت كل الدول بالتوقيع على كل المعاهدات المتعلقة بالقانون الأنسانى كما أصبحت تلك القوانين مكملة لقوانين الدول المعنية، كما ليس صحيحا القول ان تلك القوانين مخصصه لحقوق الأنسان فى الدول الغربية.
العالم قد عانى كثير من ويلات الحروب و انتهاكات حقوق الانسان و قد عمل المهتمين بحقوق الانسان و العلماء على انشاء مؤسسات دولية لتحقيق العدالة الأنسانية مستفيدين فى ذلك من التجارب الانسانية السابقة و التى أودت بحياة ملايين البشر، خاصة الحرب العالمية الأولى و الثانية.
من تلك التجارب المؤلمة و المرعبة فى آن واحد، انبثقت فكرة المحكمة الجنائية الدولية التى عزم المجتمع الدولى من خلالها لتحقيق شئين، هما مبدا المحاسبة من الجرائم المرتكبه تجاه الانسانية و عدم الأفلات من العقاب و ان لا تتدخل السياسة فى محاولة ابطال و تعطيل العدالة.
أما مسألة إستخدام الأعراف المحلية فى فض النزاعات و الخلافات فى الدولة المحددة، و تحقيق العدل من خلالها فذلك متفق عليه، وقد استخدمت الأعراف كثيرا فى حل النزاعات فى كثير من الدول الأفريقية و كما حدث فى السودان فى بعض الفترات، لكن هنالك بعض النزاعات لا تعالج الا بالقوانين الأنسانية و ذلك لشمولها، دقتها و استفادتها من التجارب العالمية و عدم تأثرها بالسياسات الداخلية فى محاولات عرقلة تحقيق العدالة.
ما قامت بارتكابه قوات الجنجويد و الجيش فى الحرب الدائراة اليوم و التى راح ضحيتها آلاف القتلى و مئات النساء المغتصبات يجب أن لا يمر بلا محاسبة أو عقاب، كما يجب أن لا تتدخل السياسية فى سبيل تعطيل و محاسبة المرتكبين للجرائم كما حدث فى ضحايا فك الأعتصام المنتظرين للعدالة حتى اليوم !!
ان محاولة استخدام نصوص الآخرين و فى غير موضعها، للافلات من المحاسبة و العقاب هو استخدام رخيص و مبتذل يهدف الى تغبيش الرؤى و تضليل الآخرين.
اخيرا أريد أن أقول ان قرار مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بتكوين لجنة لتقصى الحقائق فى المآسى و الجرائم التى تمت من طرفى الصراع فى الحرب الدائرة اليوم فى السودان، هو قرار صائب و سليم.
2- معسكر " نسيبة " فى بورتسودان !
شاهدت فيديو لتخريج مجندات من معسكرلتدريب النساء فى بورتسودان للأشتراك و القتال فى الحرب الدائرة اليوم فى السودان، و هو معسكر فى جوهره يهدف الى توسيع نطاق الحرب اللعينة التى ينادى السودانين بإيقافها، كما إن المعسكر المقام ببورتسودان يعمل و يساعد على نقل الحرب الى مكان آمن لجا اليه عدد من السودانيين هربا من ويلات الحرب فى العاصمة و مناطق أخرى من الوطن.
الخطاب الموجه للنساء من قائدة معسكر النساء عند التخرج كان يمتزج و تتداخل به بعض الشعارات المتقدمة فى قضايا تحرير المرأة، و من ثم استغلالها بشكل مضلل لخداع النساء البسيطات اللاتى ضمهن المعسكر.
المتحدثة ذكرت للنساء المجندات ان الهدف من تجنيدهن هو مساواة النساء مع الرجال و ذلك بوقوفهن جنبا الى جنب مع الرجال و دعما لحقوقهن ( بالله شوف لولوة الكيزان )!! لكنها لم تقل لهن ان هذه الحرب الدائراة شردت مئات الألوف من النساء المستضعات و تم اغتصاب المئات منهن للاذلال و الحط من كرامتهن، و أن الاستمرار فى حرب عبثية لا يوجد فيها منتصر الخاسر الأكبر فى السودان هن النساء.
بالطبع تستغل المتحدثة الجهل و الفتاوى " المضروبة " للعب بعقول اولئك النساء البسيطات...... و من المؤكد أن بنات المتحدثة و اخوتها ينعمن بالآمان فى تركيا أو يدرسن فى جامعة مامون حميده " المهربة " من ويلات الحرب الى مدينة كيغالى بدولة رواندا !!
3- مستشار اعلام الجنجويد لقناة الحدث !
عندما سأل مقدم البرنامج الحدث الأخبارية المستشار الأعلامى للجنجويد.... لماذا يقومون بقصف بيوت المواطنين فى مدن العاصمة المثلثة و يقومون بطرد سكانيها و أحتلاها كما انهم إحتلوا مبانى مؤسسات الدولة وأقفوا عجلة العمل ؟!
كان رد المستشار من أعجب ما سمعت، فقد ذكر ان معسكرات الجيش مقامة وسط أحياء السكان لذلك فهم يعتبرن تلك المناطق مسرح للعمليات أو بكلمات أخرى أو " الترجمة " لقوله، ( بما أن هذه المنازل فى العاصمة و هى منطقة عمليات فيجوز احتلالها ... نهبها ، قتل ساكنيها و أغتصاب نساءها، ثم أضاف مؤسسات الدولة توقفت ليس بسبب احتلالهم لها وأنما تم ذلك بسبب ترك العمل من جانب الموظفين المعينين من قبائل محددة و الموالين للسلطة و الذهاب للمناطق التى يتواجد بها الجيش و محاولة وصم الجنجويد بوقف دولاب العمل..... هو يريد أن يرسل رسالة بأن القصف المتبادل بين طرفى الحرب و احتلال مؤسسات الدولة ليس هو السبب !!
بالطبع قول المستشار الأعلامى يفتقر للمنطق و المعرفة السياسية، كما انه يقع فى خانة الاستهتار بعقول السودانيين، بالإضافة الى إنه يتعارض مع الواقع المعاش و المعروف للجميع .................يتبادر الى الذهن السؤال القديم المتجدد دوما.....حقيقة من أين أتى هؤلاء.... و كيف يطمعون فى حكم السودان ؟!!
أخيرا نقول لا بد من إيقاف هذه المهازل......يحدث ذلك فقط بتكوين الجبهة الجماهيرية العريضة لإيقاف الحرب و أقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
عدنان زاهر
اكتوبر – 2023
elsadati2008@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فى السودان فى الحرب
إقرأ أيضاً:
جنوب السودان على شفا الحرب الأهلية
ينسب للدكتور فرنسيس دينق، المثقف والدبلوماسي السوداني - الجنوب سوداني المعروف، أنه مَن اقترح فكرة «دولة واحدة بنظامين»... حلاً لإنهاء النزاع في السودان قبل انفصال جنوب السودان. ينتمي فرنسيس دينق إلى منطقة آبيي الحدودية المتنازع عليها بين الدولتين؛ ولأن أبناء هذه المنطقة نشأوا في أجواء التداخل بين البلدين، فقد كان حريصاً على بقاء السودان موحداً؛ لهذا طرح صيغة دولة واحدة كونفدرالية تُحكَم بنظامين لكل جزء من البلاد. وعندما انفصل جنوب السودان وصار دولة مستقلة تحمل كل أدواء الدولة السودانية القديمة من فساد ونزاعات وحرب أهلية، صار الشعار الجديد الذي يصف الأوضاع في البلدين... «دولتان بنظام واحد».
الآن، وبينما تمزّق الحرب الدولة السودانية، فإن دولة جنوب السودان تسير في الطريق نفسها، وتقف على شفا الحرب الأهلية بعد اعتقال الرئيس سلفا كير ميارديت نائبه الدكتور رياك مشار ومعه عدد من قادة حركته، بعد تجدد النزاع المسلح في منطقة الناصر.
الحقيقة أنه ومنذ استقلال دولة جنوب السودان في عام 2011، لم تتوقف النزاعات بين الرجلين، فقد بدأت مبكراً في عام 2013 باتهام الرئيس سلفا كير نائبه مشار بتدبير محاولة انقلاب ضده، وخرج مشار ليكوّن انشقاقاً من التنظيم الذي كان يجمعهما، الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM)، وكوّن مشار تنظيم الحركة الشعبية في المعارضة (SPLM-IO).
وتكررت النزاعات أكثر من ثلاث مرات خلال الفترة من 2013 وحتى 2025، ودائماً ما تمر بمرحلة خروج رياك مشار أو عزله من جانب الرئيس، ثم تتوسط دول الجوار والمنظمات الإقليمية والدولية ليوقّع الرجلان على اتفاقية سلام، سرعان ما يتم خرقها. تكرر هذا أكثر من مرة، وتم التوقيع على اتفاق سلام في 2018، وتم تفعيله في عام 2020 وتشكيل الحكومة.
ولأن العامل القبلي هو الأكثر تأثيراً؛ فإن سلفا كير يعتمد على تأييد ودعم الدينكا، أكبر المجموعات القبلية في جنوب السودان، بينما ينتمي مشار إلى قبيلة النوير، ثاني أكبر القبائل التي تملك مقاتلين أشداء.
وقد تفجَّرت الأزمة الأخيرة بصدام عسكري في منطقة الناصر بين وحدات من قوة دفاع شعب جنوب السودان، الجيش الرسمي، ومجموعات من الجيش الأبيض، وهي ميليشيا من قبيلة النوير التي ينتمي إليها رياك مشار، وليست جزءاً من جيش مشار، لكنها تقاتل إلى جانبه في كل صدام مع الحكومة. وقد تصاعد القتال لدرجة اغتيال قائد حامية الناصر اللواء ماجور داك بإسقاط طائرة تابعة للأمم المتحدة كانت تحاول نقله خارج المنطقة المحاصرة.
رأى سلفا كير أن نائبه الأول مشار مسؤول عن هذه الحادثة، وأخضعه لاعتقال منزلي بحراسة مشددة، وقرر تقديمه للمحاكمة. وقد تقاطر الوسطاء من «الإيغاد» والاتحاد الأفريقي على العاصمة جوبا للتوسط لحل النزاع، لكن لم يُسمح لهم بمقابلة نائب الرئيس المعتقل مشار.
تزامن ذلك مع تغييرات أجراها الرئيس سلفا كير في طاقم نوابه الخمسة، المعينين طبقاً لاتفاق تقاسم السلطة في عام 2020؛ إذ أقال النائب الممثل لحزبه الحركة الشعبية، جيمس واني أيقا، وعيَّن مكانه الرجل الغامض والقادم بقوة بنيامين بول ميل، كما أقال حسين عبد الباقي، ممثل أحد فصائل المعارضة وعيَّن مكانه جوزفين لاقو.
ومن الواضح أن هناك ارتباطاً كبيراً بين هذه التعيينات والأوضاع السياسية في البلاد. فالسيد بول ميل الذي تقدم ليشغل منصب نائب الرئيس ليس من القيادات التاريخية المعروفة للحركة الشعبية، ومعظم نشاطه لم يكن سياسياً، وإنما في مجال الاقتصاد والاستثمار، وهو من المقربين للرئيس سلفا كير وموضع ثقته. وهناك اعتقاد شائع في جنوب السودان أن سلفا كير يؤهّله ليخلفه في منصب الرئيس؛ ولهذا فإن قرار إقالة ومحاكمة رياك مشار الغرض منه إزاحته من أي سباق محتمل على الرئاسة. ومشار، رغم أنه يقف في المعارضة، ولا ينتمي إلى قبيلة الدينكا التي غالباً سيأتي الرئيس من صفوفها، فإنه في حال ترشحه للرئاسة قد يضعف حظوظ بول ميل بحكم أنه من القيادات التاريخية للحركة الشعبية وله خبرات طويلة في العمل السياسي والتنفيذي.
يقف الجنوب الآن على شفا حرب أهلية، يبدو ظاهرها الصراع السياسي على السلطة، لكن بحكم الجذر القبلي القوي للسياسة في جنوب السودان فستتحول صراعاً إثنياً دموياً يهدّد وحدة جنوب السودان. وهو صراع لن تتحمله بنية الدولة الوليدة المثقلة بالصراعات والفقر والفساد والمهدَّدة بالمجاعات، وستتقاطع مع الحرب الدائرة في السودان، فتشتعل كل المنطقة.
فيصل محمد صالح
نقلا عن القدس العربي