دور التقنيات الذكية في الحروب.. «حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة أنموذجا»
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
أتحدث في هذا المقال عن تقنيات حديثة ليست بالضرورة تلك التي تُستعمل بشكل مباشر في الحروب، ولكن أريد بها التقنيات التي تعمل خارج ميدان المعارك والمساندة لاستمرارها وتفوّق طرف على طرف آخر بسببها، ورغم أنه لا يمكن أن ننكر المفهوم الجديد للأسلحة الحربية بسبب التقنيات الحديثة التي تجاوزت حدود التوقعات؛ فإنّ وجود أنظمة الذكاء الاصطناعي في الصواريخ التي تُطلق باتجاه الأهداف لم يعدّ شيئًا مجهولا، وكذلك الحال للطائرات المُسيَّرة بدون طيار التي تقوم بالهجوم وعمليات الاغتيال.
أتابع صحافة الغرب وإعلامها المكتوب والمرئي رغبة في معرفة طريقة تناولهم لقضايا عالمية عدّة منها قضية الصراع الفلسطيني مع الكيان الإسرائيلي المحتل سواء مع الصراعات المحتدمة السابقة أو الحالية التي تُعتبر سابقة لا تشبه أيًّا من الصراعات والحروب السابقة من حيث حجم الخسائر سواء التي لحقت بالكيان الإسرائيلي أو بالفلسطينيين، ويغلب في تناول الإعلام الغربي -دون تعميمٍ؛ فهناك جهود غربية لأفراد ومؤسسات سياسية وإنسانية تتمسك بالأمانة الإعلامية- لهذه القضية عنصر ازدواجيةِ المعايير -عبر مقارنة تفاعلهم مع صراعات عالمية مماثلة- والتزييف الممنهج الذي يهدف إلى تزوير الحقائق لتكون هذه المنصات الإعلامية في صف الظالم والمحتل -الكيان الإسرائيلي-، وبجانب الأخبار ذات الطابع غير المحايد والمزيّف.
وصل الزيف إلى نشر صور مزيّفة بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل تزوير مقطع مرئي (فيديو) لتفجير مستشفى المعمداني في غزة الذي قصفه الكيان المحتل، وحاول التنصل من هذه الجريمة البشعة وإلصاقها بالمقاومة الفلسطينية، إلا أن المقطع المرئي الذي نشرته إسرائيل تبين زيفه وتعديله؛ ليكشف زيف الرواية الإسرائيلية، ويثبت ارتكابهم لهذه الجريمة وكذبهم المتعمد، وكذلك الادعاء بحرق المقاومة الفلسطينية لطفل إسرائيلي ونشر صورة لجثة طفل متفحّم؛ ليتبين لاحقا زيف هذه الصورة وأنها مزيفة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعود في أصلها لصورة «كلب»، وكان الناشط السياسي الأمريكي «جاكسون هنكل» «Jackson Hinkle» أول من أشار إلى زيف هذه الصورة عبر مقارنتها بالصورة الأصلية، و«هنكل» تعرّض ولا يزال يتعرّض -كما يتعرّض غيره سواء في الغرب أو الشرق من المدافعين عن القضية الفلسطينية- للضغوطات التي تمارسها المؤسسات الحكومية والخاصة الداعمة للكيان الإسرائيلي؛ فأغلقت قناته اليوتيوبية التي يتابعه فيها أكثر من 300 ألف شخص مثلما فعلت صحيفة «الجارديان» البريطانية بطرد الرسام الكاريكاتوري البريطاني «ستيف بيل» الذي رسم رسمة ساخرة لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي «نتانياهو» ضاربة بعرض الحائط قيّم حرية التعبير التي ينادي بها الغرب.
لا ينحصر دور التقنيات الذكية في جانب تزييف الصور والمرئيات بل يمتد إلى إدخال خوارزميات «أنانية» خاصة بالذكاء الاصطناعي تعمل مع منصات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة مثل تلك التابعة لشركة «ميتا» ومنصاتها مثل: (انستجرام، فيسبوك وثريدز)، ويوتيوب التابع لجوجل، وتُعدّ هذه المنصات أكثر المنصات دعمًا للكيان المحتل عبر خوارزمياتها الذكية التي صُممت عمدًا كي تعمل على سياسة الانتقاء الممنهج والمقصود للمحتوى المنشور وإلغاء حسابات محددة وإقصائها حسب الميولات والتوجهات السياسية أو الدينية؛ لتعكس هذه الممارسات التي تقوم بها هذه المنصات عبر نماذج الذكاء الاصطناعي الازدواجية في المعايير الأخلاقية، وعدم الحيادية، وانعدام حريّة التعبير التي تتناقض مع مبادئ ينادي بها الغرب ويطالب العالم بتطبيقها بينما يقوم بتجاهلها. من الواضح -الممكن- أن هذه السياسات التي تتبعها بعض شركات التقنية المالكة لمثل هذه المنصات تتحرك من واقع الضغوطات التي تمارسها حكومات بعض الدول الغربية لتحديد دور هذه المنصات في هذا الصراع، والتي يمكن بواسطتها تحييد الرأي العام لصالح التوجّه الغربي الذي يرغب ببقاء الكيان المحتل وانتصاره ولو على حساب القضية الفلسطينية وظلم أهلها وقتلهم، وهذا نجح -نسبيا- في أغلب منصات التواصل الاجتماعي مثل التي ذكرتها آنفا، وفشل -نسبيا- مع أخرى مثل «منصة أكس -تويتر سابقا-» الذي آثر مالكها «إيلون ماسك» التمسك بمبادئ حرية التعبير والحيادية رغم الضغوطات التي تمارسها بعض حكومات الدول الغربية عليه -وفقا لما تداولته وسائل الإعلام-.
في كل الأحوال هذا السلوك الذي تتبعه بعض منصات التواصل الاجتماعي متوقعا خصوصا في حالة حدوث صراعات عسكرية مثل هذه؛ فالغرب تهمّه مصالحه السياسية والاقتصادية المرتبطة -جزئيا- بوجود الكيان الإسرائيلي وهيمنته، ولأسباب تاريخية أخرى، وهذه المنصات تتبع لشركات غربية لا مناص لها إلا اتّباع سياسة الحكومات التابعة لها ولسياسات مُلاّكها. لم تقتصر سياسات دعم الكيان المحتل في هذا الجانب؛ فتعرّضت القنوات المرئية مثل قناة الأقصى -الداعمة للقضية الفلسطينية والناقلة لأحداثها- إلى الإغلاق عبر إيقاف بثها عبر القمر الصناعي «أوتيلسات» بعد ضغوطات من الحكومة الفرنسية.
نرى تأثير التقنيات الذكية في مجريات هذه الأحداث وكيفية تأثيرها على تفاعل الرأي العام، مع ذلك لم نفقد الجهود المضادة التي تحاول نقل الصورة الحقيقية وتكشف محاولات التزييف بكل أنواعها، ومن المهم أن تحرّك مثل هذه الأحداث المرتبطة بالتفاعل الرقمي توجهاتنا في الاستثمار الرقمي والتقني وتعيد فهمنا لأهمية هذه التقنيات التي ينبغي للدول العربية أن تحجز لها حيزا خاصا عبر تطويرها لتقنيات ذكية مستقلة عن التأثير الخارجي مثل منصات التواصل الاجتماعي والأقمار الصناعية والحوسبة السحابية -الضامنة لسلامة البيانات- وأنظمة الذكاء الاصطناعي، ولا يتأتّى ذلك دون البدء بتطوير شامل وجاد للتعليم بجميع مستوياته، والاهتمام بالبحث العلمي ودعمه السخيّ، والتشجيع على تأسيس الشركات الرقمية والتّقنيّة ودعمها، وكل ذلك سيعين المجتمعات العربية على إيصال صوتها إلى الخارج دون قيود، ولأجل التحول الحضاري من حالة المتأثر إلى حالة المؤثر القوي الذي يصنع بصمته الحضارية وفق مبادئ أخلاقية عظيمة.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التقنیات الذکیة فی الکیان الإسرائیلی التواصل الاجتماعی الذکاء الاصطناعی الکیان المحتل هذه المنصات التی ت فی هذا
إقرأ أيضاً:
مثقفو الاستعمار الجديد في عصر النيوليبرالية.. بوعلام صنصال أنموذجا
في كتابه الأيقوني "كراسات السجن" (1948) يخبرنا الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) عن "وجود تيار واسع الانتشار بين بعض المثقفين الإيطاليين (…) ممن يميل إلى الاعتقاد بأن المرء في الخارج أكثر نزاهة وكفاءة وذكاءً من الإيطالي".
يقول غرامشي وهو يحلل ظاهرة تمس افتتان بعض النخب الثقافية الإيطالية بالأجنبي من دون أن يخفي شعوره بالاشمئزاز من هذا السلوك الفكري الشاذ أو يتوانى عن توصيفه بلغة لاذعة: "يتخذ هذا "الهوس بالخارج" أشكالا مملة ومُقززة".
ويؤكد غرامشي أن هذه الظاهرة لا تقتصر على إيطاليا على وجه التحديد بل تمتد إلى بلدان عدة: "ويبدو أن هذه الحالة الذهنية لا تُميّز فئةً من المثقفين الإيطاليين فحسب، ولكنها تنتشر في فترات معينة من الانحطاط الأخلاقي في بلدان أخرى أيضا". ويواصل غرامشي: "على أية حال، هذه ليست علامة عن غياب الروح الوطنية الشعبية فحسب بل هي علامة على الغباء".
هذه الظاهرة التي وصفها غرامشي قبل أكثر من 70 عاما تجد صدى لها في العالم العربي المعاصر، وتحديدا في الجزائر، حيث برز مؤخرا نموذج الروائي بوعلام صنصال كمثال صارخ على هذا "الهوس بالخارج". فصنصال، الذي اكتسب الجنسية الفرنسية مؤخرا، أثار جدلا واسعا بسبب مواقفه وكتاباته التي اعتُبرت معادية للتاريخ الجزائري وممجدة للثقافة الأجنبية على حساب الهوية الوطنية. هذا النموذج يدفعنا إلى إعادة النظر في دور المثقف المعاصر، وعلاقته بمجتمعه وتاريخه، في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم في العصر النيوليبرالي.
تجاوزات "صنصال" الجسيمة تعددت أثناء شغله في وزارة سيادية بالدولة الجزائرية، ومنها ربطه الثورة الجزائرية بالنازية في روايته "قرية الألماني" (الأوروبية) "نخب الاستعمار"يفصّل الطبيب وفيلسوف مناهضة الاستعمار فرانز فانون (Frantz Fanon) بحساسية كاتبٍ من الجنوب، في وصف هذه الفئة من المثقفين ضمن كتابٍ أيقوني آخر بعنوان بليغ "بشرة سوداء ـ أقنعة بيضاء" (1952)، بينما يذهب جان بول ساتر (Jean-Paul Sartre) لتسميتهم في مقدمته لـ"معذبي الأرض" (1961) بـ"النخب المتبرجزة التي تزدري شعوبها وتستعير خطاب المستعمر".
إعلانصفات يكاد يتفق الجزائريون مؤخرا على أنها اجتمعت كلها في شخص الروائي الجزائري (والفرنسي منذ 7 أشهر) بوعلام صنصال، وذلك بعد عودته للأضواء على خلفية ما وصفه المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا (Benjamin Stora) "اعتداء صنصال على الوجدان الشعبي الجزائري" خلال ندوة عقدت في فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
والحقيقة هي أن المشهد الثقافي اليوم يؤكد أن الحالة الذهنية التي توقّف عندها أبرز مفكري ما بعد الاستعمار في القرن الـ20، لا تقتصر على حالة معزولة اسمها بوعلام صنصال أو كمال داود، وإنما تتلبس عددا غير قليل من المثقفين الجزائريين (والعرب) البارزين و(الناشئين) ممن يكتب اليوم بالعربية والفرنسية داخل الجزائر وخارجها.
وهو ما يجعلنا نقف أمام النموذج الصنصالي لمحاولة تفكيك ظاهرة انتشرت على نحو متسع بين مثقفي الجنوب، وقد أخذت بالتجذر في السنوات الأخيرة صانعة للعالم العربي مشهدا ثقافيا تبعيا أكثر منه "تابعا" (لنبقى ضمن المصطلحات الغرامشية)، تراكمت معه مدونة أدبية وفكرية تخفي وراءها كولونيالية جديدة.
وقد يكون من الأساسي الوقوف أولا على مدى تمثيل المثقف المعاصر لمجتمعه، ذلك أن ثنائية المثقف والسلطة وحالة الاستقطاب بينهما طالما كانت مطروحة ضمن إطار مفهوماتي يضع المثقف والشعب في خانة واحدة في مواجهة السلطة، وذلك ضمن سياق تاريخي نظّر فيه غرامشي لدور المثقف العضوي المقاوم للهيمنة الممثلة في الفاشيات السياسية والأنظمة الرجعية.
وكان هذا قبل أن يدخل العالم حقبة تاريخية جديدة صاحبتها تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة دفعت بالفلاسفة وعلماء الاجتماع بتحديث الأطر النظرية التي يتحدد من خلالها دور المثقف مع بدايات الموجة الأولى من الحقبة النيوليبرالية.
وبعيدا عن خطاب الرثاء حول "صمت المثقفين" أو "نهاية المثقفين"، تساءل فلاسفة كثر عما بقي من دور في "تربية الرأي العام" وهو الدور الذي طالما نُسب في فرنسا إلى رجال الدين، ليناط اليوم إلى الكتاب والصحفيين كما نظّر لذلك ريجي دوبري (Régis Debray) في كتابه المرجعي "السلطة الفكرية في فرنسا" (1979).
إعلانويأتي بعده بيير بورديو (Pierre Bourdieu) ليسك مصطلح "الفكر الأحادي" وهو الفكر الذي أخذت "السلطة الفكرية" ممثلة في مثقفي العصر النيوليبرالي والرأسمالية العابرة للحدود بالتبشير به على نطاق واسع، وفحواه تسليع كل شيء بما في ذلك القيم.
ومنه تحوّل الفكر نفسه إلى رأس مال رمزي، ليصبح المثقفون بالمصطلحات الماركسية جزءا من النظام المهيمن ولكنهم الطبقة المسيطَر عليها ضمن الطبقة المسيطِرة لأن الرأسمال المادي هو من يشتري الرأسمال المعنوي.
هذه الديناميكية وإن باتت مكشوفة إلى حد كبير في السياق الغربي والفرنسي تحديدا حيث أفرزت خلال الموجة الثانية من الحقبة النيوليبرالية أعمالا نقدية هامة تُسائِل دور المثقف المعاصر على غرار: "دجالون مثقفون" (1997) لآلان سوكال (Alan Sokal) وجان بريكمون (Jean Bricmont)، و"المثقفون المزيفون: الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب" (2012) لباسكال بونيفاس (Pascal Boniface)، إلا أنها أتاحت لمثقفي الدول المحكومة تقليديا من أنظمة غير ديمقراطية بـ"المرور الآمن" وغير المكشوف من صف الشعب إلى صف السلطة (الفكرية) تحت غطاء المعارضة للسلطة (السياسية).
مثقفون بين سلطتي الفكر والسياسة
وفي هذا الصدد يؤكد المفكر الإيطالي مارتشيللو فينيتسياني (Marcello Veneziani) على ضرورة التمييز بين السلطة السياسية والسلطة الفكرية ذلك أن السلطتين قد تتوافقان أحيانا وقد تتعارضان أحيانا أخرى، لكن خلافهما لا يمنح أيا منهما شرف الوقوف مع الشعب لأن الأمر يتعلق دوما بحالة سلطوية.
والمثير في حالة بوعلام صنصال هو أنه كان لوقت غير بعيد جزءا من السلطتين حيث كان محميا مما يعرف في الأوساط الشعبية الجزائرية بـ"العصابة"، وهي السلطة التي انتفض عليها الشارع الجزائري بحراك شعبي عام 2019، وقد كانت تمثل في الوعي الجمعي الجزائري سلطة خادمة للاستعمار الجديد.
إعلانوشغل صنصال لسنوات طويلة منصبا ساميا في وزارة الصناعة، أتيح له في كنفها التطاول مرات عدة على تاريخ الجزائر سواء من خلال كتاباته أو ندواته، من دون أن يحاسبه القانون الجزائري. ليواصل صنصال بعد سقوط "العصابة" مشروعه الفكري في فرنسا، ولا غرو أنها هي نفسها البلد التي تؤوي حاليا أهم وجوه "العصابة"؛ الفارّ من العدالة الجزائرية وزير الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب.
ولعل أبرز مثال على تجاوزات صنصال الجسيمة خلال الحكم السابق، أي أثناء شغله منصبا حساسا في وزارة سيادية في الدولة الجزائرية، ربطَه في رواية "قرية الألماني" (2007) الثورة الجزائرية بالنازية. ثيمة كلفته بضعة مقالات نقدية آنذاك، وهجاء من الروائي الشيوعي الجزائري البارز رشيد بوجدرة الذي كان مناضلا في ثورة التحرير الوطنية.
والجدير بالذكر أن النسخة الفرنسية لكتاب بوجدرة "مهرّبو التاريخ" (2017) الذي كشف فيه عن علاقة أسماء روائية جزائرية كبيرة من بينها صنصال بالسلطة والاستعمار الجديد وكشف تزويرها للتاريخ، جرت مصادرته بسبب دعوى قضائية رفعها ضده الروائي كمال داود، حيث اتهم فيها هذا الأخير بوجدرة بـ"القذف".
وكان بوجدرة قد ذكر في كتابه أن داود كان ينتمي إلى جماعة "جيا" (الإرهابية المسلحة) خلال العشرية السوداء، إلا أن المثير هو خروج المحامية الجزائرية فاطمة الزهراء بن براهم على أمواج الإذاعة الجزائرية الثالثة الناطقة بالفرنسية في 12 ديسمبر/كانون الأول 2024 لتؤكد حيازتها أدلة ووثائق تثبت أن كمال داود كان يحرض فعلا الشباب على الالتحاق بصفوف الإرهابيين خلال العشرية السوداء، في تعارض مع تصريحات الكاتب الحالية التي يروج من خلالها لروايته الأخيرة بفرنسا حيث يقول نصا إنه كان خلال العشرية السوداء رجلا "محبا للجنس والنساء والخمر والليالي الحمراء"، وهو ما يتعارض مع تصريحات سابقة له ذكر فيها هو نفسه أنه كان إماما خلال تلك الفترة.
إعلانفهل سيأذن كل هذا بخروج كتاب استقصائي جديد كـ"من يدفع للزمار ـ الحرب الباردة الثقافية" (1999) يكشف قصص الاستعمار الجديد مع مثقفين يعادون تاريخ مجتمعاتهم (ويكذبون وينسون أكاذيبهم) ولكنهم يبقون مع ذلك ممثلين لشعوبهم!؟ أما السؤال الأهم فهو إن كان كمال داود بدأ حياته كإسلامي "معارض"، فإن بوعلام صنصال طالما كان الابن المدلل للسلطة في الجزائر، إذن كيف تم تمريره في المحافل العالمية على اعتباره مثقفا معارضا للسلطة بينما كان يشغل منصبا كبيرا في الدولة على نحو مكشوف، ولم يحاسب يوما على أي من أطروحاته الجدلية داخل الجزائر؟
ويبقي السؤال الأكبر لماذا يدافع اليوم الإعلام الفرنسي (بيمينه ويساره) وأدباء فرنسا (بيمينييهم ويسارييهم) عن حق صنصال وغيره في "التعبير"، حتى إن ثبت تعمدهم التزوير والكذب، أي حتى بعد سقوط الشرعية الفكرية التي يفترض أنها هي ما تمنحهم الحق في الكلام؟
تداعيات قانونية واجتماعيةهنا يأتي دور المصطلحات الكاشفة التي دعا الفيلسوف الإيطالي كوستانزو بريفي (Costanzo Preve) (1943 ـ 2013) في البدء بالاشتغال عليها لتبين دور المثقفين الجدد في الحقبة النيوليبرالية، حيث يظهر من خلال قضية صنصال، والأسماء التي وقّعت على العريضة التي طالبت بتحريره من دون محاكمة (أي وضعه فوق القانون)، أنها مطالبات تأتي لتكريس حالة "عصمة من الخطأ" للمثقفين على غرار العصمة التي (كان) يتمتع بها الأنبياء والقديسون وهو ما يعيدنا إلى الفصل الذي خصصه كوستانزو بريفي في كتابه "عودة الإكليروس.. مسألة المثقفين اليوم" (1999) لتفكيك ديناميكيات عمل المثقفين في العصر النيوليبرالي: "أعضاء كهنوت العولمة. مقترح اصطلاحي كاشف".
كما يجعلنا نتأمل طويلا في كلمات الشاعر والمفكر الإيطالي دافيدي روندوني (Davide Rondoni) في كتابه "ما الطبيعة: اسألوا الشعراء" (2021)، والذي أكد فيه على وجود تيار ثقافي واضح في الغرب يسعى لتحويل الأدباء إلى "كهنة علمانيين"، مع كل ما ينجر عن ذلك من مزايا تقدم حصرا للمثقفين ولا تتاح لبقية الشعب، وهو ما يجعل المثقف المعاصر اليوم بكلمات بيير بورديو جزءا لا يتجزأ من السلطة تطوعه كما تشاء وتزور به تاريخ من تشاء من الشعوب لتسويغ الفعل الاستعماري (القديم والجديد)، مكرسة حالة من الإفلات من العقاب للمثقفين المزوِرين.
إعلانوهنا يظهر دور الكاتب الحر في تكريس الفعل الثقافي على اعتباره قيمة إنسانية لا تقبل المساومة، وكذا عدم الانصياع لمحاولات خلع الإنسانية عن الكاتب وتحويله ترسا من تروس آلة الهيمنة اسمه "قوة ناعمة". ولأنه ليس بسلعة ولا بآلة، بل إنسان بنوازع مختلفة، فهو إذن يقع تحت طائلة القانون، وإن هو أخطأ فلا بد أن يعاقب لأنه ليس معصوما؛ وهكذا تم إيقاف بوعلام صنصال، بحكم المادة 87 في مطار الجزائر الدولي على إثر مشاركته في ندوة في فرنسا خرق فيها القانون الجزائري.
خرق وصفه المؤرخ الفرنسي المختص بتاريخ الثورة الجزائري بنجامين ستورا بأنه "اعتداء على وجدان الشعب الجزائري"، وسماه عضو مجلس الأمة حمة شوشان "خيانة للوطن". الخيانة التي قد تكلف أصحابها في القانون الأميركي حكم الإعدام، أما في القانون الجزائري فقد تكلف صنصال السجن.
ليبقى ما هو أسوأ من كل هذا وذاك؛ وهو أن التاريخ لن يذكر صنصال وفئة الكتّاب التي ينتمي لها سوى كـ"مثقفين دجالين" بتعبير آلان سوكال وجان بريكمون. والأمر لن يستدعي الاطلاع على تحقيقات أمنية تؤكد تخابر هؤلاء مع جهات أجنبية، بل سيكون نتاجهم الأدبي شاهدا عليهم. أدب لا يتوانى عن سرقة تاريخ الشعوب وتزوير ضمائرها ليباع سلعة رخيصة في مزادات الأسواق العابرة للحدود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.