من القطرة إلى الطوفان.. التسلسل الزمني لعمليات حماس السيبرانية
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
في عوالم الحرب السيبرانية الغامضة، غالبا ما يكون من الصعب معرفة الحقائق بشكل واضح، فإن الانتشار السهل لما تُعرف بالأسلحة السيبرانية الهجومية خلال السنوات الأخيرة أدى إلى خلق ساحات معارك تعجّ باللاعبين، ويمتزج فيها المجرمون والدول والمدافعون عن قضايا والعابثون وغير هؤلاء من الجهات الفاعلة.
"لن أقول إنهم أقوياء أو ضعفاء، بل إنهم مثيرون للاهتمام"، بهذا علق ضابط كبير في إدارة السايبر بالجيش الإسرائيلي، لصحيفة "ديلي بيست" بشأن المحاربين السيبرانيين في حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ولكن، كيف طوّرت حماس هذه الإمكانات؟ وما المدى الذي بلغته قدراتها؟ وما العمليات التي نفذتها أو الأهداف التي ضربتها؟ وهل يمكن ربط هذه القوة بما حدث في عملية "طوفان الأقصى"؟
القطرة الأولى.. "رشٌّ ورجاء"لا نعرف تاريخا دقيقا لبداية هجمات حماس السيبرانية، خصوصا أنها تحدث في عالم الإنترنت المظلم، وحتى عند اكتشافها فإن لدى الجانبين حرصا على تجنب الحديث عنها. لكن يمكن القول إن أول إبلاغ عن هجوم إلكتروني للحركة ضد إسرائيل كان عام 2002، حسب صحيفة "ديلي بيست"، فقد اخترق مقاومون طائرات استطلاع مسيّرة تابعة للجيش الإسرائيلي تحلق فوق غزة، وحصلت حماس على اللقطات التي سجلتها هذه الطائرات.
ويقول تقرير بشأن إستراتيجية حماس السيبرانية، قدّمه سايمون بي هاندلر إلى المجلس الأطلسي للأبحاث والدراسات، إن عمليات حماس السيبرانية في ذلك الوقت اقتصرت على هجمات التصيد التي تقوم على إرسال أكبر عدد من ملفات التجسس الخبيثة إلى بريد عدد كبير من الحسابات العشوائية، على أمل أن يفتحها أحد المستخدمين مما يؤدي إلى معرفة معلومات عنه، وهي ما كانت تعرف وقتها بتكتيك "رش وارجُ" (Spray and Pray).
ومع تطور الأساليب وظهور منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة أواخر العقد الأول من الألفية، ظهرت أساليب جديدة ومتطورة لحماس تعتمد أكثر على أهداف محددة مدروسة.
إنفوغراف التسلسل الزمني لنشاط حماس السيبراني (الجزيرة) القطرات تتجمع.. "دي دوس" التكتيك الأولويقول معهد القدس للدراسات الإستراتيجية، وهو مؤسسة إسرائيلية تجري دراسات بشأن إستراتيجيات سياسية وعسكرية لتزويد الإدارة الإسرائيلية بالأفكار والرؤى في عدة مجالات، إنه خلال عملية "الرصاص المصبوب" -التي تسميها المقاومة الفلسطينية "معركة الفرقان"- عام 2012، هاجمت حماس مواقع إسرائيلية إلكترونية، منها موقع قيادة الجبهة الداخلية، وموقع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. وأعلن حينها المتحدث باسم الحركة سامي أبو زهري أن الهجمات الإلكترونية جزء لا يتجزأ من الحرب على إسرائيل.
ويقول تقرير لأميركان إكسبريس إنه في عام 2013، قامت مجموعة تسمي نفسها "قراصنة عز الدين القسام السيبرانيون" بما يعرف بهجوم حجب خدمة "دي دوس" (DDOS Attack) على موقع "أميركان إكسبريس"، استمر ساعتين.
وعلى النقيض من هجوم دي دوس التقليدي "الذي يعتمد على شبكة من الحواسيب المخترقة التي تم ضمها معا لتكوين شبكة روبوتية (بوت نت) يسيطر عليها المتسللون"، فقد استخدم الهجوم الفلسطيني لغة برمجة تعمل على شبكة الخوادم المخترقة، مما سمح للمتسللين بالحصول على نطاق ترددي أكبر لتنفيذ الهجوم.
وحسب تقرير معهد القدس للبحوث الإستراتيجية، فإنه في صيف 2014، وخلال عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية -التي ردت عليها حماس بعملية "العصف المأكول"- تزايدت محاولات مهاجمة المواقع المدنية والعسكرية في إسرائيل.
حركة حماس اخترقت الجنود عبر تطبيق الواتساب، وتمكنت من فتح 3 تطبيقات للمواعدة وتحميل الصور (رويترز) سيول "الحب" من حماس تجرف الجنود الإسرائيليينذكرت عدة مصادر إسرائيلية أنه في يناير/كانون الثاني 2017، تم الكشف عن اختراق العشرات من هواتف الجنود والضباط الإسرائيليين من قبل حماس، هذا فضلا عن اختراق مئات المجموعات المرتبطة بالجيش على فيسبوك، والتي تبادل فيها المستخدمون معلومات عن التدريبات ومسودات الإخطارات، وغير ذلك من المعلومات الخاصة.
وكشفت مواقع للجيش الإسرائيلي عن أن حركة حماس بدأت هجوما إلكترونيا متطورًا في يوليو/تموز 2018، استخدمت فيه ملفات تعريف مزيفة لنساء على شبكات التواصل الاجتماعي، بغرض السيطرة على الهواتف المحمولة والحواسيب الخاصة بالجنود.
وقالت المصادر الإسرائيلية إن الحركة اخترقت الجنود عبر تطبيق الواتساب، وتمكنت من فتح 3 تطبيقات للمواعدة وتحميل الصور والرسائل على المتاجر الإلكترونية الرسمية. ومن خلال هذه الهجمات، استطاعت التحكم بالميكروفونات والكاميرات الخاصة بأصحاب الهواتف المحمولة من دون علمهم.
وكجزء من هذا الهجوم، حسب موقع سيمانتك للحلول الأمنية، أنشأت حماس أيضا مجموعة على فيسبوك تتعلق بكأس العالم لكرة القدم 2018، ودعت المشجعين الإسرائيليين إلى الانضمام إليها للحصول على التحديثات ومشاهدة البث المباشر والمراهنة على المباريات. كما أنشأت تطبيقا عن كأس العالم للهواتف التي تعمل بنظام أندرويد، اسمه "غولدن كب"، وتمكنت من اختراق المستخدمين الإسرائيليين الذين حمّلوا التطبيق، والاستيلاء على بيانات هواتفهم.
وكشفت شركة "كلير سكاي" لأمن المعلومات عن أن حركة حماس زرعت في أغسطس/آب 2018 برامج تجسس في هواتف محمولة لإسرائيليين، من خلال تطبيق يحاكي تطبيق "ريد أليرت" الذي يصدر تنبيهات عند إطلاق صواريخ وقذائف هاون على إسرائيل.
وتم ذلك عن طريق رابط لتنزيل التطبيق من ملفات شخصية مزيفة على فيسبوك وتويتر، ومن ثم يقوم التطبيق بالسيطرة على الهاتف الخلوي المستهدف، ويمكّن المهاجم من مراقبته والتلاعب به عن بعد. ويبدو أن حماس قد وقتت لهذا الهجوم السيبراني بالتزامن مع إطلاق مئات الصواريخ على إسرائيل، وصاحبت هذه العملية حملة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي من حسابات عبرية مزيفة تدعو لتنزيل التطبيق الجديد.
هذا التطور النوعي في أساليب الهجوم السيبراني جعل المؤسسة العسكرية تنتبه لقوة حماس السيبرانية، مما جعلها لأول مرة -حسب عدة تقارير إخبارية- تستهدف مبنى في غزة عام 2019، ادعت أنه مقرّ قوة حماس السيبرانية، وهي المرة الأولى التي يعلن فيها جيش متطور استهداف مجموعة من "القراصنة السيبرانيين".
هناك عدة عوامل تسهم في نجاح كثير من عمليات المقاومة الإلكترونية (مواقع التواصل) كيف خدمت إستراتيجية حماس السيبرانية "طوفان الأقصى"؟هناك عديد من السيناريوهات التي يضعها الخبراء الأمنيون لمعرفة دور هجمات حماس السيبرانية في السنوات التي سبقت عملية طوفان الأقصى الأخيرة، وهناك عدة عوامل تسهم في نجاح كثير من عمليات المقاومة الإلكترونية، ولعل من أهم هذه السيناريوهات أن:
التجنيد في إسرائيل إجباري، وهو ما يجعل أغلب الجنود من فئة الشبان الذكور قليلي الخبرة، مما يسهل اصطيادهم من خلال تطبيقات المواعدة والهوايات مثل كرة القدم. الهدف الرئيسي من الاستهداف على وسائل التواصل الاجتماعي هو جمع معلومات عن الجندي ومكان عمله وأقاربه وحتى مرؤوسيه، وبذلك يستطيع المهاجم تكوين ملف خاص عن كل منهم ومعرفة قيمة ما يعرفه. بعد جمع المعلومات من منصات التواصل، يستهدف محاربو حماس السيبرانيون أهدافهم بتطبيقات خاصة (مواعدة، كرة قدم، تحذير)، كل بحسب نقاط الضعف التي جمعت عنه. ويكون الهدف من هذه العمليات هو معرفة تحركات الجنود على الأرض، وخصوصا في منطقة جغرافية محددة مثل المعسكر، وهذا النوع من المعلومات السرية لا يمكن الوصول له عبر الجواسيس على الأرض إلا بصعوبة بالغة. يرسم المحاربون السيبرانيون عن طريق تطبيقات معينة خرائط لتحديد تحركات أهدافهم، ومن خلالها يمكنهم معرفة المناطق والغرف داخل المعسكرات التي يعملون فيها، مما يتيح لهم رسم خطط الاقتحام وتزويد مقاتليهم على الأرض بهذه الخرائط.محاربو حماس السيبرانيون، بإمكاناتهم المتواضعة وربما البدائية، وبما يشبه حرب عصابات ساحتها عالم الإنترنت المظلم، استطاعوا اختراق إسرائيل، الدولة التي يشيد العالم أجمع بقدراتها السيبرانية.
هذا الصراع وإن كان خافيا على كثير من القراء والمتابعين، فإن نتائجه تجلّت في عملية "طوفان الأقصى" الأخيرة التي حملت تفاصيلها آثار بصمات محاربي حماس السيبرانيين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التواصل الاجتماعی طوفان الأقصى من خلال
إقرأ أيضاً:
مكانة طوفان الأقصى في قلب النموذج الانتفاضي.. قاموس المقاومة (54)
"الانتفاضة كلمة بلون الدم ارتسمت على جدران أيامنا، فأعطتها رائحة الثورة، مشاهد وصور تلهث محاولة اللحاق بواقع المأساة الفلسطينية؛ لعلّها تحمل مِسْك الشهداء وتنثره خيوطا من نور تضيء عتمة الواقع العربي. الانتفاضة إرادة حرّة استطاعت أن تحطّم أغلالها وترفع أكفّها للشمس، صِبية أثارتهم حرارة الوعد، وأشعلت أرواحهم بالتمرّد والاحتجاج على كل مبررات الخنوع، وعلى الصمت العربي المطبق على شفاه الكلام. الانتفاضة الفلسطينية حجر مقابل رصاصة، وجدار مقابل صاروخ، ساعد مقابل مصفّحة، وقلب ثائر مقابل تكنولوجيا حربية بيد ترتعش ولا شيء يطمئنها كالدم!"؛ كما قال أحدهم.
الانتفاضة وعي بالحق في الأرض والوعد بالحرية والتحرير، الانتفاضة حركة عزة وكرامة واستنفار؛ ونفض لكل خذلان وهوان.
باتت عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والمعروفة باسم "طوفان الأقصى" من الأحداث التي يمكن أن نطلق عليها "من أيامنا/ أيام العرب والمسلمين"، وهي التسمية التي طالب بها المفكر المصري الراحل طارق البشري بإطلاقها على الأحداث العربية والإسلامية المهمة، سعيا منه ألا ندور في فلك الغرب ونفكر بمنطقه في أحداثنا المهمة والمصيرية.
وانطلاقا من هذا الهم وهذه المسؤولية نستهدف تناول هذه العملية من منطلق التحديات والفرص؛ عبر قراءة رأسية تتضمن رصد خريطة التحديات، ومسار الاستجابات، ومدركات السياقات، واستكشاف الفرص والقدرات، وبناء الاستراتيجيات، والتعرف على المآلات، تترافق معها قراءة أفقية تتضمن المستويات والأطر والإشكالات كل بحسب طبيعته ومتطلباته.
التحديات تستلزم منا رسم مجموعة من الخرائط تختلف عما نحتاجه في مسار الاستجابات، أو السياقات أو الفرص.. وهكذا، سعيا لأن نقدم إسهاما يليق بالحدث الذي صنع حالة من الفخر والافتخار للأمة الإسلامية، عليها أن تستفيد منه وتعظم من مكاسبه، لا أن تتركه يتآكل وينزوي، أو ينقلب إلى حالة من الإحباط والإهدار
فالتحديات تستلزم منا رسم مجموعة من الخرائط تختلف عما نحتاجه في مسار الاستجابات، أو السياقات أو الفرص.. وهكذا، سعيا لأن نقدم إسهاما يليق بالحدث الذي صنع حالة من الفخر والافتخار للأمة الإسلامية، عليها أن تستفيد منه وتعظم من مكاسبه، لا أن تتركه يتآكل وينزوي، أو ينقلب إلى حالة من الإحباط والإهدار. الطوفان بمكانته ومقامه في النموذج الانتفاضي لحظة نماذجية بامتياز؛ لحظة كاشفة فارقة، لحظة فرقانية دافعة رافعة.
إن عملية الطوفان "طوفان الأقصى/ السابع من أكتوبر" وما تبعها من صمود أسطوري من المقاومة الفلسطينية بأطيافها المتنوعة، ومن الشعب الفلسطيني بتنوعاته المتعددة على مدى ما يقرب من تسعة أشهر لهو أمر يستدعي من الباحثين والمتخصصين والمنشغلين بالعمل العام كل في مجاله أن يفكر ويتدبر في هذه المعركة، ويجعل من بين اهتماماته اليومية كيف يمكن أن يعظم من مكاسب وفرص الطوفان.
فهذه العملية أعادت بعث حالة النهوض في الأمة، وأشعلت جذوة نهوضها ليس بين أبنائها فحسب، بل أدرك العالم أجمع أن هذه الأمة لديها من الإمكانات والممكنات ما يجعلها قادرة على أن تؤثر في مسار الإنسانية ككل، وكانت الاستجابات المتنوعة من أركان العالم المختلفة ليس فقط على مستوى الدول والمؤسسات، وإنما حتى على مستوى الأفراد، سواء بالمظاهرات، أو الاهتمام بالدين الإسلامي الذي يجعلنا نفكر في قيمة ومكانة الطوفان وما تسبب فيه من إحياء للقيم الإسلامية الحضارية، وأن نؤمن بأن العمل في الطوفان وللطوفان هو عمل أمة، وبناء في مسار الحضارة، وتأسيس لنهوض وانبعاث حضاري طال انتظاره.
ومن هنا فمن الممكن القول بأن طوفان الأقصى هو نقطة البداية لمشروع نهوض هذه الأمة من جديد، إلا أن هذه البداية تحتاج لبناء وعي وتأسيس سعي حضاري متكامل يلتمس الوقوف على التحديات ومسار الاستجابات وإدراك السياقات، وصناعة الفرص والقدرات وبناء الاستراتيجيات، واستشراف المستقبل والمآلات للطوفان في إطار كلي يستشعر عِظم المسؤولية ويؤمن بالمصير الحتمي للتغيير، ويدرك أن هذا التغيير رغم حتميته فإنه يحتاج لعمل جاد منتظم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11).
فمثل هذه البدايات القوية تحتاج لما يوازيها من تراكم خبرات واستثمار قدرات، وبذل الجهود في تراكم هذا العمل واستنساخه في مجالات الحياة المختلفة، بعد أن يتم بحث الجوانب المختلفة للطوفان وتعظيم الاستفادة من الفرص والقدرات التي صنعها في هذه الأمة، واستنفار جهود الدول والمؤسسات العربية والإسلامية لعدم إهدار هذه الفرصة التي يحرص العدو (المنظومة الغربية) على أن يرفع من تكلفتها، بما يؤدي إلى القضاء عليها وقطع الأمل في تكرارها أو استنساخها، مثلما حدث في الثورات العربية مما أورث اليأس والإحباط.
إن هذا التنظير نجد ما يؤكده عند الدكتورة نادية مصطفى التي أشارت إلى أن المقاومة الإسلامية في فلسطين هي التي تقود الصراع مع إسرائيل على مستقبل القضية الفلسطينية؛ انطلاقا من طوفان الأقصى وتداعياته على الضفة الغربية وفلسطين 1948، بعد أن تأكد فشل الخيار السلمي الذي اضطرت إليه السلطة الفلسطينية منذ 1993 ونجحت إسرائيل في تفريغه من هدفه ومضمونه طيلة ثلاثة عقود.
ولهذا فإن مآل طوفان الأقصى وأهدافه، واستنادا للذاكرة التاريخية عن حركات المقاومة والتحرير، هو الذي يحدد الآن على الصعيد العسكري؛ ليس مستقبل القضية الفلسطينية فقط، ولكن سيقدم نموذجا في المنطقة، كما قدم لأحرار العالم المساندين لغزة عبر العالم نموذجا تجديديا عن الطاقات والقدرات الإيجابية الكامنة في النموذج الإسلامي، على نحو يدحض التشويهات المتعمدة باستخدام ممارسات للقاعدة وداعش، لدرجة دفعت البعض إلى طرح سؤال تحذير: هل هناك ثورة إسلامية من جديد في الشرق الأوسط اهتداء بحرب غزة؟.. ومن ثم فهناك حاجة لرؤية استراتيجية حضارية من أجل دعم صمود نموذج المقاومة الذي جسده طوفان الأقصى ليستكمل مساره في فلسطين، وباعتباره أيضا نموذجا للتجدد الحضاري للأمة برمتها، وربما للتجدد الحضاري للإصلاح والتغيير العالمي في مواجهة تحالف الاستخبارات المحلية مع الاستخبارات العالمية الرأسمالية الصهيونية.
جاءت هذه العملية في توقيت وسياق غير متوقعين تماما، خاصة في ظل الاعتداءات المستمرة التي تقوم بها حكومة اليمين الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل والتي تضم عتاة المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، مستبيحة أراضيهم تمهيدا لمصادرتها وتهويدها، إضافة إلى اعتداءات المستوطنين المتكررة على المسجد الأقصى بحماية الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية..
أما عن قطاع غزة، فتستمر إسرائيل في حصاره منذ عام 2006، وتقلص حقوق الأسرى الفلسطينيين وتزيد سوء معاملتهم، وترفض عقد اتفاق لتبادل الأسرى، مستغلة ضعف الموقف العربي واستعداد دول عربية عديدة لتطبيع العلاقات معها بمعزل عن الحقوق الفلسطينية وبعيدا عن صيغة الأرض مقابل السلام. ومن ثم فإن الطوفان دشن لمرحلة جديدة، تذكر الكيان الصهيوني بموقعه الصحيح من أنه كيان غاصب، وتذكر العالم بالمقاومة وأنها حركة تحرر وطني تواجه محتلا استيطانيا دخيلا على أرضها وشعبها، ومن ثم فقد أحيا الطوفان القضية الفلسطينية في السياق المحلي والإقليمي والدولي بصورة لم تكن متوقعة، وأعاد القضية الفلسطينية إلى الضمير العالمي، وكشف عن تداعي المنظومة الأخلاقية الإسرائيلية والغربية من ورائها.
من هذا المنطلق لم يعد طوفان الأقصى مجرد حدث محلي بين سلطة استيطانية (الكيان الصهيوني) ومقاومة شعبية (قطاع غزة)، ولكن الأمر صار أبعد من ذلك، بل إن تأثيره فاق الكثير من الحروب التي اندلعت بين الكيان الصهيوني والدول العربية التي خاضت جيوشها معه حروبا عدة.
وقد يكون ذلك عائد إلى رد الفعل القوي لعدد من القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي انخرطت في الأمر بصورة مركبة ومعقدة. فلم تتوان قيادات الولايات المتحدة الأمريكية ورموزها الأربعة الكبار عن المشاركة الجماعية أو الفردية في أنشطة وفعاليات عسكرية إسرائيلية مباشرة، كما أن المؤسسات الأمريكية استنفرت لمواجهة الحدث في كافة الساحات الأمريكية، سواء في الجامعات أو المؤسسات السياسية وصولا إلى إقدام أحد أفراد القوات الجوية الأمريكية إلى التضحية بنفسه حرقا؛ وآخر قدم استقالته مؤخرا من الأجهزة الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأمريكية اعتراضا على سلوك الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الحرب، ما خرجت به الانتفاضات الفلسطينية، وخاصة الانتفاضات التي تتابعت وتراكمت أخيرا، هو بمثابة شهادة حيوية على تجارب الشعب الفلسطيني ونضالاته وصمودهأو بمعنى أدق الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ليس في قطاع غزة فحسب، ولكن العدوان الإسرائيلي ممتد بطول الأراضي الفلسطينية وعرضها، ناهيك عن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن وانقلابها بشكل واضح وفاضح على كافة القيم والمعايير الإنسانية التي تدعى أنها تدافع عنها وتحميها.
إن ما خرجت به الانتفاضات الفلسطينية، وخاصة الانتفاضات التي تتابعت وتراكمت أخيرا، هو بمثابة شهادة حيوية على تجارب الشعب الفلسطيني ونضالاته وصموده. منذ عام 1948، قام هذا العمل بتأريخ كل المحن والانتصارات التي تمت مواجهتها، مما أدى إلى إنشاء سرد يوثق المعالم التاريخية والوجدانية المهمة. كما ألهمت الأحداث الأخيرة، مثل "طوفان الأقصى"، ردودا وآثارا كبيرة تهدف إلى الحفاظ على ذكرى وإرث هذه اللحظات المحورية للأجيال القادمة.
كل هذا يشكل واحدة من قمم المقاومة الحضارية الشاملة يحفر في الذاكرة بدم الشهداء؛ ويدين كل ممارسة من متصهينة أذلاء؛ ويفضح سلسلة من المزعومين زعماء؛ ويكشف قائمة العملاء؛ ويفتح آفاق العالم والمعمورة جمعاء؛ للاحتجاج في مسيرات وانتفاضات.. لم يكن كل ذلك سوى أهم آثار ومآلات، وثمرة من ثمرات النموذج الانتفاضي على أرض فلسطين الغراء.
x.com/Saif_abdelfatah