«إن الصمت هو صراخ من النوع نفسه، أكثر عمقًا، وأكثر لياقةً بكرامة الإنسان...»

(غسان كنفاني)

- 1 -

لم يعد ثمة شك في أن "القضية الفلسطينية" تجتاز في الوقت الراهن منعطفًا تاريخيًا ربما لم يسبق له مثيل من قبل، لا قبل 1948 ولا بعدها. "القضية الفلسطينية" تجتاز الآن مرحلة اشتداد الأزمة (بتعبير المفكر الراحل محمد عابد الجابري)، ما في ذلك شك.

فالحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو لا تتوفر على أي مشروع سياسي، وهو نفسه لا يمتلك منطقًا سياسيًا وإنما منطقه منطق الجهالة والحرب. هو يمارس منطق: "ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا".

لحظات صعبة وقاسية وكاشفة أيضًا، كاشفة لكل ادعاءات التقدم الحضاري "الغربي"، والقيم الإنسانية "الغربية"، والعدالة "الغربية".. إلخ هذه الأكاذيب التي بتنا نتنفسها صباح مساء، ونحن نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا وننزف ألما من قلوبنا أمام المشاهد اللا إنسانية في فلسطين المحتلة، لم يعد هناك تصور ولا تخيل يمكن أن يسجل أو يصل إلى بشاعة ما يجري في فلسطين، الدعم كل الدعم للمحتل والإدانة كل الإدانة لصاحب الأرض والحق والتاريخ!

في كل لحظة منذ اندلاع المواجهة في السابع من أكتوبر، ونحن نعبر على جسر الآلام إلى بؤرة وجعنا العربي الغائر، فلسطين المحتلة، وفي انتظار عبور المساعدات التي تقف على أبواب معبر فرح منذ أيام طويلة.

أكثر من عشر سنوات ونحن نظن أن القضية خمدت وفترت ويظل الوضع على ما هو عليه إلى أجل غير مسمى، عناوين عريضة ولافتات فضفاضة "معركة حق تقرير المصير الفلسطيني وحقوق الإنسان". ثلاثة أرباع القرن وقوة الاحتلال الغاشمة تمارس عدوانها ليل نهار ضد الفلسطينيين، ولا هي بقادرة على محو فلسطين وتدميرها على الرغم من كل الطاقة العسكرية الجهنمية التي تمتلكها، وصبتها وتصبها بكل جنون ووحشية على غزة وأهلها المدنيين.

- 2 -

لكل المقهورين أجنحة وأشرعة ودراجات ومراكب... وطوفان مخيف وهكذا شاهدنا الأحداث التي اندلعت منذ صباح السبت السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم.. وقعت حوادث جسيمة، وانفجر طوفان لا يعلم أحد مداه ولا حدوده..

كسرت المقاومة الجمود المحيط بالقضية الفلسطينية، أحيت صورة المقاومة المشروعة مرة أخرى أمام العالم كله، وبعد أن كان يظن أنها صارت جثة هامدة، رآنا قادرين على الحركة... قادرين على القتال... قادرين على الانتصار، ولم تتغير صورة المقاومة وحدها أمام العالم، ولكنها أحيت أيضا العواطف والمشاعر العربية المساندة لفعل المقاومة المشروعة.. المقاومة المشروعة. أثبتت العمليات للكيان المحتل أن منطقها في الحدود الآمنة منطق مضروب وأن على الدولة الاستعمارية المحتلة أن تبحث عن منطق آخر في الأمن.. مغاير لمنطق الأسلاك الشائكة والجدران العازلة والقبب الحديدية "الفشنك"!

وبعيدًا عن مناطق التحليل السياسي والاستراتيجي والتعليق الفوري على الأحداث المشتعلة في الأراضي المحتلة فإن ثمة أربعة أسماء روائية من فلسطين، بحسب الناقد الكبير فيصل دراج، سجّلت حقب المأساة الفلسطينية التي كلما آنست نورا سقط عليها ظلم وظلام جديد. الأول والأشهر غسان كنفاني (1936-1972)، الذي رأى وكتب وبشّر ورحل قبل الأوان، والثاني جبرا إبراهيم جبرا، الحالم الرومانسي الذي اختصر مصير فلسطين إلى حكاية عن الخير والشر، والثالث إميل حبيبي الساخر والمتشائم في سخريته، والرابع حسين البرغوثي الذي عاد إلى فلسطين وعثر على أطلال فلسطين.

- 3 -

سنتوقف قليلًا عند صوت غسان كنفاني، صوت المقاومة الفلسطينية جماليا وإبداعيا، ونشير سريعا في حدود المتاح إلى نصوصه المهمة التي تمثلت المأساة الفلسطينية وعبرت عنها جماليا.

غسان كنفاني (1936-1972) الذي جمع بين النضال السياسي والنضال بالقلم، حمل السلاح مجازًا وعلى الحقيقة، وقال قولته الشهيرة: "أحمل كل ما يمكنني من الدفاع عن نفسي في مواجهة الشر والعدوان".

اغتيل كنفاني عن ستة وثلاثين عاما، بلغمٍ انفجر فيه، على يد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وكان قد ترك أربع روايات: «رجال في الشمس»، و«ما تبقى لكم»، و«أم السعد»، و«عائد إلى حيفا»، كما ترك أربع مجموعات قصصية، ومسرحية واحدة هي «الباب»، فضلا على أربعة كتب أخرى تشكل دراسات نقدية وتاريخية عن أدب المقاومة: «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة»، و«في الأدب الصهيوني»، و«المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها»، و«الثورة العربية في 1936»، نشرت جميعًا أثناء حياته، كل ذلك بالإضافة إلى ثلاث روايات لم تكتمل وعدد من المسرحيات ومجموعة ضخمة من المقالات الصحفية والمحاضرات التي لم تنشر، بحسب ما أوردت رضوى عاشور في دراستها عنه.

لكن أثره الإبداعي كان قويا وممتدا، فلا يذكر الأدب الفلسطيني إلا ويذكر اسمه باعتباره الرائد والمؤسس وصاحب تيار بارز "كتابة المقاومة" التي توسلت بكل الأنواع الأدبية (الرواية، والقصة، والمسرحية، والمقال النقدي، والدراسة التاريخية.. إلخ) لتجسيد وتمثيل جماليات مواجهة الاقتلاع من الأرض، ومقاومة الاحتلال، واستدعاء جوهر الهوية الفلسطينية في مواجهة المنفى والاغتراب والتهميش.

- 4 -

تكشف أعمال غسان كنفاني السردية عن منظور المقتلع من أرضه، المنفي عبر الدروب، لكنه يرفض الاستسلام أو التسليم بهزيمته، ومن ثم فإن نصوصه تقدم تمثيلا أدبيا لسردية الاقتلاع والمقاومة. وهو ما يتجلى أيضا في أعماله النقدية التي رصدت الأدب الصهيوني وأدب المقاومة الفلسطينية.

وتظل رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، ضمن مجموع أعماله التي وصلتنا، من العلامات المضيئة في مسيرة الرواية العربية. قبل إطلاق سؤالها أو تساؤلها الفاجع والمفجع الأخير، الذي يلوح صرخة اتهام أبدية: "لماذا لم يدقوا الخزان؟"..

استندت الرواية إلى طرح تفاصيل كثيرة، تتجاور وتنبني بدقة، حول هؤلاء الذين استنشقوا آخر ما تبقى لهم من هواء شحيح، ولم يقرعوا جدران الخزان. تنصرف هذه التفاصيل إلى أزمنة ماضية عاشوها، وأماكن عدة أتوا منها، وتجارب متنوعة مرّت بهم ومروا بها، وطرق متنوعة اجتازوها، قبل أن يلتقوا معا في نقطة زمانية ومكانية محددة، وقبل أن يخوضوا، داخل الخزان الخانق الذي أحاط بهم، ثم أطبقت جدرانه على أنفاسهم فتحول إلى مقبرة لهم، ذلك الطريق الذي لم يبلغوا نهايته أبدًا..

بحسب رضوى عاشور في دراستها المشار إليها تصور رواية غسان كنفاني الأولى «رجال في الشمس» (1963)، الرحلة الفلسطينية. إنها الرحلة الكلاسيكية ولكن باختلاف. فهي ليست من أجل المعرفة، ولا تبدأ من نقطة القوة والقدرة والثقة لتتطور إلى النقيض.. وأبطالها ليسوا ملوكا أو نبلاء. إنما للرحلة خصوصيتها الفلسطينية في السنوات التالية للنكبة والخروج والممتدة عبر الخمسينيات. إنها رحلة تبدأ من العذاب بحثا عن الخلاص. تبدأ هروبا من النار وحلما باخضرار الواحة، فإذا بالخطوات تتوغل من النار إلى النار حتى إذا ما وصلت إلى الواحة تكون قد احترقت، فتصير الواحة والموت مترادفين.

- 5 -

أبطال الرحلة ينتمون لأجيال ثلاثة: أبو قيس، مزارع فلسطيني طرد من أرضه وترك وراءه في المخيم زوجته وطفليه، يحلم بواحة تحميه من مذلته كلاجئ، واحة تعطيه مالا يعلِّم به قيسا ويشتري «عرقا أو عرقين» من زيتون وربما يبني له غرفة يسكنها.

وأسعد شاب فلسطيني مطلوب القبض عليه بسبب نشاطه السياسي. يضطر للاستدانة من عمه لكي يهرب وهو يعرف أن ثمن دينه باهظ، إذ ينتظر العم في المقابل أن يزوجه من ابنته حين تستقر أموره (ولا يريد أسعد الزواج.. ولكنه يستدين المال).

مروان صبي لم يبلغ السادسة عشرة يواجَه بمهمة الإنفاق على أمه وإخوته الصغار في المخيم بعد أن تزوج أبوه بغير أمه وتخلى أخوه الذي يعمل بالكويت عن الإنفاق على الأسرة بسبب زواجه. يبدأ مروان الرحلة «حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية» (ص 85).

وأبو الخيزران، سائق السيارة التي تحملهم إلى الكويت، مجاهد قديم فقد ذكورته في إحدى المعارك، «ولم يبق سوى أن يجمع أبوالخيزران المال والمال والمال بالطرق المشروعة وغير المشروعة.. لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن.. وتبًّا لكل شيء في هذا الكون الملعون» (ص 110).

وهكذا يجتمع هؤلاء الرجال الأربعة في طريقهم من النار إلى الواحة، من مخيم المذلة إلى كويت النفط (التي لا توجد فيها أشجار-تصدم هذه الحقيقة أبوقيس المزارع والعاشق للأشجار وللأرض)...

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة غسان کنفانی

إقرأ أيضاً:

انفجار قرب مرفأ طرطوس.. وغارات إسرائيلية في محيط المدينة

أفاد مصدر أمني بأن غارات إسرائيلية استهدفت كتيبة الدفاع الجوي في محيط مدينة طرطوس، مساء الاثنين.

اقرأ ايضاًالرئيس يعين مجلس الشعب.. 48 مادة ضمن الإعلان الدستوري في سوريا

وقالت وسائل إعلام سورية إن الطيران الإسرائيلي شنّ مساء اليوم الاثنين، غارات جوية عنيفة استهدفت محيط مدينة طرطوس.

بدوره، قال المرصد السوري لحقوق الانسان أن انفجارا وقع الاثنين قرب مرفأ مدينة طرطوس الساحلية السورية تزامنا مع تحليق طيران "يرجح أنه إسرائيلي".

وقال المرصد: "إن دوي انفجار عنيف هز مرفأ طرطوس تزامنا مع تحليق طيران يرجح أنه إسرائيلي، وسط تصاعد لأعمدة الدخان".

وأضافت أن الغارات تركزت على كتيبة الدفاع الجوي شمال المحافظة، مما أسفر عن انفجارات عنيفة سُمع دويها في عدة محافظات سورية.

اقرأ ايضاًفيديو.. اشتباكات ومواجهات عنيفة بين عائلات أسرى إسرائيليين ورجال الأمن

وقالت "شبكة شام" إن هذه الغارات تأتي في وقت تشهد فيه المنطقة تحركات سياسية وعسكرية إسرائيلية واسعة تهدف إلى إضعاف سوريا بعد سقوط النظام البائد بشار الأسد".

 

المصدر: وكالات
 


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

عمر الزاغ

محرر أخبار، كاتب وصانع محتوى عربي ومنتج فيديوهات ومواد إعلامية، انضممت للعمل في موقع أخبار "بوابة الشرق الأوسط" بعد خبرة 7 أعوام في فنونالكتابة الصحفية نشرت مقالاتي في العديد من المواقع الأردنية والعربية والقنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي. ‎

الأحدثترند انفجار قرب مرفأ طرطوس.. وغارات إسرائيلية في محيط المدينة صورة محمد حماقي داخل المستشفى تثير قلق جمهوره.. هل تعرض لأزمة قلبية جديدة؟ فيديو.. اشتباكات ومواجهات عنيفة بين عائلات أسرى إسرائيليين ورجال الأمن بدء توافد قادة دول عربية إلى القاهرة استعدادا للقمة بعد ساعات من فوزها بـ"أوسكار" الاحتلال يخطر بلدة فلسطينية Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟
  • الفصائل الفلسطينية تبارك عملية حيفا وتؤكد: العملية أثبتت فشل المنظومة الأمنية للاحتلال
  • لوموند: كيف أثر السيسي على الدور الذي كانت تلعبه مصر في القضية الفلسطينية؟
  • انفجار قرب مرفأ طرطوس.. وغارات إسرائيلية في محيط المدينة
  • صفورية التي كانت تسكن تلال الجليل مثل العصفور.. جزء من هوية فلسطين
  • المشاركون في المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة إلى الطوفان” يؤكدون على أهمية دور المقاومة في مواجهة التهجير
  • صنعاء.. انعقاد المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة للطوفان – أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير”
  • صنعاء.. انعقاد المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة للطوفان – أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير”
  •   صنعاء : انعقاد المؤتمر الدولي فلسطين: من النكبة للطوفان - أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير
  • رئيس دفاع النواب: فلسطين قضية مصر الأولى التي خاضت من أجلها حروب كثيرة