بقلم/ د. أحمد قايد الصايدي
قليلون منا من يتنبهوا إلى خطورة المصطلحات المستخدمة في وسائل الإعلام ، وفي تصريحات وخطابات السياسيين ، لاسيما الغربيين منهم.
وإذا ما تمعنا في الأمر، فسنكتشف بأن هناك حرباً حقيقية تدور في ساحة المصطلحات. ولكنها حرب تخاض بالكلمات ، وتستهدف التحكم في وعي الشعوب، وتوجيهها الوجهة التي تخدم واضعو المصطلح ومروجوه.
وكما كان أسلافنا يطلقون على المصطلحات العلمية (مفاتيح العلوم)، فإنه يمكننا اليوم أن نطلق على المصطلحات المتداولة في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية (مفاتيح الوعي). لتحكمها في وعي الناس واتجاهاتهم ومواقفهم. فكيف يتم وضع هذه المصطلحات المتداولة، وتسويقها؟
بناءً على ما توفره حقول معرفية متعددة، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم السياسة، من معارف ومعلومات عن المجتمعات المستهدفة، يتم وضع مصطلح يتناسب مع أهداف المنظومات السياسية والأمنية المعنية، ومع التكوين الاجتماعي والنفسي والتاريخي والمستوى الثقافي والأفق السياسي للمتلقي في تلك المجتمعات.
وبعد وضع المصطلح المناسب، القادر على التأثير في وعي المتلقي وتوجيهه الوجهة المطلوبة، يتم قذفه إلى أجهزة الإعلام الموالية، لتردده ليلاً ونهاراً، حتى يشيع استخدامه. بعد ذلك يُترك توسيع دائرة ترويجه للأتباع المرتبطين بتلك المنظومات السياسية والأمنية، وللمقلدين أيضاً، من محبي كل ما هو جديد، المفتونين بترديد المصطلحات والكلمات والعبارات الغريبة، التي يسمعونها أو يقرأونها، حتى ولو لم يستوعبوا معانيها، ولم يدركوا أهدافها.
ولننتقل من الحديث العام إلى الحديث المباشر، المتعلق بهذا المصطلح أو ذاك، ونحاول أن نفهم معنى المصطلح وهدفه.
في ورقة قدمتها في ندوة (مقاومة التطبيع)، التي عُقدت في شهر أغسطس 1996م بمركز الدراسات والبحوث اليمني، بصنعاء، ثم نُشرت في مجلة (الثقافة)، عدد 32، يونيو 1997م، تناولت عدداً من المصطلحات المستحدثة، التي حلت محل مصطلحات قديمة تمسكنا بها ذات يوم، وهي على النحو الآتي:
- (الانفتاح)، محل (الاستقلال الاقتصادي وبناء قاعدة اقتصادية إنتاجية وطنية متينة).
- (الخصخصة) محل (القطاع العام والخدمات العامة).
- (اقتصاد السوق)، محل (الاقتصاد الوطني الموجه لنهضة الوطن).
- (الشرق الأوسط الجديد) محل (الوحدة العربية الشاملة).
- (العالم العربي) محل (الوطن العربي).
- (الشعوب العربية) محل (الشعب العربي).
- (الإرهاب)، محل (النضال العادل).
- (الأرض مقابل السلام)، محل (استعادة فلسطين، كل فلسطين).
- (رفاق السلام)، محل (العدو الإسرائيلي).
- (سلام الشجعان) محل (ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير بالقوة).
- (دولة إسرائيل وحدودها الآمنة)، محل (الكيان الصهيوني الغاصب).
- (التطبيع)، محل (المقاطعة والمقاومة واستعادة الأرض المغتصبة).
وسنتوقف هنا قليلاً، عند أربعة من هذه المصطلحات، لها علاقة مباشرة بمصطلح يكثر ترديده هذه الأيام من قبل أجهزة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وداعميها من القوى الاستعمارية الغربية، وهو مصطلح (الرهائن). وهذه المصطلحات الأربعة هي:
الإرهاب :
أطلقت الآلة الإعلامية الصهيونية مصطلح (الإرهاب) على حركة المقاومة الفلسطينية. وقصدت به على وجه التحديد المقاومة المسلحة، التي لم يجد الفلسطينيون وسيلة أخرى غيرها، يمكن أن توصلهم إلى استعادة وطنهم السليب. ومنذ إطلاق مصطلح (الإرهاب) والترويج له، بالمعنى الذي قصده الإعلام الصهيوني، أخذ مصطلح (النضال العادل) يتراجع، تراجعاً مضطرداً، في أجهزة الإعلام العربية، ولا سيما إعلام الأنظمة العربية المنشدة إلى المحور الأمريكي وإلى مسيرة التطبيع والتسوية الأمريكية _ الصهيونية، حتى كاد أن يختفي كلياً. وغدت عمليات المقاومين الفلسطينيين، عمليات يُنظر إليها على أنها عمليات إرهابية، يقوم بها شباب متعصب متطرف، ضل الطريق السوي وأصبح معادياً للعقل والتعقل ومناوئا للسلام و (الاعتدال).
هكذا أصبح المناضل الفلسطيني المشرد من داره ووطنه، الذي لم يُترك له خيار لاستعادتهما سوى النضال المسلح، أصبح يُقدَّم في أجهزة الإعلام الصهيونية والغربية بصورة (إرهابي). أما مغتصب الدار ومحتل الأرض، ومن تلطخت يداه بدماء أصحابهما، فهو كائن وديع مسالم، يستحق الشفقة والمساعدة، ليحمي نفسه وما اغتصبه، من اعتداء صاحب الحق، الذي يهدد طمأنينته ويقلق راحته.
الأرض مقابل السلام :
لم يعد شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) متداولاً، بعد الهزيمة العربية في عام 1967م. فقد حل محله مصطلح (الأرض مقابل السلام). والمقصود بالأرض، ليس فلسطين كلها، بل الأراضي التي استولى عليها الصهاينة نتيجة لتلك الهزيمة. فقد انتقل المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، من المطالبة بتحرير فلسطين، كل فلسطين، إلى المطالبة بالأراضي التي كانت تحت أيديهم، حتى عام 1967م، وفرطوا بها في ذلك العام، ولم يحسنوا الدفاع عنها.
سلام الشجعان :
وكما تخلى المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، عن شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) تخلوا عن شعار (ما أخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة)، واستبدلوه بشعار (سلام الشجعان). أي التخلي للصهاينة عن فلسطين، ومحاولة استرضائهم، ليعيدوا لهم الجزء الذي كان تحت أيديهم وفرطوا به. واعتبروا أنهم إذا نجحوا في تحقيق ذلك، عبر صفقة يعقدونها مع الكيان الصهيوني، برعاية أمريكية، ويحققون بها سلاماً مجحفاً، يفرطون فيه بحق الشعب العربي الفلسطيني في استعادة وطنه كاملاً، فذلك في نظرهم هو قمة الشجاعة والبسالة، إنه (سلام الشجعان).
التطبيع:
هو المصطلح الأكبر والعنوان الأهم، الذي تتجاوز دلالاته السياسية والاقتصادية والنفسية والتاريخية، معانيه اللغوية. ولكي نفهم هذه الدلالات، لابد من أن نستحضر بعض الأحداث التاريخية، التي لم يكن هذا المصطلح غائباً عنها، بل كان هدفاً نهائياً لها، ومنها على المستوى العالمي، تطبيع العلاقة بين السكان الأصليين في الأمريكتين، وبين المحتلين الأوربيين، الذي تطلب استئصال السكان الأصليين، وإحلال المحتلين الأوربيين محلهم، لتغدو الحياة طبيعية هناك، لا يسبب فيها أحد من السكان الأصليين أي إزعاج للمستوطنين الأوربيين (المسالمين)، القادمين من وراء البحار. وعلى المستوى العربي، نشر الفوضى (الخلاقة)، التي نشهدها اليوم، والتي تمهد لمزيد من التقسيم للوطن العربي، لإضعافه وتسهيل المضي في طريق التطبيع مع الصهاينة، المجلوبين إلى فلسطين من أنحاء الأرض.
ولكي يبقى الماضي أكثر حضوراً في أذهاننا، ما علينا إلا أن نعيد قراءة العبارات التالية، التي كتبها الكاتب الصهيوني الفرنسي (ماكس نوردو)، محدداً فيها هدف الاستعمار الفرنسي، بعد احتلال الجزائر: "إن شمال أفريقيا سيكون مهجراً ومستوطناً للشعوب الأوربية ... أما سكانه الأصليون فسيُدفعون نحو الجنوب، إلى الصحراء الكبرى، إلى أن يفنوا هناك" (محمد عمارة، العرب والتحدي، ص 278، سلسلة عالم المعرفة، مايو1980م).
الإفناء إذاً هو الهدف البعيد للحركة الاستعمارية، إفناء شعوب بكاملها. فالأرض لم تعد تتسع لغير المستعمرين. وهذا ما يراد تطبيقه على الشعب الفلسطيني: فيتم استئصال سكان غزة (حوالي مليوني فلسطيني)، بقتلهم عطشاً وجوعاً، أو تمزيقهم أشلاءً ودفنهم تحت أنقاظ بيوتهم، ودفع من تبقى منهم حياً إلى صحراء سيناء، ليتلاشوا، أو "يفنوا هناك"، بحسب تعبير الصهيوني ماكس نوردو. ويبدو أن هذا هو الهدف الأبرز حالياً للحرب الدائرة، التي يشنها الصهاينة على قطاع غزة، والتي هبت الإمبراطورية الأمريكية وحلفاؤها لتأجيجها والدفع بها نحو تحقيق هدفها القريب هذا، ونحو هدفها البعيد، وهو سحق أي مظهر من مظاهر المقاومة الفلسطينية، واستكمال استيلاء الصهاينة على ما تبقى من أرض فلسطين، وإنها القضية الفلسطينية إلى الأبد.
وفي هذا السياق يأتي مصطلح (التطبيع) مع الكيان الصهيوني، ليعمِّد إنهاء القضية الفلسطينية، ويقر بأن الكيان الصهيوني هو دولة من دول المنطقة، معترف بها عربياً، وتتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وأمنية طبيعية مع كافة دول المنطقة، ولاسيما مع الدول العربية.
ولنتناول الآن مصطلح (الرهائن)، وهو مقصدنا الرئيسي في هذا المقال :
يتردد هذه الأيام مصطلح (الرهائن) في وسائل الإعلام الصهيونية وعبر تصريحات المسؤولين الصهاينة، العسكريين والمدنيين، وتصريحات داعميهم الغربيين. وقد أطلقت الأجهزة الصهيونية في فلسطين المحتلة هذا المصطلح، إثر العملية المجيدة التي قامت بها كتائب الشيخ عز الدين القسام، في السابع من هذا الشهر، أكتوبر 2023م. والمقصود بالرهائن هم (أسرى الحرب)، الذين أسرهم المقاومون أثناء المعركة المسلحة، التي خاضوها ضد الوحدات العسكرية الصهيونية. ومعنى مصطلح (الرهائن) هنا هو المعنى المألوف، المرتبط بمصطلحات أخرى، كالخاطفين والمختطفين والإرهاب والإرهابيين.
ويكرس مصطلح (الرهائن) ورديفه الآخر (المختطفون)، يكرسان في الذهن وجود عملية إرهابية، هدفها اختطاف بعض الأبرياء، واحتجازهم كرهائن، للمساومة بهم على مطالب تهم الخاطفين. فالإرهابيون الخاطفون يمارسون الابتزاز باستخدام الرهائن، لإجبار الطرف المقابل، الذي عادة ما يصور بصورة الضحية البريء، لإجباره على تلبية مطالبهم.
هنا تتحدد الخارطة في وعي المتلقي: مجموعة من المجرمين الإرهابيين (المقصود بهم الفلسطينيون طبعاً)، يقتحمون أراضي (دولة إسرائيل)، التي هي دائماً ضحية الإرهاب والعنف، فيقتلون الأبرياء ويختطفون عدداً منهم، ويحتجزونهم رهائن لديهم، ليستخدموهم في ابتزاز هذه الدولة المسالمة.
ويستمر ترديد مصطلح (الرهائن) من قبل وسائل الإعلام والقادة السياسيين والعسكريين الصهاينة وداعميهم. ويُستبعد مصطلح (أسرى الحرب) استبعاداً كلياً، بقصد محو العملية العسكرية الناجحة، التي شنها المقاومون الفلسطينيون في السابع من أكتوبر الحالي، ومحو الهزيمة التي منيت بها الأجهزة الأمنية للكيان الصهيوني وجيشه المدجج بالسلاح، محوهما من الذاكرة الجمعية، وكأنهما لم يحدثا أبداً، وتكريس الصورة البشعة للمقاوم الفلسطيني، المطالب بحقه في الأرض والكرامة، وهي صورة الإرهابي القاتل الخاطف، محتجز الرهائن من الصهاينة الأبرياء، المسالمين جداً.
وعلى هذا النحو يتشكل الوعي الزائف، ويتم التلاعب بعواطف وقناعات الجمهور، لاسيما في البلدان الأوربية، حيث تتحكم وسائل الإعلام بوعي المواطنين هناك، تحكما يكاد أن يكون كاملاً. ويكسب المحتل، المغتصب للأرض، تعاطف كثير من شعوب العالم، التي يتم توجيه مشاعر الغضب والكراهية لديها باتجاه الضحية، الذي سُلبت منه أرضه، وأصبح يعيش تحت وطأة الاحتلال والقتل والتشريد والحصار والتجويع والسجن (المدني) دون محاكمة، وتهديم مساكنه وتجريف مزارعه بأشجارها المثمرة، بشكل شبه يومي.
وهكذا يؤدي الفعل السياسي الإعلامي الأمني، المتكئ على جهود دوائر ومراكز بحثية متخصصة، يؤدي إلى إزاحة معاناة الفلسطينيين من دائرة الوعي، وجعل المتلقي للمصطلحات المستحدثة المدروسة، غير قادر على رؤية هذه المعاناة، وكأن عقله الواعي قد خُدر، وشُلت قدراته النقدية وملكة التمييز لديه، بين الصواب والخطأ، بين البراءة والإثم، بين المقتول والقاتل، بين الضحية والجاني.
وهنا تكمن خطورة المصطلحات، التي تبدو مجرد ألفاظ وعبارات، لكنها تغدو، عندما يتم التلاعب بها ووضعها في السياقات الخاطئة، تغدو قوة مادية ونفسية وعقلية هائلة، تشوه الوعي وتخلط الأوراق وتغير المواقف، وتُلبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق، وتفرز أنماطاً من التفكير والسلوك، قد يصلا إلى مستوى التعصب والكراهية والعدوانية المنفلتة. وهذا ما يتوجب على المثقفين العرب أن يتنبهوا له، ويعملوا على مواجهته مواجهة واعية، تكشف مرامي كل مصطلح تضعه الدوائر الصهيونية والغربية المعادية، وتسوقه عبر وسائل إعلامها، وعبر كتابات أتباعها.
وختاماً لا بد من أن نلاحظ بأن طغيان المصطلحات المستحدثة التي تخدم الحركة الصهيونية والسياسة الاستعمارية، طغيانها على المصطلحات التي كانت سائدة في الوطن العربي، وعبرت حينها عن أحلام وطموحات الشعب العربي، قد تناسب طردياً مع انهيار الأوضاع العربية، بشكل عام وتراجع المشروع العربي وضعف الأحزاب السياسية العربية وتفككها، وتكيف بعض قياداتها مع المشاريع المعادية للمشروع الوحدوي العربي. وهذا موضوع يمكن تناوله في مقالات أخرى.
المصدر: سام برس
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی وسائل الإعلام کل فلسطین فی وعی
إقرأ أيضاً:
السعودية تخلع معطفها القديم
في عالم السياسة، لا شيء يحدث مصادفة، وحين يتغير خطاب بحجم الإعلام السعودي الرسمي، فذلك لا يعد مجرد تعديل في النشرة، بل انقلاب في البوصلة، منذ شهور وأنا أتابع هذا التحول الغريب، جميل في بعضه، مربك في توقيته، ومذهل في إيقاعه المتصاعد، القناة السعودية الأولى، التي اعتادت لعقود أن تتجنب الاقتراب من حدود السياسة الإقليمية المشتعلة، باتت تتكلم كما لو أن داخلها قناة عربية ثائرة أطلق سراحها
في قلب شاشة الإخبارية الرسمية، تقرير عن هتلر العصر نتنياهو بلغة حادة، ويدك الكيان الصهيوني بلغة كانت محظورة في الإعلام الخليجي لعقود، باستثناء الإعلام القطري، واللافت أن هذا الخطاب لا يظهر عرضا، بل هو مستمر منذ أسابيع في هذه القناة تحديدا، التي تعبر بشكل مباشر عن التوجه الرسمي
وفي الوقت ذاته، كانت القناة تبث مقابلات مع معتمرين سودانيين من قلب الحرم المكي، يدعون للبرهان بالنصر، ويشاركهم الدعاء الصحفي السعودي ذاته، المشهد لا يحتمل التأويل، الرسالة واضحة، السعودية اختارت طرفا في الصراع، دون مواربة، ولا لغة رمادية، كما أن وزير الخارجية السوداني قال أن المملكة أبلغتهم أنها ستتكفل بكل احتياجات السودان لمدة ستة أشهر ،،
حتى المعرفات السعودية ذات الأعلى متابعة، بما فيها حسابات صحفيين بارزين، لم تعد تغرد خارج السياق الجديد، تحول خطابها بشكل لافت ليواكب التوجه الرسمي، تبنت نبرة دعم واضحة للجيش السوداني، وقبلها انفتاحا كبيرا تجاه السلطة السورية، هذا التحول في المزاج الرقمي يعكس أن التغيير لم يعد مقتصرا على القنوات الرسمية، بل أصبح يشمل الوعي العام الموجه أيضا
منذ متى تفعل السعودية ذلك، منذ متى يتحدث إعلامها بلهجة الجزيرة، دون أن تكون الجزيرة، هناك شيء يتغير، لا في الشاشة فقط، بل في القصر
منذ عام 2011، وأنا أتابع الإعلام السعودي حين أنشأت أول صفحة لي على تويتر،، كما عملت مراسلا لصحيفة الاقتصادية لعام ونصف من صنعاء ، كان الإعلام السعودي أقرب إلى متحف رسميات، لا يعادي ولا يناصر، كان حياديا إلى درجة البرود..
اليوم، لم يعد كذلك
الخطاب تغير
اللهجة تغيرت
كما أن تجربتي المهنية في مجال رصد وتحليل المحتوى، والتي امتدت لست سنوات، تجعلني أقرأ هذا التحول في الخطاب السعودي بدقة، ما يحدث في المنصات الرقمية، خصوصا عبر المعرفات الأعلى متابعة، بما فيها حسابات صحفيين وإعلاميين مؤثرين، ليس مجرد تفاعل لحظي، بل هو تحول موجه ومتدرج في المزاج العام، يعكس انسجاما مع التوجه الرسمي الجديد
هذا التغير لم يأت ارتجالا، بل يظهر بوضوح أن هناك إعادة تموضع شاملة في الخطاب، تتجاوز الإعلام الرسمي لتصل إلى وعي الجمهور عبر أدواته اليومية..
قبل أيام، ظهر عيدروس الزبيدي في خطاب تهديدي فج تجاه قبائل حضرموت، خطاب لم يأت من فراغ، بل من أزمة ثقة تتعمق بين مشروعه والمكون القبلي في الشرق، بعدها بأيام فقط، يظهر وزير الدفاع السعودي في لقاء مباشر مع رئيس حلف قبائل حضرموت
الرسالة لا تحتاج إلى محلل استراتيجي
في الملف السوري، الخطاب السعودي أقرب إلى نبض الشعب، منه إلى الخط الرسمي للدولة، أحيانا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين خطاب قناة الجزيرة حين تتحدث عن القضايا الكبرى..
من كان يتوقع أن تتحدث القنوات السعودية بهذا الوضوح عن الغارات والاحتلالات والحق الفلسطيني، بهذا القدر من الحزم والصفاء، ما نراه ليس تغييرا في اللهجة فقط، بل تفكيك كامل للخطاب القديم
قد يقول البعض إن التغير نتيجة ظروف إقليمية بعد السابع من أكتوبر، وآخرون يرونه استجابة لحاجة واستدارة داخلية وخارجية واسعة، لكن مع ذلك، السعودية تغيرت.
من يراقب المشهد بعين أوسع سيدرك أن ما يحدث في الإعلام ليس سوى انعكاس لتحول جذري أعمق في السياسة السعودية مع صعود محمد بن سلمان، فقد نسجت المملكة خلال السنوات الأخيرة علاقة استراتيجية متنامية مع الصين، متجاوزة بذلك النمطية التقليدية التي حصرت توجهاتها لعقود في النفوذ الأمريكي، وكأن واشنطن كانت الخيار الإجباري الوحيد، هذا الانفتاح نحو الشرق أجبر واشنطن على إعادة النظر في تعاملها مع الرياض، بعدما تخلت الأخيرة عن موقع التابع واختارت أن تتصرف كقوة مستقلة وفاعلة في توازنات الإقليم والعالم، وكان اختيار السعودية كمقر للحوار الروسي الأمريكي دليلا واضحا على هذا التحول