بقلم/ د. أحمد قايد الصايدي
قليلون منا من يتنبهوا إلى خطورة المصطلحات المستخدمة في وسائل الإعلام ، وفي تصريحات وخطابات السياسيين ، لاسيما الغربيين منهم.
وإذا ما تمعنا في الأمر، فسنكتشف بأن هناك حرباً حقيقية تدور في ساحة المصطلحات. ولكنها حرب تخاض بالكلمات ، وتستهدف التحكم في وعي الشعوب، وتوجيهها الوجهة التي تخدم واضعو المصطلح ومروجوه.
وكما كان أسلافنا يطلقون على المصطلحات العلمية (مفاتيح العلوم)، فإنه يمكننا اليوم أن نطلق على المصطلحات المتداولة في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية (مفاتيح الوعي). لتحكمها في وعي الناس واتجاهاتهم ومواقفهم. فكيف يتم وضع هذه المصطلحات المتداولة، وتسويقها؟
بناءً على ما توفره حقول معرفية متعددة، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم السياسة، من معارف ومعلومات عن المجتمعات المستهدفة، يتم وضع مصطلح يتناسب مع أهداف المنظومات السياسية والأمنية المعنية، ومع التكوين الاجتماعي والنفسي والتاريخي والمستوى الثقافي والأفق السياسي للمتلقي في تلك المجتمعات.
وبعد وضع المصطلح المناسب، القادر على التأثير في وعي المتلقي وتوجيهه الوجهة المطلوبة، يتم قذفه إلى أجهزة الإعلام الموالية، لتردده ليلاً ونهاراً، حتى يشيع استخدامه. بعد ذلك يُترك توسيع دائرة ترويجه للأتباع المرتبطين بتلك المنظومات السياسية والأمنية، وللمقلدين أيضاً، من محبي كل ما هو جديد، المفتونين بترديد المصطلحات والكلمات والعبارات الغريبة، التي يسمعونها أو يقرأونها، حتى ولو لم يستوعبوا معانيها، ولم يدركوا أهدافها.
ولننتقل من الحديث العام إلى الحديث المباشر، المتعلق بهذا المصطلح أو ذاك، ونحاول أن نفهم معنى المصطلح وهدفه.
في ورقة قدمتها في ندوة (مقاومة التطبيع)، التي عُقدت في شهر أغسطس 1996م بمركز الدراسات والبحوث اليمني، بصنعاء، ثم نُشرت في مجلة (الثقافة)، عدد 32، يونيو 1997م، تناولت عدداً من المصطلحات المستحدثة، التي حلت محل مصطلحات قديمة تمسكنا بها ذات يوم، وهي على النحو الآتي:
- (الانفتاح)، محل (الاستقلال الاقتصادي وبناء قاعدة اقتصادية إنتاجية وطنية متينة).
- (الخصخصة) محل (القطاع العام والخدمات العامة).
- (اقتصاد السوق)، محل (الاقتصاد الوطني الموجه لنهضة الوطن).
- (الشرق الأوسط الجديد) محل (الوحدة العربية الشاملة).
- (العالم العربي) محل (الوطن العربي).
- (الشعوب العربية) محل (الشعب العربي).
- (الإرهاب)، محل (النضال العادل).
- (الأرض مقابل السلام)، محل (استعادة فلسطين، كل فلسطين).
- (رفاق السلام)، محل (العدو الإسرائيلي).
- (سلام الشجعان) محل (ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير بالقوة).
- (دولة إسرائيل وحدودها الآمنة)، محل (الكيان الصهيوني الغاصب).
- (التطبيع)، محل (المقاطعة والمقاومة واستعادة الأرض المغتصبة).
وسنتوقف هنا قليلاً، عند أربعة من هذه المصطلحات، لها علاقة مباشرة بمصطلح يكثر ترديده هذه الأيام من قبل أجهزة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وداعميها من القوى الاستعمارية الغربية، وهو مصطلح (الرهائن). وهذه المصطلحات الأربعة هي:
الإرهاب :
أطلقت الآلة الإعلامية الصهيونية مصطلح (الإرهاب) على حركة المقاومة الفلسطينية. وقصدت به على وجه التحديد المقاومة المسلحة، التي لم يجد الفلسطينيون وسيلة أخرى غيرها، يمكن أن توصلهم إلى استعادة وطنهم السليب. ومنذ إطلاق مصطلح (الإرهاب) والترويج له، بالمعنى الذي قصده الإعلام الصهيوني، أخذ مصطلح (النضال العادل) يتراجع، تراجعاً مضطرداً، في أجهزة الإعلام العربية، ولا سيما إعلام الأنظمة العربية المنشدة إلى المحور الأمريكي وإلى مسيرة التطبيع والتسوية الأمريكية _ الصهيونية، حتى كاد أن يختفي كلياً. وغدت عمليات المقاومين الفلسطينيين، عمليات يُنظر إليها على أنها عمليات إرهابية، يقوم بها شباب متعصب متطرف، ضل الطريق السوي وأصبح معادياً للعقل والتعقل ومناوئا للسلام و (الاعتدال).
هكذا أصبح المناضل الفلسطيني المشرد من داره ووطنه، الذي لم يُترك له خيار لاستعادتهما سوى النضال المسلح، أصبح يُقدَّم في أجهزة الإعلام الصهيونية والغربية بصورة (إرهابي). أما مغتصب الدار ومحتل الأرض، ومن تلطخت يداه بدماء أصحابهما، فهو كائن وديع مسالم، يستحق الشفقة والمساعدة، ليحمي نفسه وما اغتصبه، من اعتداء صاحب الحق، الذي يهدد طمأنينته ويقلق راحته.
الأرض مقابل السلام :
لم يعد شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) متداولاً، بعد الهزيمة العربية في عام 1967م. فقد حل محله مصطلح (الأرض مقابل السلام). والمقصود بالأرض، ليس فلسطين كلها، بل الأراضي التي استولى عليها الصهاينة نتيجة لتلك الهزيمة. فقد انتقل المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، من المطالبة بتحرير فلسطين، كل فلسطين، إلى المطالبة بالأراضي التي كانت تحت أيديهم، حتى عام 1967م، وفرطوا بها في ذلك العام، ولم يحسنوا الدفاع عنها.
سلام الشجعان :
وكما تخلى المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، عن شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) تخلوا عن شعار (ما أخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة)، واستبدلوه بشعار (سلام الشجعان). أي التخلي للصهاينة عن فلسطين، ومحاولة استرضائهم، ليعيدوا لهم الجزء الذي كان تحت أيديهم وفرطوا به. واعتبروا أنهم إذا نجحوا في تحقيق ذلك، عبر صفقة يعقدونها مع الكيان الصهيوني، برعاية أمريكية، ويحققون بها سلاماً مجحفاً، يفرطون فيه بحق الشعب العربي الفلسطيني في استعادة وطنه كاملاً، فذلك في نظرهم هو قمة الشجاعة والبسالة، إنه (سلام الشجعان).
التطبيع:
هو المصطلح الأكبر والعنوان الأهم، الذي تتجاوز دلالاته السياسية والاقتصادية والنفسية والتاريخية، معانيه اللغوية. ولكي نفهم هذه الدلالات، لابد من أن نستحضر بعض الأحداث التاريخية، التي لم يكن هذا المصطلح غائباً عنها، بل كان هدفاً نهائياً لها، ومنها على المستوى العالمي، تطبيع العلاقة بين السكان الأصليين في الأمريكتين، وبين المحتلين الأوربيين، الذي تطلب استئصال السكان الأصليين، وإحلال المحتلين الأوربيين محلهم، لتغدو الحياة طبيعية هناك، لا يسبب فيها أحد من السكان الأصليين أي إزعاج للمستوطنين الأوربيين (المسالمين)، القادمين من وراء البحار. وعلى المستوى العربي، نشر الفوضى (الخلاقة)، التي نشهدها اليوم، والتي تمهد لمزيد من التقسيم للوطن العربي، لإضعافه وتسهيل المضي في طريق التطبيع مع الصهاينة، المجلوبين إلى فلسطين من أنحاء الأرض.
ولكي يبقى الماضي أكثر حضوراً في أذهاننا، ما علينا إلا أن نعيد قراءة العبارات التالية، التي كتبها الكاتب الصهيوني الفرنسي (ماكس نوردو)، محدداً فيها هدف الاستعمار الفرنسي، بعد احتلال الجزائر: "إن شمال أفريقيا سيكون مهجراً ومستوطناً للشعوب الأوربية ... أما سكانه الأصليون فسيُدفعون نحو الجنوب، إلى الصحراء الكبرى، إلى أن يفنوا هناك" (محمد عمارة، العرب والتحدي، ص 278، سلسلة عالم المعرفة، مايو1980م).
الإفناء إذاً هو الهدف البعيد للحركة الاستعمارية، إفناء شعوب بكاملها. فالأرض لم تعد تتسع لغير المستعمرين. وهذا ما يراد تطبيقه على الشعب الفلسطيني: فيتم استئصال سكان غزة (حوالي مليوني فلسطيني)، بقتلهم عطشاً وجوعاً، أو تمزيقهم أشلاءً ودفنهم تحت أنقاظ بيوتهم، ودفع من تبقى منهم حياً إلى صحراء سيناء، ليتلاشوا، أو "يفنوا هناك"، بحسب تعبير الصهيوني ماكس نوردو. ويبدو أن هذا هو الهدف الأبرز حالياً للحرب الدائرة، التي يشنها الصهاينة على قطاع غزة، والتي هبت الإمبراطورية الأمريكية وحلفاؤها لتأجيجها والدفع بها نحو تحقيق هدفها القريب هذا، ونحو هدفها البعيد، وهو سحق أي مظهر من مظاهر المقاومة الفلسطينية، واستكمال استيلاء الصهاينة على ما تبقى من أرض فلسطين، وإنها القضية الفلسطينية إلى الأبد.
وفي هذا السياق يأتي مصطلح (التطبيع) مع الكيان الصهيوني، ليعمِّد إنهاء القضية الفلسطينية، ويقر بأن الكيان الصهيوني هو دولة من دول المنطقة، معترف بها عربياً، وتتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وأمنية طبيعية مع كافة دول المنطقة، ولاسيما مع الدول العربية.
ولنتناول الآن مصطلح (الرهائن)، وهو مقصدنا الرئيسي في هذا المقال :
يتردد هذه الأيام مصطلح (الرهائن) في وسائل الإعلام الصهيونية وعبر تصريحات المسؤولين الصهاينة، العسكريين والمدنيين، وتصريحات داعميهم الغربيين. وقد أطلقت الأجهزة الصهيونية في فلسطين المحتلة هذا المصطلح، إثر العملية المجيدة التي قامت بها كتائب الشيخ عز الدين القسام، في السابع من هذا الشهر، أكتوبر 2023م. والمقصود بالرهائن هم (أسرى الحرب)، الذين أسرهم المقاومون أثناء المعركة المسلحة، التي خاضوها ضد الوحدات العسكرية الصهيونية. ومعنى مصطلح (الرهائن) هنا هو المعنى المألوف، المرتبط بمصطلحات أخرى، كالخاطفين والمختطفين والإرهاب والإرهابيين.
ويكرس مصطلح (الرهائن) ورديفه الآخر (المختطفون)، يكرسان في الذهن وجود عملية إرهابية، هدفها اختطاف بعض الأبرياء، واحتجازهم كرهائن، للمساومة بهم على مطالب تهم الخاطفين. فالإرهابيون الخاطفون يمارسون الابتزاز باستخدام الرهائن، لإجبار الطرف المقابل، الذي عادة ما يصور بصورة الضحية البريء، لإجباره على تلبية مطالبهم.
هنا تتحدد الخارطة في وعي المتلقي: مجموعة من المجرمين الإرهابيين (المقصود بهم الفلسطينيون طبعاً)، يقتحمون أراضي (دولة إسرائيل)، التي هي دائماً ضحية الإرهاب والعنف، فيقتلون الأبرياء ويختطفون عدداً منهم، ويحتجزونهم رهائن لديهم، ليستخدموهم في ابتزاز هذه الدولة المسالمة.
ويستمر ترديد مصطلح (الرهائن) من قبل وسائل الإعلام والقادة السياسيين والعسكريين الصهاينة وداعميهم. ويُستبعد مصطلح (أسرى الحرب) استبعاداً كلياً، بقصد محو العملية العسكرية الناجحة، التي شنها المقاومون الفلسطينيون في السابع من أكتوبر الحالي، ومحو الهزيمة التي منيت بها الأجهزة الأمنية للكيان الصهيوني وجيشه المدجج بالسلاح، محوهما من الذاكرة الجمعية، وكأنهما لم يحدثا أبداً، وتكريس الصورة البشعة للمقاوم الفلسطيني، المطالب بحقه في الأرض والكرامة، وهي صورة الإرهابي القاتل الخاطف، محتجز الرهائن من الصهاينة الأبرياء، المسالمين جداً.
وعلى هذا النحو يتشكل الوعي الزائف، ويتم التلاعب بعواطف وقناعات الجمهور، لاسيما في البلدان الأوربية، حيث تتحكم وسائل الإعلام بوعي المواطنين هناك، تحكما يكاد أن يكون كاملاً. ويكسب المحتل، المغتصب للأرض، تعاطف كثير من شعوب العالم، التي يتم توجيه مشاعر الغضب والكراهية لديها باتجاه الضحية، الذي سُلبت منه أرضه، وأصبح يعيش تحت وطأة الاحتلال والقتل والتشريد والحصار والتجويع والسجن (المدني) دون محاكمة، وتهديم مساكنه وتجريف مزارعه بأشجارها المثمرة، بشكل شبه يومي.
وهكذا يؤدي الفعل السياسي الإعلامي الأمني، المتكئ على جهود دوائر ومراكز بحثية متخصصة، يؤدي إلى إزاحة معاناة الفلسطينيين من دائرة الوعي، وجعل المتلقي للمصطلحات المستحدثة المدروسة، غير قادر على رؤية هذه المعاناة، وكأن عقله الواعي قد خُدر، وشُلت قدراته النقدية وملكة التمييز لديه، بين الصواب والخطأ، بين البراءة والإثم، بين المقتول والقاتل، بين الضحية والجاني.
وهنا تكمن خطورة المصطلحات، التي تبدو مجرد ألفاظ وعبارات، لكنها تغدو، عندما يتم التلاعب بها ووضعها في السياقات الخاطئة، تغدو قوة مادية ونفسية وعقلية هائلة، تشوه الوعي وتخلط الأوراق وتغير المواقف، وتُلبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق، وتفرز أنماطاً من التفكير والسلوك، قد يصلا إلى مستوى التعصب والكراهية والعدوانية المنفلتة. وهذا ما يتوجب على المثقفين العرب أن يتنبهوا له، ويعملوا على مواجهته مواجهة واعية، تكشف مرامي كل مصطلح تضعه الدوائر الصهيونية والغربية المعادية، وتسوقه عبر وسائل إعلامها، وعبر كتابات أتباعها.
وختاماً لا بد من أن نلاحظ بأن طغيان المصطلحات المستحدثة التي تخدم الحركة الصهيونية والسياسة الاستعمارية، طغيانها على المصطلحات التي كانت سائدة في الوطن العربي، وعبرت حينها عن أحلام وطموحات الشعب العربي، قد تناسب طردياً مع انهيار الأوضاع العربية، بشكل عام وتراجع المشروع العربي وضعف الأحزاب السياسية العربية وتفككها، وتكيف بعض قياداتها مع المشاريع المعادية للمشروع الوحدوي العربي. وهذا موضوع يمكن تناوله في مقالات أخرى.
المصدر: سام برس
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی وسائل الإعلام کل فلسطین فی وعی
إقرأ أيضاً:
تحيا فلسطين نصف قرن من نشيد مناهضة الحرب بالسويد
غوتنبرغ، السويد- تضج شقة جورج توتري المتواضعة بالصخب والحياة حتى في فترة تقاعده، وهو يجلس محاطا بابنته وأحفاده. غير أن الجدران الرمادية الناعمة، المعتادة في الشقق السويدية، لا تحمل أي سمات لمنزل ينتمي لموسيقي مشهور عالميا.
بشعره الطويل الأشيب، ونظاراته ذات الإطار العريض، وعينيه المتقدتين، يتذكر المسيحي السويدي الفلسطيني، المولود عام 1946 في الناصرة (مدينة في شمال فلسطين التاريخية)، كيف تحول مسقط رأسه بفعل المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية ونقاط التفتيش عندما كان طفلا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2“ماغما” نافذة على الفن العربي تجمع العالم في هانوفرlist 2 of 2تصاعد المعارك في الفاشر غربي السودان وعدد النازحين يتجاوز المليونend of listبحلول الستينيات من القرن الماضي، أصبحت الناصرة بؤرة للنشطاء الفلسطينيين وسط تزايد أعداد النازحين داخليا. وكان مجتمعها النابض بالحياة المتعدد الأديان من المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين، جنبا إلى جنب حماسهم السياسي، مصدر إلهام لأغنية احتجاجية قوية لتوتري، صدرت لأول مرة في شمال أوروبا أواخر السبعينيات، وأُعيد إحياؤها، بعد عقود، بفعل الحركة العالمية الأخيرة المناهضة للحرب المستمرة على غزة.
اكتسبت أغنية "تحيا فلسطين" (Leve Palestina)، أغنية توتري لعام 1979 عن فلسطين، حياة جديدة منذ بدء حرب إسرائيل الوحشية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إعلانفي يوم رمادي ماطر أواخر أكتوبر/تشرين الأول في ستوكهولم، تجمع المتظاهرون المناهضون للحرب في العاصمة السويدية وهم يرددون كلمات أغنية توتري من السبعينيات، مطالبين بإنهاء قصف إسرائيل على غزة:
"تحيا فلسطين، وتُسحق الصهيونية. تحيا تحيا تحيا فلسطين…"
انتشر مقطع فيديو للاحتجاج، ودُمج مع أغنية "تحيا فلسطين" نفسها ورُفع على تيك توك، وعلى الفور حقق أكثر من 5 ملايين مشاهدة منذ أكتوبر/تشرين الأول. فاض قسم التعليقات بالمؤيدين القادمين من أفغانستان وباكستان وتركيا، معبرين عن ولعهم الجديد بأغنية السويد الفلسطينية.
منذ ذلك الحين، أصبحت "تحيا فلسطين" نشيد الاحتجاجات المفضل في شوارع السويد ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.
في أبريل/نيسان، غنى نشطاء مؤيدون لفلسطين في مترو ستوكهولم بالسويد أغنية "تحيا فلسطين". في مقطع فيديو لذلك الاحتجاج، تتحرك الكاميرا عبر عربات متعددة مليئة بالسويديين المرتدين للكوفية الفلسطينية، مما يرسخ أغنية توتري بوصفها نشيدا للمقاومة الفلسطينية حول العالم.
إخبار العالمبدأ كل شيء في عام 1972، مع ظهور فرقة "كوفية" (Kofia) التي تمثل ثقافة مضادة، والتي تألفت من 5 فنانين أساسيين: توتري، وعازف الإيقاع الفلسطيني ميشيل قريطم الذي فرت عائلته من القدس عام 1948، والثلاثي السويدي كارينا أولسون (مغنية)، وبينغت كارلسون (عازف فلوت)، وماتس لودالف (عازف جيتار وماندولين وعود).
انضمت إليهم مجموعة متغيرة باستمرار من قارعي الطبول الفلسطينيين وجوقة، بقيادة أولسون، انضمت إلى الفرقة بعد أن قفزت على المسرح في أثناء عرض، وتوتري، كاتب أغاني الفرقة، والمغني وعازف العود أيضا.
يشير اسم الفرقة إلى الكوفية، وهي غطاء رأس شائع في فلسطين ومعروف بنقوشه المنسوجة ورمزيته للمقاومة.
عزفت فرقة كوفية الموسيقى في مظاهرات معارضة لحرب فيتنام والفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال السبعينيات. في ذلك الوقت، كانت غوتنبرغ، وهي مدينة عمالية تقليديا، مركزا للنشطاء الداعمين لحركات التضامن الدولية التي شملت مظاهرات ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (نظام تمييز عنصري) وحرب فيتنام (حرب دارت بين عامي 1955 و1975).
إعلانكانت الفرقة تحظى بشعبية خاصة بين جمهور الموسيقى البديلة ذي الميول اليسارية الذي عاش وتنفس الاشتراكية ومناهضة الإمبريالية بقوة في السويد في السبعينيات. لكن حفلات كوفية في الخارج هي التي جذبت أكبر قدر من الاهتمام.
بعد عام من الإطاحة بالشاه، في فبراير/شباط 1980، كتب توتري أغنية مخصصة لنضالات إيران. امتنانا لدعم منظمة التحرير الفلسطينية ومساندتها، أراد الثوار الإيرانيون أن تقدم فرقة موسيقية فلسطينية عرضا في طهران. وهكذا، قدمت فرقة كوفية، جنبا إلى جنب فرقة تشيلية (مقرها ستوكهولم تغني ضد الإمبريالية) عرضا في حفل موسيقي مؤقت في الهواء الطلق أُضيء باستخدام مصابيح السيارات الأمامية.
يقول لويس بريهوني، الباحث في شؤون الموسيقيين الفلسطينيين في المنفى ومخرج فيلم وثائقي قصير عن فرقة كوفية: "كان صوتهم فريدا، يجمع بين التقاليد الشعبية العربية والموسيقى الصوتية الإسكندنافية".
ويضيف أن فرقة كوفية أرسلت "رسالة لا هوادة فيها وحيوية موسيقية"، ودمجت الموسيقى الثورية مع جولات في إيران وألمانيا الشرقية في عصر التغيير.
كان توتري نفسه قد غادر الناصرة عام 1967 وهو في أوائل العشرينات من عمره، فارا من حرب الأيام الستة الإسرائيلية (حرب يونيو/حزيران 1967) التي أسفرت عن الاستيلاء على الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة واحتلاله (الذي كان سابقا تحت السيطرة المصرية).
في السويد، وجد توتري عالما بدا جاهلا تماما بمحنة الفلسطينيين.
يتذكر توتري بامتعاض: "عندما جئت عام 1967، لم يكن الناس يعرفون شيئا عن فلسطين. قالوا إنها صحراء وإنه لا يوجد فلسطينيون". كان ذلك هو الدافع له للانطلاق في مهمة لتثقيف السكان المحليين، من خلال الموسيقى، بأن الفلسطينيين "موجودون". جميع الألبومات الأربعة التي أصدرتها فرقة كوفية على مدى عقد من الزمان تم غناؤها وإنتاجها باللغة السويدية.
إعلانتُعرف فرقة كوفية بأنها أول فرقة تغني عن فلسطين باللغة السويدية، كاسرة بذلك تقليد عالم الموسيقى والفن الناطق بالعربية، الذي كان يتحدث سابقا فقط إلى الفلسطينيين ومن أجلهم، ولأولئك في المنطقة العربية الأوسع.
أثار إصدار أغنية "تحيا فلسطين" عام 1979، والمعروفة باسم "أغنية المظاهرة" باللغة السويدية -وهي الأغنية الأخيرة لفرقة كوفية في ألبومها الثاني بعنوان "أرض وطني"- جدلا، ليس فقط في السويد، التي كانت تدعم آنذاك وجود إسرائيل المتنامي في الشرق الأوسط. يقول توتري إن بعض العرب "لم يقبلوا غنائي باللغة السويدية" أيضا.
ولكن بعد 45 عاما، لم تنجُ أغنية "تحيا فلسطين" من منتقديها الأوائل فحسب، بل وجدت أهمية جديدة.
يقول جان ليندستروم، طالب دكتوراه في جامعة لوند (إحدى أقدم الجامعات في أوروبا): "في عصر أصبحت فيه معظم موسيقى البوب متجانسة وغير سياسية تقريبا، تعد أغنية (تحيا فلسطين) مصدر إلهام". مثل عديد من الطلاب، شارك في اعتصام مؤيد لفلسطين في الجامعة السويدية قبل أن تقوم الشرطة بفضه بالقوة في مايو/أيار.
يقول ليندستروم: "كنا نغني الأغنية في خيامنا، ونحن جالسين بهدوء وفي الاحتجاجات. الهتاف بلغتك الأم يضيف بُعدا قويا وحّد عديدا من السويديين".
بعد شهر من إغلاق الاعتصام في يونيو/حزيران، نزل طلاب جامعة لوند إلى الشوارع في مظاهرة. في يوم صيفي شمالي مشمس وبارد بشكل معتاد، تنتشر لافتات التضامن والكوفيات في كل مكان. ترتفع أغنية "تحيا فلسطين" مع المسيرة البطيئة والثابتة.
يضيف ليندستروم: "حتى غير السويديين يفهمون أن هذه أغنية صُنعت في أوروبا، عن الظلم العالمي".
من المؤكد أن اتهامات بمعاداة السامية من السلطات السويدية ظهرت في السنوات الأخيرة، بما في ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عندما غنت مجموعة شبابية سياسية متحالفة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي أغنية "تحيا فلسطين" خلال مسيرة عيد العمال في مالمو.
إعلانهذه المرة، نشرت ماريا ستينرغارد، وزيرة الهجرة السويدية، مقطعا على منصة إكس لاحتجاج وقع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في مدينة كريستيانستاد الجنوبية، متهمة المجموعة بمعاداة السامية. كما أخبر رئيس الوزراء السويدي آنذاك ستيفان لوفين البرلمان بأن الأغنية كانت "تعبيرا غير مقبول" عن معارضة الدولة الإسرائيلية. وهو الاتهام الذي يحير توتري.
"Leve Palestina och krossa sionismen. Och vi har kastat stenar på soldater och poliser, och vi har skjutit raketer mot våra fiender"
Ja mina vänner, vi har mycket ilska, oförsonlighet och hat på våra torg. Kom i samspråk med propalestinier på Stora torg i Kristianstad för en… pic.twitter.com/SsaHxkPuRV
— Sofia Nerbrand (@sofius) November 14, 2023
يقول توتري: "لا يمكنني أن أكون معاديا للسامية… لأن ذلك ضدّي"، مشيرا إلى أن العرب أنفسهم شعب سامي، مضيفا: "ولا يمكنني أن أكون ضد المسلمين أو المسيحيين، وكلاهما في عائلتي، لأن ذلك سيعني أن أكون ضد كياني".
ارتباط بالأرضبالعودة إلى السبعينيات، دعمت دائرة من السويديين التقدميين فرقة كوفية بقوة. وكان عديد من اليهود أيضا من المؤيدين الأساسيين للفرقة.
بعد أكثر من 5 عقود من مكافحة نيران الظلم الأولى تلك، تلمع عينا توتري وهو يصف قوة الموسيقى بوصفها شكلا من أشكال المقاومة.
تحاكي كلمات أغنية "تحيا فلسطين" ولحنها المتكرر إيقاع هتاف سهل يردد في مظاهرة حيوية.
يقول توتري: "إنها أغنية تُغنى في المظاهرات، يرددها شخص تلو الآخر"، موضحا: "استخدمت تلك الطريقة في الأغاني، جنبا إلى جنب فكرة إثبات وجودنا [نحن الفلسطينيين]".
بالإضافة إلى دمج إيقاع المظاهرات، تستند ألحان كوفية المتكررة إلى "تقاليد المقام التراثي للغناء الفلسطيني"، كما كتب بريهوني، المؤلف، في مقدمة لفيلم صدر عام 2022 يعرض تأثير كوفية على موسيقى الاحتجاج في أوروبا.
إعلانيقول بريهوني: "بفخرها بمجموعة متجددة من أعضاء الجوقة، حوّلت كوفية غناء الشعارات السياسية إلى شكل فني".
تلتصق ألحان "تحيا فلسطين" بالذاكرة. لكن الكلمات المخصصة للأرض هي التي تحمل معنى أعمق. كما يقول جزء من الأغنية:
"وقد زرعنا الأرض
وحصدنا القمح
وقطفنا الليمون
وعصرنا الزيتون
والعالم كله يعرف ترابنا".
يقول توتري إن هذا يشير إلى الحياة الزراعية لعديد من الفلسطينيين. يشرح قائلا: "نحن فلاحون. التربة هي حياتنا. إنها أكسجيننا".
"يسأل بعض الناس ‘ماذا تقصد بالأغنية؟’ على كل شخص أن يفهم بنفسه ماذا تعني له. الأغنية ليست فقط ما أعتقد أنها تعنيه. إنها تعني ما يشعر به كل شخص. سيضيفون إلى الكلمات بتفسيرهم الخاص. بالنسبة لبعض الناس هي الحب، وبالنسبة لآخرين هي النضال".
بالنسبة لتوتري، الأمر يتعلق بالمجتمع. إذ وُلد لعائلة مسيحية، ونشأ في فلسطين جنبا إلى جنب المسلمين واليهود. واكتشف التماسك نفسه عندما وصل إلى السويد، ويقول: "شعبي، لا تمييز"، متذكرا اللطف الذي أظهره له عديد من السويديين قبل 50 عاما.
يرى الآن أملا في تصاعد الاحتجاجات في شوارع العالم دعما لفلسطين، والمواقف المتغيرة في جميع أنحاء أوروبا.
اعترفت أيرلندا بدولة فلسطين، إلى جانب إسبانيا والنرويج في مايو/أيار. تدفع الدول الأوروبية الثلاث الآن دولا أخرى للاعتراف بحدود ما قبل عام 1967 وتقول إن هذا الاعتراف هو السبيل الوحيد لضمان السلام.
تعترف السويد بدولة فلسطين منذ عام 2014 وتستضيف سفارة فلسطينية في ستوكهولم منذ عام 2015. ومع ذلك، فإن الحكومة السويدية اليمينية الحالية تدعم إسرائيل بقوة.
توتري متفائل، لكنه ليس راضيا. على مر العقود، يقول إنه رأى عديدا من حركات الاحتجاج تأتي وتذهب. يخشى أن يبدأ الزخم والطاقة من الاحتجاجات العالمية الحالية في التضاؤل.
إعلانيحذر قائلا: "الأفعال العفوية لا تدوم طويلا"، طالبا من المتظاهرين توجيه "الطاقة من الشوارع" نحو السعي لإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية عبر المجتمع المدني والحكومة والفنون. هذا وحده، كما يقول، يمكنه أن يدعم تجديد الحياة الفلسطينية.
يقول توتري، الذي كتب مئات الأغاني التي لا تزال غير منشورة، إنه يتوق إلى مؤسسات إبداعية تحتضن وتشجع المقاومة الموسيقية. كما يتوق إلى يوم تختفي فيه كل الكراهية من على وجه الأرض.
يقول توتري: "ما دامت هناك كراهية، لا يوجد أمل. علينا محاربة الكراهية"، موضحا: "هذه هي أكبر مشكلاتنا، ليست القنبلة الذرية. الكراهية هي العدو الأكبر".
ويتابع "ربما بعد وفاتي، يمكن لشباب اليوم أن ينظروا إلى ما فعلته ويأخذوه على عاتقهم. تصبح أكثر شهرة عندما تموت، بعد كل شيء!".
في الوقت الحالي، يتجنب توتري الأضواء.
يقول من منزله في غوتنبرغ: "أشعر بالضآلة عندما تصبح أغنياتي شائعة. لا أستطيع الغناء إذا شعرت بأنني مشهور".
صندوق الوارد الخاص بتوتري مليء برسائل من الشباب في جميع أنحاء العالم، "يجدون وطنا" في فرقة تشكلت قبل وقت طويل من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
يتأمل قائلا: "الأغاني خُلقت لتوحيد أي شخص وكل شخص يريد النضال من أجل حريته. يبدو لي أن (تحيا فلسطين) لجميع الشعوب المضطهدة؛ ليس عليهم أن يكونوا مسلمين أو فلسطينيين. إنها لجميع الناس في العالم. وهذا يجعلني سعيدا جدا".