بين حرب أكتوبر وطوفان الأقصى.. لماذا تفشل الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية في مواجهة العرب؟
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
مقدمة الترجمة:
ما أوجه الشبه بين فشل إسرائيل الاستخباراتي عام 1973 وفشلها عام 2023؟ تجادل أستاذة العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا "كيرين يارهي-ميلو" والمؤرخ "تيم نافتالي" أن العامل المشترك في المناسبتين لم يكن -على الأرجح- نقص المعلومات الاستخباراتية، ولكن جودة التحليل والانحيازات المسبقة للمحللين والقادة السياسيين.
نص الترجمة:
تبدو التشابهات واضحة وضوح الشَمس. هجوم مفاجئ على إسرائيل وهي في غفلة من أمرها، وقوة عسكرية تُهاجم من الجهة الأخرى، وتوقيت يُقابل عيدا دينيا يهوديا في أول أكتوبر/تشرين الأول، وقتلى أُخِذوا على حين غِرَّة فتفرَّقوا بحثا عن ملاجئ من القصف ثم استعدوا من أجل الحرب، وأخيرا أخطاء من الأجهزة الاستخباراتية التي يُفتَرَض أنها من الأرفع شأنا في العالم.
بيد أن الهجوم المُفاجئ الذي وقع في إسرائيل في بداية هذا الشهر يبدو أشد وطأة من ذلك الذي واجهته دولة الاحتلال قبل خمسين عاما أثناء حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول. فقد قتلت حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة عددا أكبر من "المدنيين الإسرائيليين" في أيام الحرب الأولى مقارنة بعدد القتلى الذين تسبَّبت فيهم حرب مصر وسوريا على إسرائيل عام 1973، وهُما دولتان كاملتا السيادة تمتلك كلٌّ منهما جيشا وطنيا. علاوة على ذلك، ضربت حماس أهدافا في عُمق إسرائيل، ويبدو من حجم وتعقيد الهجمات التي أصابت أهدافا عديدة وانخرط فيها آلاف المقاتلين أن الهجوم كان قيد التخطيط طيلة أشهر إن لم يكن أطول من ذلك. لقد كان من المُفترض أن يكون جمع المعلومات الاستخباراتية من غزة أسهل بالنسبة لإسرائيل، حيث تملك دولة الاحتلال بالفعل أنظمة رقابة ضخمة لا تُقارن بما استخدمته مع مصر وسوريا في مطلع السبعينيات. كيف أمكن لإسرائيل إذن أن تفشل في اكتشاف مُخطَّط هجوم حماس الأخير؟
تشير التفسيرات الأولى لما جرى من جهة الخبراء والصحافيين إلى أن المشكلة على الأرجح تتعلَّق بجمع المعلومات الاستخباراتية من جانب إسرائيل. فلعل تل أبيب قد اعتمدت أكثر من اللازم على المصادر الإلكترونية لرصد التحرُّكات في غزة، التي تعلَّمت حماس كيف تتخفَّى منها، على سبيل المثال باستخدام الطائرات المُسيَّرة لتعطيل الأنظمة الإلكترونية على الحدود بين القطاع ودولة الاحتلال. وهناك احتمال ثانٍ، وهو أن إسرائيل افتقدت ببساطة المصادر الحيَّة من أهل القطاع، أو المصادر المُوثوقة بما يكفي، التي زرعتها داخل الدائرة الضيقة لرئيس الحركة "إسماعيل هنية"، كما افتقدت إلى القدرة على الوصول إلى خطط "محمد الضيف". وتقول نظرية ثالثة إن الاستخبارات الإسرائيلية شُغِلَت بتهديدات متنوِّعة، حيث تمركزت معظم قواتها قُرب الضفة الغربية قُبيَل هجوم حماس. وأخيرا، من المُمكِن أن تكون حماس قد استخدمت وسائل الخداع، وأقنعت تل أبيب بأنها مُستعِدة للتعايش مع خطط التطبيع الإسرائيلي التي كانت جارية مع عدد من الدول العربية مؤخرا.
بيد أن الإخفاقات الاستخباراتية يمكنها أن تنبع أيضا من عدم القدرة على تخيُّل سيناريوهات مُحدَّدة. إن التشتُّت والبطء الذي ظهر في رد إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يشي بقوة بأن قادة دولة الاحتلال السياسيين والعسكريين يعانون من الالتباسات النفسية نفسها التي عانت منها رئيسة الوزراء الإسرائيلية "غولدا مائير" ومستشاروها وكذلك بعض مسؤولي الحكومة الأميركية عام 1973. ففي كلتا الحالتيْن، يظهر لنا أن قادة إسرائيل أساؤوا قراءة أعدائهم العرب، وهوَّنوا بشِدة من قدرتهم على المخاطرة، وبالغوا في تقدير قدرتهم الخاصة على الردْع. إن ذلك القصور الذهني يُمكنه أن يعمي أي جهاز استخبارات حديث، مهما كان مستوى تطوُّره وأيًّا كانت الحكومة التي يتبع لها. دعونا نَعُد إلى أخطاء تل أبيب في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ونمر على بعض الوثائق التي أتيحت للعامة العقد الماضي، التي يمكن لها أن تمنحنا سياقا تاريخيا مفيدا للتفكير في صدمة هجوم حماس الأخير.
الطريق إلى 6 أكتوبر
"لقد تجاهلنا التحذيرات السوفيتية (عن الهجوم المصري) بوصفها حربا نفسية ليس إلا".
هنري كسينجر
على مدار الأشهر المؤدية إلى مفاجأة حرب أكتوبر، تلقت إسرائيل سيلا من التحذيرات بشأن وقوع هجوم محتمل. لقد كان السادات يشُك في البداية في قدرة الجيش المصري على شن عملية عسكرية واسعة تطرد القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، إذ إن القوات الجوية الإسرائيلية كانت قوية جدا في ذلك الوقت. غير أنه بحلول عام 1972، بدأ الرئيس المصري يُغيِّر رأيه، وطرد الخبراء العسكريين السوفييت الذي ساعدوا في إعادة بناء الجيش المصري، وجنحوا إلى الحذر والحيطة حيال تحدِّي إسرائيل بشكل مفتوح. بعد ثلاثة أشهر، أبلغ السادات القيادة العسكرية أن الوقت بات مواتيا لعبور قناة السويس واستعادة معظم مساحة شبه جزيرة سيناء، وكان هدفه حينئذ تغيير السياسة في الشرق الأوسط عبر استعادة مصر هيبتها في المنطقة وكسر شعور إسرائيل بالتفوُّق على جيرانها. حين أبدت القيادة العسكرية المصرية تحفُّظها على إستراتيجية السادات الجديدة، أُقيل نصفها، ومن ثمَّ أصبح الجيش المصري جاهزا للهجوم بحلول أبريل/نيسان 1973.
وفقا للباحث "أوري جوزيف"، المتخصص في الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، فإن أحد المتصلين بتل أبيب، وهو "أشرف مروان" مستشار السادات وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، شارك مع الإسرائيليين خطط الرئيس المصري أواخر عام 1972 وأوائل عام 1973. وقد أتى الإنذار الأول في أبريل/نيسان 1973، حين اتصل أشرف مروان بالموساد وقال إن الجيش المصري سيعبر قناة السويس في مايو/أيار. وأخذت غولدا مائير ووزير دفاعها "موشيه ديان" الرسالة على محمل الجد، متجاهليْن اللواء "إيلي زعيرا"، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي قال إن السادات كان يفتقد إلى الشروط التي تُمكِّنه من دخول الحرب. وفي تلك الأثناء، أمر ديان القوات الإسرائيلية بالاستعداد من أجل الحرب.
رغم ذلك، أجبرت سوريا السادات على تأجيل موعد الهجوم بسبب عدم جاهزيتها للحرب في ربيع 1973، ومن ثمَّ حين أتى شهر مايو/أيار ولم تندلع الحرب، ارتفعت مصداقية "زعيرا" في إسرائيل، في حين تراجعت أهمية الموساد ومصادره، بما في ذلك صلته الوطيدة بأشرف مروان. ما من دليل على أن إسرائيل مرَّرت المعلومات السرية التي حصلت عليها من أشرف مروان إلى واشنطن، لكن إدارة نيكسون الأميركية راقبت الوضع عن كثب عن طريق مصادرها الخاصة، واستشعرت بأن هناك أزمة تلوح في الأفق. في يوم 2 مايو/أيار، وفي أحد التقارير اليومية من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) إلى الرئيس نيكسون، ورد أنه "من الممكن أن يعتقد السادات بأن العمل العسكري وحده هو الطريق لتحريك الأوضاع باتجاه تسوية، وأن تحرُّكات مصر الأخيرة لعلها استعدادات من أجل هذا الاحتمال". لكن واشنطن ظلت تتشكَّك في حدوث هذا الاحتمال.
لاحقا حين مررت إسرائيل معلوماتها إلى الحكومة الأميركية يوم 3 مايو/أيار وطلبت منها تقييما، أكدَّت الاستخبارات الأميركية أن الهجوم ممكن، لكنها استنتجت أن "وقوع مواجهات مصرية-إسرائيلية يبدو غير مُرجَّح في الأسابيع القليلة المُقبلة". وقد أكَّد مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كسينجر لرئيسه أن الاستخبارات الأميركية "تفترض أن السادات لا يزال يتحرَّك على أساس عقلاني"، رغم أن بعض العرب ذوي الصلة بالرئيس الأميركي قالوا إن "محادثاته الأخيرة أظهرت لهم إنه في حالة ذهنية لفعل شيء غير محسوب". أما السوفييت، الذين كانوا يتطلَّعون إلى التوصُّل إلى اتفاق ثانٍ لتقييد أسلحة الدمار الشامل مع نظرائهم الأميركيين، فحذَّروا كسينجر من أن حربا قد تندلع بالفعل في الشرق الأوسط. "لقد تجاهلنا تلك التحذيرات بوصفها حربا نفسية ليس إلا، لأننا رأينا أن كل الخيارات العسكرية العقلانية تُفضي إلى تدهور الموقفيْن السوفيتي والعربي"، هكذا أقرَّ كسينجر لاحقا في مذكراته.
حين لم تأتِ الحرب، رجَّحت تحذيرات مايو/أيار من كفة المتشككين في إمكانية أن تُبادر مصر بعملية عسكرية قد تخسرها في النهاية. أما مَن حذَّروا من هجوم مصري، فسُرعان ما استخف بهم الجميع، حتى حين لاحت في الأفق من جديد إشارات استعداد المصريين للحرب في خريف 1973. "بعد أن تنفَّسوا الصعداء إثر تحذيرات مايو/أيار الكاذبة، بات الأميركيون والإسرائيليون ينظرون إلى نشاطات المصريين العسكرية على أنها مجرد تدريبات أكثر واقعية وحسب"، هكذا كتب كسينجر فيما بعد. وحين مرَّت أزمة مايو/أيار، أصرَّ بعض المسؤولين الأميركيين على أن السادات سيُخاطر بدخول حرب محدودة لكسر الجمود السياسي في المنطقة، وإحداث صدمة في إسرائيل تُجبرها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وقد أشار مكتب البحوث والاستخبارات بوزارة الخارجية الأميركية على الوزير "ويليام روجِرز" بأنه في غياب أي تقدُّم دبلوماسي بين الطرفيْن، "فإن رأينا هو أن العودة إلى المعارك بحلول الخريف هو السيناريو المُرجَّح". ولكن على حد وصف كسينجر، "وللغرابة الشديدة، فإن المكتب ألقى توقّعاته عن الحرب وراء ظهره حين اقتربت الحرب بالفعل في الخريف".
في يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقبل يومين فقط من الحرب، تلقَّت إسرائيل إنذارا دراميا آخر: لقد أبلغ أشرف مروان الموساد بأنه يريد التحدُّث إلى مدير الموساد بنفسه. وطبقا لبار جوزيف، كانت رسالة أشرف مروان هي أنه أراد مناقشة "الكثير من الكيمياء"، وهي كلمة سرية اتُّفِق عليها مُسبقا بحيث تشير إلى أن الهجوم المصري بات وشيكا. لقد كان تحذير أشرف مروان واضحا تماما، واحتاجت إسرائيل على الأقل إلى 36 ساعة كي تستدعي قوات الاحتياط. كان لدى إسرائيل إنذار إذن يمنحها الوقت للاستعداد ولكن بالكاد. على بُعد آلاف الكيلومترات في واشنطن، قرأت وكالة الأمن القومي بعض الإشارات على أنها نذير هجوم وشيك، لكنها فشلت في إقناع محللي الاستخبارات الأميركية والبنتاغون، ومن ثمَّ لم تُمرر الولايات المتحدة أي تحذير إلى إسرائيل.
6 أكتوبر.. الصدمة الإسرائيلية
"هناك فكرة شائعة عن العرب تقول إنهم ليسوا أهلا لمتطلبات الحرب الحديثة".
جزء من تقرير استخباراتي أميركي بعد الحرب عن المفاهيم التي سبَّبت الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي-الأميركي
في صباح 6 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد أن استنتج الإسرائيليون أخيرا بأنهم يجب أن يتعاملوا بجدية مع المعلومات الاستخباراتية القادمة من مصادرهم الثمينة، أكَّدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للرئيس نيكسون في تقرير يومي جديد "أننا لا نملك معلومات تؤكد التقارير الإسرائيلية بخصوص هجوم وشيك". وحين علم كسينجر، الذي أصبح وزيرا للخارجية في سبتمبر/أيلول 1973، أن إسرائيل تُحذِّر من وقوع حرب، لم يأخذ التحذير على محمل الجد، وقد تحدَّث لاحقا عن الأمر حينها مع "ألِكسندر هَيغ"، رئيس موظفي البيت الأبيض، قائلا: "في البداية ظننت أنها خدعة إسرائيلية تتيح لتل أبيب أن تشن هجوما، رغم أن ذلك اليوم وافق عيدا يهوديا". وقبل أن تلتقط الاستخبارات الأميركية تحرُّكات الجيوش العربية، اتصل كسينجر بالإسرائيليين، وعبَّر عن قلقه من أن يُبادروا بالهجوم، وحذَّرهم من مغبَّة ذلك.
بعد أشهر من التحذيرات التي لم تُؤخذ بجدية، شنَّت مصر هجومها، وسرعان ما استشعر الجميع آثار هجومها على الأرض. لقد مُحيَت نصف الدبابات الإسرائيلية من الوجود بينما عبرت القوات المصرية قناة السويس تحت حماية الصواريخ أرض-جو السوفيتية ودشَّنت مواقع لها داخل سيناء الواقعة حينها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي الشمال، بدا راجحا أن سوريا تتجه لاستعادة هضبة الجولان كاملة.
بالنظر إلى هذا الفشل الاستخباراتي الضخم، فتح الإسرائيليون التحقيق سريعا فيما جرى، وأسسوا لجنة أغرانات للنظر في حرب أكتوبر، وقد استنتجَت اللجنة بأن السبب الرئيس في هذا الفشل كان التحليل السيئ، وبالتحديد الافتراض الراسخ قبل الحرب حيال النِّيَّات المصرية. ووفقا للجنة، اعتقدت القيادة الإسرائيلية بأن السادات لن يشُن حربا يعلم يقينا أنه لن ينتصر فيها، وأن قادة إسرائيل قلَّلوا من احتمالية تنفيذ عمل عسكري مصري باعتباره قرارا غير عقلاني. إن هذا التحليل السيئ، الذي سمَّته اللجنة "كونسِبتزيا" (Conceptzia) أو التصوُّر، خلق في عقول القادة الإسرائيليين ما يسميه علماء النفس "الانغلاق الذهني"، أي الحاجة إلى درجة من اليقين في وجه معلومات جديدة أو دلائل متراكمة تُزعزِع الافتراضات السابقة.
في تقرير لتقييم الوضع بعد نهاية الحرب، استنتجت إدارة الاستخبارات الأميركية بأن الولايات المتحدة فوجِئت هي الأخرى باندلاع الحرب نتيجة إساءة قراءة النِّيَّات والقدرات العربية، وأن المعلومات التي جمعتها الاستخبارات الأميركية "لم تكن حاسمة، لكنها كانت معلومات كثيرة ودقيقة وتنذر بالخطر"، وكانت "كافية" لتوجيه تحذير بوقوع حرب للرئيس الأميركي، وفقا لما كتبه المُحقِّقون في ديسمبر/كانون الأول 1973، بالنيابة عن مدير الاستخبارات الأميركية "ويليام كولبي". ومع ذلك، تابع المُحقِّقون بقولهم: "إن هناك مفاهيم جوهرية مُسبقة، عزَّزتها التفسيرات الرسمية في إسرائيل، وجَّهت أنظار المُحللين بالأساس إلى الإشارات السياسية على أن العرب عازمون على إيجاد وسائل غير عسكرية لتحقيق أهدافهم".
لقد وجد التقرير أيضا أن المُحللين اكتنفهم انحياز ثقافي -أو ضرب من التعصُّب في الحقيقة- تجاه المصريين، إذ جنح المحللون الأميركيون إلى الاستخفاف بالثقافة العربية إلى حد ازدرائها. بعد الحرب بشهريْن، استخلصت وكالة الاستخبارات الأميركية أن "هناك فكرة شائعة عن الكثير من العرب، استندت بالأساس إلى أدائهم في السابق، ترى أنهم ليسوا أهلا لمتطلبات الحرب الحديثة، وأنهم افتقدوا للفهم والدافع، ولعلهم افتقدوا الشجاعة أيضا في بعض الأحيان".
درس أكتوبر.. لا استخبارات بدون تحليل سياسي
"لقد قام السادات في الواقع بشلِّ أعدائه عن طريق مفاهيمهم الخاطئة ذاتها".
هنري كسينجر
تُسلط مفاجأة حرب أكتوبر الضوء على أن المعلومات الصحيحة عن العدو وحدها ليست كافية، وأن الإصابة في تجنيد العميل الصحيح، وسرقة الملف الصحيح، واختراق الاتصالات ومراقبة التحرُّكات المطلوبة، ليس كافيا أيضا، إذ إن الطريقة التي يُحلِّل بها المسؤولون، والمنظومة الاستخباراتية كُلها، تلك المعلومات لا يقل أهمية.
قبل الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأميركي في الحرب العالمية الثانية، لم يستطع مجتمع الاستخبارات الأميركي أن يستشف النقاط الصحيحة كي يصِلها ببعضها ويستشرف الهجوم (إذ كانت الولايات المتحدة قد اخترقت الرسائل المُشفَّرة لدبلوماسيي اليابان، وليس لقواتها البحرية). وقبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول، التقطت الاستخبارات الأميركية النقاط الصحيحة بالفعل، لكنها عجزت عن توصيلها ببعض (فقد كان بعض أعضاء تنظيم القاعدة المعروفين للاستخبارات الأميركية موجودا بالفعل داخل الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول 2001). في عام 1973، وصَّلت إسرائيل والولايات المتحدة النقاط ببعضها، لكنها رسمت بها الصورة الخاطئة. لقد افتقد ضباط الاستخبارات في البلديْن أي تصوُّر فعَّال للوضع على الأرض أو للسادات نفسه، واشتركوا في اعتقاد متعجرف مفاده أن الرئيس المصري لا يمتلك القدرات أو الذكاء أو الجرأة على مفاجأتهم. "لقد قام السادات في الواقع بشلِّ أعدائه عن طريق مفاهيمهم الخاطئة ذاتها"، هكذا كتب كسينجر فيما بعد.
إننا لن نعلم على وجه اليقين لبعض الوقت ما إن كان قادة إسرائيل أو الولايات المتحدة قد علموا بأمر هجوم حماس الأخير قبل تنفيذه، أو علموا بماهية ما كان يُفكِّر فيه إسماعيل هنية أو محمد الضيف حين شنُّوا الهجوم يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. بيد أن كُلفة التقليل من قدراتهم يجب أن تُفهَم جيدا الآن. بعد أقل من عقد على حرب أكتوبر 1973، عانت إسرائيل من المفاجآت الاستخباراتية بعد أن أساءت تقدير القدرات العسكرية والتماسك السياسي للأقلية الشيعية في لبنان، إذ لم تتوقع تل أبيب أن غزوَها للبلاد عام 1982 سيُحفِّز تسليح الشيعة في الجنوب بدعم إيراني. وإلى يومنا هذا، تظل الجماعة التي تمخَّض عنها غزو لبنان، وهي حزب الله اللبناني، خصما لدودا لإسرائيل.
ولكن هل تُرجِم أيٌّ من ذلك إلى تقدير مضبوط لتفكير حماس الإستراتيجي؟ وهل وقعت إسرائيل هذا العام مجددا أسيرة افتراضاتها المُسبقة بخصوص عدوِّها؟ إن بعض التصريحات السابقة لنتنياهو تشي بأنه توقَّع من الفلسطينيين أن يتواكبوا مع القادة العرب وتقاربهم مع إسرائيل في الآونة الأخيرة، حيث قال عام 2018: "إننا إن انفتحنا على العالم العربي وطبَّعنا العلاقات معه، فسيفتح لنا ذلك باب المصالحة والسلام مع الفلسطينيين. ويجب علينا أن نحقق هذين الهدفيْن، لكنني أعتقد أننا يجب ألا نقلل من أهمية الرغبة في الانفتاح على إسرائيل في العالم العربي اليوم". قبل ستة أيام فقط من هجوم حماس، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي "تساحي هَنِغبي" في حوار إذاعي إن "حماس تمارس درجة عالية من ضبط النفس وتفهم جيدا تبِعات تصعيد المواجهة معنا".
رغم أن كسينجر تشكَّك في نِيَّات إسرائيل، فإن واحدا من الفروق الجوهرية بين 1973 و2023 هو أن حكومتي واشنطن وتل أبيب قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول لم تكونا بالاصطفاف نفسه الذي كانتا عليه قبل خمسين عاما. فبعد سنوات من الخلاف، كان نيكسون وغولدا مائير قد توصَّلا إلى تصوُّر بخصوص أهمية إسرائيل بوصفها دولة لديها ردع نووي، أما بايدن ونتنياهو فإن تصوُّراتهما عن الشرق الأوسط مختلفة جذريا. إننا لا نعلم بَعد ما إن كانت واشنطن قد عزَّزت الثغرات الموجودة في الإطار التحليلي لإسرائيل هذه المرة (كما فعلت عام 1973). تشير بعض الأدلة إلى أن الولايات المتحدة كانت أقل تفاؤلا من إسرائيل بخصوص اتفاقيات أبراهام التي فتحت باب التطبيع بين إسرائيل وبضع دول عربية. ففي أبريل/نيسان من هذا العام، قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "ويليام بِرنز" إنه "رغم الأمل المعقود على اتفاقيات أبراهام، والتقدُّم نحو التطبيع بين إسرائيل والمزيد من الدول العربية، لا يزال هناك تهديد بانفجار التوترات في المنطقة من جديد، بما في ذلك التوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين". ومع ذلك، قبل أسبوع من هجوم حماس، قال مستشار الأمن القومي الأميركي "جيك سوليفان" لموقع "ذي أتلانتيك" إن "الشرق الأوسط اليوم أهدأ مما كان عليه طيلة العقديْن الماضيين".
قبل خمسين عاما، استخفَّت إسرائيل والولايات المتحدة بقدرة السادات على امتلاك رؤية إستراتيجية تعجزان عن فهمها، ويبدو أن خطر الاستخفاف بالعدو تكرر أيضا هذه المرة. لعل حماس تشارك السادات يقينه في أن الطريق الوحيد لتعديل الموازين المُختلَّة هو شن هجوم عسكري، وقد اختار قادة الحركة أن يشنوا حربهم في الذكرى الخمسين لآخر مرة أُخِذَت فيها إسرائيل على حين غِرَّة. إنهم يعرفون التاريخ جيدا.
———————————————————————–
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: ماجدة معروف.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المعلومات الاستخباراتیة الاستخبارات الأمیرکیة أکتوبر تشرین الأول وکالة الاستخبارات الولایات المتحدة ت الاستخبارات دولة الاحتلال الأمن القومی قادة إسرائیل الشرق الأوسط الجیش المصری أشرف مروان حرب أکتوبر أن السادات فی إسرائیل ت إسرائیل أن الهجوم مایو أیار هجوم حماس ی إسرائیل تل أبیب أن قادة من الم التی ی أن الم إلى أن عام 1973 التی ت على أن
إقرأ أيضاً:
السفينة الحربية الصينية التي أظهرت تخلف البحرية الأميركية
في صباح ضبابي من عام 1856، كانت السفن الحربية البريطانية تحاصر مدينة كانتون الصينية (غوانجو حاليا)، مدججة بالمدافع وبالقوة اللازمة لسحق خصومها. وبينما كانت السفن الخشبية التابعة لأسرة "تشينغ" الحاكمة في الصين مترامية على سطح البحر كألعاب ورقية صغيرة في مهب الريح؛ إذ بها تتناثر جذاذا على صفحة الماء، من أثَر القصف المدفعي الذي أطلقته السفن البريطانية، ثم أتبع ذلك سقوط دفاعات المدينة الساحلية المحدودة، التي لم تكن أكثر من بطاريات مدفعية بدائية لا يمكنها أن تصمد أمام التفوق الغربي المدفوع بالبخار ودقة التصويب والمدى الطويل.
في تلك اللحظة، أدركت الصين، دون إعلان، أنها لم تعد قادرة على حماية شواطئها. كانت تلك واحدة من أقسى لحظات ما سُمي بـ"قرن الإذلال"، وهو مصطلح يُستخدم في الأدبيات الصينية لوصف فترة التدخل والإخضاع للبلاد من قِبَل قوى خارجية من بينها اليابان وبريطانيا بدءا من عام 1839 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1949 واندلاع الثورة الصينية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نبوءة ميرشايمر.. هل اقتربت الحرب المدمرة بين أميركا والصين؟list 2 of 2هل اقتربت حرب الصين الكبرى؟end of listثم بعد مرور أكثر من 150 عاما، تبدو الصين في مشهد مختلف تماما، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024، أطلقت الصين سفينة جديدة سُميت "سيتشوان"، وهي أكبر سفينة هجومية برمائية وأكثرها تقدما حتى الآن في ترسانة الجيش الصيني، مما يكشف حجم التطور الهائل في الصناعات العسكرية الصينية ويُشكِّل تعزيزا كبيرا لقدراتها البحرية.
إعلانورغم أنها مُصمَّمة بالأساس لنقل قوات عسكرية من البحر إلى الشاطئ، فإنها تمتاز بقدرات إضافية تشبه حاملات الطائرات، حيث إنها مزودة بنظام قذف كهرومغناطيسي (مثل حاملات الطائرات الأميركية الحديثة)، يسمح بإقلاع الطائرات المسيّرة من على متنها أو المقاتلات من سطحها.
ومن ثم فالسفينة متعددة المهام بشكل يشد الأنظار، فهي قادرة على حمل مروحيات هجومية، وطائرات ومسيرات، بالإضافة إلى مركبات برمائية وجنود، ويمكن استخدامها في الإبرار البحري على الشواطئ، أو دعم المعارك البرية من البحر، أو حتى شن هجمات جوية بالطائرات دون طيار، ويبلغ طولها نحو 260 مترا، ووزن إزاحة أكثر من 40,000 طن.
وفي المجمل، فإن استقراء القدرات العملياتية للسفينة يكشف أن الصين لم تعد تكتفي بالدفاع عن حدودها فحسب، بل تسعى إلى مدّ نفوذها العسكري خارج البحار القريبة، حيث صُمِّمت السفينة للاستخدام في أماكن بعيدة مثل البحر الأحمر والمحيط الهندي.
بيد أن "سيتشوان" (أو الفئة 076) ليست وحدها ما يخيف الولايات المتحدة حاليا، بل يضاف إليها ترسانة أخرى من السفن تُظهر مدى تسارع بكين في تطوير قدراتها البحرية، حيث أطلقت 157 سفينة بين عامَيْ 2014-2023، مُقارنةً بـ67 سفينة أطلقتها الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها.
أبعد من مجرد سفينةما تكشفه الأرقام والحقائق العسكرية يرجح أن الصين ليست فقط بصدد التقدم في سباق التسلح البحري فحسب، بل تتقدم في إطار إستراتيجية محددة لصناعة تحول إستراتيجي عالمي، تُعيد فيه الصين رسم خريطة النفوذ البحري، وربما إعادة تعريف "القوة البحرية" نفسها.
فالسفينة "سيتشوان" ، رغم ما تحمله من رمزية، ليست سوى واحدة من إشارات كثيرة على صعود جارف، يوشك أن يُغيّر موازين البحر كما نعرفها.
لفهم حجم الإنتاج الصيني الضخم، تأمل ما حدث بين عامَيْ 2017-2019، حيث ورد أن الصين قامت ببناء عدد من السفن أكثر مما بنته الهند واليابان وأستراليا وفرنسا والمملكة المتحدة مجتمعين، بل أشار نائب الأدميرال الألماني "كاي أكيم شونباشسيد" في عام 2021 إلى أن "البحرية الصينية تتوسع كل 4 سنوات بما يعادل حجم البحرية الفرنسية كاملة".
إعلانوبحلول منتصف عام 2024، كانت الصين قد تجاوزت الولايات المتحدة بالفعل من حيث عدد القطع البحرية الفاعلة: 234 قطعة صينية مقابل 219 قطعة أميركية.
هذا التفوق العددي يُمكِّن الصين من تعويض أية خسائر محتملة في أية مواجهات قادمة، ويزيد حجم القوة المتاحة والجاهزة للانتشار التي يمكن الدفع بها إلى مناطق التوتر عند الحاجة.
كما أن هذا العدد الضخم لقطع البحرية الصينية لا يشمل نحو 80 سفينة دورية صغيرة مسلحة بالصواريخ تُشغّلها البحرية الصينية، بينما يشمل فقط سفن الصين أو غواصاتها التي تزيد إزاحتها على 1000 طن متري، بينما يشمل العدد المعروف لقطع البحرية الأميركية الذي يبلغ 290 قطعة سفن الدعم والخدمات اللوجستية التي تصل إلى نحو 126 سفينة.
وبحسب مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، يُوفر هذا التفوق لصالح بكين ميزةً حربيةً مهمة: فقد خلصت الدراسة إلى أن الأساطيل الأكبر حجما انتصرت في 25 حربا من أصل 28 حربا تاريخية، والسبب هو أن العدد الأكبر يعطي مقدرة أفضل على استيعاب خسائر أكبر ومواصلة القتال.
وينقل المركز عن إحدى الدراسات أنه في واحدة من مجموعات المناورات الحربية التدريبية الحديثة، خسرت الصين 52 سفينة حربية سطحية رئيسية مقارنةً بما بين 7-20 سفينة أميركية مُكافئة، وحتى بعد هذه الخسائر الكارثية، ظلت الصين تمتلك سفنا حربية سطحية أكثر من الولايات المتحدة، وتمكَّنت من مواصلة المعركة البحرية.
بالطبع لا يعني ذلك أن الصين الآن هي القوة البحرية الأشرس في العالم، حيث إن القوة العسكرية لا تُحسب فقط بعدد القطع القتالية، وإنما بالقدرات النوعية للسفن، وبصورة أهم يرتبط بنطاق توزيعها وسيطرتها، وهذا ما تتفوق فيه الولايات المتحدة بلا منازع، فهي تمتلك مجموعة من أكبر وأقوى السفن في العالم.
ولو قررنا جمع قدر الماء الذي تزيحه مجمل السفن الصينية (وزن السفن في أدبيات القياسات البحرية)، الأمر الذي يُعَدُّ معيارا أساسيا للقوة، فسنجد أنه يبلغ في المجمل مليونَيْ طن بحلول عام 2022، بينما يصل الرقم نفسه إلى 4.5 ملايين طن في حالة الولايات المتحدة الأميركية!
إعلانهذا فضلا عن الانتشار الواسع للأساطيل البحرية الأميركية ونقاط القيادة والتحكم والإمداد على امتداد خريطة بحار العالم طولا وعرضا.
رغم ذلك، فإن البحرية الأميركية لا شك ليست مطمئنة لمجرد هذا الفارق النوعي لصالحها، ليس فقط لأنه يتقلص يوما بعد يوم، بل لأنه يتقلص بسرعة.
لقد بدأت خطة الصين الطموحة لتطوير قوتها البحرية منذ ربع قرن فقط، تصاعد خلالها عدد القطع الصينية باطراد، في عام 2005 كان الفارق لصالح الولايات المتحدة الأميركية بنحو 75 قطعة، تقلَّص هذا الفارق حتى تقاربت أعداد القطع البحرية الصينية مع الأميركية في 2014، ثم انطلقت الصين للأعلى.
وبالسرعة نفسها من المتوقع أن تنمو القوة القتالية الإجمالية للبحرية الصينية إلى 460 قطعة بحلول عام 2030. وبحلول التاريخ نفسه، من المتوقع أن تمتلك البحرية الأميركية نحو 345 قطعة بحرية فقط بحسب التوقعات المتفائلة.
هذا التسارع الكمي مع التطور التقني الصيني في مجالات أخرى يفتح الباب لتسارع مماثل في تطوير أحجام وقدرات القطع البحرية الصينية مستقبلا.
في أحد بياناتها تؤكد وزارة الدفاع الأميركية أنه "اعتبارا من عام 2020، تتكون القوات البحرية الصينية إلى حدٍّ كبير من منصات حديثة متعددة الأدوار تتميز بأسلحة وأجهزة استشعار متقدمة مضادة للسفن، ومضادة للطائرات، ومضادة للغواصات".
ويضيف تقرير للكونغرس الأميركي في السياق نفسه أنه "في كثير من الحالات يمكن مقارنة هذه القطع بتلك الخاصة بالبحرية الأميركية"، ليُضيف بعد قليل قائلا: "الصين تسد الفجوة بسرعة في أي مجالات للنقص بينها وبين الولايات المتحدة".
ظهر ذلك في التطور السريع لحاملات الطائرات الصينية، منذ سبعينيات القرن الماضي، كان لدى البحرية الصينية طموحات لتطوير وتشغيل حاملات الطائرات، لكن خططها الفعلية بدأت عام 1985 حينما استحوذت على أربع حاملات طائرات متقاعدة للدراسة، إحداها بالفعل تحولت إلى النوع "001"، وخلال عشر سنوات فقط من إطلاقها (في 2012) وصلنا إلى حاملة طائرات أكثر تقدما تحاول الاقتراب من القدرات الأميركية.
إعلانفي السياق ذاته، أفادت مؤسسة "راند" أنه بناء على المعايير المعاصرة لإنتاج السفن، فإن أكثر من 70% من أسطول البحرية الصينية في عام 2017 يُعَدُّ محدثا مقارنة بـ50% في 2010، أضف إلى ذلك أن الصين تنتج سفنا أكبر قادرة على استيعاب أسلحة أكثر تطورا.
على سبيل المثال، دخلت أول طرّادات (سفن مدمرة كبيرة) البحرية الصينية من النوع "055" (التي تسمى أيضا الفئة رينهاي) الخدمة في عام 2019، وزادت قدرات السفن القتالية من هذا النوع بمقدار 4000 إلى 5000 طن دفعة واحدة، إذا ما قورنت بالمدمرة من النوع "052D"، التي دخلت الخدمة في البحرية الصينية عام 2014.
في الولايات المتحدة.. تحديات تتعاظمعلى الجانب الآخر، ثمة تحديات عديدة تواجه صناعة بناء السفن البحرية الأميركية، تشمل هذه التحديات بطء تطبيق التعديلات اللازمة على السفن، ونقص العمالة الماهرة، وتقادم البنية التحتية الصناعية، وارتفاع تكاليف المواد.
على سبيل المثال، واجه بناء سفينة "يو إس إس كونستليشن" الأميركية تأخيرات كبيرة وتجاوزات في الميزانية. كانت "يو إس إس كونستليشن" أول سفينة في فئة جديدة من الفرقاطات المتطورة (Frigate Class) تُبنى للبحرية الأميركية، وكان من المفترض أن تكون نموذجا للسرعة والكفاءة، حيث هدفت السفينة إلى حماية السفن الأكبر (مثل حاملات الطائرات)، ومكافحة الغواصات، والتصدي للهجمات الجوية أو الصاروخية، ومرافقة القوافل في البحار الخطرة.
تبدأ قصة السفينة المتعثرة عام 2020، حيث فاز حوض بناء السفن الأميركي التابع لشركة "فينكانتيري" بعقدٍ لبنائها، كان التصميم الأساسي مأخوذا من فرقاطة إيطالية ناجحة هي الفئة "فريم"، وكان الهدف من تدشينها تقليل الوقت والتكلفة باستخدام تصميم جاهز ومجرّب.
ما حدث بعد ذلك كان يشبه الكارثة، حيث خضعت السفينة إلى تعديلات مفرطة من البحرية الأميركية، وجرت إطالة الهيكل بمسافة 24 قدما، ثم جرى تغيير المروحة لتحسين الأداء الصوتي، ثم أُعيد تصميم النظام الكهربائي والتبريد، والنتيجة كانت تغيرا واسعا في التصميم عن التصميم الإيطالي الأصلي بنسبة 85%، أدى إلى إطالة زمن التعديلات مع ازدياد التكلفة.
إعلانحاليا، وبعد مرور عامين ونصف على البداية الفعلية لبناء السفينة، لم يُنجَز إلا 10% منها، مع توقع أن ينتهي بناؤها بعد 9-10 سنوات من لحظة بداية البناء، وهي ضِعْف المدة التي تَطلَّبها بناء السفينة الإيطالية، مع تكلفة تصل إلى مليارَيْ دولار.
ويشير تقرير تحليلي لـ"وول ستريت جورنال" إلى أن الأمور باتت أعقد من ذلك، حيث تواجه صناعة بناء السفن الأميركية نقصا كبيرا في العمالة الماهرة.
على سبيل المثال، شهدت شركة "نيوبورت نيوز" لبناء السفن معدل استنزاف سنوي بنسبة 20% بين عمالها العاملين بالساعة، وهو ضِعْف معدل ما قبل الجائحة. يعوق هذا النقص إنجاز مشاريع مثل سفينة "يو إس إس كونستليشن" في الوقت المحدد، ويُسهم في تجاوز الميزانية.
إلى جانب ذلك، تعمل العديد من أحواض بناء السفن الأميركية بمعدات قديمة، مما يعوق كفاءة الإنتاج. إضافةً إلى ذلك، أدّى ارتفاع تكاليف الصلب إلى زيادة الضغط على الميزانيات، مما يُصعّب ضبط النفقات في مشروعات بناء السفن.
حاملات الطائرات.. المجال الرئيسي للتفوق الأميركيلطالما تَسيَّدت الولايات المتحدة الأميركية محيطات العالم بحاملات الطائرات التابعة لها، ويبدو أن الصين قد وعت هذا الدرس منذ عقود.
ففي السابع عشر من يوليو/تموز 2022، أعلنت القوات البحرية الصينية عن إطلاق ثالث حاملة طائرات من إنتاجها، خلال حفل أُقيم في حوض بناء السفن في شنغهاي العاصمة، كانت حاملة الطائرات تُعرف سابقا باسم "النوع 003″، ولكنها باتت تُسمى رسميا "فوجيان"، على اسم إحدى مقاطعات الصين الساحلية.
تُعَدُّ "فوجيان" أقوى حاملة طائرات في العالم بعد حاملات الطائرات الأميركية. كانت أول حاملتَيْ طائرات في الصين (النوع "001" والنوع "002") تعديلا تحديثيا لنموذج سوفيتي قديم، لكن النوع "003" يختلف تماما عنهما، مع تحديثات واسعة تتضمن بنية سطحية أكثر إحكاما وإتقانا، مع تبديل في طريقة إقلاع الطائرات، من "التزحلق والقفز" (Ski-jump) إلى طريقة "المنجنيق" (Aircraft catapult)، حيث يُستخدم منجنيق مطور للسماح للطائرات بالإقلاع من مساحات محدودة للغاية، مثل سطح سفينة.
إعلانلكن ثمة ملاحظة مهمة في هذا السياق، وهي أن البحرية الصينية لا تلجأ إلى طريقة المنجنيق التقليدية التي تعمل بالبخار، وتستخدم بدلا من ذلك نظام إطلاق الطائرات الكهرومغناطيسي سالف الذكر، الذي يرفع من معدلات الطلعات الجوية، ويشغل حيزا أصغر من حاملة الطائرات، يضعها ذلك في مقارنة مباشرة مع حاملات الطائرات الأميركية الكبرى، خاصة أنها بالفعل تُقارَن في الحجم مع فئتَيْ "نيميتز" (Nimitz) و"فورد" (Ford) التابعتين للبحرية الأميركية.
حظر الوصولرغم كل هذه القدرات المتنوعة للبحرية الصينية، لا شيء آخر يمكن أن يُظهر وتيرة التطور البحري الصيني المتسارعة مثل الصواريخ المضادة للسفن.
حيث نشرت بكين نوعين من الصواريخ الباليستية الأرضية ذات القدرة على ضرب السفن في البحر، الأول هو "دي إف 21 دي" (DF-21D) بمدى يزيد على 1500 كيلومتر، والثاني هو "دي إف 26" (DF-26) بمدى أقصى يبلغ نحو 4000 كيلومتر، وتقول وزارة الدفاع الأميركية إنه "قادر على تنفيذ ضربات دقيقة، تقليدية ونووية، ضد أهداف أرضية وبحرية".
تسببت الصواريخ البالستية الصينية المضادة للسفن في حالة قلق واسعة لدى الخبراء والمراقبين الأميركيين، لأنها ببساطة يمكن أن تغير قواعد اللعبة تماما، فهذه الصواريخ، إلى جانب أنظمة المراقبة والاستهداف المحدثة، ستسمح للصين بمهاجمة حاملات الطائرات الأميركية أو سفن حلفائها الضخمة في غرب المحيط الهادي.
وفي هذا المجال تحديدا، تُطوِّر الصين منظومة كاملة إلى جانب الصواريخ الباليستية تتيح لها تطبيق سياسة حظر الوصول، التي تعني أن أفضل طريقة للسيطرة على خصم بعيد، خاصة إذا كان متفوقا في القوة العسكرية الشاملة، هو تعطيل قواته عن العمل ومنعها من الانتشار في مسرح الصراع في المقام الأول.
تركز الصين حاليا على استخدام صواريخها الباليستية المضادة للسفن، وغيرها مثل صواريخ كروز للدفاع الجوي، وسفنها المتنوعة خاصة النماذج المحدثة جدا من المقاتلات السطحية والسفن البرمائية وأنظمة المراقبة البحرية الخاصة بها، في بناء منطقة حظر وصول صارمة تتكون من ثلاثة خطوط، وتصل حدودها إلى ما يسمى "سلسلة الجزر الأولى" (first island chain)، وهي أول مجموعة من الأرخبيلات في المحيط الهادي التي تقابل شرقي آسيا، وتبدأ من شمالي إندونيسيا لتمر بالفلبين ووصولا إلى اليابان.
إعلانبهذه الوتيرة، قد تتمكن الصين بحلول عام 2030 من إحكام السيطرة على هذه المنطقة، وحينها ستتحرك سفن البحرية الصينية فيها بحرية تامة، وستُمنع القوات الأجنبية أيًّا كانت من التصرف بحرية.
أما على المدى الأبعد نسبيا، وبحلول عام 2050، فيُعتقد أن البحرية الصينية ستصبح ندًّا حقيقيا للبحرية الأميركية، وبالتالي ستمد ذراعيها لما بعد سلسلة الجزر الأولى إلى المحيطين الهادي والهندي.
إلى الآن، تراهن بعض الآراء في واشنطن على أن البحرية الصينية رغم أنها أصبحت الأكبر في العالم من حيث عدد السفن، فإن هذه القوة العددية لا تعني بالضرورة التفوق أو القدرة الفعلية على إسقاط القوة.
تبني هذه الآراء وجهة نظرها على عدة نقاط، منها أن الصين لم تخض أي معركة بحرية حقيقية منذ الحرب مع فيتنام عام 1979، وعلى عكس ذلك، فإن البحرية الأميركية شاركت في حروب وتدريبات معقدة، ومن ثم فإن هناك افتراضا بأن الصينيين يُجيدون الاستعراضات العسكرية، لكنهم لا يملكون خبرة عملية في التنسيق المعقّد في ميدان معارك حقيقية، مثل الإبرار البحري والهجمات الجوية وتنظيم مجموعات السفن الحربية.
إلى جانب ذلك، يرى هؤلاء أن السفن الصينية مزودة بأنظمة حديثة، لكنها تتعطل كثيرا، ويستشهدون بأن مدمرات الفئة "055" على سبيل المثال تُعد فخمة نظريا، لكن تعطلت أثناء التجارب بسبب مشكلات في الدفع، والصواريخ الصينية التي سُميت "قاتلات حاملات الطائرات" لم تُختبر فعليا حتى الآن، وكل قدراتها لا تزال نظرية.
من جانب آخر، يرى هؤلاء أن الصين تحاول كسب نفوذ في المحيط الهندي عبر بيع معدات بحرية للدول الصغيرة (مثل تايلاند، وسريلانكا، وبنغلاديش)، لكن المشكلة أن هذه المعدات غالبا ما تكون ذات جودة منخفضة، وتتعطل كثيرا وتتطلب صيانة متكررة ومكلفة.
لكن هل يُعد ذلك رهانا ناجحا؟ تنخفض وتيرة هذا الرأي حاليا مع كل منظومة عسكرية جديدة تطورها الصين وتعلن عنها أو تتسرب أخبارها دون إعلان رسمي، وربما ينتظر بعض جنرالات الحرب الغربيين أن تبدأ الصين معركتها في السيطرة على تايوان لاختبار مدى قدراتها فعليا، لكنه رهان خطير جدا أيضا، إذ لا يمكن الثقة في تقدير جاهزية الجيوش ومعدلات تطويرها بناء على احتمالات غير مؤكدة.
إعلان