مقدمة الترجمة:

ما أوجه الشبه بين فشل إسرائيل الاستخباراتي عام 1973 وفشلها عام 2023؟ تجادل أستاذة العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا "كيرين يارهي-ميلو" والمؤرخ "تيم نافتالي" أن العامل المشترك في المناسبتين لم يكن -على الأرجح- نقص المعلومات الاستخباراتية، ولكن جودة التحليل والانحيازات المسبقة للمحللين والقادة السياسيين.

ويشير الكاتبان إلى أن الاحتلال وقع في الفخ نفسه مرة أُخرى حين قلل من رغبة أو قدرة حركة حماس على شن هجوم واسع النطاق، تماما كما قلل من عزيمة السادات وقدرته على دخول الحرب قبل خمسة عقود.

 

نص الترجمة:

تبدو التشابهات واضحة وضوح الشَمس. هجوم مفاجئ على إسرائيل وهي في غفلة من أمرها، وقوة عسكرية تُهاجم من الجهة الأخرى، وتوقيت يُقابل عيدا دينيا يهوديا في أول أكتوبر/تشرين الأول، وقتلى أُخِذوا على حين غِرَّة فتفرَّقوا بحثا عن ملاجئ من القصف ثم استعدوا من أجل الحرب، وأخيرا أخطاء من الأجهزة الاستخباراتية التي يُفتَرَض أنها من الأرفع شأنا في العالم.

 

بيد أن الهجوم المُفاجئ الذي وقع في إسرائيل في بداية هذا الشهر يبدو أشد وطأة من ذلك الذي واجهته دولة الاحتلال قبل خمسين عاما أثناء حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول. فقد قتلت حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة عددا أكبر من "المدنيين الإسرائيليين" في أيام الحرب الأولى مقارنة بعدد القتلى الذين تسبَّبت فيهم حرب مصر وسوريا على إسرائيل عام 1973، وهُما دولتان كاملتا السيادة تمتلك كلٌّ منهما جيشا وطنيا. علاوة على ذلك، ضربت حماس أهدافا في عُمق إسرائيل، ويبدو من حجم وتعقيد الهجمات التي أصابت أهدافا عديدة وانخرط فيها آلاف المقاتلين أن الهجوم كان قيد التخطيط طيلة أشهر إن لم يكن أطول من ذلك. لقد كان من المُفترض أن يكون جمع المعلومات الاستخباراتية من غزة أسهل بالنسبة لإسرائيل، حيث تملك دولة الاحتلال بالفعل أنظمة رقابة ضخمة لا تُقارن بما استخدمته مع مصر وسوريا في مطلع السبعينيات. كيف أمكن لإسرائيل إذن أن تفشل في اكتشاف مُخطَّط هجوم حماس الأخير؟

هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر عام 2023 في عملية "طوفان الأقصى". (الصورة: من فيديو لكتائب القسام)

تشير التفسيرات الأولى لما جرى من جهة الخبراء والصحافيين إلى أن المشكلة على الأرجح تتعلَّق بجمع المعلومات الاستخباراتية من جانب إسرائيل. فلعل تل أبيب قد اعتمدت أكثر من اللازم على المصادر الإلكترونية لرصد التحرُّكات في غزة، التي تعلَّمت حماس كيف تتخفَّى منها، على سبيل المثال باستخدام الطائرات المُسيَّرة لتعطيل الأنظمة الإلكترونية على الحدود بين القطاع ودولة الاحتلال. وهناك احتمال ثانٍ، وهو أن إسرائيل افتقدت ببساطة المصادر الحيَّة من أهل القطاع، أو المصادر المُوثوقة بما يكفي، التي زرعتها داخل الدائرة الضيقة لرئيس الحركة "إسماعيل هنية"، كما افتقدت إلى القدرة على الوصول إلى خطط "محمد الضيف". وتقول نظرية ثالثة إن الاستخبارات الإسرائيلية شُغِلَت بتهديدات متنوِّعة، حيث تمركزت معظم قواتها قُرب الضفة الغربية قُبيَل هجوم حماس. وأخيرا، من المُمكِن أن تكون حماس قد استخدمت وسائل الخداع، وأقنعت تل أبيب بأنها مُستعِدة للتعايش مع خطط التطبيع الإسرائيلي التي كانت جارية مع عدد من الدول العربية مؤخرا.

 

بيد أن الإخفاقات الاستخباراتية يمكنها أن تنبع أيضا من عدم القدرة على تخيُّل سيناريوهات مُحدَّدة. إن التشتُّت والبطء الذي ظهر في رد إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يشي بقوة بأن قادة دولة الاحتلال السياسيين والعسكريين يعانون من الالتباسات النفسية نفسها التي عانت منها رئيسة الوزراء الإسرائيلية "غولدا مائير" ومستشاروها وكذلك بعض مسؤولي الحكومة الأميركية عام 1973. ففي كلتا الحالتيْن، يظهر لنا أن قادة إسرائيل أساؤوا قراءة أعدائهم العرب، وهوَّنوا بشِدة من قدرتهم على المخاطرة، وبالغوا في تقدير قدرتهم الخاصة على الردْع. إن ذلك القصور الذهني يُمكنه أن يعمي أي جهاز استخبارات حديث، مهما كان مستوى تطوُّره وأيًّا كانت الحكومة التي يتبع لها. دعونا نَعُد إلى أخطاء تل أبيب في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ونمر على بعض الوثائق التي أتيحت للعامة العقد الماضي، التي يمكن لها أن تمنحنا سياقا تاريخيا مفيدا للتفكير في صدمة هجوم حماس الأخير.

 

الطريق إلى 6 أكتوبر غرفة عمليات حرب أكتوبر. (موقع السادات/ جامعة الإسكندرية)

"لقد تجاهلنا التحذيرات السوفيتية (عن الهجوم المصري) بوصفها حربا نفسية ليس إلا".

هنري كسينجر

على مدار الأشهر المؤدية إلى مفاجأة حرب أكتوبر، تلقت إسرائيل سيلا من التحذيرات بشأن وقوع هجوم محتمل. لقد كان السادات يشُك في البداية في قدرة الجيش المصري على شن عملية عسكرية واسعة تطرد القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، إذ إن القوات الجوية الإسرائيلية كانت قوية جدا في ذلك الوقت. غير أنه بحلول عام 1972، بدأ الرئيس المصري يُغيِّر رأيه، وطرد الخبراء العسكريين السوفييت الذي ساعدوا في إعادة بناء الجيش المصري، وجنحوا إلى الحذر والحيطة حيال تحدِّي إسرائيل بشكل مفتوح. بعد ثلاثة أشهر، أبلغ السادات القيادة العسكرية أن الوقت بات مواتيا لعبور قناة السويس واستعادة معظم مساحة شبه جزيرة سيناء، وكان هدفه حينئذ تغيير السياسة في الشرق الأوسط عبر استعادة مصر هيبتها في المنطقة وكسر شعور إسرائيل بالتفوُّق على جيرانها. حين أبدت القيادة العسكرية المصرية تحفُّظها على إستراتيجية السادات الجديدة، أُقيل نصفها، ومن ثمَّ أصبح الجيش المصري جاهزا للهجوم بحلول أبريل/نيسان 1973.

 

وفقا للباحث "أوري جوزيف"، المتخصص في الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، فإن أحد المتصلين بتل أبيب، وهو "أشرف مروان" مستشار السادات وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، شارك مع الإسرائيليين خطط الرئيس المصري أواخر عام 1972 وأوائل عام 1973. وقد أتى الإنذار الأول في أبريل/نيسان 1973، حين اتصل أشرف مروان بالموساد وقال إن الجيش المصري سيعبر قناة السويس في مايو/أيار. وأخذت غولدا مائير ووزير دفاعها "موشيه ديان" الرسالة على محمل الجد، متجاهليْن اللواء "إيلي زعيرا"، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي قال إن السادات كان يفتقد إلى الشروط التي تُمكِّنه من دخول الحرب. وفي تلك الأثناء، أمر ديان القوات الإسرائيلية بالاستعداد من أجل الحرب.

 

رغم ذلك، أجبرت سوريا السادات على تأجيل موعد الهجوم بسبب عدم جاهزيتها للحرب في ربيع 1973، ومن ثمَّ حين أتى شهر مايو/أيار ولم تندلع الحرب، ارتفعت مصداقية "زعيرا" في إسرائيل، في حين تراجعت أهمية الموساد ومصادره، بما في ذلك صلته الوطيدة بأشرف مروان. ما من دليل على أن إسرائيل مرَّرت المعلومات السرية التي حصلت عليها من أشرف مروان إلى واشنطن، لكن إدارة نيكسون الأميركية راقبت الوضع عن كثب عن طريق مصادرها الخاصة، واستشعرت بأن هناك أزمة تلوح في الأفق. في يوم 2 مايو/أيار، وفي أحد التقارير اليومية من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) إلى الرئيس نيكسون، ورد أنه "من الممكن أن يعتقد السادات بأن العمل العسكري وحده هو الطريق لتحريك الأوضاع باتجاه تسوية، وأن تحرُّكات مصر الأخيرة لعلها استعدادات من أجل هذا الاحتمال". لكن واشنطن ظلت تتشكَّك في حدوث هذا الاحتمال.

غولدا مائير ووزير دفاعها "موشيه ديان". (الصورة: غيتي)

لاحقا حين مررت إسرائيل معلوماتها إلى الحكومة الأميركية يوم 3 مايو/أيار وطلبت منها تقييما، أكدَّت الاستخبارات الأميركية أن الهجوم ممكن، لكنها استنتجت أن "وقوع مواجهات مصرية-إسرائيلية يبدو غير مُرجَّح في الأسابيع القليلة المُقبلة". وقد أكَّد مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كسينجر لرئيسه أن الاستخبارات الأميركية "تفترض أن السادات لا يزال يتحرَّك على أساس عقلاني"، رغم أن بعض العرب ذوي الصلة بالرئيس الأميركي قالوا إن "محادثاته الأخيرة أظهرت لهم إنه في حالة ذهنية لفعل شيء غير محسوب". أما السوفييت، الذين كانوا يتطلَّعون إلى التوصُّل إلى اتفاق ثانٍ لتقييد أسلحة الدمار الشامل مع نظرائهم الأميركيين، فحذَّروا كسينجر من أن حربا قد تندلع بالفعل في الشرق الأوسط. "لقد تجاهلنا تلك التحذيرات بوصفها حربا نفسية ليس إلا، لأننا رأينا أن كل الخيارات العسكرية العقلانية تُفضي إلى تدهور الموقفيْن السوفيتي والعربي"، هكذا أقرَّ كسينجر لاحقا في مذكراته.

 

حين لم تأتِ الحرب، رجَّحت تحذيرات مايو/أيار من كفة المتشككين في إمكانية أن تُبادر مصر بعملية عسكرية قد تخسرها في النهاية. أما مَن حذَّروا من هجوم مصري، فسُرعان ما استخف بهم الجميع، حتى حين لاحت في الأفق من جديد إشارات استعداد المصريين للحرب في خريف 1973. "بعد أن تنفَّسوا الصعداء إثر تحذيرات مايو/أيار الكاذبة، بات الأميركيون والإسرائيليون ينظرون إلى نشاطات المصريين العسكرية على أنها مجرد تدريبات أكثر واقعية وحسب"، هكذا كتب كسينجر فيما بعد. وحين مرَّت أزمة مايو/أيار، أصرَّ بعض المسؤولين الأميركيين على أن السادات سيُخاطر بدخول حرب محدودة لكسر الجمود السياسي في المنطقة، وإحداث صدمة في إسرائيل تُجبرها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وقد أشار مكتب البحوث والاستخبارات بوزارة الخارجية الأميركية على الوزير "ويليام روجِرز" بأنه في غياب أي تقدُّم دبلوماسي بين الطرفيْن، "فإن رأينا هو أن العودة إلى المعارك بحلول الخريف هو السيناريو المُرجَّح". ولكن على حد وصف كسينجر، "وللغرابة الشديدة، فإن المكتب ألقى توقّعاته عن الحرب وراء ظهره حين اقتربت الحرب بالفعل في الخريف".

 

في يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقبل يومين فقط من الحرب، تلقَّت إسرائيل إنذارا دراميا آخر: لقد أبلغ أشرف مروان الموساد بأنه يريد التحدُّث إلى مدير الموساد بنفسه. وطبقا لبار جوزيف، كانت رسالة أشرف مروان هي أنه أراد مناقشة "الكثير من الكيمياء"، وهي كلمة سرية اتُّفِق عليها مُسبقا بحيث تشير إلى أن الهجوم المصري بات وشيكا. لقد كان تحذير أشرف مروان واضحا تماما، واحتاجت إسرائيل على الأقل إلى 36 ساعة كي تستدعي قوات الاحتياط. كان لدى إسرائيل إنذار إذن يمنحها الوقت للاستعداد ولكن بالكاد. على بُعد آلاف الكيلومترات في واشنطن، قرأت وكالة الأمن القومي بعض الإشارات على أنها نذير هجوم وشيك، لكنها فشلت في إقناع محللي الاستخبارات الأميركية والبنتاغون، ومن ثمَّ لم تُمرر الولايات المتحدة أي تحذير إلى إسرائيل.

 

6 أكتوبر.. الصدمة الإسرائيلية الاستخبارات الأميركية فشلت في إدراك التهديد الوشيك بحرب أكتوبر. (الصورة: مواقع التواصل)

"هناك فكرة شائعة عن العرب تقول إنهم ليسوا أهلا لمتطلبات الحرب الحديثة".

جزء من تقرير استخباراتي أميركي بعد الحرب عن المفاهيم التي سبَّبت الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي-الأميركي

في صباح 6 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد أن استنتج الإسرائيليون أخيرا بأنهم يجب أن يتعاملوا بجدية مع المعلومات الاستخباراتية القادمة من مصادرهم الثمينة، أكَّدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للرئيس نيكسون في تقرير يومي جديد "أننا لا نملك معلومات تؤكد التقارير الإسرائيلية بخصوص هجوم وشيك". وحين علم كسينجر، الذي أصبح وزيرا للخارجية في سبتمبر/أيلول 1973، أن إسرائيل تُحذِّر من وقوع حرب، لم يأخذ التحذير على محمل الجد، وقد تحدَّث لاحقا عن الأمر حينها مع "ألِكسندر هَيغ"، رئيس موظفي البيت الأبيض، قائلا: "في البداية ظننت أنها خدعة إسرائيلية تتيح لتل أبيب أن تشن هجوما، رغم أن ذلك اليوم وافق عيدا يهوديا". وقبل أن تلتقط الاستخبارات الأميركية تحرُّكات الجيوش العربية، اتصل كسينجر بالإسرائيليين، وعبَّر عن قلقه من أن يُبادروا بالهجوم، وحذَّرهم من مغبَّة ذلك.

 

بعد أشهر من التحذيرات التي لم تُؤخذ بجدية، شنَّت مصر هجومها، وسرعان ما استشعر الجميع آثار هجومها على الأرض. لقد مُحيَت نصف الدبابات الإسرائيلية من الوجود بينما عبرت القوات المصرية قناة السويس تحت حماية الصواريخ أرض-جو السوفيتية ودشَّنت مواقع لها داخل سيناء الواقعة حينها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي الشمال، بدا راجحا أن سوريا تتجه لاستعادة هضبة الجولان كاملة.

 

بالنظر إلى هذا الفشل الاستخباراتي الضخم، فتح الإسرائيليون التحقيق سريعا فيما جرى، وأسسوا لجنة أغرانات للنظر في حرب أكتوبر، وقد استنتجَت اللجنة بأن السبب الرئيس في هذا الفشل كان التحليل السيئ، وبالتحديد الافتراض الراسخ قبل الحرب حيال النِّيَّات المصرية. ووفقا للجنة، اعتقدت القيادة الإسرائيلية بأن السادات لن يشُن حربا يعلم يقينا أنه لن ينتصر فيها، وأن قادة إسرائيل قلَّلوا من احتمالية تنفيذ عمل عسكري مصري باعتباره قرارا غير عقلاني. إن هذا التحليل السيئ، الذي سمَّته اللجنة "كونسِبتزيا" (Conceptzia) أو التصوُّر، خلق في عقول القادة الإسرائيليين ما يسميه علماء النفس "الانغلاق الذهني"، أي الحاجة إلى درجة من اليقين في وجه معلومات جديدة أو دلائل متراكمة تُزعزِع الافتراضات السابقة.

اعتقدت القيادة الإسرائيلية بأن السادات لن يشُن حربا يعلم يقينا أنه لن ينتصر فيها، وأن قادة إسرائيل قلَّلوا من احتمالية تنفيذ عمل عسكري مصري باعتباره قرارا غير عقلاني. (الصورة: غيتي)

في تقرير لتقييم الوضع بعد نهاية الحرب، استنتجت إدارة الاستخبارات الأميركية بأن الولايات المتحدة فوجِئت هي الأخرى باندلاع الحرب نتيجة إساءة قراءة النِّيَّات والقدرات العربية، وأن المعلومات التي جمعتها الاستخبارات الأميركية "لم تكن حاسمة، لكنها كانت معلومات كثيرة ودقيقة وتنذر بالخطر"، وكانت "كافية" لتوجيه تحذير بوقوع حرب للرئيس الأميركي، وفقا لما كتبه المُحقِّقون في ديسمبر/كانون الأول 1973، بالنيابة عن مدير الاستخبارات الأميركية "ويليام كولبي". ومع ذلك، تابع المُحقِّقون بقولهم: "إن هناك مفاهيم جوهرية مُسبقة، عزَّزتها التفسيرات الرسمية في إسرائيل، وجَّهت أنظار المُحللين بالأساس إلى الإشارات السياسية على أن العرب عازمون على إيجاد وسائل غير عسكرية لتحقيق أهدافهم".

 

لقد وجد التقرير أيضا أن المُحللين اكتنفهم انحياز ثقافي -أو ضرب من التعصُّب في الحقيقة- تجاه المصريين، إذ جنح المحللون الأميركيون إلى الاستخفاف بالثقافة العربية إلى حد ازدرائها. بعد الحرب بشهريْن، استخلصت وكالة الاستخبارات الأميركية أن "هناك فكرة شائعة عن الكثير من العرب، استندت بالأساس إلى أدائهم في السابق، ترى أنهم ليسوا أهلا لمتطلبات الحرب الحديثة، وأنهم افتقدوا للفهم والدافع، ولعلهم افتقدوا الشجاعة أيضا في بعض الأحيان".

 

درس أكتوبر.. لا استخبارات بدون تحليل سياسي

"لقد قام السادات في الواقع بشلِّ أعدائه عن طريق مفاهيمهم الخاطئة ذاتها".

هنري كسينجر

تُسلط مفاجأة حرب أكتوبر الضوء على أن المعلومات الصحيحة عن العدو وحدها ليست كافية، وأن الإصابة في تجنيد العميل الصحيح، وسرقة الملف الصحيح، واختراق الاتصالات ومراقبة التحرُّكات المطلوبة، ليس كافيا أيضا، إذ إن الطريقة التي يُحلِّل بها المسؤولون، والمنظومة الاستخباراتية كُلها، تلك المعلومات لا يقل أهمية.

 

قبل الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأميركي في الحرب العالمية الثانية، لم يستطع مجتمع الاستخبارات الأميركي أن يستشف النقاط الصحيحة كي يصِلها ببعضها ويستشرف الهجوم (إذ كانت الولايات المتحدة قد اخترقت الرسائل المُشفَّرة لدبلوماسيي اليابان، وليس لقواتها البحرية). وقبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول، التقطت الاستخبارات الأميركية النقاط الصحيحة بالفعل، لكنها عجزت عن توصيلها ببعض (فقد كان بعض أعضاء تنظيم القاعدة المعروفين للاستخبارات الأميركية موجودا بالفعل داخل الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول 2001). في عام 1973، وصَّلت إسرائيل والولايات المتحدة النقاط ببعضها، لكنها رسمت بها الصورة الخاطئة. لقد افتقد ضباط الاستخبارات في البلديْن أي تصوُّر فعَّال للوضع على الأرض أو للسادات نفسه، واشتركوا في اعتقاد متعجرف مفاده أن الرئيس المصري لا يمتلك القدرات أو الذكاء أو الجرأة على مفاجأتهم. "لقد قام السادات في الواقع بشلِّ أعدائه عن طريق مفاهيمهم الخاطئة ذاتها"، هكذا كتب كسينجر فيما بعد.

 

إننا لن نعلم على وجه اليقين لبعض الوقت ما إن كان قادة إسرائيل أو الولايات المتحدة قد علموا بأمر هجوم حماس الأخير قبل تنفيذه، أو علموا بماهية ما كان يُفكِّر فيه إسماعيل هنية أو محمد الضيف حين شنُّوا الهجوم يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. بيد أن كُلفة التقليل من قدراتهم يجب أن تُفهَم جيدا الآن. بعد أقل من عقد على حرب أكتوبر 1973، عانت إسرائيل من المفاجآت الاستخباراتية بعد أن أساءت تقدير القدرات العسكرية والتماسك السياسي للأقلية الشيعية في لبنان، إذ لم تتوقع تل أبيب أن غزوَها للبلاد عام 1982 سيُحفِّز تسليح الشيعة في الجنوب بدعم إيراني. وإلى يومنا هذا، تظل الجماعة التي تمخَّض عنها غزو لبنان، وهي حزب الله اللبناني، خصما لدودا لإسرائيل.

 

تشير بعض الأدلة إلى أن الولايات المتحدة كانت أقل تفاؤلا من إسرائيل بخصوص اتفاقيات أبراهام التي فتحت باب التطبيع بين إسرائيل وبضع دول عربية. (الصورة: رويترز)

ولكن هل تُرجِم أيٌّ من ذلك إلى تقدير مضبوط لتفكير حماس الإستراتيجي؟ وهل وقعت إسرائيل هذا العام مجددا أسيرة افتراضاتها المُسبقة بخصوص عدوِّها؟ إن بعض التصريحات السابقة لنتنياهو تشي بأنه توقَّع من الفلسطينيين أن يتواكبوا مع القادة العرب وتقاربهم مع إسرائيل في الآونة الأخيرة، حيث قال عام 2018: "إننا إن انفتحنا على العالم العربي وطبَّعنا العلاقات معه، فسيفتح لنا ذلك باب المصالحة والسلام مع الفلسطينيين. ويجب علينا أن نحقق هذين الهدفيْن، لكنني أعتقد أننا يجب ألا نقلل من أهمية الرغبة في الانفتاح على إسرائيل في العالم العربي اليوم". قبل ستة أيام فقط من هجوم حماس، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي "تساحي هَنِغبي" في حوار إذاعي إن "حماس تمارس درجة عالية من ضبط النفس وتفهم جيدا تبِعات تصعيد المواجهة معنا".

 

رغم أن كسينجر تشكَّك في نِيَّات إسرائيل، فإن واحدا من الفروق الجوهرية بين 1973 و2023 هو أن حكومتي واشنطن وتل أبيب قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول لم تكونا بالاصطفاف نفسه الذي كانتا عليه قبل خمسين عاما. فبعد سنوات من الخلاف، كان نيكسون وغولدا مائير قد توصَّلا إلى تصوُّر بخصوص أهمية إسرائيل بوصفها دولة لديها ردع نووي، أما بايدن ونتنياهو فإن تصوُّراتهما عن الشرق الأوسط مختلفة جذريا. إننا لا نعلم بَعد ما إن كانت واشنطن قد عزَّزت الثغرات الموجودة في الإطار التحليلي لإسرائيل هذه المرة (كما فعلت عام 1973). تشير بعض الأدلة إلى أن الولايات المتحدة كانت أقل تفاؤلا من إسرائيل بخصوص اتفاقيات أبراهام التي فتحت باب التطبيع بين إسرائيل وبضع دول عربية. ففي أبريل/نيسان من هذا العام، قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "ويليام بِرنز" إنه "رغم الأمل المعقود على اتفاقيات أبراهام، والتقدُّم نحو التطبيع بين إسرائيل والمزيد من الدول العربية، لا يزال هناك تهديد بانفجار التوترات في المنطقة من جديد، بما في ذلك التوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين". ومع ذلك، قبل أسبوع من هجوم حماس، قال مستشار الأمن القومي الأميركي "جيك سوليفان" لموقع "ذي أتلانتيك" إن "الشرق الأوسط اليوم أهدأ مما كان عليه طيلة العقديْن الماضيين".

 

قبل خمسين عاما، استخفَّت إسرائيل والولايات المتحدة بقدرة السادات على امتلاك رؤية إستراتيجية تعجزان عن فهمها، ويبدو أن خطر الاستخفاف بالعدو تكرر أيضا هذه المرة. لعل حماس تشارك السادات يقينه في أن الطريق الوحيد لتعديل الموازين المُختلَّة هو شن هجوم عسكري، وقد اختار قادة الحركة أن يشنوا حربهم في الذكرى الخمسين لآخر مرة أُخِذَت فيها إسرائيل على حين غِرَّة. إنهم يعرفون التاريخ جيدا.

———————————————————————–

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: ماجدة معروف.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المعلومات الاستخباراتیة الاستخبارات الأمیرکیة أکتوبر تشرین الأول وکالة الاستخبارات الولایات المتحدة ت الاستخبارات دولة الاحتلال الأمن القومی قادة إسرائیل الشرق الأوسط الجیش المصری أشرف مروان حرب أکتوبر أن السادات فی إسرائیل ت إسرائیل أن الهجوم مایو أیار هجوم حماس ی إسرائیل تل أبیب أن قادة من الم التی ی أن الم إلى أن عام 1973 التی ت على أن

إقرأ أيضاً:

لماذا تعتبر إسرائيل حركة بي دي إس خطرا وجوديا؟

ووفقا لما قاله العضو المؤسس في الحركة عمر البرغوثي في حلقة 2025/2/4 من بودكاست "مع شعيب"، فقد تأسست الحركة في عام 2005، بعد القمع الكبير الذي مارسه الاحتلال ضد كل صوت مقاوم لها خلال الانتفاضة الثانية التي استمرت بين 2000 و2005.

وينظر اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لهذه الحركة على أنها أحد أكبر 3 تهديدات لإسرائيل، وهو ما دفعه للعمل المتواصل على تحجيم عملها داخل أميركا بكل الطرق، كما يقول البرغوثي.

ودفع هذا الأمر 35 ولاية أميركية لتبني قوانين تجرم عمل المنظمة وتحظر التعاون معها، وقد استدعى الأمر إنفاق 900 مليون دولار لمحاربة هذه الحركة وحدها في أميركا، حسب مجلة "ذا نيشن".

تبني المقاطعة الشاملة

وتتبنى الحركة -حسب البرغوثي- مقاطعة إسرائيل بشكل كامل (ثقافيا وأكاديميا وسياسيا واقتصاديا ورياضيا)، والعمل على سحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها لإرغامها على الاعتراف بحق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير.

وبدأت الحركة عملها في 2005، وهي تدار من جانب أكبر ائتلاف لفلسطينيي الوطن والشتات، وتعمل على تحجيم آثار اتفاقية أوسلو التي أوهمت الفلسطينيين بإقامة دولة مستقبلية لهم، كما يقول البرغوثي.

وكان الدافع في إنشاء الحركة -وفق البرغوثي- هو تدويل النضال الفلسطيني ضد إسرائيل التي تستمد قوتها أساسا من الولايات المتحدة والغرب انطلاقا من فكرة أن قطع الدعم الغربي سيكون كافيا لتفكيك هذا البلد الذي لا جذور له.

إعلان

ومنذ عام 2014، اعتبرت إسرائيل حركة "بي دي إس" تهديدا إستراتيجيا لها، ثم اعتبرتها تهديدا من النوع الأول عام 2016. ومنذ ذلك الحين تتعرض الحركة لتضييقات واسعة خصوصا.

ومع ذلك، فقد ساعد تأييد كثير من اليهود في الولايات المتحدة وبريطانيا لحركة في تجاوزها للتلويح المستمر بتهمة معاداة السامية، وإن كانت هذه التهمة تعرقل عمل الحركة بشكل كبير في كثير من الدول، وخصوصا في ألمانيا.

وحاولت الحكومة الألمانية مرارا حظر الحركة، لكن الأخيرة تجاوزت هذه المحاولات من خلال رفع قضايا ضد الحكومة، بيد أن سلوك برلين وصل لمرحلة الفاشية التي جعلتها تتهم يهودا بمعاداة السامية بسبب دعمهم لـ"بي دي إس"، كما يقول البرغوثي.

نجاحات كبيرة

ورغم ذلك صعدت الحركة خطواتها نحو تعزيز المقاطعة، ونجحت في دفع مؤسسات وشركات كبرى لتبني هذه السياسة، مما دفع وسائل إعلام عالمية -مثل "سي إن إن" و"بي بي سي" وفوكس نيوز- إلى تجاهلها تماما.

وكانت الحركة من أوائل المؤسسات الدولية التي وصفت سلوك الاحتلال تجاه الفلسطينيين بأنه فصل عنصري، وقد تلتها في ذلك منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية لكن بعد سنوات.

وللوهلة الأولى، تبدو الحركة وكأنها ليبرالية مسالمة لكن المتوغل في مضمون عملها يجد أنها تعمل على إنهاء الاحتلال بشكل كامل وتنفيذ حق العودة التاريخي، حسب البرغوثي.

وترى إسرائيل أن هذا السلوك من جانب الحركة محاولة لتدميرها تماما لكن بالقانون وليس بالمقاومة المسلحة لأنها تعمل على تعزيز المقاطعة سياسيا وثقافيا وأكاديميا وتجاريا وعسكريا.

ولكي تصل إلى هذه الحقوق، بدأت تحركا واسعا لإقناع الأفراد والمؤسسات والكيانات الحكومية على تبني مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها، لأنها -كما يقول البرغوثي- تؤمن بأن القوتين الأخلاقية والقانونية ليستا كافيتين لاستعادة حقوق الفلسطينيين وإنما القوة الشعبية هي القادرة على ذلك لأنها تؤثر في صانع القرار.

إعلان

وتعمل الحركة مع عدد من الكيانات حول العالم ومنها: نقابة المزارعين في الهند، يهود من أجل السلام في ألمانيا، وجنوب أفارقة من أجل فلسطين، وهي تنجح كثيرا في الدول الديمقراطية لأنها تعتمد الضغط على الحكومات، مما يجعلها غير موجودة في عدد من الدول العربية، حسب البرغوثي.

ويعتبر البرغوثي أن التطبيع العربي أكثر خطرا على قضية فلسطين من قوانين مكافحة التمييز ومعاداة السامية التي يطبقها الغرب دفاعا عن إسرائيل.

وكانت نقابة أساتذة الجامعة البريطانيين -أول مؤسسة أكاديمية في العالم- تتبنى مقاطعة إسرائيل دعما لـ"بي دي إس"، رغم أنها كانت ثاني أكبر نقابة أكاديمية في العالم تتعامل مع تل أبيب.

وبعد هذا القرار، هدد الكونغرس الأميركي هذه النقابة برفع قضايا لتدميرها ماليا ما لم تتراجع عن المقاطعة التي قالوا إنها تخالف قوانين مكافحة التمييز.

ونجحت "بي دي إس" في دفع شركة "فيوليا" للانسحاب من إسرائيل بعد التسبب في خسارتها 20 مليار دولار حول العالم، منها ملياران خسرتهما بعد إخراجها من عقد في الكويت وهو ما جعلها تتخذ قرار مغادرة تل أبيب. كما نجحت في إغلاق 10 أفرع لشركة كارفور في الأردن بسبب دعمها للحرب الأخيرة على قطاع غزة.

ونجحت الحركة في وقف مشروع لبناء مصنع رقائق بقيمة 25 مليار دولار كانت شركة "إنتل" الأميركية تعتزم فتحه على مقربة من قطاع غزة، وذلك بعد إقناع المساهمين بخطورة هذه الخطوة على أموالهم.

سيون أسيدون يرفع مطالب المقاطعة في مسيرة تضامنية مع فلسطين في المغرب (الجزيرة) صعوبة ضرب الحركة

ووفقا للبرغوثي، يصعب ضرب هذه الحركة لأنها ليست مستقرة في بلد ما ولا تحصل على تمويل حكومي لكنها حركة شعبية واسعة ومنتشرة ولا يمكن حصر وجودها في مكان واحد، فضلا عن أن غالبية من يعلمون بها متطوعون وليسوا موظفين.

وتعتمد الحركة على شركاء دوليين حتى تتجاوز فكرة المركزية أو المكاتب وهناك العديد من التجمعات التي تدعمها في الولايات المتحدة والهند وبريطانيا وجنوب أفريقيا، وهم يوفرون لها دعما ماليا، ورغم أن هيكلها الوظيفي يظل محدودا جدا، فإنه يعمل باحترافية مع عدد كبير من المتطوعين.

إعلان

ولا تضم لجنة إدارة الحركة أفرادا، بل ممثلي ائتلافات أهلية واتحادات نقابية من فلسطين وأنحاء العالم. وهذا ما يجعلها بعيدة عن يد القوانين الغربية التي تستهدف كل من يقاوم إسرائيل.

وقد رفعت إسرائيل عشرات القضايا ضد الحركة لكنها خسرتها بشكل شبه كامل بسبب هيكلية الحركة التي تجعل إدانتها بمعاداة السامية أمرا صعبا، فضلا عن دعم كثير من الأطر القانونية حول العالم لها والدفاع عنها أمام المحاكم.

4/2/2025

مقالات مشابهة

  • ما حجم تأثير الإنجيليين البيض في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل؟
  • صحة غزة تعلن حصيلة شهداء الحرب الإسرائيلية
  • لماذا اشتعل جدل النصر والهزيمة بعد وقف إطلاق النار في غزة؟
  • معتقل لدى الاستخبارات .. ياسر عرمان يوّجه نداء لمسؤول عمليات الجيش بإطلاق سراح زاهر مركز
  • وزير الدفاع الأمريكي: سنجهز إسرائيل بالذخائر التي لم تُمنح لها سابقًا
  • خسارة “إسرائيل” في طوفان الأقصى لا تعوَّض مهما حاولت أمريكا
  • المخابرات الأميركية تقدم خطة المغادرة الطوعية لموظفيها
  • لماذا تعتبر إسرائيل حركة بي دي إس خطرا وجوديا؟
  • سودان أبو القدح
  • ترامب سيشاهد فيلم 7 أكتوبر لأول مرة قبل استقبال نتنياهو.. 47 دقيقة من الدهشة