(1)
"المُستَلِفون" هم كائنات بشريَّة، مثلنا، ولكنهم بحجم السبابة، ذلك البالغ منهم. بينما كانت الفتاة آرييَّتِّي، البالغة مرحلة الحريّة والمغامرة والمسؤوليّة، بحجم الخُنصر. عليها البدء في تعلّم مهنة أجدادها القدماء، الذين يعيشون داخل جدران وقواعد بيوت البشر، يبنون بيوتاً جميلة وبأثاثاتٍ صغيرٍة جدّاً تُناسب أحجامهم.
يعكس كاتب ومخرج الفيلم "العالم السريّ لآرييَّتِّي"، الياباني هاياو مايازاكي، نضال الفتاة من أجل الاحتفاظ ببيتهم العتيق، غرفتها المحشوَّة بالنباتات، الحشرات الصغيرة التي مثّلت مجتمع الأصدقاء الوحيد، إذ تعيش برفقة والديها، وثلاثتهم لا يعرفون إن كان هنالك مستلفون آخرون في مكانٍ آخر من هذا العالم الهائل المجهول. كانوا لا يعرفون ما الذي يقع خلف الغابة، والتي لم تكن، في الواقع، سوى حديقة المنزل الأماميّة.
(2)
هذا المُخرج والرسّام شكَّل طفولتي الشخصيّة دون أن أعرف اسمه، من خلال مسلسله في الصادر بنسخته اليابانية في العام 1978م (كونان، فتى المُستقبل) وبنسخته العربيّة: "عدنان ولينا" لاحقاً في الثمانينات. وأُلاحظ، بعد مشاهدة سلسلة أعماله العميقة، أن البطلات يتقدَّمن الأبطال الذكور بمراحل من الشجاعة والإقدام والذكاء والروح الطيّبة.
(3)
حاوَلَت آرييتي إخفاء سرّ اللمحة، لمحة الطفل البشري المُحتضر، ثمَّ لاحقاً أخفت علاقتها المرتبكة به، إذ كان يحدثها من خلف حجاب. كانت تتسلل إلى غرفته وتختبئ خلف ستارة النافذة، ويتحدّث هو شاعراً بوجودها.
أدّت سلسلة الأحداث أن أُجبرت آخر أسرة من المُستلِفِين على مغادرة منزل أجدادهم القدماء؛ أجيالٌ عاشت في هذا البيت، بَنت الممرات المتطوّرة، بروافعها ومصاعدها المُبتكرة، والأدوات اليدويّة اللازمة للتسلّل الخفي لبيت البشر واستلاف مكعّب سكّر أو منديلٍ ورقيّ واحد يكفيان لعدّة شهور.
(4)
فتاة من سلالات البشر الماضية رأت الناس الصغار، وبَنَت لهم بيتاً رفيعاً يُناسب أحجامهم، وكانت في انتظار إظهارهم لأنفسهم، ولكن ذلك لم يحدث أبداً، وكان ذلك البيت الدقيق يُورَّث للأجيال اللاحقة على أمل إظهار الناس الصغار لأنفسهم يوماً. كانت محاولة الفتى المحتضر هي إسكانهم في ذلك البيت، وباكتشافه لأماكنهم السريّة حاول أن يبدّل بيتهم بآخر، لكن محاولاته جاءت بما لا تشتهي النجاة. كانت العاملة المنزليّة العجوز قد سَمعت بأمر المُستلفين منذ عشرات السنين، وأدركت أنها، إن استطاعت أن تقبض عليهم، فإن جائزتها الماليّة والسلطويّة ستكون عظيمة، وربما عالميَّة. وبالتجسس على الفتى المريض اكتشفت مخبأهم، وحطّمت بيتهم وقبضت على الأم مُتلبِّسةً بجُرم وجودها، وحبستها في برطمانيّة زجاجيّة أغلقتها بقماش، ثمّ تمادت وألَّبت عليهم جميع إرهابيي العالم طمعاً في السلطة والمال؛ أحضرت مبيدي الحشرات، بغازاتهم وأدواتهم السّامة، وأسلحتهم الفتّاكة، إذ لم يَكُن المستلفون بالنسبة إليها وإليهم سوى حشرات يجب أن تُباد، أو تُوضع في علبٍ زجاجيّة وتُحرم من حياتها وحريتها.
(5)
شاهدت الفيلم قبل أسابيع، وأدمعت العين عندما جرى الحوار التالي بين آرييَّتِّي والفتى:
- أهناك آخرون صغار مثلك في المنزل؟
- كلا، أبي وأمي وأنا فحسب.
- ماذا عن المنازل الأخرى؟
- إنني متأكدةٌ أن هناك آخرون غيرنا، لكني لم أقابل سوى شخصاً واحداً حتى الآن.
- فهمت. يوماً ما، ستكونون آخر من يبقى. أعدادكم تقلّ يوماً بعد يوم، أليس كذلك؟ أنتم جنسٌ مقدرٌ لكم الانقراض.
- هذا غير صحيح. -تبدأ بالبكاء بدموعٍ منهمرةٍ وصغيرة- هناك الكثيرون غيرنا، "سبيلر" قال ذلك.
- سبيلر؟
- إنه واحد من جنسنا، وقال إنه يوجد الكثيرون غيرنا.
- أتعرفين كم عدد البشر في هذا العالم؟ يوجد 6.7 بليون من جنسنا. ستة فاصلة سبعة بليون، ماذا عنكم؟.
- لا علم لي.
- أعتقد أن هناك فقط القليل منكم. قبل أن تخبرني أمي، لم أعرف بوجودكم في البداية –يتنفس بعمق- كثيرٌ من الأجناس انقَرَضَت بالفعل، قرأتُ عنها في الكتب فحسب، كثيرٌ من الأجناس الجميلة، لكن البيئة تغيَّرت، لذا لَقَت هذه الأجناس حتفها وانقرضت. إنه لشيء مُحزن، لكن هذا هو قدركم.
- قَدَر؟ لقد تَغَيَّر حالنا بسببك، والآن يتوجب علينا الرحيل من هُنا. يجب أن نكافح للبقاء، هذا ما أخبرني به أبي، لذا سنرحل بالرغم من خطورةِ ذلك. سنتدبر أمرنا كما نفعل دوماً، أنت لا تعرفنا جيداً، لن نخضع للموت بهذه السهولة.
- أنتِ محقّة، آسف. أنا من سيموت بسهولة، إنه قلبي. سيُجرون لي عمليةً الأسبوع المقبل، ولا جدوى من ذلك على الأرجح.
- قلبك؟
- لطالما كنت مريضاً؛ لا أستطيع اللعب مثل بقية الأطفال، من اللحظة التي رأيتكِ فيها، أردت حمايتكِ، لكن، يبدو أني فشلتُ في ذلك، آملُ أن تسامحيني.
(6)
يظهرُ فتىً من الأدغال، اسمه سبيللر، بحجم الخنصر كذلك، بدائيّ، يحمل حربةً ونشّاباً وسهاماً، يرتدي الصوف، بل إنه يطير كذلك باستخدام صوفه كأجنحة! عندما خَرَج الأب لاكتشاف ما خلف الغابة/الحديقة، بحثاً عن وطنٍ جديد، تعثّر وأُصيب فوجده الصبي البدائي، وأعاده إلى بيته. حدثت الصدمة أن هنالك آخرون، ومعارفهم مُختلفة عن معارفهم!
ساعدها الفتى المحتضر في تحرير والدتها، وإخفاء مخبئهم، وإخراجهم آمنين إلى أطرف الغابة، ثم تبدأ رحلة النزوح. سيساعدهم سبيللر وينقلهم إلى مستطونات جديدة لأناسٍ صغار مثلهم، ينتظرهم عند النهر –مجرى ماء صغير في الحديقة- على سطح "كفتيرة" هي مركبهم الذي سيقلّهم إلى عالمٍ جديد لم يعرفوا عنه شيئاً. كانت لا تزال تبكي وطنها المفقود عندما أَبصَرت آرييَّتِّي سمكة تسبح تحت الكفتيرة، توقّفت دموعها، وانغمست في دهشة أن ترى هذا الحيوان المائي لأول مرةٍ في حياتها، وأن ترى الأشجار الحُرَّة، والحيوانات الغريبة، وهنا يختتم الراوي حكايته الساحرة؛ من كلّ اليأس والفقد يُولد عالمٌ جديد.
(7)
لم تُدرك أبداً، في حاضر مأساتها، أنها كانت قد فقدت، من الأصل، عالماً لم تعرف عنه شيئاً، كانت مُنهمكة في مسؤوليّتها تجاه وطنها الأول، بيتها وبيت أجدادها، وعندما تحرَّرت، ولم يعد بالإمكان أفضل من ما كان، فَتَح العالم ذراعيه ليستقبلها، مولوداً جديداً، وسلالة جديدة إلى وطنٍ جديد.
(8)
إنها مسؤوليّة السودان.
21 أكتوبر 2023م
عن الفيلم:
https://www.imdb.com/title/tt1568921/
عن المُخرج:
https://www.imdb.com/name/nm0594503/?ref_=tt_cl_wr_2
mamoun.elfatib1982@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
روبوت يتفوق على البشر في جراحات معقدة
أشارت دراسة جديدة إلى أن جراحات الكبد المعقدة والأورام الخبيثة قد يكون من الأفضل إجراؤها بطريق الإنسان الآلي (الروبوت).
ألقى الجراحون في أحد المستشفيات الكبيرة في مدينة نيويورك الأميركية نظرة على 353 عملية جراحية أجريت بين عامي 2017 و2023 وتمت خلالها إزالة أجزاء من أكباد المرضى، بما في ذلك 112 عملية جراحة مفتوحة أجريت بفتح شقوق كبيرة، و107 عمليات أجراها جراحون بمنظار البطن، و134 عملية أجريت باستخدام روبوتات الجراحة.
بعد مراعاة عوامل الخطر الفردية للمرضى وتعقيد كل حالة، تبين أن من خضعوا لجراحات منظار البطن أو الجراحات بواسطة الإنسان الآلي جاء متوسط مدة إقامتهم أقصر بنسبة 39 و43 بالمئة على الترتيب، وكانت احتمالات حدوث المضاعفات أقل بنسبة 89 و62 بالمئة على الترتيب بالمقارنة مع المرضى الذين خضعوا لجراحات مفتوحة.
وذكر تقرير في دورية (سيرجيكال إندوسكوبي) العلمية أن احتمال أن تتطلب الجراحات الروبوتية التحول إلى الجراحة المفتوحة في أثناء العملية الجراحية كان أقل بنسبة 87 بالمئة من العمليات الجراحية بمنظار البطن.
وفي العمليات التي أجريت لعلاج الأورام الخبيثة، تشابهت احتمالات تحقيق هوامش استئصال نظيفة دون ترك أي خلايا سرطانية، وذلك بغض النظر عن الطريقة المستخدمة في الجراحة.
وقال الباحثون إن الدراسة لم تكن تجربة عشوائية ولا يمكنها الإثبات بشكل قاطع أن الجراحة باستخدام الروبوت هي الأكثر أمانا لجراحة الكبد. وعلى الرغم من أن الجراحة بالمنظار تُعرف بشكل عام بتقليل فقدان الدم وكذلك المضاعفات ومدة الإقامة في المستشفى، فإنها ليست مثالية في حالات الكبد المعقدة.
وخلص الباحثون إلى أن "التحول إلى استئصال الكبد باستخدام الروبوت قد يساعد في سد هذه الفجوة من التعقيد".
شارك في الدراسة باحثون في قسمي الجراحة وعلوم صحة السكان بمستشفى "ويل كورنيل" الطبي التعليمي وقسم الجراحة بمستشفى "لانجون" في نيويورك.