خطابات أبي عبيدة والاتصال بالجماهير.. كيف تدير المقاومة إعلامها في الحرب؟
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
يعود اهتمام كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بالإعلام، إلى بدايات تأسيس الجهاز، وإذا كانت الكتائب منذ البدايات قد اهتمّت بتوثيق صور مقاتليها الأوائل بالسلاح القليل الذي كانوا يحوزونه، وأصدرت بياناتها العسكرية، مضمّنة إياها تعبئة عسكرية وأيديولوجية واضحة، وتوفَّرَ لحركتها الأم، حماس، إعلامٌ رديف أوسع، يُعنى بالتوثيق العسكري لمسار الحركة، فإنّ أوّل عمليّة مصوّرة بحَسَب أدبيات الكتائب، كانت عملية "مصعب بن عمير"، التي وقعت قرب مسجد "مصعب بن عمير" في حيّ الزيتون بمدينة غزّة في 12 كانون الأول/ ديسمبر 1993، أي عشية توقيع اتفاقية أوسلو.
منذ ذلك الوقت والكتائب، في ظرف يفتقد الاستقرار اللازم لتطوير العمل الإعلاميّ والدعائي والتعبوي، ومثلها بقية فصائل المقاومة، تحاول تعزيز مشروعها المقاوم بجهد إعلاميّ تعبويّ، يقصد ثلاثة أهداف، الأوّل الرفع المعنوي للجماهير الفلسطينية وتعبئتها بالخطاب المقاوم، والثاني رسائل دعائية مضادّة للداخل الإسرائيلي، والثالث توثيق جهدها العسكري، بيدَ أنّه يمكن إضافة أهداف أخرى، ذات طبيعة استخباراتية تخدم عملها العسكري، كما في حادثة أسر الجندي الإسرائيلي "نحشون فاكسمان" الذي اختطفته مجموعة من كتائب القسام عام 1994، واحتجزته في بلدة بير نبالا في شمالي غرب القدس بالضفة الغربية، وصوّرت احتجازها للجندي وبثّته، إلا أنّها في الوقت نفسه أرسلت سلاحه وبطاقة هُويته إلى قطاع غزّة، ليخرج بهما ملثّمًا، محمّد الضيف، معلنًا عن أسر الجنديّ، وكان ذلك بهدف التمويه على المكان الحقيقي لاحتجاز الجندي.
بدأت الكثافة الإعلامية في أداء الكتائب، وغيرها من فصائل المقاومة، في انتفاضة الأقصى، فبالإضافة للبيانات العسكرية، اهتمّت الكتائب بتصوير وصايا مقاتليها، لاسيما الاستشهاديين منهم، وتصوير عملياتها، وإنتاجها التسليحي بغزّة والذي كان في بداياته، وقد وفّر انسحاب الاحتلال من قطاع غزّة في العام 2005، ثمّ ما تسميه حركة حماس بـ "الحسم العسكري" في العام 2007، والذي أفضى إلى سيطرتها الكاملة على قطاع غزّة، فرصةً لتطوير بنية إعلامية مستقرّة، في دائرة خاصّة، تُدعى "دائرة الإعلام العسكري"، التي ينهض بها محترفون من بين المقاتلين، سواء في الجانب التقني، أو في جانب محدّدات الخطاب وغاياته وصياغاته، وبالتدريج بدأت الكتائب تُقدّم ناطقًا باسمها، اشتهر باسم "أبي عبيدة"، لا يعرفه الناس إلا من صوته وكوفيته الحمراء وكنيته الإعلامية، والذي يتكثّف ظهوره لتعزيز الجهد التعبوي للكتائب أثناء مواجهاتها الكبرى.
يمكن القول بعد هذا البناء الطويل المؤسس على الخبرة والمراكمة- والذي عبَر بنجاح من ظروف بالغة القسوة، في سلسلة المواجهات منذ انتفاضة الأقصى وصولًا إلى معركة "طوفان الأقصى"-: إنّ الكتائب كانت قد بلورت فلسفتها الإعلامية، وبنيتها القائمة بهذه الفلسفة، وَفق الخطوط التالية:
أردفت الكتائب خطاب "أبي عبيدة" بشريط مصوّر للأسيرة الإسرائيلية "ميا شيم" وهي تتلقى العلاج لدى الكتائب، وكانت هذه الأسيرة قد حظيت من قبلُ باهتمام واضح من عائلتها وأصدقائها، بعد أسرها
أولًا: الاتصال المستمر بالجماهيرليس فقط من خلال موقعها الإلكترونيّ، أو حرصها بأن يكون لها- ما استطاعت – منبرٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، وأخيرًا بتطويرها تطبيقًا إلكترونيًا لبثّ أخبارها، ولكن أيضًا، وهو الأهمّ، من خلال سلسلة الإطلالات الإعلامية لبعض قياداتها، والإفصاح عن بعض تجهيزاتها، أو بعض عمليّاتها السّابقة، أو بغرض تمرير رسائل معينة، كما في ملفّ الأسرى مثلًا، والإنتاج الخاصّ لهذا النوع من الموادّ الإعلامية، والانفتاح على المؤسّسات الأخرى، بتوفير ما يلزم لها من موادّ بخصوص الكتائب، وقد أثمر ذلك العديد من الأفلام الإخبارية والوثائقية. يهدف هذا الاتصال المستمرّ إلى ضمان ارتفاع السويّة المعنوية للفلسطينيين، والاحتفاظ بثقتهم التي حصّلتها الكتائب في تاريخها النضالي.
ثانيًا الضغط الدعائي المستمر على الاحتلالوجبهته الداخلية، وقد تكثّف هذا الضغط في فترات الهدوء فيما يخصّ ملفّ الجنود الذين أسرتْهم الكتائب في حرب العام 2014، وفي الوقت نفسه، تريد من الإفصاحِ المدروس عن تجهيزاتها؛ التشويش على الخطط الحربية الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة.
ثالثًا: تثبيت المصداقيةبالامتناع عن المبالغة الدعائية، والحرص على الدقة في كشفها عن عملياتها نوعًا ونتائج، وهو ما يمكن عدّه تطوّرًا مهمًّا في الخطاب الدعائي القتالي الفلسطيني، ومعزِّزًا للثقة بالكتائب، سواء من جمهورها، أو عموم المراقبين.
رابعًا: تعزيز المستوى السياسيبالرؤية السياسية، ببيان الأهداف السياسية من العمل العسكري لحماس، وأكثر ما يتَّضح ذلك في المواجهات الكبرى، التي لا تكتفي فيها الكتائب بالبيانات العسكرية، أو بالجهد التعبوي، ولكن بالتأكيد على أغراضها السياسية، كما في كلمة قائدها محمد الضيف في مفتتح عملية "طوفان الأقصى"، أو في عدد من خطابات الناطق باسمها "أبي عبيدة".
في عملية "طوفان الأقصى" ظهرت هذه الخطوط الأربعة واضحة، وبالاعتماد على أدوات تضمن تبليغ الرسائل بالكثافة والدقة المطلوبتَين، وذلك من خلال ما يلي:
الخطابات المحمَّلة بالرسائل المباشرة، كخطاب محمد الضيف في إطلاق "طوفان الأقصى"، والذي افتتحه ببيان تأسيسي لمشروعية المقاومة الفلسطينية، ثمّ أردفه بالدواعي المباشرة للعملية كسياسات الاحتلال، مع التركيز على قضيتَي الأقصى والأسرى، ثمّ ختمه بخطاب الأمّة وَفق تدرج متسلسل ابتداءً من الفلسطينيين في الضفة والقدس والداخل المحتل عام 1948، ثمّ جماهير الأمّة في بلاد سمّاها بالاسم، ثمّ بقية قوى المقاومة في الإقليم.ليكشف خطابه لهذه الأطراف عن جانب من أهداف الكتائب الضمنيّة من عملية "طوفان الأقصى"، وهو السعي في إحداث خلخلة في الأوضاع الإقليمية لصالح القضية الفلسطينية، ومثله، خطاب "أبي عبيدة" الذي بثّته القسَّام بعد خمسة أيام على المعركة، وتضمَّن شرحًا مفصلًا لمجريات المعركة، من دواعي التخطيط، وظروف التّخطيط، ثمّ مسارات التنفيذ، بما يشمل إنجازات الكتائب وخسائر الاحتلال، وبما لا يخلّ بدوره من رسائل سياسية وتعبوية، وخطاب مباشر للجماهير والمقاومين والأسرى والعدوّ، وكذلك خطابه الذي أفصح فيه عن عدد الأسرى والمحتجزين لدى الكتائب وسياسة الكتائب إزاءهم، وذلك في اشتباك مباشر مع الجهد السياسي الذي تعلّق بهذا الملّف، ولغرض التأثير في الرأي العام العالمي، والجبهة الداخلية للاحتلال، وإرباك حسابات مؤسسته السياسية والعسكرية.
ومن ثَمّ أردفت الكتائب خطاب "أبي عبيدة" بشريط مصوّر للأسيرة الإسرائيلية "ميا شيم" وهي تتلقى العلاج لدى الكتائب، وكانت هذه الأسيرة قد حظيت من قبلُ باهتمام واضح من عائلتها وأصدقائها، بعد أسرها، ما يعني أن اختيارها كان مقصودًا، وقد سبق أن أفرجت الكتائب عن إسرائيلية وطفلَيها وبثّت ذلك، وبثّت الكيفية التي عامل بها مقاتلوها مَن وجدوهم من الأطفال أثناء العملية، في ردّ مباشر على الدعاية الإسرائيلية والغربية المعادية.
الكشف المتدفق، عن تجهيزات الكتائب العسكرية، بما في ذلك سلاحها المصنع محلّيًّا، من خلال شرائط قصيرة، أو الكشف عن عملياتها، سواء عمليات الاقتحام يوم 7 تشرين/ أكتوبر، أو العمليات الجارية أثناء العدوان، بما في ذلك عمليات القصف، أو نشر وصايا الشهداء المصورة، أو نشر أسمائهم وصورهم ومعلوماتهم وظروف استشهادهم. البيانات العسكرية الموجزة، التي تكشف استمرار الأداء القتالي لكتائب القسام على وتيرته نفسها، بالرغم من قوّة النيران وتفوُّق الطيران اللذين يمتلكهما الإسرائيلي.يحرص الإعلام العسكري للقسام، في ذلك كلّه، حتى في صيغه التعبوية، على الإيجاز والدقة والمباشرة، ويتخيّر الأوقات الخاصّة، بحَسَب مجريات المعركة أو بحَسَب التطوّرات السياسية لخروج الناطق العسكري الذي تعلّقت الجماهير بخطاباته، ومن ثمّ تهتمّ السياسة الإعلامية للقسّام بعدم استهلاك الناطق العسكري، والحفاظ على قدرته على التأثير والرفع المعنوي بتقليل ظهوره أثناء المعركة، وتخيّر الأوقات التي تحتاج خطابًا مهمًّا من الكتائب، كظهور "أبي عبيدة" للإعلان عن أسر الجندي شاؤول أرون في معركة العام 2014، بعد تنفيذ الاحتلال مجزرة حيّ الشجاعيَّة فجر اليوم نفسه الذي أُسِر فيه الجندي.
من عملية "مصعب بن عمير" إلى "طوفان الأقصى"، طوّرت كتائب القسام إعلامًا عسكريًّا لا على مستوى البنية التحتية المستقرّة أو التقنيات فحَسْب، بل وعلى مستوى الخطاب شكلًا ومضمونًا، ليكون من أهمّ مرتكزاتها إلى جانب سلاحها في أكبر معاركها وأخطرها، "طوفان الأقصى".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: طوفان الأقصى ت الکتائب من خلال خطاب ا
إقرأ أيضاً:
القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة
في الوقت الذي تشتعل فيه المواجهة في القطاع وتحتل صدارة المشهد الإعلامي والدبلوماسي، تنزوي القدس في الظل، كمدينة تُسرق بهدوء وتُغيَّب عن الواجهة تحت غطاء النسيان والانشغال. يعيش الفلسطينيون في القدس واقعا قاسيا لا يقل عنفا، لكنه غالبا ما يُختزل إلى الهامش في السردية الفلسطينية العامة.
تفرض السلطات الإسرائيلية قيودا مشددة على حركة المقدسيين، خاصة خلال شهر رمضان، ما يعيق وصولهم إلى المسجد الأقصى، ويحوّل ممارسة العبادة إلى معاناة يومية تتخللها الإهانات والمنع. فهل تُمارس هذه القيود بدافع أمني حقيقي، أم أن وراءها بُعدا دينيا وسياسيا مقصودا؟ ولماذا تستهدف القدس بشكل متكرر بينما يُسمح للمستوطنين باقتحام ساحاتها بكل حرية؟
ومنذ احتلالها عام 1967، تبنّت إسرائيل نهجا ممنهجا لتغيير الطابع الديمغرافي للقدس الشرقية، من خلال سحب الهويات، وهدم المنازل، وتوسيع المستوطنات على حساب الأحياء الفلسطينية. فهل هي مجرد إجراءات إدارية وأمنية؟ أم أنها جزء من مشروع استراتيجي طويل الأمد لطمس الهوية الفلسطينية في المدينة؟
ما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة
وما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة.
سياسة المنع من الوصول إلى المسجد الأقصى: بين التضييق الديني والتأثير الاقتصادي
إن إحدى أخطر السياسات الإسرائيلية المستمرة في القدس هي إعاقة حرية العبادة للفلسطينيين، لا سيما في المسجد الأقصى، الذي يمثل أمرا عظيما بالنسبة للمسلمين. تُفرض قيود صارمة على دخول المصلين من الضفة الغربية، عبر نظام تصاريح تعجيزي، غالبا ما يُستخدم كأداة للعقاب الجماعي، ويُرفض دون أسباب واضحة، خاصة لفئات الشباب والنساء والنشطاء.
ولا يقتصر المنع على حرمان الفلسطينيين من ممارسة شعائرهم الدينية، بل يتعداه إلى تمييز واضح على أساس العمر والجغرافيا. فكثيرا ما يُمنع الشبان تحت سن الأربعين من دخول المسجد، حتى في المناسبات الدينية الكبرى، فيما يُسمح للمستوطنين اليهود من أقاصي البلاد باقتحام ساحاته، بحماية الشرطة الإسرائيلية.
أما سكان القدس أنفسهم، فلا يسلمون من التضييق اليومي، إذ تُغلق بوابات المسجد الأقصى بشكل مفاجئ، وتُمارس بحقهم إجراءات تفتيش مهينة على المداخل، وتقتحم قوات الاحتلال باحاته بشكل متكرر، مما يحوّل الحرم القدسي إلى ساحة أمنية تُقيّد فيها حرية العبادة وتسلب السكينة من المصلّين. وتصل هذه الانتهاكات إلى حدّ مصادرة وجبات السحور أو الإفطار من المصلّين، كما حصل قبل عدة أيام، حين داهمت القوات باحات المسجد، وصادرت الطعام من المعتكفين، في مشهد يمسّ بكرامتهم ويُنغّص عليهم أجواء الشهر الفضيل.
وإلى جانب الأبعاد الدينية والوطنية، ينعكس هذا الحصار سلبا على الحركة الاقتصادية في القدس. فعدم السماح لسكان الضفة الغربية بدخول المدينة يُعطّل النشاط التجاري والأسواق، ويؤثر بشكل مباشر على دخل مئات العائلات المقدسية التي تعتمد على الزوار والمصلين من خارج المدينة، خاصة خلال شهر رمضان والمواسم الدينية.
الوضع الاقتصادي في القدس
الوضع الاقتصادي في القدس ليس أقل مأساوية من الوضع السياسي، إذ يعيش السكان في حالة حصار اقتصادي دائم، تتجلى في ارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة الشرائية. ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة البطالة في القدس الشرقية نحو 5.2 في المئة في عام 2024، مقارنة بـ4.4 في المئة في عام 2021. وقد فاقمت جائحة كورونا، إلى جانب الحرب الشاملة على غزة والضفة الغربية، من حدة الأزمة، إذ أدت إلى فقدان نحو 35 ألف عامل لوظائفهم خلال عام 2024. كما أُغلق ما يقارب 450 محلا تجاريا، ما ساهم في تفاقم التدهور الاقتصادي وضاعف من معاناة السكان.
الاقتصاد في القدس يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات والسياحة، حيث يشكل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويوظف قطاع الخدمات 41 في المئة من العاملين. ومع ذلك، تستمر السلطات الإسرائيلية في عرقلة أي نشاط اقتصادي فلسطيني داخل المدينة، من خلال فرض الضرائب الباهظة وإغلاق المحال التجارية بشكل متكرر.
النقص في الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء ليس عرضا طارئا، بل جزء من سياسة ممنهجة لتقليص الوجود الفلسطيني وإضعاف قدرة السكان على البقاء. يعيش في محافظة القدس حوالي 451 ألف نسمة، يشكلون ما نسبته 9.1 في المئة من سكان فلسطين، ويعاني السكان من نقص حاد في الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية، مما يؤثر سلبا على جودة حياتهم اليومية. ويحاول الاحتلال، عبر هذه السياسات، أن يجعل من مدينة القدس بيئة طاردة لأهلها وليست جاذبة، في إطار مساعيه المستمرة لتفريغ المدينة من سكانها الفلسطينيين وتغيير طابعها الديمغرافي.
حين تعود إدارة ترامب.. تُفتح شهية التهويد من جديد
ولا يمكن الحديث عن واقع القدس دون الإشارة إلى عودة دونالد ترامب إلى السلطة، وهو الرئيس الأمريكي الذي منح إسرائيل خلال ولايته الأولى دعما غير مشروط، بدءا من اعترافه بالقدس عاصمة لها، وصولا إلى نقل السفارة الأمريكية إليها في خطوة غير مسبوقة. هذه السياسات لم تكن رمزية فحسب، بل أسهمت فعليا في تغيير ميزان القوى على الأرض، وتعزيز قبضة الاحتلال على المدينة.
عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي.
ويعزز هذا التوجه اليميني المتطرف المحيطون بترامب، الذين ما زال لهم تأثير واضح على ملامح السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. من أبرزهم: مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، المعروف بدعمه المطلق للمستوطنات ورفضه لحل الدولتين؛ وديفيد فريدمان، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، الذي نسّق بشكل مباشر مع قادة المستوطنين وساند ضم الأراضي الفلسطينية. ويبرز أيضا جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق، الذي لطالما دعا إلى الحسم العسكري والتوسع الإسرائيلي، إلى جانب رون ديرمر، أحد أبرز مهندسي العلاقات بين نتنياهو والجمهوريين، والذي سبق أن وصف الضفة الغربية بأنها "أرض متنازع عليها". أما جاريد كوشنر، صهر ترامب ومهندس "صفقة القرن"،عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي فرغم غيابه عن الفريق الرسمي الحالي، إلا أن رؤيته لا تزال تترك أثرا عميقا في توجهات الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل. هذا الطاقم المتماهي مع توجهات اليمين الإسرائيلي لا يبشر إلا بمزيد من الانحياز، ما يعني أن الفلسطينيين في القدس سيواجهون موجة جديدة من التضييق والتطهير الصامت، تحت غطاء أمريكي رسمي.
هشاشة المواقف العربية والإسلامية
وعلى الرغم من الدعم الذي يلقاه الشعب الفلسطيني من قبل الجماهير العربية والإسلامية، إلا أن المواقف الرسمية لبعض الحكومات العربية والإسلامية تظل هشة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في القدس وغزة. وفي حين تستمر بعض الحكومات في تقديم الدعم السياسي والإنساني، فإن الخطوات الفعلية مثل اتخاذ مواقف قوية ضد السياسات الإسرائيلية أو اتخاذ إجراءات ملموسة مثل سحب السفراء أو إلغاء اتفاقيات التطبيع، ما تزال غائبة.
تساهم هذه الهشاشة الدبلوماسية في إضعاف الضغط الدولي على إسرائيل، مما يقلل من فاعلية التحركات الدولية في محاسبتها على انتهاكاتها المتواصلة. ورغم التحركات الشعبية المستمرة في بعض الدول، والتي تعكس رغبة حقيقية في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، فإن غياب التنسيق العربي والإسلامي الفعّال يؤثر على مصير القدس، ويترك الفلسطينيين في مواجهة احتلال متزايد. إن الحاجة إلى توحيد المواقف وتعزيز التعاون بين الدول العربية والإسلامية من أجل الضغط الفعّال على المجتمع الدولي تبقى ضرورية لحماية القدس من عملية تهويد شاملة.
القدس لا تنزف فقط من جراح الاحتلال، بل من صمت العالم، وتردد الشقيق، وغياب القرار. تُسرَق المدينة في وضح النهار، لكنها تُهمَّش في ليل الأخبار، وتذوب في زحمة عناوين الحروب. ومن حق القدس علينا أن نعيدها إلى الواجهة، لا كرمز ديني فحسب، بل كقضية سياسية وشعبية حيّة تستحق أن تكون حاضرة في الضمير العربي والدولي.
فلماذا تغيب القدس عن أولويات الإعلام، وتتراجع على أجندة الدبلوماسية؟ ولماذا تُترك وحدها في معركتها الوجودية؟ إن إعادة الاعتبار للقدس، إعلاميا ودبلوماسيا، لم تعد ترفا ولا خيارا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية أمام مشروع الاحتلال الصامت، الذي لا يستهدف الأرض فقط، بل الذاكرة والهوية والإنسان.