عندما تصبح البيئة مدى فني لا حدود له
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرون، بدأ الفنانون في بريطانيا والولايات المتحدة في التحرك خارج صالات العرض، كرد فعل ضد الوضع السلعي للفن، وهم بذلك أرادوا توسيع حدود ما كان يُعد فنا، لإعادة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والتي يشار إليها بـ«فن الأرض» أو الفن الترابي أو الفن البيئي أو فن المستحيل.
وفي بداية ظهوره احتج فن الأرض على «التسويق التجاري القاسي» للفن في كثير من الدول، أهمها الولايات المتحدة خلال هذه الفترة، عندما رفض دعاة فن الأرض المتحف أو المعرض باعتبارهما مكانًا ضيقًا للنشاط الفني، وطوروا مشاريع المناظر الطبيعية الضخمة، التي كانت بعيدة تمامًا عن متناول المنحوتات التقليدية القابلة للنقل وسوق الفن التجاري.
وترجع بداية ذلك الفن لما قبل التاريخ، عندما ابتكر البشر الفن باستخدام المواد الطبيعية في البيئات الطبيعية منذ آلاف السنين، كرسومات الكهوف والمنحوتات الحجرية والنقوش واللوحات التي توجد حاليا خارج المتاحف، وفي الآونة الأخيرة اكتشفت العديد من الرسومات الضخمة التي أذهلت العالم، وتلك الاكتشافات يتركز معظمها بدولتي «بيرو والولايات المتحدة» وسميت بخطوط (النازكا) وهي عبارة عن مجموعة نقوش تقع جنوب بيرو.
وتميزت هذه الرسومات بالغموض الشديد، ويعتقد أنها تعود لحضارة نازكا فيما بين عامي (400-650م)، وحتى الآن لم يتوصل الخبراء إلى معرفة سببا محددا لتلك النقوش، ولا طريقة صنعها بهذه الدقة الكبيرة والممتدة على مساحات كبيرة من الأراضي، والأكثر إثارة في تلك النقوش أيضا، هو أن خطوط النازكا تعبر بطلاقة كبيرة عن دقتها الفلكية، حيث يشير بعضها لمواقع النجوم بأوقات معينة وبدقة شديدة جدًا.
ويعرِّف الفنان الأمريكي ديفيد آل شيري فن الأرض، بأنه أشياء ذات أبعاد ضخمة من المستحيل جمعها أو عرضها في داخل صالات العرض أو المتاحف، وهو فن في شكله النهائي يمكن إدراكه، إذ إن الأعمال التي تم تصنيفها مثل فن الأرض، هو عبارة عن أرض مليئة بالملح وقاعات مليئة بالمخلفات وحقل محصود، وصناديق مليئة بالأحجار وقطع الجليد، وفن الأرض عامة هو فن قائم على النحت أو التشكيل في الطبيعة ذاتها، يتخذ العديد من الأشكال والدوائر الكبيرة والجدران الطويلة أو الأشكال الحلزونية، التي صفت في حالات كثيرة من الحجارة الطبيعية بوسط بيئي طبيعي لتبقي على صلة مباشرة بمحيطها، ويعد فن الأرض امتدادا لاتجاه فن (المينيمال) بالنحت، لكن النحت في تلك الحالة أصبح مباشرة في الطبيعة نفسها، عبر ملاحظة مظاهرها المختلفة.
وفي بدايته اتخذ الفنانون كافة الموارد الطبيعية، كأساس لهم لبناء الأعمال الفنية، مثل الأحجار أو التراب أو الطين أو الأوراق أو الخشب، حيث اتخذت معظم الأعمال الفنية شكل منحوتات وتراكيب، تم إنشاؤها في بيئة طبيعية خارجية محددة، بجانب سعى الفنانون والنحاتون للتأكيد على علاقة البشر بالعالم الطبيعي، وتحويل الأشكال الفنية بعيدا عن المواد المصنعة والتركيبية إلى المواد الطبيعية، وفي أغلب الأحيان تكون مواقع تلك الأعمال الفنية بعيدة عن المراكز السكانية، كما يدخل فن الأرض ضمن نطاق الفن «المفاهيمي»، باعتباره نشاطا كان للتوثيق فيها أهم الأدوار، وذلك عندما سجل الفنانون نشاطهم في صور فوتوغرافية كظاهرة لما يسمي فن أو عمل، حيث يستخدم الفنانون كافة وسائل التوثيق لتحويل الشيء المجسد ماديا، وهو العمل الفني لوسيلة استعلام عينية، أو الاستمرار للاعتدالية عبر النحت في الطبيعة نفسها.
ورغم اختلاف وتعدد أساليب الفنانين بأعمال فن الأرض، لكن معظم أعمالهم قد استمدت تقنياتها واعتمدت على الأحجار والتراب وأغصان الأشجار والثلوج، وأية مواد خام أولية متوفرة لهم مها بدت بسيطة، وبذلك تخطت تلك الأعمال الفنية قاعة العرض، لتشمل العالم كله، وتم استبدال إطار اللوحة بإطار آخر غيره تمثل في الوجود كله، ما أتاح للفنان المشاركة في العمل عبر قيامه بتجربة حقيقية ومباشرة مع العالم، لقيامه بنقش عمله الفني على سطح الأرض، ولأن جزءًا كبيرًا من تلك الأعمال ليست قابلة للنقل أو الاستعارة، كونها أعمال بصرية وشكلية للبيئة، فقد تعمد فنان الأرض القيام بتوثيق أعماله، ونقلها على شكل خرائط وصور فوتوغرافية وأشرطة فيديو وكتيبات.
ولعل أشهر الفنانين الذين عملوا في هذا النوع من الفن، الفنان الأمريكي روبرت سميثسون (1938-1973م) الذي قدمت مقالته عام 1968م بعنوان (ترسبات العقل: مشاريع الأرض) إطارًا نقديًا لذلك الفن، كرد فعل على فك ارتباط الحداثة بالقضايا الاجتماعية، وكان سميثسون مفتونا لحد كبير باستكشاف المناطق الصناعية وبمشاهد الشاحنات القلابة، التي تلقي بأطنان من التراب والصخور حول ولاية نيوجرسي، ووصفها بمقالته بأنها تُعد مكافأة لآثار العصور القديمة، ومن خلالها جمع الصخور والتراب، وأنتج سلسلة أعمال فنية على شكل منحوتات، وكانت أعماله المتعددة يتم دمجها مع قطع الزجاج، لتصبح رؤيتها أقرب لما يشاهد من أعمال في المعارض.
وفي عام 1968م بدأ والتر دي ماريا (1935-2013م) وهو فنان ونحات وملحن أمريكي في إنتاج وتركيب فن الأرض، وكان ماريا جزءًا من الحركة الأولية لفناني الأرض، وقام بالعديد من الأعمال الفنية بصحاري جنوب غرب الولايات المتحدة، وشدد ماريا على أهمية قدرة فن الأرض على إشراك المشاهد في التفكير بالأرض والطبيعة، والمناظر الطبيعية وعلاقة الفن بالكون.
ويعتبر عمله المسمى بـ(حقل البرق) عام 1977م أشهر أعماله، وهو عمل غير معتاد على فن الأرض، لأن هيكله يتكون من (400) عمود من مادة غير طبيعية «الفولاذ المقاوم للصدأ» حيث وضع الأعمدة في شبكة بجزء بعيد من الصحراء غرب نيو مكسيكو، وحقل الأرض كشبكة فولاذ يغطي مساحة مربعة تبلغ (1) ميل، وتعمل كموصل للكهرباء أثناء ضربات الصواعق، بجانب تغيير مظهرها وفقا للتغيرات في الطقس والوقت من اليوم.
ولأن الفن عامة عابر للحدود، فقد انتقل فن الأرض من أمريكا وأوروبا ليصل إلى اليابان، حيث يقوم المزارعون كل عام في إحدى البلدات الريفية وهي بلدة تسمي «إناكادات» وتقع داخل نطاق ولاية «أموري» بزراعة حقول الأرز (محصول البلاد الرئيسي) بطريقة فنية تظهر على شكل لوحات رائعة الجمال، وذلك باستخدام تقنيات زراعية تحفظ تربة الحقول ولا تؤثر على المحصول.
ومن جانبه، تحدث الفنان الأمريكي آلان سونفيست، ليؤكد استخدامه نهجا بديلا للعمل مع الطبيعة والثقافة، بإعادة الطبيعة التاريخية والفن المستدام لمدينة نيويورك، وكانت أكثر أعماله سونفيست إلهاما هي «الوقت المناظر للطبيعة» وهي غابة أصلية أنشأها بنيويورك، كما أنشأ عدة مناظر أخرى حول العالم في فلورنسا بإيطاليا، لتوثيق الاستخدام التاريخي للأرض.
كما سعي الفنان الأمريكي كريستوفر جافي (1927-2013م) إلى القيام بتسجيل نشاطه في صورة فوتوغرافية يعبر بها عن التداخل مع الطبيعة، ويؤكد جافي انتقاله بحدود اللوحة وإظهارها للوجود الذي يقدم له مدى فني لا حدود له، وكذلك نقل أعمال الفنانين من داخل أروقة الفن الضيق، إلى أحضان الطبيعة الأكثر رحابة، كمحاولة منهم للعودة إلى الطبيعة واختبارها من جديد وفهمها وتأملها.
المصدر: صحيفة الأيام البحرينية
كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا الأعمال الفنیة
إقرأ أيضاً:
عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)
د. ناهد محمد الحسن
تمهيد:
في الجزء الأول من هذه السلسلة، حاولنا قراءة المشهد الذي أحدثه المنتخب السوداني في بطولة كأس العرب، وكيف تحوّل الملعب إلى «وطن مؤقت» يجتمع فيه السودانيون في الخارج بحثاً عن لحظة أمان وهوية وانتماء، في زمن تفككت فيه الخرائط واشتد فيه تهديد الوجود الوطني. استند التحليل إلى نظريات الهوية الاجتماعية، والذاكرة الجمعية، والجماعات المتخيّلة، لنفهم كيف تصبح المباراة طقساً نفسياً يعيد للناس بعض ما سلبته الحرب منهم. يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من المقال هنا: https://share.google/yHMqkkXOp9p38RdSn
اليوم نواصل محاولة القراءة، ولكن من زاوية جديدة: لماذا أحدثت هذه المشاهد أيضاً لدى البعض غضباً، وسخرية، وتعليقات مريرة؟ ولماذا تحول الاحتفال إلى ساحة اتهامات، ومطالبات بالعودة للوطن، واتهام للجماهير بأنها “تستعرض” بدل أن “تناضل”؟ ولماذا خرج الناس من الملعب بمجرد استشعار الهزيمة و قبل انتهاء المباراة، بكى بعضهم و انهار البعض؟
لماذا يجرح البعضُ الفرحَ، حين يرى آخرين يحتفلون؟
وفقا لنظرية بيك المعرفية في علم النفس فإن المشاعر، الأفكار، الجسد، والسلوك بينهما علاقة وثيقة وتأثيرات متبادلة. فإذا مثلا أرسلت رسالة الى شخص ولم يرد وفكرت في أنه تجاهل رسالتك عمدا فإن هذه الطريقة في التفكير تجعلك تشعر بالضيق، الحزن وربما الغضب. وقد تدفعك هذه المشاعر والأفكار ربما لأن تتحدث عنه بسوء، تتجاهله ذا حدثك او تكون عدوانيا. لكن إذا فكرت ان هذا الشخص مشغول او ربما هو نائم او خارج المنزل او لم يجد وقتا ليرد فستتلاشى المشاعر السالبة وردود الفعل المصاحبة لها. هذا مثال شديد التبسيط فقط لنفهم أحيانا كيف نفكر ولماذا نشعر بهذه الطريقة او نتصرف بهذه الطريقة من منظور هذه النظرية التي تربط هذه التباينات في الشعور والمواقف الى حد كبير بما يعرف بالمعتقد المركزي، والذي تشكل عند الفرد منذ الطفولة وعبر تجارب تراكمية شخصية شكلت نظرته لنفسه وللآخرين وللعالم. قد يقل تقديره لذاته فترتفع حساسيته للرفض حقيقة كان او متوهما وتقل مناعته في مواجهته ان كان حقيقيا. وربما أيضا تعلمه تجاربه المتراكمة ان الآخرين لا يمكن الوثوق بهم والعالم مكانا غير آمن وغير ودي. لذلك يساعدنا التوقف دائما والتفكير قبل القيام بالفعل دائما لمراجعة الذات والمواقف على ان نتجنب الوقوع في ظلم أنفسنا وظلم الآخرين. وبالتالي تعجل الحكم على حالة الاحتفال في الملعب كأنها عدم اكتراث بمأساة الحرب في السودان، أو فهم ردود أفعال بعض الناس السالبة على انها غيرة، حسد او لها دوافع سياسية ربما يبتسر او يشوه الحقيقة. وسأحاول هنا ان أوسع دائرة الفهم والتشخيصات لنساعد أنفسنا على فهم ذواتنا وفهم الآخرين.
لا يمكن فهم التعليقات الغاضبة أو الساخرة على مشاهد الجماهير السودانية دون أن نرى الجرح الداخلي الذي تحمله. فالحرب لا تقتل البيوت فقط؛ إنها تخلخل الإحساس بالعدالة. من بقي داخل الوطن يعيش خوفاً وفقداً وإرهاقاً مستمراً، ويرى وطنه ينهار أمام عينيه. هذا يجعل مشاهد الاحتفال – ولو كانت دقيقة – تُقرأ لا كفرح جماعي، بل كنوع من (عدم الاكتراث). وهذه المشاعر كثيراً ما تحجبها اللغة المباشرة، فتخرج على هيئة: “ارجعوا وساعدوا في بناء الوطن”،“تتباهون بملابسكم ونحن نحترق هنا، “أين كانت وطنيتكم حين احتاجكم البلد؟”.
علم النفس يقول إن هذه الكلمات تحمل تحتها أربعة مشاعر مركزية: (1) شعور الخذلان: الناس داخل البلد يشعرون بأنهم تُركوا وحدهم. وعندما يكون الألم شديداً، يصبح من الصعب رؤية الآخرين يعيشون لحظات استقرار حتى ولو كانت لحظات مؤقتة رمزية داخل ملعب. (2) ما يعرف بالغيرة الحزينة (Grief-based envy): ليست غيرة من النعمة، بل غيرة من النجاة. إنّها أمنية دفينة: “ليتني كنت مكانكم”. وهذه المشاعر لا يعترف بها الناس بسهولة، ولا حتى بينهم وبين أنفسهم. (3) ضيق الهوية الجمعية: حين تكون الهوية تحت الضغط، يصبح أي سلوك مختلف بمثابة تهديد. الاحتفال يبدو وكأنه خروج من الصف، وكأن الانتماء الحقيقي يتطلب المعاناة فقط. لكن الناس يختلفون في طرائق تعبيرهم عن المعاناة وعن الوسائل التي يحاولون التأقلم بها ويحققون التوازن، والا لم قال الشاعر (لا تحسبوا رقصي بينكم طربا/فالطير يرقص مذبوحا من الألم؟).. هل هنالك احتمال ان يكون الملعب، طقوسه، الطريق المفضي اليه، التجمع الكبير لأناس يتشاركون ذات الوجع مساحة آمنة لمعالجة ألم وغبن مكبوت؟ لمحاولة الشعور ولو لحظة بالوطن، الانتماء والفرح والتضامن؟ (4) آلية دفاع نفسي اسمها لإزاحة (Displacement) وهي نقل الغضب من السبب الحقيقي (الحرب – الفقد – العجز – الألم) إلى هدف أسهل وأكثر قرباً: المشجعون. لذلك لا ينبغي أن نأخذ هذه التعليقات دائماً بمعناها الحرفي، فهي غالباً صدى لألم أكبر من أن يُقال مباشرة.
لماذا يحتفل الناس أصلاً؟ هل هنالك احتمال ان الجماهير تشتاق الوطن أكثر مما تستعرض؟ الاحتفال ليس استعراضاً، بل هو – في علم النفس الاجتماعي – محاولة لإعادة إنتاج الوطن داخل القلب. والجماهير السودانية ليست “متزينة” بقدر ما هي متشبثة. فمن يعيش في الغربة يحمل شعوراً قاسياً بالذنب وبالانفصال. وعندما يظهر المنتخب، يحدث ما يلي: تتشكل “نحن” واضحة ومباشرة، فيعود الصوت الجماعي المفقود. يختبر المغترب لثوانٍ إحساس “أنا جزء من شيء أكبر”. فيستعيد الإنسان صورة وطنه كما يحبّ أن تكون، لا كما دمّرته الحرب.
هذه المشاهد ليست منافسة للداخل، بل امتداد لجرح واحد يُعبَّر عنه بطريقتين مختلفتين: من في الداخل يصرخ ألماً، ومن في الخارج يصرخ شوقاً.
هزيمة المنتخب… لماذا كانت صدمة؟ لا اعتقد أن السودانيون بكى بعضهم لمجرد ان منتخبنا الوطني خسر مباراة. لقد بَكَوا لأن الهزيمة الرياضية لامست الهزيمة النفسية التي يعيشها الوطن نفسه. هناك ثلاثة مستويات لهذا الألم:
أولاً: التماهي العالي (High Identification) في نظريات الهوية الاجتماعية، كلما كان الفريق يمثل “الأنا الجمعية” في لحظة تهديد، أصبحت الخسارة تمسّ قيمة الذات مباشرة. شعور بهزيمة ذاتية على خلفية وطن مهزوم.
ثانياً: المثالية الدفاعية (Defensive Idealization) حين ينهار الواقع في الداخل، يبحث الناس عن “فوز ما” … أي فوز. وهذا يجعل سقف التوقعات غير واقعي تجاه المنتخب الذي يعاني ظروفاً مستحيلة. لا دوري مستقر، لا موارد، لا رواتب، لا بنية تدريب، ولا بلد آمن.
ثالثاً: الهزيمة كإعادة تنشيط للألم (Pain Reactivation)المباراة ليست مجرد مباراة؛ إنها آخر مساحة يأمل الناس أن يكسبوا فيها شيئاً. وحين يخسر المنتخب، ينهار هذا الملاذ الصغير. لكن من المهم أن نتذكّر: اللاعبون أنفسهم بشر، يحملون ضغط وطن كامل فوق أكتافهم. وقد يشعرون اليوم بالذنب والخجل والحزن أكثر مما نشعر نحن. من المهم تحويل الغضب إلى تضامن، لأن الدعم بعد الهزيمة قد يبني فريقاً، بينما السباب قد يساعد في هز ثقته بنفسه وهزيمته.
لماذا نغضب بسرعة هذه الأيام؟
الحرب تغيّر الجهاز العصبي للناس، الحرب تضع الجسم في حالة Hyperarousal، أي فرط استثارة عصبية. بها اليات هرمونية وعصبية يفرز فيها هرمونات كالأدرينالين الذي ينشط عند الطوارئ ليساعد الإنسان على مواجهة الخطر بالمواجهة، الهروب أو التجمد. وعلى هذه الآلية ان تتوقف مباشرة بعد انتهاء الخطر ليستعيد الجسم توازنه الطبيعي ووظائفه المعتادة. فكيف إذا كان الخطر والتهديد مستمرا بالوجود في مناطق النزاع، المعسكرات، النزوح، اللجوء، الشتات والأفق الذي يبدو مظلما. هذا يعني ان تنهك آلية الحماية في حالة الطوارئ هذه الجسد وتؤثر فيه. وهذا يؤدي إلى ما نستشعر من غضب سريع، حساسية مفرطة للنقد، رؤية التهديد في أي اختلاف، تقلّص القدرة على التعاطف، البحث عن أي “هدف قريب” لتفريغ القهر.
ولهذا يحدث: سبّ الجماهير، إهانة اللاعبين، الهجوم على أي اختلاف في الرأي، قراءة الاحتفال كخيانة، لكن هذه السلوكيات ليست طبيعة الناس… إنها نتيجة الحرب، لا نتيجة “فساد الأخلاق”.
كيف نخرج من هذه الدائرة؟
ما حدث ويحدث يجعلنا جميعا بحاجة إلى ثلاث مهارات نفسية أساسية للنجاة من آثار الحرب (1) إعادة تنظيم العاطفة (Emotion Regulation): علينا أولا التوقف قبل الهجوم، إدراك مصدر الغضب الحقيقي، تسمية المشاعر بدقة، وعدم إسقاطها على الآخرين. (2) الترفق بأنفسنا/ رحمة النفس (Self-Compassion)فما نختبره من ضغط و من تحديات يجعلنا نشكك في انفسنا و مقدراتنا. علينا ان نفهم أن ردود أفعالنا ليست بالضرورة ضعفاً، بل نتيجة ما نختبره من وجع.
الرحمة بالذات تفتح الباب للرحمة بالآخرين. (3) توسيع دائرة “نحن” أن ندرك أن الجماهير في الخارج ليست ضد الداخل، اللاعبون ليسوا أعداء الأمة، كلنا ضحايا للحرب، كلٌ بطريقته. كما ان التضامن ليس رفاهية، بل هو أداة للبقاء النفسي.
وهو الشيء الوحيد الذي يُعيد للناس إنسانيتهم حين تحاول الحرب انتزاعها.
خاتمة: ماذا يعني أن نحافظ على إنسانيتنا الآن؟
الحرب تدفع الناس إلى الحواف: حافة الغضب، وحافة اليأس، وحافة الشعور بالعجز. لكن جزءاً من النجاة هو ألا نسمح لها بأن تنتصر على الجزء الأرقّ فينا. عندما نهتف معاً وان من ملعب بعيد، نحن لا نهرب من الحقيقة، بل نحاول حماية ما تبقى منها داخل أرواحنا. الهتاف ليس استعراضاً…والاحتفال ليس خيانة…والحزن ليس ضعفاً…والغضب ليس شراً…جميعها محاولات بشرية للبقاء حين يشتدّ الخراب. نحن شعب واحد، جرح واحد، وأمل واحد… مهما فرّقتنا الجغرافيا.
الوسومد. ناهد محمد الحسن