الأختام الدلمونيَّة بين الثقافة والإبداع
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
على هذه الجزيرة التي اصطفاها الخالِق المُبدِع بمُختلف تفاصيل الجمال من جميع الجهات، عاش الإنسان محفوفًا بكل ما يُعزز من قدرته على التأمُّل ومِن ثم الإبداع على مُختلف الأصعِدة الإنسانيَّة، فكان الإبداع جزءًا من علمه وعمله وعبادته على امتداد الحضارات التي خلَّد التاريخ آثارها لتبقى آياتٍ تستحق فخر الأحفاد بما قدمهُ الأجداد، وتتحول إلى موروثٍ ثمينٍ تستمد منه أجيال الحاضر الهام ما يمكنها تقديمه للمستقبل، ولعل من أثمن صور موروث حضارة «دِلمون» التي قامت على أرض البحرين قبل الميلاد بثلاثة آلاف عامٍ تقريبًا «الأختام» التي حرِص المُهتم بالبحث في الشأن الدلموني/ محمود عبدالصاحب البقلاوة تسليط الضوء على جوانب قيِّمة من فلسفتها ودلالاتها الرمزية على صفحات كِتابه «الأختام رائعة الثقافة الدلمونيَّة».
أَوْلَى مضمون الكتاب اهتمامًا خاصًا بمهارة «الفنان الدلموني» الذي خلَّد بإبداعه صورًا من الحياة العِبادية والمُجتمعيَّة والاقتصادية ومُختَلف أوجُه نشاطات الفكر الإنساني القائمة على أرض دِلمون في تلك المرحلة، ورسمَ جانبًا من مُعتقداته وأفكاره ومشاعره على جُدران المعابد والفخاريَّات والحُلي والأختام، وهو ما أشار إليه المؤلف على صـ25 من كتابه بقوله: «نتيجةً للنهضة الفكرية والمعرفيَّة والثقافيَّة التي بدأت على أرض دِلمون منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد؛ بدأ الإنسان الدلموني في ذلك الوقت بتجميع أفكاره ومدلولاته العقائديَّة في اختصارات صوريَّة ودلالات رمزيَّة، وهذا ما اقتضتهُ لهُ الضرورة من خلال الثراء الفِكري والاستقرار المُجتمعي الذي كان يعيشه. واختزال الأمور بدلالة رمزية وصورية أصبح أمرًا ثابتًا لدى الدلمونيين. وأصبح الرمز والصورة في الأختام الدلمونية أحد أوجُه نشاطات الفكر الإنساني الدلموني التي استخدمها منذ آلاف السنين للتعبير عن أفكاره ومشاعره وعاداته، وذلك بتحويلها إلى رموز صوريَّة»، كما كانت دقَّة الرسوم المنقوشة على الأختام علامة واضحة على براعة الفنان الدلموني وحرصه على إتقان عمله، وهو ما يؤكده الكتاب على صـ47 بقوله: «إن تقنيات نحت وحفر أسطُح الأختام الدلمونيَّة الدائريَّة صغيرة المساحة قاد إلى اهتمام الفكر المُعاصر بها، حيث تكمن الصعوبة في إنجاز تلك المشاهد المُجرَّدة والتفصيليَّة والتجريديَّة النحتيَّة الدقيقة في مساحة مُحددة ومن دون استخدام عدسات مُكبرة، وباستخدام أدوات بدائيَّة جدًا من الأدوات الحجرية وعظام الحيوانات والمعادن كالنحاس والبرونز لاحقًا في إنجاز هذه المشاهد التصويرية الرائعة مع تأكيد وجود الخبرة والمهارة الفنيَّة في إنجاز تلك الأيقونات الصغيرة الحجم».
لم يُغفل الكتاب الإشارة إلى الدور الحيوي للأختام في تلك المرحلة، إذ كانت من المُقتنيات الشخصيَّة المُلازمة لكثير من أفراد المُجتمع، تُثقب طوليًا ويُمرر خيطٌ من خلالها لتُعلَّق حول عُنق مالكها أو معصم يده، ويستخدمها بمثابة توقيعٍ شخصي لتكون وسيلة تنظيمية للمعاملات كالشراء والبيع وكُل ما يستلزم حفظ الحقوق، كما كان بعضها يدُل على المكانة المُجتمعية المُتميزة لحاملها بين الناس، ولم يكُن مضمون نقوش تلك الأختام بعيدًا تفاصيل الطبيعة البيئية المُحيطة بمُبتكريها، فأختام «شعار الشمس» كانت دلالة على قيمة هذا العُنصُر الذي تُستمد منه البركة والطاقة والضوء، وأختام «النخيل» دلَّت على المكانة الكبرى والأهمية القصوى لتلك الأشجار باعتبارها مصدر الثروة ومُرتكز الارتباط بالأرض والتجذُّر فيها، أما أختام «الغزلان» فتؤكد وجود الغزلان بكثرة في هذه المنطقة قديمًا، بينما تُبرز أختام «المعبد» وأختام «القيثارة الدلمونيَّة» بعض المسارات العقائديَّة لمُجتمع تلك الحضارة، بل إن فكرة الأختام كابتكارٍ أصيل بدأت من إحدى الثروات الجمالية وهي القواقِع المُكتسبة من خيرات البحر وأمواجه الغافية على سواحلها من كل الجهات، إذ وُجِدت قواقع بحرية مقطوعة من الأعلى قبل عصر العُبيد (4000 ق.م) الذي سبق ثقافة باربار وحضارة دلمون المُبكرة.
الكتاب المؤلَّف من 61 صفحة قدَّمت باقة من المعلومات التي تم عرضها بصورةٍ تُلائم فئة واسعة من الشرائح العُمرية والفِكريَّة، حرِص مؤلفه على رفد المعلومات المذكورة فيه باثني عشر مصدر عرب وأجنبي، وأكثر من عشرين صورة فوتوغرافية ورسمٍ توضيحي في مُحاولة لتغذية مُخيِّلة القارئ ببعض ما تبقى من الأشكال الحقيقيَّة التي ظلَّت تحت حِماية الزمن لتكون قبسًا من الضوء في طريق المُهتمين بهذا المجال، وتُساهم في التأكيد على أن هذه الأرض لطالما كانت مصدرًا للإلهام وموطِنًا للنشاط الثقافي والإبداعي البنَّاء.
المصدر: صحيفة الأيام البحرينية
كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا
إقرأ أيضاً:
الثقافية الخارجية: تعزيز التمثيل المصري من خلال المشاركة في البريكس
أكدت رئيس الإدارة المركزية للعلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة الدكتورة رانيا عبداللطيف، أن الوزارة تعمل على تعزيز التمثيل الثقافي المصري بالخارج، وتعزيز الدور الذي تلعبه مصر على مستوى التحالفات والتجمعات الدولية، وعلى رأسها مجموعة "البريكس"؛ للتأكيد على الريادة المصرية.
وأوضحت الدكتورة رانيا عبداللطيف- في تصريحات خاصة لوكالة أنباء الشرق الأوسط، اليوم /الثلاثاء/- أن مصر انضمت لمجموعة "البريكس" في عام 2024 وهو التحالف الذي يهدف إلى دعم القوى الاقتصادية لهذه الدول، مشيرة إلى أنه منذ عام 2015 بدأ ضم ملف الثقافة كمحور أساسي لدعم هذه الدول ثقافياً، وبعد انضمام مصر لهذه المجموعة، تم تشكيل لجنة وطنية تضم مختلف الجهات وتم توجيه الدعوة لوزارة الثقافة لتكون عضواً في هذه اللجنة.
وأشارت إلى أن وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو قد شارك في الاجتماع الوزاري الخاص بملف الثقافة في مجموعة "البريكس"، والذي انعقد في مدينة سان بطرسبرج الروسية في سبتمبر 2024، وصدر عن هذا الاجتماع عدد من التوصيات جارٍ العمل عليها، مؤكدة أنه عقد مؤخراً أول اجتماع تحضيري خاص بالملف الثقافي تحت رئاسة دولة البرازيل وضم ممثلين عن ملف الثقافة بالدول الأعضاء؛ لمناقشة ما نتج من توصيات خلال دورة العام الماضي، وكذلك أجندة عمل البرازيل لهذا العام في ضوء رئاستها للبريكس لعام 2025، وذلك استعدادا للاجتماع الوزاري المقرر عقده في مايو القادم في البرازيل سواء على مستوى وزراء الخارجية أو وزراء الثقافة.
وقالت إن الاجتماع التحضيري ناقش أربعة محاور رئيسية؛ أولها دور الثقافة في دعم الاقتصاد الإبداعي وآليات التحول الرقمي في خدمة هذا الشأن وتشجيع إنشاء منصة للصناعة الإبداعية والاعتراف بدور الثقافة في دفع عملية التنمية فيما بعد 2030، مشيرة إلى أنه تم استعراض خطط وزارة الثقافة لوضع آلية للتحول الرقمي وتطوير منظومة التشغيل الإلكتروني للمحتوى الثقافي، مؤكدة أن هذا الملف سيكون على رأس أولويات أجندة عمل البرازيل لهذا العام.
وأوضحت الدكتورة رانيا عبداللطيف، أن المحور الثاني وهو المناخ يمثل أهمية كبرى، حيث أطلقت مصر مبادرة الاقتصاد الثقافي الأخضر خلال استضافتها لقمة المناخ (COP27) في مدينة شرم الشيخ في عام 2022، وذلك لتكثيف الجهود من أجل التوعية بمخاطر التغيرات المناخية على التراث الثقافي للدول الأعضاء.
وتابعت: أن وزارة الثقافة وضعت خطة لمناقشة أضرار التغيرات المناخية على التراث الثقافي، من خلال مختلف ندواتها وورش العمل وكذلك أنشطة التوعية التي تقدم للأطفال فأصبح هذا الملف عنوانا رئيسيا في جميع أنشطة وزارة الثقافة.
واستعرضت المحور الثالث والذي يتمثل في استعادة الممتلكات الثقافية للدول الأعضاء وهو ملف شائك، حيث يلقى الضوء على الممتلكات الثقافية التي تم نهبها والاستيلاء عليها أثناء فترات النزاع بين الدول أو الحروب، مشيرة إلى أن مصر منضمة للعديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة باسترداد الممتلكات الثقافية المنهوبة.
كما أكدت أن دور مصر لم يقتصر فقط على جهود استرداد ممتلكاتها الثقافية بالخارج؛ ولكنها تعمل على مساعدة مختلف الدول الأعضاء في استرداد ممتلكاتها أيضاً، فهو يعد حقا للأجيال القادمة، منوهة بأن مصر بذلت جهوداً كبيرة وحثيثة في هذا الملف، حيث قامت باسترداد العديد من المخطوطات منذ عام 2018، مما يؤكد أن حماية الممتلكات لا تقتصر فقط على الآثار ولكنها أيضاً تخص اللوحات الإبداعية والمخطوطات والوثائق التي تمثل تاريخ الدول.
وأضافت أن الاجتماع ألقى الضوء أيضاً على المحور الرابع وهو أجندة ما بعد 2030 للتنمية المستدامة، مشيرة إلى المبادرة التي أطلقتها روسيا لتحالف الفنون الشعبية من أجل الحفاظ على التراث وكذلك الاهتمام بصناعة السينما، مستعرضة في هذا الإطار حرص وزارة الثقافة على إطلاق مبادرة بالتعاون مع أكاديمية الفنون لإطلاقها في مختلف المدارس في الدول الأعضاء بالبريكس.
وأشارت رئيس قطاع العلاقات الثقافية الخارجية إلى أن روسيا تعمل الآن بالتعاون مع دار الأوبرا المصرية وبالتنسيق مع فرقة رضا للفنون الشعبية التي تعد أقدم وأعرق فرقه تقدم الفنون الشعبية المصرية لتقديم عدد من العروض الفنية في شهر يونيو المقبل.