"نحنا بخير.. ديروا بالكم على حالكم"... هي الرسالة الأخيرة التي وصلت إلى رامي أبو القمصان من شقيقته فاتن قبل ساعات من ضربة أصابت المبنى الذي تقطنه شمال غزة، لترحل و17 شخصاً من عائلتها وأقربائها، من بينهم خمسة من أولادها وثلاثة أحفاد، مساء الأربعاء الماضي.

و"كأنها رسالة الوداع من دون أن أعي ذلك"، يقول رامي، فارقتني رفيقة الطفولة قبل أن أتمكّن من رؤيتها منذ اندلاع الحرب، حتى تقبيل جبينها قبل دفنها حرمت منه، بعدما تحوّل جسدها كما أجساد من كانوا معها في المنزل إلى أشلاء، كيف لي أن أعبّر عما يختلج صدري من ألم وقهر، نعم نحن في غزة اعتدنا على الموت، لكن أياً يكن فراق الأحبّة صعب".

عند الساعة التاسعة من مساء الأربعاء الماضي، حلّت الكارثة بعدما استهدف القصف الإسرائيلي حي القصاصيب في معسكر جباليا، وفق رامي الذي يضيف، في حديثه لموقع "الحرة": "لم أعلم أن المبنى الذي تقطنه شقيقتي كان من بين المباني التي تحوّلت إلى ركام، بسبب عدم قدرتنا على متابعة الأخبار بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت، فقد وصلني الخبر المؤسف من خلال زوجة ابن فاتن المقيمة وإياه في بلجيكا، بعدها علمت بالمأساة من التلفاز".   

بعد الحرب، قدم محمد أبو جاسر (29 سنة) وزوجته وأطفالهما الثلاثة، وآية (24 سنة) وزوجها، وآلاء (22 سنة) وزوجها، للمكوث في منزل والدتهم فاتن وشقيقهم جهاد (18 سنة)، وشقيقتهم حلا (15 سنة)، كما انتقل أفراد من عائلة حجازي (أنسباء فاتن) للسكن معهم بعدما قُصف منزلهم، وإذ بالموت يخطفهم جميعاً في لحظة.

18 شخصاً، من بينهم تسعة أطفال أغضموا أعينهم إلى الأبد، بعدما أطبق المبنى المؤلف من أربع طبقات عليهم، وإلى حد الآن لا يزال ستة منهم، من بينهم ثلاثة أطفال تحت الركام، ويقول رامي "إن كان إكرام الميت دفنه، فحتى إكرامه في غزة أصبح أمراً صعب المنال، بعدما استشرس الموت وعلا صوت الدمار، في وقت تعجز فرق الإنقاذ أمام هول المصاب".      

لا وداع ولا عزاء

في ذلك اليوم، كانت فاتن ومن معها في المنزل يترقبون نهاية رحلتهم على الأرض كما بقية سكان قطاع غزة، ويشدد رامي: "جمعينا يدرك أن الدور سيأتي عليه، فشبح الموت يحيط بنا من كل الاتجاهات من دون أن نعلم اللحظة التي سينقض فيها علينا، ربما وأنا أتحدث على الهاتف الآن أصبح ذكرى كما الآلاف ممن ابتلعهم القصف".

قصد رامي المستشفى ليصدم بأنه لم يبق من شقيقته وأولادها سوى أشلاء، صلّى عليهم في المستشفى، قبل أن يتوجه رفقة ثلاثة أشخاص لدفنهم في قبر جماعي، ويقول "في غزة حُرِم الميت من الصلاة عليه في المسجد، كما أنه لا يمكن لأكثر من أربعة أشخاص من التوجه لدفنه أو إقامة عزاء له خوفاً من القصف.. لا الأحياء ولا الأموات لديهم حقوق في القطاع".

يوماً بعد يوم يضيق السجن الذي يعيش فيه سكان قطاع غزة أكثر، يقول رامي "فحتى الانتقال إلى مبنى شقيقتي المنهار كان مستحيلاً بسبب الصواريخ التي تنهار على مدار الوقت، انتظرت إلى اليوم، الجمعة، ذهبت ووقفت على أطلال أشخاص كان لديهم كما بقية أهالي غزة أحلام وأمال، لكنهم حرموا من أبسط حقوقهم، حتى أصبحوا يتمنّون الموت، فأقصى أمنيات فاتن وأولادها كانت اللحاق بزوجها ووالدهم".

ويستمر عداد القتلى بالارتفاع مع دخول الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، يومها الرابع عشر، وفي أحدث حصيلة نشرتها وزارة الصحة الفلسطينية، الخميس، قتل أكثر من 4000 شخص وأصيب أكثر من 13 ألفا بجروح، معظمهم مدنيون، وسط تقديرات بوجود المئات تحت الأنقاض بحسب مسؤولين في غزة.

وتسبب الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر، بسقوط أكثر من 1400 قتيل في إسرائيل، أغلبهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، واختطاف نحو 200 شخص، بحسب مسؤولين إسرائيليين.

رحمة الموت

يستعيد رامي شريط ذكرياته مع شقيقته ومدته 49 سنة، بالقول "هي الأخت الحنونة والأم الصابرة، التي فقدت زوجها حسام أبو جاسر قبل تسع سنوات بقصف استهدف منزلهم، كرّست نفسها لتربية أولادها السبعة، حاولت كل ما في وسعها أن تؤمن لهم ولو أدنى ما يحتاجونه من خلال مساعدات الجمعيات".

قبل مدة قصيرة فرحت فاتن بزواج ابنتيها وخبر حملهما، لكنها رحلت قبل أن تكتمل فرحتها برؤية مولوديهما، ويقول رامي "ولداها اللذان لا يزالان على قيد الحياة أحدهما مقيم في تركيا والآخر في بلجيكا".

أجبرت الحرب عائلات كثيرة في قطاع غزة على السكن مع بعضها البعض، إما نتيجة خسارة منزلها أو رغبة من أفرادها بألا يفرّقهم الموت، فإما العيش سوية أو الرحيل سوية، وفي منزل رامي تسكن خمس عائلات، عبارة عن 46 شخصاً، إضافة إلى عائلته المؤلفة من زوجته وأولاده الستة.

 يقول رامي "رغم أننا نعيش بأدنى مقومات الحياة، حيث الماء بالقطارة والطعام مقتصراً على المعلبات، مع إغلاق المخابز لأبوابها وحوالي 97 في المئة من محلات السمانة، والثلاثة في المئة التي لا زالت تستقبل الزبائن، مرّ على بضاعتها الدهر، كل ذلك يمكن تحمّله لكن عدم مساندة الدول العربية لنا ووقوفها مع قضيتنا هو الأمر الذي يحزّ في صدورنا".

"أصبح الموت في قطاع غزة أرحم من الحياة، فالخوف يقتل الأطفال قبل الصواريخ، من دون أن يعني ذلك أن الأموات سيرقدون في سلام، إما لتحول جثثهم إلى أشلاء أو لعدم تمكّن فرق الإنقاذ من انتشالهم من تحت الأنقاض" بحسب رامي. 

"الحي أبقى من الميت"

وعن قدرة الهلال الأحمر الفلسطيني على التعامل مع الوضع، أجاب الناطق الإعلامي باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة، محمد أبو مصبح، في حديث لموقع "الحرة"، "لدينا الخبرات والقدرات المهنية لكن إمكانياتنا محدودة، كما أن انتشال الجثث المتحللة يحتاج إلى بروتوكول خاص، في حين يتطلب الإخلاء الطبي من مناطق الأدخنة والغازات السامة وسائل خاصة، إضافة إلى أن العمل في مناطق القصف يتطلب وسائل حماية، جميعها معدوم وغير متوفرة، بالتالي نحن نتعامل بالإمكانيات البديلة الضعيفة".

كذلك أكد المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أن قدرة الدفاع المدني على تلبية احتياجات المواطنين أثناء عمليات القصف صعبة جداً، ففي الدقيقة الواحدة يتم ضرب عدة مباني مأهولة كل منها مؤلف من عدة طبقات، وكل منزل فيها تسكنه عدة عائلات، ويشدد في حديث مع موقع "الحرة" "من المستحيل التعامل مع كل الاستهدافات في ظل الإمكانيات والمعدات الموجودة لدينا".

"الحي أبقى من الميت" هي القاعدة التي يعمل على أساسها الدفاع المدني في غزة الآن، ويشرح بصل "المنزل الذي نشعر بوجود أحياء تحت أنقاضه نحاول توفير كل الإمكانيات البسيطة لإخراجهم، أما إن شعرنا أن سكانه فارقوا الحياة عندها نترك عملية انتشال جثثهم لحين انتهاء الحرب"، ويشدد "تحدثنا للإعلام عن وجود حوالي 1200 جثة تحت الأنقاض إلا أنه فعلياً العدد أكبر بكثير".

الإشكالية الكبرى والكارثة المقبلة على قطاع غزة بحسب بصل هي لحظة نفاد المحروقات، ويقول "سيارات ومعدات الدفاع المدني تعمل على المازوت، وفي أي لحظة من اللحظات قد تنفد هذه المادة وبالتالي ستتوقف خدماتنا وخدمات المستشفيات، ما يعني أن المصابين لن يجدوا من يسعفهم، وستمتلئ الطرق بالقتلى والجرحى الذين سيكون مصيرهم الموت".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: الدفاع المدنی قطاع غزة أکثر من فی غزة

إقرأ أيضاً:

قضية هبة أبو طه: الصحافة في مواجهة القوانين والحرية المسلوبة

قضية #هبة_أبو_طه: الصحافة في مواجهة #القوانين و #الحرية_المسلوبة

كتبت .. #علياء الكايد

في قلب أي دولة تدعي التزامها بمبادئ الديمقراطية، تقف الصحافة كأداة حيوية لبناء الوعي الوطني وتعزيز الحوار العام. الصحافة ليست مجرد ناقل للأخبار، بل هي مرآة تعكس تحديات المجتمع وتقف في وجه السياسات والتوجهات الرسمية، لتتيح المجال للنقد والاقتراحات البديلة. من خلال ممارسة هذا الدور، تسهم الصحافة الحرة في ضمان شفافية الحكم، وهي بذلك تصبح جزءًا لا يتجزأ من النظام الديمقراطي الذي يسعى لإصلاح نفسه والتجاوب مع متغيرات العصر. ولكن، كما هو الحال في الأردن، يواجه الصحفيون تحديات كبيرة عندما تتعارض هذه الحرية مع قوانين قد تُستخدم للحد من هذه الحريات.

قضية هبة أبو طه: بين التهمة والحرية

مقالات ذات صلة جريمة قتل في الرمثا / تفاصيل 2025/01/26

من أبرز هذه القضايا تأتي قضية الصحفية هبة أبو طه، التي أصبحت تمثل نقطة انعطاف في النقاش حول حرية الصحافة في الأردن. القضية ليست مجرد محاكمة صحفية فردية، بل هي جزء من المسار الطويل الذي تمر به الصحافة في البلاد. ما يثير القلق في هذه القضية هو كيفية استخدام بعض القوانين التي تهدف إلى حماية المجتمع من المخاطر، في تقييد الصحافة الحرة، حيث تواجه الصحفية تهما تتعلق بنشر رأي نقدي، مما يثير تساؤلات حول تأثير تلك القوانين على الحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور الأردني.

المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية: تأثيرها على الصحافة الحرة

إحدى أبرز المواد القانونية المثيرة للجدل في هذا السياق هي المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية. هذه المادة التي وُضعت أساسًا لحماية الأمن الوطني من تهديدات الإنترنت، تم استخدامها في حالات كثيرة بشكل قد يوسع تفسيرها ليشمل التعبير عن آراء نقدية أو حتى انتقاد بسيط لأداء المؤسسات الحكومية. وهنا يطرح السؤال: هل يمكن أن يتحول التعبير عن الرأي بحرية إلى جريمة تُعاقب عليها القوانين؟ وهل أصبحت الصحافة الحرة في خطر بسبب تطبيقات القوانين التي تهدد استقلاليتها؟

الصحافة وحماية الدستور: ضرورة الحفاظ على الحق في التعبير

من خلال المادة 15 من الدستور الأردني، تُضمن حرية التعبير بشكل صريح، ولكن هناك فارق كبير بين النصوص الدستورية والتطبيق الفعلي لهذه الحقوق على أرض الواقع. فما دام الصحفيون لا يمارسون سوى دورهم في نشر الحقيقة، لا ينبغي أن يتحولوا إلى متهمين بسبب آرائهم أو نقدهم. فإذا كان الهدف من هذه القوانين حماية المجتمع من تهديدات حقيقية، يجب ألا تُستخدم أداةً للحد من حرية الصحافة أو لتوجيه اتهامات ضد الصحفيين لمجرد أنهم أدوا واجبهم المهني في كشف الحقائق.

الإفراج عن هبة أبو طه: خطوة نحو حماية حرية الصحافة

إن قضية هبة أبو طه تعد بمثابة اختبار حقيقي لمدى التزام الأردن بحماية حرية الصحافة. الدفاع عنها لا يعني تبني أفكارها الشخصية أو مواقفها السياسية، بل هو دفاع عن المبدأ الأسمى في أي نظام ديمقراطي: الحق في التعبير وحرية الصحافة. الصحفي ليس مجرد ناقل للمعلومات، بل هو جزء من آلية المراقبة والمساءلة التي لا غنى عنها في أي مجتمع يسعى للإصلاح.

إن الإفراج عن هبة أبو طه يعد خطوة نحو ضمان أن الصحفيين في الأردن يمكنهم أداء مهامهم بحرية ومسؤولية، دون الخوف من الملاحقات القانونية التي قد تستخدم لإسكاته أو ردعه عن أداء واجبه المهني. إذا كان الأردن يرغب في تعزيز مكانته الديمقراطية، فإنه يجب أن يثبت للعالم أن الصحافة الحرة لا تمثل تهديدًا، بل هي وسيلة لحماية الإصلاح والمصلحة العامة.

فتح ملفات الفساد: الصحافة كأداة للتغيير

الأمر لا يقتصر على قضية هبة أبو طه، بل يمتد ليشمل ملفات أخرى تتعلق بالفساد أو التجاوزات التي قد تحدث في أي قطاع حكومي أو مؤسسي. فالصوت الصحفي الذي يسلط الضوء على هذه الملفات يُعتبر جزءًا من المساءلة المجتمعية. لكن، في حال كانت القوانين مثل المادة 11 من قانون الجرائم الإلكترونية تستهدف الصحفيين لمجرد فتح هذه الملفات أو تسليط الضوء على التجاوزات، يصبح السؤال المشروع: كيف يمكن محاربة الفساد إذا كانت القوانين تُستخدم لتهديد الصحفيين والمواطنين الذين يرفعون الصوت؟

إذا كانت هناك عقوبات في قانون الجرائم الإلكترونية تعاقب على أي ممارسة صحفية تنتقد أداء المؤسسات الحكومية أو تفتح أبوابًا للحديث عن الفساد، فإن هذه العقوبات تصبح عائقًا أمام الكشف عن الحقائق وتعرية التجاوزات التي قد تمس مصلحة الوطن. فالتأثير على الصحافة بهذه الطريقة قد يُعتبر بمثابة حماية للفساد وليس حماية للمجتمع. الصحافة، بوصفها السلطة الرابعة، يجب أن تكون جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة.

خاتمة: حماية الصحفيين ضمان لمستقبل الديمقراطية

إطلاق سراح هبة أبو طه هو خطوة ضرورية نحو حماية الصحافة الحرة في الأردن. الصحفيون هم العين الساهرة على الحقائق، وبدون حريتهم في التعبير، ستظل الأبواب مغلقة أمام الإصلاحات الحقيقية. إن الإفراج عنها ليس فقط إنصافًا لها، بل هو إنصاف لكل صحفي يسعى وراء الحقيقة، وهو تأكيد على أن الصحافة الحرة هي جزء من بناء مجتمع ديمقراطي متطور. حماية الصحفيين هي حماية للمستقبل السياسي والإداري للدولة، وهي خطوة أساسية نحو تحقيق الشفافية والمساءلة في الحكومة والمجتمع.

مقالات مشابهة

  • قضية هبة أبو طه: الصحافة في مواجهة القوانين والحرية المسلوبة
  • عاجل- القناه 12 العبرية.. الأسيره الإسرائيلية "إميلي ديماري" أرادت البقاء في الأسر والقسام رفضت ( تفاصيل)
  • فاتن عبد المعبود: مصر كان لها دور محوري في التوصل لوقف إطلاق نار في غزة
  • موعد وتفاصيل حفل رامي صبري فى شرم الشيخ
  • 31 يناير.. رامي صبري يكشف تفاصيل حفله في شرم الشيخ
  • صورة ميلانيا تكلف كيم كارداشيان 150 ألف متابع
  • شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: أنا وساويرس والمحمول
  • كتائب القسام تبث الجزء الأول من سلسلة “كمائن الموت”
  • كتائب القسام تبث الجزء الأول من سلسلة كمائن الموت - شاهد
  • باحث: «الجماعة الإرهابية» فقدت مصداقيتها بالشارع بعد فشلها في الحكم