البوابة نيوز:
2024-10-05@07:24:23 GMT

صناعة الصدمة

تاريخ النشر: 20th, October 2023 GMT

" الصدم والترهيب عمليتان تستتبعان مخاوف ومخاطر ودمارًا يتعذر على الشعب، بشكل عام، أو على عناصر أو قطاعات محددة من المجتمع المهدد، أو على قيادة هذا المجتمع أن تفقهها، وتحت وطأة الصدمة نستطيع إحداث ما نراه من تغيير"..

يقول د. يوغو سيرليتي الطبيب النفسي ليشرح كيفية اختراعه المعالجة بالصدمة الكهربائية ١٩٥٤: "توجهت إلى المجزر لأشاهد ما يسمى الذبح الكهربائي، فرأيت الخنازير المخصيّة مشبوكةً عند الأصداغ بكلّابات معدنية ضخمة تم وصلها بتيارٍ كهربائيّ ١٢٥ فولت ما إن كانت تلك الخنازير تُشبَك بالكُلّابات، حتى كانت تغيب عن الوعي وتتيبّس ـ غيبوبة الصرْع ـ وفي خلال ذلك كان الجزار يطعن الخنازير ويستنزف دمها بدون صعوبة".

إن آلية الصدمة  تُقدم تفسيرًا فريدًا من نوعه للمنطق الكامن وراء نظرية رأسمالية الكوارث، التي تحكم نظام الاقتصاد العالمي المعاصر والتي وضعها المرشد الكبير لحركة الرأسمالية غير المقيّدة "ميلتون فريدمان" حيث قال "وحدها الأزمة، سواء كانت الواقعة أم المنظورة، هي التي تحدث التغيير الحقيقي. فعند حدوث الأزمة، تكون الإجراءات المتخذة منوطةً بالأفكار السائدة. وهنا تأتي، على حد اعتقادي، وظيفتنا الأساسية: وهي أن نطور بدائل للسياسات الموجودة، وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى حين يصبح المستحيل في السياسة حتمية سياسية".. يكدس بعض الأشخاص الأغذية والماء تحسّبًا لوقوع أزمات كبرى. أما أتباع فريدمان فيدخرون أفكار السوق الحرة. في الواقع كان البروفسور في جامعة شيكاغو مقتنعًا بضرورة التصرف بسرعة خاطفة عند وقوع أزمة ما، في سبيل فرض تغيير سريع لا رجوع عنه يستبق استيقاظ المجتمع المُرهق من الصدمة، ووقوعه مجددًا رهينة "استبداد الوضع الراهن". وقد اعتبر فريدمان أنه "سيكون أمام الإدارة الجديدة القادمة مهلة زمنية من ستة شهور إلى تسعة شهور، حتى تحقق تغييرات كبيرة. وفي حال لم تنتهز الفرصة كي تتصرف بحزم في خلال تلك الفترة، فإنها تكون قد ضيعت فرصتها الوحيدة".

ويشكل ذلك وجهًا قبيحًا من وجوه النصائح المكيافيلية، ومنذ السبعينيات وحركة "مدرسة شيكاغو" تغزو بلدان العالم، إلا أنها لم تطبق قط كاملة في البلد الذي نشأت فيه سوى مع سيطرة فكرالمحافظين الجدد على الكونجرس في ١٩٩٥، وعندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، كان البيت الأبيض مكتظًا بتلاميذ فريدمان، بمن فيهم صديقه المقرب "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع و"ديك تشيني" نائب الرئيس وهما رأسماليا الكوارث، فتلقفت إدارة بوش تلك اللحظة من الدّوار الجماعي بسرعة البرق، لدرجة جعلت البعض يظن أن الإدارة هي التي خططت بنية شريرة لوقوع الأزمة، وفي الحقيقة إن الشخصيات الرئيسية في الإدارة الأمريكية وقتها والمخضرمة في تجارب الرأسمالية الكارثية في أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية كانت تصلي من أجل وقوع أزمة، بالخشوع نفسه الذي يصلي به المزارع من أجل أن تمطر على أرضه التي تعاني الجفاف.

إن التعذيب أو ما يسمى بلغة الـ CIA"الاستجواب القسري"، هو عبارة عن مجموعة تقنيات مصممة لإدخال السجناء في حالةٍ من الضياع والصدمة العميقين تؤدي إلى تطويع يهدف إلى إجبارهم على تقديم التنازلات رغم إرادتهم، وعلى غرار السجناء المرعوبين الذين يكشفون عن أسماء رفاقهم ويتنكرون لمعتقداتهم، كذلك تقوم المجتمعات المصدومة تحت وطأة القنابل المتساقطة وعمليات القتل الجماعي والتشريد بالتنازل عن أمور لكانت دافعت عنها بشراسة في أوضاعٍ مغايرة.

ولذلك قال دانيال فييرستاين عالم الإجتماع الأرجنتيني "ليست الإبادة في الأرجنتين عفوية، كما أنها ليست وليدة حظ أو عملية خالية من المنطق، إنما هي إلغاء منظم لجزء كبير من الشريحة الوطنية الأرجنتينية، يهدف إلى تحويل تلك الشريحة من خلال إعادة تحديد أسلوب حياتها وعلاقاتها الاجتماعية وقدرها ومستقبلها" وقال ماريو فيلاني أحد الناجيين من مخيمات التعذيب في الأرجنتين "كان لدى هدف واحد لا غير، هو أن أعيش حتى اليوم التالي" ويقصد بقاءه الذاتي، وحتمًا وصول المجتمعات إلى هذا الحد يجعلها تقدم أية تنازلات، وتفقد جميع المقدسات قيمتها سواء الأرض أو التاريخ أو المعتقدات.

 وإن ما نشاهده اليوم من جرائم ضد الشعب الفلسطيني ما هو إلا تطبيق لآلية الصدمة، وقد أصبح واضحًا للجميع أن الهدف من وراء ذلك هو دفع الشعب الفلسطيني إلى ترك أرضه وتصفية قضيته.

*كاتب معنى بقضايا التنمية البشرية

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

إيران كانت في الموعد

 

ناجي بن جمعة البلوشي

أقدمت إيران على مهاجمة إسرائيل ردا على ما فعلته إسرائيل بها من ضربات موجعة، وكنَّا نتساءل لماذا بهذا التوقيت قامت بذلك؟

لا يخفى على أحد أنه قد سبق هذا الهجوم إعلان أمريكا إرسال مجموعة حاملة الطائرات "يو إس إس ترومان" وأسراب من الطائرات وعدد من الجنود الأمريكيين كقوات إضافية إلى الشرق الأوسط، كما فعلت ذلك بريطانيا بإرسالها 700 جندي إلى قبرص، حتى وإن كانت تحت غطاء أعذار أخرى لكنها في الواقع لدعم إسرائيل وحماية ظهرها في حربها على لبنان؛ فهي ترى أن الفرصة الآن سانحة للقضاء على حزب الله، الذي أوهمت إسرائيل نفسها أولا والعالم بأنه قد تدمَّر وانتهت قدراته وبدت محدودة وليس له قوة تذكر، وأنها أعادته إلى ما قبل عشرين سنة مضت، ويمكنها بهذه التداعيات بالتعاون مع الداعمين مسحه من الوجود والقضاء عليه، وبالتالي إنهاء نفوذ إيران في المنطقة فهو ذراعها الأوسع والأقوى والأعنف على إسرائيل.

لكن ما حصل غير ما تتمنى إسرائيل ومعاونوها فحزب الله يفاجئها بالنهوض من جديد ويبدأ في قصف إسرائيل بلا هوادة وفي كل أراضي فلسطين المحتلة وقد وضع الإسرائيلين جميعهم في الملاجئ، وبردة الفعل هذه ترددت إسرائيل في دخول لبنان  فهي تعلم ما هي قدرات حزب الله في الحرب البرية ومواجهته تعني دخولها إلى جحيم دامٍ لن تخرج منه إلا وهي تدفع ثمن فعلتها بالتنازل عن ملفين مُهمين فشلت في الاستحواذ عليهما وهما ملف غزة والمتمثل في مقاومة حماس وملف لبنان والمتمثل في مقاومة حزب الله فأهدافها التي رسمتها في غزة أرادت أن تأتي بها من لبنان عن طريق الضغط على حزب الله لرفع يده عن مساندة غزة والنأي بنفسه عن دعم المقاومة ليكون التفاوض مع السنوار سهلاً ولتحصل على مرادها بمجرد فتح باب التفاوض من جديد.

غير أنها تفاجأت بالرد من حزب الله الذي انتفض من تحت الأنقاض ودك مواقع عسكرية وأمنية واستخباراتية حساسة ما كانت إسرائيل تفكر بإمكانية الوصول إليها بعدما دمرت مركز القيادة وقتلت كبار قادته وأمينه العام فهي اليوم في ذهول مما يحدث بعد أن وضعت الخطط وسمت الأشياء بمُسمياتها فتغيير اسم المعركة في شمال إسرائيل من أسهم الشمال إلى النظام الجديد لم يكن من باب الصدفة وقد استعانت بأمريكا ومن معها لتعود مجددا تلك الدول المارقة أخلاقيا في الواجهة من جديد بتقديم كل ما لديها من دعم عسكري أمني استخباراتي.

وبعد أن اكتملت الحلقة من كل جوانبها هنا وضعت الظروف إيران بين خيارات ضيقة إما الهجوم على إسرائيل لإبراز قوتها لأمريكا ولإسرائيل ومن يدعمها في رسالة حتى وإن كانت رمزية بما تمتلكه من أسلحة نافذة يمكنها أن تصل العمق الإسرائيلي؛ بل وبنك الأهداف المراد تحقيقها أو بين دخول إسرائيل إلى الجنوب اللبناني بمساندة غربية عمياء للقضاء على حزب الله.

لكن ما فعلته إيران كان في الموعد حتى وإن ردت إسرائيل مجددا بالقصف في لبنان أو أماكن أخرى أو في إيران ذاتها فهذا لن يغير قناعة الأمريكان وغيرهم من الدول الداعمة لإسرائيل بأن مصالحها في المنطقة باتت في خطر وذلك مقارنة بما في قواعدها وما تمتلكه إسرائيل من قوة دفاعية مضادة للصواريخ بداية مقلاع داوود والقبة الحديدية وبطاريات باتريوت وغيرها من الأنظمة المتقدمة إضافة إلى القواعد والسفن الحربية الأمريكية في المنطقة وربما أسلحة جوية من دول خافت على مجالها الجوي. والآن وبعد أن فشل ذلك المخطط الغربي الجديد الذي كانت تريده تلك الدول في المنطقة فإن إسرائيل الحالمة بالنصر المزعوم وبأيّ ثمن وطريقة وحال كاعتقادها بأن تشريد وتهميش أهل غزة سيؤدي إلى استسلام حماس أو تشريد المدنيين من جنوب لبنان سيكون ورقة سياسية قوية على لبنان بإنهاء مساندته للمقاومة لعودة سكان الشمال الإسرائيلي فإن هذا محال فكل محور المقاومة كان واضحا في هذا الملف توقف الحرب في غزة هو ما سيوقف كل شيء.

ولهذا فإن قصف إيران للعمق الإسرائيلي بتلك الصواريخ الجديدة التي كانت تتمناها إسرائيل بنفس النموذج السابق في القوة والسرعة والدقة إلا أنها تفاجأت هي وحلفاؤها بالجديد الذي غير الواقع  إلى واقع يقول بأن كل محاولات نتنياهو في معالجة الملفين بالحرب والقوة العسكرية فاشلة وعلى كل العالم أن يصدق أن القوة العسكرية الإسرائيلية لا تستطيع  تغيير الواقع أو الحصول على ما يتمناه في مخيلته العمياء  المدعومة غربيا.

بعد الضربة الإيرانية تغيرت المعادلة في الإقليم وهناك حسابات دقيقة لابد أن تدرسها القيادة الأمريكية وإلا ستتلقى الضربات الموجعة التي ستزول بكل ما بنته منذ أن وضعت رجلها في المنطقة ومن بين تلك الحسابات حل الدولتين بأسرع مما كانت تظن وإلا فإن الحدود الإسرائيلية ستتآكل قريبا.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • جيش الاحتلال: صفارات الإنذار في جنوب إسرائيل كانت كاذبة
  • ابن عم ممرض المنيا المقتول في الزاوية الحمراء: نعيش حالة من الصدمة
  • هذه حقيقة السيدة اليزيدية التي كانت في قطاع غزة / فيديو
  • بالفيديو.. إيران تعرض الصواريخ التي قصفت إسرائيل وخامنئي: ما قمنا به الحدّ الأدنى من العقاب
  • استشاري طب نفسي: الصراعات المسلحة في العالم تسرق الطفولة
  • المنصف المرزوقي يدعو التونسيين لمقاطعة الانتخابات التي وصفها بـ المهزلة
  • خبير عسكري: الاحتلال أراد نقل ما مر به الفلسطينيون من دمار إلى جنوب لبنان
  • إيران كانت في الموعد
  • حماس: المجازر الصهيونية التي تدعمها أمريكا لن تضعف عزيمة وصمود ‏شعبنا
  • المتحدث العسكري: حرب أكتوبر المجيدة كانت تجسيدًا لمساندة الشعب المصري لقواته المسلحة في فترة عصيبة من تاريخ الوطن